روايات

رواية رماد لا ينطفئ الفصل الرابع 4 بقلم رميسة

رواية رماد لا ينطفئ الفصل الرابع 4 بقلم رميسة

رواية رماد لا ينطفئ الجزء الرابع

رواية رماد لا ينطفئ البارت الرابع

رماد لا ينطفئ
رماد لا ينطفئ

رواية رماد لا ينطفئ الحلقة الرابعة

مرّوا ست سنين…
ست سنين تقيلة، مشيت على قلب آسية كأنها دهر، كل يوم منهم علّم في وشّها سطر، وكل ليلة خلّت في صدرها وجع…
كانت الحارة هي هي، الشوارع الضيقة، العيال اللي بيلعبوا، الستات اللي واقفة على الأبواب، بس حياة آسية اتغيّرت، وكأنها غرقت في بحر ما ليهوش قرار.
نرجس كبرت… بقت صبية، عندها 13 سنة، ملامحها واخدة من أبوها، الشعر الكستنائي والعيون الواسعة، بس التعب سابق سنينها، وكأنها شالت وجع أمها على كتفها الصغير.
خلاص كبرت، طفلتها اللي كانت بتجري في الشارع بضحكتها، بقت بنت صبية، ملامحها بدأت تتغيّر، عيونها الكبيرة فيها وجع أكبر من سنها، دايمًا ساكتة، تفكيرها دايمًا معلق بكلمة واحدة: “بابا”
ومراد… الواد الصغير اللي اتولد في لحظة ألم وغدر بقا عنده ست سنين ، كبر شوية، بيجري، بيلعب، بس كل لما يتحك، النفس يتقطع، يقعد يتلّوى عالأرض، آسية تشيله، تجري بيه على الأنبوبة الصغيرة اللي بقت جزء من البيت… أنبوبة الأكسجين، اللي بتفكرها كل دقيقة إنه اتظلم قبل ما حتى يفتح عينيه على الدنيا.
الناس في الحارة ما بيسيبوش حد في حاله…
“دي مرات جمال اللي سابها ومشي…”
“مسكينة، ربتهم لوحدها…”
“وأصلها حلو، شايفة جمالها، لو واحدة غيرها ضاعت…”
آسية تسمع الهمس ده كل يوم… تمشي راسها مرفوعة، قلبها بيكويها، بس عمرها ما سمحت لدمعة تنزل قدامهم.
نرجس بقت تروح المدرسة، شنطتها مش جديدة، الكراسة ممزقة من الأطراف، والكتب عليها علامات الزمن…
بس رغم كده، تمشي مرفوعة الراس، عينيها فيها حزن الدنيا، بس دماغها شغّالة، بتحلم تبقى دكتورة، تحلم تخلّص أمها من وجعها.
كانت تسمع البنات في المدرسة يتكلموا:
“بابايا جابلي موبايل جديد…”
“ماما بتاخدنا الملاهي كل أسبوع…”
ونرجس تقعد ساكتة، تقرص شفايفها، وتقول في سرّها:
“أنا كمان كان عندي بابا… بس راح، راح وسبنا…”
أما مراد… الواد الصغير، يروح المدرسة وهو شايل أنبوبة الأكسجين في شنطة صغيرة، زملائه يبصوله بعيون غريبة، فيه اللي يضحك، وفيه اللي يسأل ببراءة:
“إنت مالك كده؟ ليه بتتنفس من دي؟”
وآسية كل يوم تصحى، تشيل همهم، تجهز الفطور، توصل نرجس، تسلم مراد لحنان، وتروح تشتغل في البيوت، تنظف، تكنس، تطبخ، وكل دقيقة خايفة حد يتصل يقولها:
“ابنك تعبان… الحقيه!”
ورغم التعب ده كله… تقول في قلبها:
“أنا اللي اخترت أعيش… مش عشان نفسي، عشانهم… عشان ولادي.”
آسية طلعت من بيتها بعد ما سلّمت على نرجس قدام باب المدرسة، ضحكة بنتها الصغيرة بتلمع في عينيها، بس قلبها مشغول، مليان خوف وتعب…
خطواتها في الحارة كل يوم بتتشابه، نفس الشوارع، نفس الوجوه، بس جوّاها الدنيا غير.
تعدّي من الحارة الشعبية، بيوت مهدومة، شباب واقفين على الناصية بعيون متصيّدة، بس هي ما تبصّش لحد…
توصّل لعمارة كبيرة… فيها كل حاجة هي مش قادرة توصلها… باب من حديد، بواب واقف، يفتحلها الباب وعينيه فيها استغراب دايم…
تطلع السلالم، تعب على كتفها، وهمّ في ضهرها…
تدخل بيت الناس الأغنياء…
ريحة العطور تسبقها… الأرضية تلمع، الكنب مغلف بالبلاستيك، والتحف في كل زاوية…
لكن جواها إحساس بالغربة والاختلاف…
تبدأ شغلها، تكنس، تمسح، تنظّف الشبابيك، تعصر الميه من الممسحة وهي تحس دماغها بتغلي من التفكير
صاحبة البيت تقف في وشّها تقولها:
“يا ريت تنظفي بسرعة عندي ضيوف المساء … وامسحي التراب تحت السرير، مش عايزة أي حاجة ناقصة…
تردّ وهي مخنوقة:
“حاضر يا مدام…”
تكمل شغلها، ودماغها في نرجس… مراد… مصاريف الأكل، الإيجار، الدوا، المدرسة…
تخلّص شغلها على قد ما تقدر، تاخد أجرتها البسيطة، وتحطّها في جيبها بحرص كأنها كنز…
تخرج للشارع… الجو حر، الشمس ضرباها في وشها…
تروح السوق تجيب شوية طلبات…
رز، شوية خضار، لبن للأطفال، وحاجات بسيطة للبيت…
الشنطة تقطع إيديها، بس تمشي صامدة، تقول لنفسها:
“أنا قوية… ولازم أتحمّل عشانهم…
كانت الشمس خلاص مالت للغروب، والسماء مليانة سُحب سودا كأنها شايلة همومها معاها…
آسية كانت راجعة للحارة، شايلة شنطة الطلبات اللي تقطع الكتف من تقلها…
كل خطوة كانت تحسها تقيلة على ضهرها، بس مافيش مجال تشتكي…
لمّا وصلت أول الشارع، شافت جارهم واقف، دايمًا في نفس الزاوية…
شخص ما تعرفش إيه حكاية نظراته، بس بتضايقها، يرمي كلام، تلميحات، دايمًا نفس الأسلوب…
وقف مستني كأن الحياة وقفت عنده هنا، أول ما شافها، ابتسم ابتسامة بايخة وقال بصوت واطي:
“إيه يا ست الحُلوين… مش تعطي الحارة شوية نور؟”
آسية حسّت قلبها يضرب بسرعة، ريقها نشف، عينيها نزلت للأرض، ما قدرتش ترد، كل اللي عملته إنها زودت في خطواتها، سابته وراها، وصوته لسه بيرنّ في ودانها…
تقول لنفسها بصوت مكتوم:
“أنا مش هسمعلك… مش هقف عندكم… أنا ماشية في طريقي وبس…”
دخلت الزقاق، دقات قلبها بتهدى شوية، بس الخوف والقلق فضلوا في صدرها…
كل يوم نفس المواجهة، كل يوم تحس إنها لوحدها في معركة مالهاش نهاية…
وصلت لباب البيت، فتحت، دخلت كأنها داخلة مكان أمانها الوحيد، تحط الشنطة على الأرض، تاخد نفس طويل، وتتمسّك بالصبر اللي بيقوّيها عشان ولادها.
آسية دخلت الشقة، ريحة البسيطة المعتادة ماليه المكان، صوت صغير جاي من الأوضة:
“ماما جيتي؟”
كان صوت مراد، صوته لسه فيه براءة الأطفال، رغم التعب اللي شايفاه في وشه…
ابتسمت له، رغم تعبها، ورمت شنطة الطلبات على الطاولة، وقالت:
“آه جيت يا قلب ماما… إنت عامل إيه النهاردة؟”
مراد قام من السرير، أنبوبة الأكسجين الصغيرة معلقة جنبه كعادتها، ما تقدرش تفارقه لو تعب فجأة…
قرب منها، حضنها وقال:
“رحت المدرسة زي ما وعدتك… بس تعبت شوية، المدرسة كانت زحمة والصوت عالي…”
آسية مسحت على شعره، قلبها بيتقطع عليه، بس لازم تبقى قوية قدامه، قالتله:
“إنت بطل، وأنا فخورة بيك… شاطر، وبتحاول زي ما اتفقنا… وكل تعبك هيروح لما تكبر وتبقى زي الحديد…
نرجس قامت من مكانها، قربت منهم، حاولت تبان قوية بس هي كمان كانت مشتاقه لحضن أمها:
المدرسة دي متعبة قوي… والمدرسين بيزعقوا دايمًا… بس أنا مش ضعيفة، مش كده يا ماما؟
آسية ضحكت بحنية، قربت منهم واحتضنتهم هما الاتنين، وقالت:
“إنتوا الاتنين أبطال… واللي الدنيا بتعمله فينا، مش هيكسرنا…”
وقفت لحظة، لمحت دمعة صغيرة ف عيني نرجس، سألتها:
“مالك يا نرجس؟ إيه اللي مضايقك؟”
نرجس عضت شفايفها، وكتمت دموعها، وقالت:
“كل زمايلي بيتكلموا عن باباهم… وأنا… أنا ماما… بابا راح وسابنا… ليه؟ إحنا مش عيلته؟”
اتسمر قلب آسية، عينيها ضبابت من الدموع اللي بتقاومها، قربت لبنتها وقالت:
“بابا… مسافر بعيد… بس إنتي قوية… وأنا معاكي، وأخوك معانا، وإحنا عيلة حتى لو ناقص حد…
مراد بص للموضوع بفضول وقال:
“هو بابا شكله إيه يا ماما؟ أوصفيهولي…”
اتبدلت ملامح نرجس، الغضب ظهر في وشها، قالت بحدة:
“هو سابنا… مش مهم شكله… خليه في غربته… إحنا مش محتاجينه…إنساه يا مراد… عشان ماتتوجعش زينا!”
مراد سكت، عيونه اتملت دموع، وبص لأمه كأنه بيستنى ردّ، بس آسية كانت مكسورة… مش لاقية الكلام.
نرجس اتشدت ملامحها، كانت بتحاول دايمًا تبان قوية قدامه، بس قلبها موجوع… قربت منه، حضنته وقالت بنبرة فيها وجع طفلة فاهمة أكتر من سنها:
“بابا لو كان بيحبنا… ماكانش سابنا ومشي… بس إحنا مش ضعاف، فاهم؟ إحنا عندنا ماما… وماما أقوى من الدنيا كلها، وعمرها ما هتسيبنا…”
مراد بص لها، عيونه دمعت شوية:
“بس نفسي أشوفه… نفسي أعرف هو شكله إيه…”
نرجس اتنهّدت، شدت إيديه بين إيديها وقالت بحزن:
“أنا كنت زيك كده… زمان… استنيته شهور، كل يوم أبص على الباب وأقول يمكن النهارده ييجي… بس مابيجيش… فبطّلت أستنى… وبطّلت أفتكر شكله حتى.
آسية مسحت على راس مراد، ونظرت لنرجس بنظرة فيها حنان وقالت:
“خلاص بقى… كفاية كلام على اللي مش موجود… إحنا موجودين لبعض، وإحنا نقدر نفرح ونضحك مهما كانت الدنيا صعبة…”
رمت الشنطة على الطاولة وقالت بحماس مصطنع عشان ترفع من روحهم:
“تعالوا، حعملكم غدا حلو النهارده… تستاهلوا حاجة تفرح شوية…”
مراد فرح، عيونه لمعت:
“بجد يا ماما؟ طب أنا هساعدك…”
ونرجس ضحكت وقالت بمزاح:
“لااا، خليه يقعد، هو أصله بيكركب أكتر ما بيساعد…”
ضحكوا التلاتة، وبرغم التعب والحزن اللي ساكن في قلب آسية، اللحظات دي كانت بتديها قوة، قوة إنها تكمل، عشان خاطرهم، عشان خاطر اليوم اللي ممكن الدنيا تبتسم ليهم فيه.
دخلت آسية المطبخ، رمت الشنطة على الكاونتر، وبدأت تطلع الطلبات واحدة ورا التانية، وهي بتقول:
“يلا يا أبطال، كل واحد يجهز نفسه، النهاردة حنعمل غدا يفرّح القلب…”
مراد قرب منها، وقف على طرف أطراف صوابعه، بيحاول يبص فوق الرخامة، وقال:
“أنا عايز أقطع الخضار…”
آسية ضحكت وقالت له بلطافة:
“يا حبيبي، إيديك صغيرة، ممكن تجرّح نفسك… بس ما تقلقش، عندك مهمة كبيرة… تغسل الخضار كويس، تمام؟”
فرح مراد وقال بحماس:
“تمام يا ماما… حاضر!”
نرجس دخلت المطبخ، كانت حاطة إيديها في وسطها وقالت بمزاح:
“أنا بقي الشيف الكبير، هساعدك تعملي كل حاجة… بس بشرط، نعمل حاجة فيها بطاطس، بحبها أوي…”
آسية هزت راسها وهي بتحضر المكونات:
“اتفقنا… بطاطس مقلية مع رز وسلطة… يعني الغدا بتاع الملوك النهارده…”
مراد بدأ يغسل الخضار بتركيز، المية كانت بتطير حواليه، ونرجس بتحاول ترتب السفرة وتقطع العيش، وكل شوية يضحكوا ويهزروا.
ورغم بساطة الأكل وبساطة اليوم، كان في ضحكة دافية ماليه البيت، وآسية من جواها بتقول:
“الدنيا ممكن تكون صعبة… بس طول ما ولادي حواليا، كل حاجة بتهون…”
خلصوا الأكل وقعدوا على السفرة، كانوا بياكلوا ويضحكوا، ومراد بيقول نكت صغيرة، ونرجس تضحك عليه، وآسية تبصلهم بعين فيها دمعة مداريها وسط الضحك… دمعة خوف، ووجع، وأمل صغير… إن بكره يكون أحسن.
آسية بصت لنرجس ومراد وقالت بحنية:
“يلا يا أبطال، كل واحد ياكل كويس وبعدين على السرير، بكرة مدرسة، وصحيان بدري…”
مراد ببراءة:
“ماما، ممكن تحكيلي حكاية قبل ما ننام؟”
آسية ابتسمت بتعب وقالت له:
“أكيد يا قلب ماما، بس بسرعة عشان تنام وتصحى نشيط…”
خلصوا العشا، ساعدتهم يرتبوا السفرة، وبعدين دخلوا أوضتهم، نام مراد في حضنها وهي تحكي له حكاية عن فارس صغير شجاع، ونرجس كانت على السرير التاني، بتسمع، وملامحها حزينة رغم إنها ساكتة.
مراد غفل بسرعة، ونرجس قالت بصوت خافت:
“ماما… هو بابا عمره ما هييجي؟”
آسية بصت فيها، وجع قلبها بيزيد، وقالت:
“مش عارفة يا نرجس… بس إحنا مع بعض… وأهو ربنا كبير…”
سكتت نرجس، قالت آسية بمزاح :
هوا انا مش كفاية ولا ايه يا ست نرجس.
ضحكت نرجس بحب:
طبعا كفاية وزيادة ده انتي احلى واجمل ام في الحارة.
آسية:
الحارة بسً.
نرجس :
لا الدنيا كلها
آسية بضحك:
هههه يلا نامي بكرة عندك مدرسة الصبح تصبحي علي خير .
آسية خرجت من الأوضة بعد ما غطّتهم كويس.
دخلت أوضتها، قفلت الباب،
آسية وقفت قدام الشباك، عيونها على الشارع الضلمة، الحارة كلها نايمة، بس هي ما تعرفش طعم النوم…
مسكت الصورة القديمة، جمال ضاحك، معاها، ومع نرجس وهي صغيرة، دمعِت وقالت لنفسها
دموعها نزلت من غير ما تحس، ووشها اتشد بالحزن وقالت بصوت مخنوق:
“ست سنين يا جمال… ست سنين وأنا لوحدي… ست سنين، خوف، وجوع، وتعب… وعدتني إنك عمرك ما تسيبني، وعدتني إنك تبقى ضهري وسندي… وأنا؟ أنا بقيت لوحدي… في كل حاجة…”
مسحت دموعها، وقلبها بيتقطع، وبصت على السقف وقالت بحزم:
“أنا مش مسمحاك… مهما مر وقت، وجعتني… كسرتني… وسبتني في نص الدنيا… بس، مش هغلط تاني، مش هستنى حد، مش هضعف… أنا عندي ولادي، وهما كل اللي باقي ليا…”
غمضت عينيها، دموعها بلّلت مخدتها، ونامت على وجعها، وليل طويل بيعدي ببطء.
في بلد بعيدة، في غرفة صغيرة ضلمة، النور الوحيد جاي من لمبة صفرا ضعيفة، جمال كان قاعد على كرسي خشب، ظهره منحني، وشه تعبان، شعره مبعثر، ودقنه طولت، والهم باين على ملامحه.
في إيده صورة قديمة… آسية، نرجس وهي صغيرة، ضحكتهم لسه محفورة في الصورة كأن الزمن وقف هناك، بس الواقع كان أقسى بكتير.
جمال بص في الصورة، وصوته اتكسر:
“كنت فاكر الهروب هو الحل… كنت فاكر لو بعدت، أقدر أواجه الدنيا… بس كل يوم بعيد عنكم… بيموتني أكتر…”
“بابااا.. بابااا..”
جمال يمسح دمعته، يتنهد بوجع.. ويكتم إحساسه،
ابتسم غصب عنه، كتم وجعه وقال بصوت متماسك:
“جاي يا بطل…”
رجّع الورقة في جيبه، ومسح وشه، وخبّى كل حاجة جواه… لأنه مهما كان بعيد، هو راجع… حتى لو الرجوع صعب.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية رماد لا ينطفئ)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى