روايات

رواية خيوط النار الفصل الرابع 4 بقلم نورهان موسى

رواية خيوط النار الفصل الرابع 4 بقلم نورهان موسى

رواية خيوط النار الجزء الرابع

رواية خيوط النار البارت الرابع

خيوط النار
خيوط النار

رواية خيوط النار الحلقة الرابعة

تحت أشعة الشمس الذهبية التي كانت تتوسط السماء، كانت الحرارة تتسلل برفق إلى كل زاوية من فناء منزل “الجابرى”. الأشجار العالية للنخيل تخلق ظلالًا متمايلة تتراقص على الأرض، مثل ذكريات قديمة تتلاعب بالعقول، كان “عبد الصمد” يجلس على مقعده الخشبي القديم، الذي يحمل آثار الزمن، يعبث بعصاه الإبنوسي بين أصابعه، وكأنها تعكس حالته النفسية المتوترة، علامات القلق والانزعاج كانت واضحة على وجهه، حيث كان يتجلى في عينيه عمق الهموم.
عندما اقترب “ماجد” من والده، كان وجهه متهجمًا وعينيه تتلألأ بالتوتر، كأنما يحمل ثقل العالم على كاهله، جلس بجانبه، وصوته المكسور يعبر عن ارتباكه:
_أبويا، أنا حاولت أخلص منهم بس البت لسه عايشة وقاعدة في شقة لوحدها
تجمدت الكلمات في الهواء، وكأنها صارت حجرًا ثقيلًا. “عبد الصمد” شعر بصدمة خيبة الأمل، حيث بدأت ملامح الغضب تتجمع في عينيه، وحاول جاهدًا السيطرة على مشاعره المتفجرة، جز على أسنانه، وكانت كلماته تخرج من بينهما كالرصاص:
_يعني كل اللي خططنا له راح في الأرض؟ أنا كنت متأكد إنك مش هتقدر تعمل حاجة، إنما عملت فيها سبع رجالة في بعض وقلت أنا اللي هخلصك منهم”.
رد “ماجد” بنبرة متوترة، وكأن شرارات الغضب تتطاير من عينيه:
_أنا عملت كل حاجة، وفعلاً الواد والبت الصغيرة ماتوا، لكن عائشة مكنتش موجودة في البيت وقت الحريق”
تنهد “عبد الصمد” بعمق، وكأنما يحاول استجماع أفكاره وسط دوامة القلق، لكن الحقد والغضب كانا يحركانه، يدفعانه إلى ارتكاب الجرائم بحق الأبرياء دون رحمة.
كان ” ماجد” يظهر ضيقًا شديدًا، وكأنما لم يعد يشغله شيء سوى التخلص من عائشة.
_أنا بلغت الراجل يخلص عليها عشان نخلص من القصة دي”
هز “عبدالصمد” رأسه بشدة، وقد ظهرت على وجهه ملامح الرفض القاطع، ليقول بصوت صارم، كما لو كان يحاول أن يوقظ ابنه من غفلته:
_متبقاش غبي. لو عملنا كده، هتكون العين علينا، والبوليس هيحقق في الحريق وكل حاجة هتتكشف. إحنا محتاجين نفكر بحذر، لازم نلاقي طريقة تبان إنها حادثة عادية”.
كانت الأفكار تدور في رأس “ماجد”، لكن ضغوط اللحظة تسيطر عليه، بينما “عبد الصمد” يحاول إعادة ترتيب الأمور في ذهنه، مُدركًا أن كل خطوة خطأ قد تؤدي إلى كارثة أكبر، كانت الأجواء كانت مشحونة بالتوتر والخوف، وكأنما تنتظر اللحظة المناسبة لتنفجر، استمر التوتر في فناء “الجابرى” كخيط رفيع يتأرجح بين الأمل واليأس، كان “عبد الصمد” يجلس على المقعد الخشبي، وجهه مائلًا قليلاً نحو الأرض، كأنه يحاول قراءة الأفكار المتشابكة في عقله، بينما “ماجد” بجانبه، يتصبب عرقًا من شدة الضغط والغضب
أخذ “عبد الصمد” نفسًا عميقًا، وكأنما يحاول أن يملأ رئتيه بالهدوء الذي غاب عنه، ثم التفت إلى ابنه، وعيناه تتقدان بنار حقد مكبوت.
“ماجد”، الذي كان ينتظر كلمات والده، شعر بشيء من الأمل يتسلل إلى قلبه، رغم القلق الذي لا يفارقه.
_ ماجد، اسمعني كويس لازم تراقب عائشة من بعيد لازم تاخد حذرك، وتستنى الفرصة المناسبة، تلاقي طريقة تبان طبيعية، كأنها حادثة عادية، من غير ما يكون لينا علاقة باى حاجه.
استقرت الكلمات في الهواء، تحمل معها عبء القرار الذي كان يتخذه “عبد الصمد”. كانت عينيه تتلألأان بشكل غريب، كأن كل كلمة تحمل في طياتها جزءًا من خطته المظلمة
أومأ “ماجد” برأسه، لكن القلق كان يغزو عقله، وهو يرتب لكل شيء جيداً
_ “لكن، إذا حصل أي شيء، هنتعرض للخطر. البوليس هيسأل، وهتطلع كل التفاصيل.”
هز “عبد الصمد” رأسه، عازمًا على موقفه، وجهه صارم كالصخر.
_ “لازم نكون أذكياء، نستفيد من كل لحظة. لو كان عندك أي شك، ابعد عن المكان، لكن لازم تراقبها. لازم تعرف كل تفاصيل حياتها، مكانها، ووقتها. الفرصة هتيجي، وإحنا لازم نكون جاهزين.”
تسربت مشاعر الخوف والقلق إلى قلب “ماجد”، لكنه شعر بشيء من القوة في كلمات والده، كان هناك شيء مغري في فكرة السيطرة، في فكرة التخلص من عائشة، كان ذلك بمثابة طوق نجاة له، يحرره من عذابه المستمر، لكنه كان يعرف أن الطريق إلى ذلك مسدود بالأشواك.
مع مرور الوقت، بدأ “ماجد” يشعر بثقل المسؤولية، كأنها كتلة من الحجر على صدره. بينما “عبد الصمد” كان يراقب الأفق، عينيه تراقبان كل حركة، وكل ظل في الفناء. كان الانتظار هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لهما، لكنه كان أيضًا الخيار الوحيد.
_ افتكر الى بلغتك بيه وبلاش تتهور وخليك صبور عشان منضيعش كل حاجه من ايدينا.
حزم “ماجد” نفسه، عازمًا على تنفيذ خطة والده، إن كانت هي الطريق الوحيد للخروج من هذا المأزق. لكن في أعماقه، كان هناك صراع مستمر بين ما هو صحيح وما هو خاطئ، بين رغبته في التخلص من عائشة وقلقه من العواقب التي قد تترتب على ذلك.
بينما استمر التوتر في الارتفاع، كانت شمس الظهيرة تتلاشى تدريجيًا، مما أضاف لمسة من الكآبة على المشهد، كان كل شيء حولهم يبدو وكأنه يتنفس الخوف، وكأن الحياة نفسها كانت في موقف انتظار، تنتظر أن تتكشف الأحداث المظلمة التي كانوا يخططون لها.
**************
في صباح باكر، اشرقت الشمس بلطف من خلال نافذة غرفة عائشة، لكن الضوء لا يبدو قادرًا على اختراق سحابة الحزن التي تغلف المكان، كانت عائشة تجلس على حافة سريرها، تنظر إلى الأرض، وأفكارها مشوشة لقد مرت شهر كامل منذ أن فقدت أخواتها، والشعور بالفقد يثقل قلبها.
تتذكر اللحظات السعيدة التي قضتها مع أخواتها، ضحكاتهن، والأحاديث التي كانت تجمعهن في المساء، تتجدد الذكريات في عقلها كأفلام متقطعة، وتغمرها مشاعر الحزن والحنين، تشعر وكأنها فقدت جزءًا من روحها، وكأن الحياة التي كانت تعرفها قد انتهت.
أخدت نفسًا عميقًا، لكن الهواء يبدو ثقيلاً في رئتيها، تشعر بأن كل شيء من حولها قد تغير، وأنها أصبحت وحيدة في هذا العالم، لا شيء يبدو ممتعًا أو ذا معنى بدون أخواتها، تتمنى لو كان بإمكانها العودة بالزمن، لتعيد تلك اللحظات السعيدة مرة أخرى.
تتمنى بعمق أن تغلق عينيها وتستسلم للراحة الأبدية، لتكون معهن مرة أخرى. تتسلل تلك الأفكار السوداء إلى عقلها، وتبدأ في التفكير كيف سيكون شعور اللقاء بهن بعد الفراق، حتى فكرة الموت لم تعد تخيفها، بل أصبحت تثير فيها شعورًا بالراحة.
همست من بين شهقات بكاءها:
_ لو كنت أقدر، كنت هاروح لهم. مش قادرة أعيش من غيركم.
تجولت عينيها في أرجاء الغرفة، وتلتقط نظرتها على الصور المعلقة على الحائط عثرت عليها فى بقايا المنزل المدمر صور تجمعهن معًا ، صورة تعيد إليها ذكرى، وكل ذكرى تعيد لها الألم.
تتساقط دمعة على خدها، وتلتقط أنفاسها بصعوبة، تشعر بأن قلبها ينفطر، وكأن كسرًا عميقًا قد حدث، ولن يُصلح أبدًا تشعر بعزلة تامة، وكأن العالم من حولها قد تخلى عنها.
تتمنى لو كان هناك طريق للخروج من هذا الحزن، لكن لا شيء يبدو ممكنًا، تتجه نحو نافذتها، وتفتحها لتسمع أصوات العالم الخارجي، لكن حتى الأصوات تبدو بعيدة، وكأنها قادمة من مكان آخر، تشعر بأنها محاصرة في فقاعة من الحزن، ولا تستطيع الهروب منها.
عادت إلى سريرها، ووضعت رأسها على الوسادة، متمنية أن تنغمس في نوم عميق، وأن تجد نفسها في عالم آخر حيث تستطيع أن تلتقي بأخواتها مرة أخرى، لكن النوم يهرب منها، وتبقى مشاعرها تتلاطم كأمواج البحر، تعصف بها وتغمرها في عمق الحزن.
في تلك اللحظات، ادركت عائشة أنها بحاجة إلى القوة، لكن كيف يمكنها أن تكون قوية في عالم بلا أخواتها؟ تشعر بأن الحياة قد فقدت لونها، وتبقى غارقة في ذكراهن، تتمنى أن تجد طريقًا يخرجها من هذا الظلام.
توجهت إلى خزانتها، والتقتط قطعة من ملابسها، لكن يديها ترتجفان تضعها بعيدًا، وتختار شيئًا آخر، حتى اختارت ثوب أسود اللون يعكس لون حياتها لتأخذ نفسًا عميقًا، وتبدأ في ارتداء ملابسها، لكن كل حركة تبدو وكأنها جهد كبير، لتتجه إلى
المرآة، لكن صورتها تعكس وجهًا شاحبًا، عيونًا متعبة، وشعرًا غير مرتب، تشعر بأنها ليست هي، بل ظل لنفسها السابقة، ارتدت حجابها سريعًا لتستعد للذهاب إلى عملها الذى انقطعت عنه فترة كبيرة، خرجت من الغرفة وذهبت تعد كوبًا من القهوة، لتجلس على الطاولة تنظر حولها بنظره غائمة يلوح بها الحزن
تتذكر ضحكات أخواتها، وكيف كن يجلبن لها السعادة في كل صباح قلبها يتألم، لكن عليها مواجهة العالم الخارجي وراحت تحدّق في الفراغ، عيناها تسبحان في ذكريات لم تبرحها.
ضحكات إخوتها لا تزال تملأ أركان البيت في خيالها، ترتدّ في أذنيها وكأنها لم تبرح المكان. كانت ضحكاتهم بمثابة النور الذي يبدّد عتمة الصباح، والدفء الذي يسبق كل فنجان قهوة. لكن الآن… الصمت هو ما يملأ الزوايا، صمت ثقيل، كئيب، لا يقطعه سوى أنين قلبها المنكسر.
وضعت الكوب أمامها، واحتضنته بيديها المرتجفتين، كأنما تستمد منه دفئًا لا وجود له. وقبل أن ترتشف رشفتها الثانية، دوى صوت رنين الهاتف فجأة، فانتفض قلبها قبل أن تدرك مصدر الصوت.

نظرت إلى الشاشة بتردد، فظهر اسم “فاطمة” بوضوح. تنهدت بعمق، وكأن في صدرها جبلًا من الحزن لا يريد أن يغادر، ثم ردّت بصوت خافت، متعب:
_ “ألو… يا فاطمة.”
جاء صوت فاطمة على الجانب الآخر، مشبع بالقلق واللهفة:
_ “يا بنتي أخيرًا! إنتِ فين يا عائشة؟ بقالك شهر مختفية! لا بتردي، ولا رسالة، ولا أي حاجة! قلقت عليك جدًا.”
ارتشفت عائشة رشفة صغيرة من القهوة، كأنها تحاول أن تجد شيئًا تقول به أكثر مما تقدر عليه مشاعرها، ثم وضعت الكوب على الطاولة بهدوء، وقالت بصوت متهدج:
_ “معلش… كنت محتاجة وقت أرتب دماغي.”
_ “ترتبي إيه بس؟ أنا عارفة إن اللي مريتي بيه كان زلزال… ربنا يصبّرك، بس الوحدة دي خطر عليك.”
صمتت عائشة للحظة، ثم قالت بصوت أقرب إلى الهمس:
_ “انا استقريت فى بيت جديد هبعتلك العنوان…”
انتبهت فاطمة فورًا، صوتها مليء بالدهشة:
_ “نقلتي؟ فين؟”
_ “قريبة من يونس… شقة صغيرة وهادية. بحاول أبدأ من جديد، بس كل حاجة حواليّ لسه بتوجع. كل ركن، كل زاوية، فيها طيف من اللي راحوا.”
سكتت فاطمة للحظة، وكأنها تلتقط أنفاسها، ثم قالت بنبرة حنونة:
_ “ليه ما قولتيليش؟ كنت جيت ساعدتك. كنت أقف جنبك، زي ما دايمًا واقفة.”
أجابت عائشة بصوت خافت، تتخلله غصة:
_ “ما كنتش عايزة حد يشوفني كده… مكسورة، تايهة… كفاية اللي شفتوه يوم الجنازة، نظرات الشفقة، الدموع .”
شعرت فاطمة بدمعة تسقط منها دون إذن، وقالت بإصرار:
_ “إنتي مش لوحدك، يا عائشة. أنا أختك مش مجرد صاحبتك. في أي وقت تحتاجيني، هكون جنبك. ولو عايزة نخرج، نمشي شوية، نغيّر الجو… أنا معاكي.”

أغمضت عائشة عينيها للحظة، كأنها تحاول أن تحبس دموعًا لا تريد أن تنهار، ثم قالت:
_ “كلامك بيريّحني… أنا فعلاً بحاول أرجع شغلي وأعيش حياتي، بس جوايا فراغ… كبير، مرعب.”
_ “خدي وقتك، بس أوعي تسيبي نفسك للوجع يبلعك. إحنا حواليك، مستنين إيدك تتمدلنا.”
ابتسمت عائشة ابتسامة صغيرة، لكنها كانت صادقة لأول مرة منذ مدة، وقالت بصوت رقيق:
_ “مش عارفة من غيرك كنت هعمل إيه… شكراً، بجد.”
_ “كفاية شكر، أنا مش غريبة، أنا أختك. وهعدي عليك قريب، وهنشرب القهوة سوا، بس من غير دموع.”
ضحكت عائشة، ضحكة صغيرة مرتجفة، لكنها حقيقية:
_ “هستناكي.”
وما إن أغلقت المكالمة، حتى شعرت بدفء خفيف يتسلل إلى قلبها. لم يكن دفئًا كافيًا لشفاء الجرح، لكنه كان كافيًا ليمنحها شجاعة أن تخطو إلى الغد، خطوة… بخطوة.
**********
«على ناحية أخرى»
استيقظ يونس في صباح هادئ، وأشعة الشمس تتسلل من خلال الستائر الخفيفة، مما خلق أجواء دافئة في غرفته، فتح عينيه ببطء، يشعر بثقل النوم ما زال يضغط على جفونه، يحاول أن يستجمع قواه، ويتذكر أنه يجب أن يستعد ليوم جديد، لكنه يشعر بشيء من الكآبة، خاصة بعد الأحداث التي مر بها مؤخرًا.
قفز من السرير، ليشعر ببرودة الأرض تحت قدميه، ارتدي ملابسه بتثاقل، حيث اختار قميصًا بسيطًا وسروالًا جينز، كانت تتلاعب أفكاره برأسه، وينتابه شعور بأنه يجب أن يكون قويًا، خاصةً من أجل عائشة.
بينما يرتدي حذاءه، سمع صوت مريم من المطبخ، ورائحة الخبز المحمص والبيض المقلي تملأ الهواء، وتجعله يشعر بشيء من الدفء في قلبه، يبتسم رغمًا عنه، فهو يعرف أن مريم تحاول إضافة لمسة من الفرح إلى صباحهما.
خرج من غرفته وتوجه نحو المطبخ، ليجد مريم مشغولة بإعداد الإفطار، وهي ترتدي ملابس المدرسة، وشعرها يتطاير في الهواء، وابتسامتها تضيء وجهها.
اقترب منها ليضع قبله على جبينها وهو يردف:
_ صباح الخير يا حبيبتي
اجابته بابتسامة وهى تقول بمرح كعادتها:
_صباح النور يا باشا يلا حضرت الفطار، ناكل بسرعه احسن اتاخر على الطابور
وضعت البيض والخبز المحمص على الطاولة، وبدأت في إعداد العصير و يونس يجلس على الطاولة، ورائحة الإفطار تدغدغ حواسه، لكن طعم الفرح يبدو بعيدًا عنه.
تناول قطعة من الخبز، وأخذ قضمة، لكن طعمه يختلط مع الحزن الذي يعيشه. لاحظت مريم ذلك، لتحاول تغيير الأجواء والتحدث معه فى أمور كثيرة
بعد مرور بعض الوقت
انتهوا من الإفطار، وكانت “مريم” تُحضّر حقيبتها بصمت، بينما يجلس “يونس” على الأريكة، يتابعها بنظرات صامتة مليئة بالتأمل. لم تكن تلك لحظة عادية بالنسبة له، بل لحظة يدرك فيها أن وجود مريم هو الشعاع الوحيد الذي يُبقيه واقفًا على قدميه. وسط كل الفوضى والخيبات، كانت هي السبب الذي لا يزال يجعله يتمسّك بالحياة.
ارتدت مريم حقيبتها الصغيرة وتوجهت نحو الباب، ويونس التقط مفاتيحه ونهض خلفها بصمت.
وبينما ينزلان السلم، لمح يونس “عائشة” تخرج من شقتها. بدت منهكة، وجهها شاحب كأن الحياة غادرت ملامحها، وخطواتها بطيئة تُثقِلها الهموم. شعر بانقباض في صدره، لم يستطع تجاهل حالها، فتقدم نحوها وقال بنبرة حنونة، تحمل اهتمامًا صادقًا:
_ “صباح الخير يا عائشة… رايحة الشغل؟”
أومأت برأسها دون أن تنطق بكلمة، نظراتها هاربة، وصمتها أشد من الرفض.
_ “طب تعالي أوصلك في طريقي، وأنا نازل أودي مريم المدرسة.”
جاء ردها بارداً، قاطعاً، دون أن تنظر إليه حتى:
_ “شكرا… مش محتاجة توصيل أنا هركب ميكروباص.”
حاول أن يكسر الحدة بابتسامة خفيفة ونبرة مرحة:
_ “مفيش داعي للكلكعة… مجرد توصيلة بسيطة، مش أكتر.”
لكنها ردّت بصوت حاسم، لا يقبل نقاشًا:
_ “شكرا لحضرتك يا أستاذ يونس … عن إذنك.”
تجاوزته بخطوات سريعة، تنزل السلم وكأنها تهرب من شيء ما، أو ربما من كل شيء.
تجمّد يونس في مكانه لثوانٍ، شعر بغصة في قلبه، تلك الكلمات الجافة لم تكن مجرّد رفض، بل طعنة صامتة. لم يكن يقصد التدخل، فقط أراد أن يكون سندًا لها، لكن ردّها البارد أربكه، أشعره أنه عبء، لا دعم.
تنهد طويلًا، يحاول أن يبتلع الإحباط الذي بدأ يتسلل إلى ملامحه، ثم نظر إلى مريم وأمسك بيدها بلطف:
_ “يلا يا ست البنات… نروح المدرسة قبل ما نتأخر.”
نظرت إليه مريم بعينين صغيرتين، لكنهما ترصدان كل شيء. لم يخفَ عليها ذلك التغير في نبرته، تلك السحابة التي مرّت على وجهه بعد كلام عائشة.
_ “مالها عائشة؟”
تردد يونس لحظة، ثم أجاب وهو يبتسم ابتسامة مصطنعة، يحاول أن يلوّن بها الرماد:
_ “ولا حاجة يا حبيبتي… يلا خلينا نمشي.”
خرجوا من باب العمارة، وكانت الشمس بدأت تتسلل إلى السماء، تمدّ أذرعها على وجوه المارة، لكن الهواء ما زال يحتفظ ببرودته الخفيفة. جلس يونس خلف عجلة القيادة، وربط مريم الحزام بجواره، وانطلقا في طريقهما نحو المدرسة، لكن عقله لم يكن في الطريق.
ظلّ ذهنه عالقًا عند تلك اللحظة، عند نظرة عائشة، وطريقتها الجافة في الرد. شعور بالخذلان ظلّ يضغط على قلبه، يُرهقه. كان يحاول أن يكون قريبًا، أن يمدّ يده، لكنها أغلقت الباب بقوة… وكأن دفئه لا يعنيها.
وبرغم كل شيء، لم يغضب منها… فقط تألم بصمت.
***********
ركبت “عائشة” الميكروباص وجلست مُنكمشة في المقعد المجاور للنافذة. كانت تحدّق من خلال الزجاج المتّسخ بطبقة من التراب، لكن عينيها لم تكن تريان شيئًا. لم تكن تنظر فعليًا إلى الطريق، بل تغوص في دوّامة أفكارها التي أثقلتها، تحاول أن تبدأ يومًا عاديًا بعد شهرٍ من الألم، من العذاب، من الوحدة التي نَخرت في قلبها كالسوس.
الطريق كان طويلًا، والزحام خانقًا، أصوات السيارات وأبواقها تملأ الجو، لكن عقلها كان في عالم آخر. كل ما حولها بدا كأنّه صدى بعيد، بلا معنى، بلا حضور.
وحين اقترب الميكروباص من المدرسة التي تعمل بها، تحركت بسرعة رغم ثقل خطواتها، أمسكت بحقيبتها بيدٍ مرتجفة، ومشت نحو بوابة المدرسة كأنها تجرّ قدميها جَرًّا، لكن داخلها كان هناك شيء عنيد يصرّ على الاستمرار… على المواجهة.
عند البوابة، لمحت “شهد”، زميلتها وصديقتها منذ سنوات، تقف تتحدث إلى إحدى المعلمات، ضحكتها عالية، نبرتها مفعمة بالحيوية. لكن ما إن رأت عائشة حتى تغيرت ملامح وجهها فجأة، وارتسمت على وجهها ابتسامة مصطنعة:
_ “عائشة! يا خبر… رجعتي؟”
ابتسمت عائشة ابتسامة باهتة، بالكاد حرّكت شفتيها:
_ “أهو جيت… قلت لازم أرجع بعد اللي حصل.”
أومأت شهد برأسها، محاولة أن تبدو متعاطفة:
_ “ربنا يصبّرك يا حبيبتي… الدنيا ما بترحمش، والله.”
تقدّمت منها شهد بخطوتين، لكن ما في قلبها كان مغايرًا لما على ملامحها. كانت دائمًا تشعر بالنقص بجانب عائشة؛ تلك الفتاة الهادئة الرقيقة التي تسرق الأضواء أينما حلّت. والآن، بعد كل ما مرت به عائشة، لا تزال تجد من يهتم بها… بل وتسكن بجوار “يونس”، الرجل الذي كانت شهد تخفي إعجابها به عن الجميع.
جلسوا معًا في حديقة المدرسة، على مقعد خشبي تحت شجرة كبيرة تتناثر أوراقها اليابسة حولهما. الجو كان هادئًا، نسيم خفيف يمر، لكن قلب عائشة كان في فوضى لا تهدأ.
قالت بصوت متعب، يقطر وجعًا:
_ “شهد… أنا اتبهدلت جدًا الشهر اللي فات. الحريق اللي راح فيه إخواتي… كان نهاية كل حاجة حلوة في حياتي. بقيت لوحدي… لا عيلة، ولا حضن، ولا صوت يطمني.”
شهقت شهد بطريقة مفتعلة، تحاول أن تبدو متأثرة:
_ “يا قلبي… ربنا يعوضك عن كل اللي راح. طب… دلوقتي ساكنة فين؟”
ردت عائشة بهدوء يخفي الكثير:
_ “في العمارة اللي ساكن فيها يونس… أخو مريم الطالبة اللي عندي. خالتها عرضت عليّ أسكن في الشقة اللي بتأجرها.”
رفعت شهد حاجبيها، تتظاهر بالدهشة:
_ “بجد؟ طيب كويس. ويا ترى… بتشوفي يونس؟”
هزّت عائشة رأسها:
_ “آه، شُفته النهارده على السّلم. عرض يوصلني، بس انا رفضت عشان كلام الناس خصوصا اني بقيت وحيدة.”
شهقت شهد داخليًا، لكن وجهها ظل هادئًا:
_ “هو شخص محترم فعلاً… أكيد كان بس عايز يواسيك، يخفف عنك.”
نظرت عائشة إلى الأرض، نظرة متعبة تبحث عن نفسها وسط الحطام:
_ “مش عارفة… بس أنا مرهقة. تعبت يا شهد. مش قادرة أرجع زي ما كنت، مش قادرة أكون أنا تاني.”
اقتربت شهد، ووضعت يدها على يدها في حركة بدت حنونة، بينما قلبها يشتعل غيرة وحسدًا:
_ “هتكوني أحسن، والله. الزمن بيعالج كل شيء… بس إديله فرصة.”
كانت ابتسامتها مصطنعة، ونبرتها مغلفة بالمواساة الزائفة. في داخلها، صرخ صوت خفي: “حتى بعد ما فقدت كل شيء، ما زالت يونس يهتم بها؟! لماذا هي دائمًا الأفضل؟!”
قالت بصوت هادئ مصطنع:
_ “المهم إنك رجعتي… وأنا جنبك لو احتجتي أي حاجة.”
ابتسمت عائشة، شعرت بشيء من الراحة، كأن وجود شهد يُطفئ وحدتها قليلًا. لم تكن تعلم أن ما في قلب شهد أبعد ما يكون عن الودّ الحقيقي… كان نارًا هادئة، تنتظر الفرصة لتشتعل

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية خيوط النار)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى