روايات

رواية حصب جهنم الفصل الثامن 8 بقلم نرمينا راضي

رواية حصب جهنم الفصل الثامن 8 بقلم نرمينا راضي

رواية حصب جهنم الجزء الثامن

رواية حصب جهنم البارت الثامن

حصب جهنم
حصب جهنم

رواية حصب جهنم الحلقة الثامنة

قال الخليفة عمر رضي الله عنه :”نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزَّة في غيره أذلَّنا الله”.
~~~~~~~~~~~~~~~~
توالت الاتصالات على « لقمان» أثناء تواجده في قاعة المحاضرات، و رنين هاتفه يصرخ باسم « آسية»، كأن الهمسات الخفية في أذنه تُحَذِّرَهُ من مكروه.. لم تكن« آسية» تتصل به قبل ذلك أثناء إعطائه الدروس الدينية و المناظرات، ولكن هذا الرنين المستمر يوحي بالقلق، كأن صدى صوتها يهمس في أعماقه بأن أمرًا ما يؤول للسوء قد حدث معها.
مع كل رنين، ازداد قلق « لقمان»، و تراءى له أسوأ السيناريوهات، لم يعد بإمكانه التركيز في المحاضرة، فاعتذر للجميع بفترة استراحة قصيرة، ونهض من مكانه، ليسير بجدية نحو الخارج يُجيب على الهاتف، و قلبه يخفق بانتظار سماع صوتها، صوت « آسية» التي قد تحمل أخبارًا تسكنها الراحة أو تثير الرعب، و على الأرجح أخبارًا مفزعة !
بمجرد أن أجاب على الهاتف، سمع صوتها المرتعش، وبدا و كأن الكلمات تخرج من بين شفتيها بصعوبة، كأنها تكافح لكي تتحدث.. ازداد قلق «لقمان»، و ازدادت سرعة نبضات قلبه، و هو يستمع إليها بتركيزٍ، يُحاول تهدئتها وفهم ما يحدث، كأنه يحاول فك طلاسم لُغزٍ عميق.
في تلك اللحظة، تلاشت كل الأصوات حوله، و لم يبقَ سوى صوتها، صوت زوجته المضطرب الذي يهمس في أذنه، ويحمل معه كل معاني القلق والخوف:
” قُتِلَ عبد الرحمن و اختُطِفَ مُحَمَّد ”
تَجَمَّدَ الزمن في لحظةٍ فارقةٍ، كأنَّما استحال إلى تمثالٍ من الرخام، بينما يستوعب عقله الكلمات التي سمعها للتو، كلمات كالصاعقة التي تُحدث فجوةً في أعماقه.. حاول أن يُنكر الحقيقة، أن يُؤمن أنها مُجرد مَزحة ثقيلة، لكن صوت
« آسية» المُرْتَعِش و الكلمات التي نطقت بها مزَّقت كل شكوكه، كفأسٍ حادةٍ تَضرب جِذع شجرة و تزيح عنها الستار بلا رحمة.
شقيق زوجته، ذلك الرجل الذي كان يعتبره جزءًا من عائلته، قُتل بدمٍ بارد !
و ابنه، ذلك الطفل البريء، اختطف دون رحمة..!
ترجم عقله الجملة بسرعة البرق، و تصاعدت مشاعر الخوف والفزع إلى حلقه، كالنار التي تَشْتَعِل في أعماقه، مُحرقة كل شيءٍ في طريقها.
رد بسؤالٍ وحيد، يتوسل الإجابة:
” أين أنتِ الآن آسية ؟! ”
لكنه لم يتلقَ سوى صمتٍ قاتل، صوت الفراغ الذي يملأ المكان.. و سقطت هي، سقطت مثل ورقة خريف هشة، مغشيًا عليها، تاركة وراءها أثرًا من الألم و اليأس.
لم تتحمل « آسية» مشهد جثة أخيها، و فقدان ابنها، فكانت الكلمات تكاد تخرج من شفتيها بصعوبة، قبل أن تسقط أرضًا، فاقدة الوعي، مُحطمة تمامًا.. تلاشت تماسكها، و انهار عالَمها، و كل ما بقي هو صدى الكلمات القاسية، وصورة ابنها المختطف، و جثة « عبد الرحمن» التي تنزف براءة في عينيها، كجروحٍ لا تُشفى، تاركة في قلبها ألمًا لا يمكن نسيانه، وجعًا لا يمحى، و ذكرياتٍ لا تُنسى.
تحرك سريعًا، يقود سيارته نحو منزله، بلا وعيٍ أو تفكير، كأن قدميه تقودهما قوةً خفية، تقوده نحو قدرٍ محتوم.. حدسه البديهي أخبره أنها في المنزل، و أن الجريمة الشنيعة ارتُكبت هناك، في المكان الذي من المفترض أن يكون ملاذًا للسلام و الأمان، لكنه تحول إلى مسرحٍ للرعب والدمار.. !
اعتذر سريعًا للقائمين على تنظيم المحاضرة، ليتم استكمالها بدلًا منه بواسطة داعية آخر، و هرع هو للسيارة دون أن يعبأ بما سيترتب على غيابه، فكل ما يشغله هو الخوف على أحبائه.
وصل إلى منزله، يلهث بخوفٍ، كأن روحه تخرج من جسده، ثُم نزل من السيارة، و اتجه نحو الباب، و فتحه ببطءٍ، كأنه يخشى ما قد يجد، أو كأنه يفتح بوابة الجحيم..!
لاحظ زجاج النافذة الخارجي المنزوع، بفضل آلة قطع الزجاج، و كسر بقاياه على أرضية الصالون، كأنها آثار لمعركةٍ داميةٍ، معركة خسرتها الأرواح البريئة.. التفت ببطءٍ، يتنفس بصعوبة.. يبحث عن شيءٍ ما، أو شخصٍ ما، لكنه لم يجد سوى الفاجعة والدمار..!
وفجأةً، رأى شقيق زوجته، مذبوحًا، غارقًا في بركة من الدماء، و على مقربة منه جسد
« آسية» ملقي على الأرض، باهتًا، و كأن الحياة قد فارقت جسدها، تاركة وراءها أثرًا من الألم واليأس.. شعر بأن الأرض قد انشقت تحت قدميه، و ابتلعته في فجوةٍ من الحزن و الدمار، فغاب عن العالم، و تلاشت كل معالم الواقع من حوله.
كل ما كان يملكه من تماسك وهدوء، تلاشى في لحظة، تاركًا وراءه أثرًا من الحزن والدمار، وكل ما بقي هو صرخة صامتة، و دموعٍ لا تجف، و قَلْبٍ محطمٍ لا يعود أبدًا كما كان.
سقط على ركبتيه بجانبها، وضمهـا إليه، يضربها على وجهها ضرباتٍ خفيفةٍ، وبين كل ضربةٍ و أختها يُناديها بهمسٍ مرتجف:
” آسية.. آسية..! ”
لكنها لم تتحرك، لم تفتح عينيها، لم تظهر أي استجابة.. غارقة في عالم اللا وعي، عالم مظلم لا يملك فيه أحد القدرة على إيقاظها سوى
– الله عز وجل -.
لم يكن أمامه سوى الاتصال بالطوارئ..
«الشرطة و الإسعاف» ليحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
اتصل بهم بيدٍ مرتجفةٍ، وقلبٍ مذعورٍ، وهو يردد كلماته بصوتٍ متقطع.. حاول إفاقتها، لكن محاولاته باءت بالفشل، رغم كونه طبيبًا، إلا أن الأحداث المؤلمة التي جاءت كالرياح العاتية دون سابق إنذار، جعلته في حالةٍ من التوتر الشديد، عجز فيها عن فعل أي شيءٍ سوى البكاء والصراخ في داخله.
مرت الدقائق كالساعات عليه، وهو يحتضن جسد زوجته، بعد أن ألبسها رداءً محتشمًا، تاركًا وجهها المنكشف في حالة اللا وعي تلك، و أخذ يردد بصبرٍ نزل على قلبه يُثلجه:
” تركت ولدي يا الله في معيتك.. رد وعي آسية.. ليس لنا سواك مولاي، تقبل عبد الرحمن شهيدًا ربنا الرحيم العادل.. ”
كلماته تخرج من بين شفتيه كالأنين، و كأنّما يصرخ في وادٍ غير ذي زرع، يعلم أن عليه أن يصمد، و أن يتحمل الألم، من أجلها ومن أجل ابنه الذي سُلب عنوةً من أحضانهما ككبش فداء !
ظل يحتضنها، و يردد دعواته، و يبكي بصمتٍ، حتى وصلت سيارتان الإسعاف و الشرطة، و بدأت عملية الإنقاذ.
بدأت التحقيقات معه، لكن الصدمة و الذهول لا زالا يسيطران عليه، فلم يستطع الإفادة عن أي تفاصيل واضحة.. زوجته لا تزال فاقدة للوعي، و ابنه مخطوف، و قلقه يزداد مع كل دقيقة تمر.. لقد تحول منزله إلى مسرح جريمة، و بدأ المحققون في معاينة كاميرات المراقبة، لكنهم وجدوا أن المجرمين قد قاموا بفصلها جميعًا، مما زاد من تعقيد القضية.
في المشفى، قد استعادت « آسية» وعيها بفضل العناية الطبية بعد الله، لكن « لقمان» بقي غارقًا في حزنٍ أليم، يفكر في صغيره الذي اختطف من بين أحضانهما.. في قلبه، أدرك الحقيقة التي لم يكن يريد أن يصدقها، أن والد زوجته الذي يكره الإسلام و يبغض أتباعه، هو من يقف وراء الجريمة.. !
تذكر « لقمان» كيف كان والد زوجته يبحث عن فرصة للتخلص منهما منذ أن أشهرا إسلامهما، و كيف ازداد كرهه للإسلام بعد اسلام اليزابيث و ابنه البكري، كالنار التي تزداد اشتعالًا.. خاف « لقمان» أن ينسب التهمة إليه؛ حتى لا يفقد ابنه أيضًا، فانتظر تدخل القدر بقلب صبور بصعوبة مفطور بِوَهنٍ.
يدعو و يتمنى أن يرى ابنه مرة أخرى، كمن يتشبث بقشةٍ في وسط فيضانٍ هائج.. بداخله يعلم أن الانتظار سيكون صعبًا، لكنه كان مستعدًا لتحمل كل شيء من أجل استعادة ابنه و رد الحقوق إلى أصحابها.
في كل لحظةٍ، يتمنى أن يأتي الفرج، وأن يعود ابنه إليه سالمًا.. الأمل هو ما يبقيه على قيد الحياة.
مرت ساعات بعد محاولة الشرطة في استجواب « آسية»، لكن الأطباء أخبروهم أنها تحت تأثير الصدمة و لا يمكن استجوابها في تلك الحالة.
رؤية شقيقها المذبوح بسكينٍ باردٍ أمامها، جعل اللسان مُكبَّل كَالمُقيّد بسلاسلٍ صلبةٍ تمنع صاحبها عن التزحزح إنشًا واحدًا، و ظلت لساعاتٍ لا تقوى على النّطق أو الكلام، حتى محاولات زوجها « لُقمان» في استخراج حرفٍ واحدٍ منها، باءت جميعها بالفشل، و لم يُجدِ الاحتواءُ نَفْعا.
مشهدٌ مؤلمٌ لا يمكن للزمن محو أثاره من ذاكرتها، مشهدٌ له مذاقٌ بطعم المرار الذي لا يمكن تقبله..
بجانبها « لقمان» عيناه تملأهما الدموع، و قَلْبُهُ يتقَفْقَف فَزعًا على صَغيره المخطوف.. يُحاول أن يبدو متماسكًا لأجلها، و لكن مَا يَزَالُ قَلْبُهُ خَافِقًا مُخْتَلِجًا.. على من يتصنع !
الرهينة طفلهما، و المقتول شقيق زوجته و رفيقه المُقرّب، و تلك هي قَسْوةُ المُعْضِلة.
لسانه لا ينفك عن ترديد ( إنّا لله و إنّا إليه راجعون، اللهمَّ أجرنا في مصيبتنا، احفظ لي ولدي يا الله.. رُدَّه إلينا سالمًا، مولاي.. ارزقني و زوجتي الصبر.. آمين.)
لكنه مع ثباته و مظهره القوي، لم يستطِع الصمود أمامها أكثر، فوَلاَّهَا ظَهْرَهُ، و تَرَك الْعِنَانَ لِدُمُوعِه تُغَرِّق وجنتيه في صمتٍ فَتَكَ صَدره من الألم، كما تَفتك السِباع بِفَرَائِسُها، كُلُّ دَمْعَةٍ تسيل مِن عينيه تصرخ بالمُعامَلة القَهْريَّة التعسُّفيَّة التي يتعرَّض لها المسلمون في كافة البُلدان الظالمة الجائرة على ساكنيها ممن يتبِّعون دين الإسلام باخلاصٍ و وفاء،
و ما زالوا الطُغاة يقتلون و يسجنون العديد مِن المسلمين بتُهَمٍ جنائيّةٍ غيرِ قائمةٍ على أدلّةٍ بسبب هُوِيَّتهم الإسلامية.
و لكن.. على كُلٍ، الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ.
بدأ جَسَدُهُ يَهْتَزُّ بِفِعل كثرة بُكَائِهِ، و كأن الجسد يُشارك الدُّمُوعَ في مَصَابِهِ الْمُفْجعِ، يَصِفُ أحوال البلدان العربية مِنْ جَوْرٍ يَنْهَشُ حدودها و أرضها، امتدادًا للمسلم نَفْسُهُ المقهور في الْعَالَم بِرُمَّتِهِ.
الجسدُ يَهْتَزُّ بكاءً و ألمًا، و الدِّينُ يَنْتَهِكُ عَلَنًا، يتم تَشْوِيه صورته النَقِيَّةِ بِأَيْدٍ نَجِسَةٍ مُدَنَّسَةٍ، تُطْلِق عليه زُورًا دين الارهاب، و لا يُوجَد إِرْهَابٌ يَنْبَعِثُ مِن نفوسٍ سَامِيَةٍ كَالمسلمين، بَلْ مِنْ أعداء الاسلام أنفسهم.
تَنَفَّسَ الهواء بِعُمقٍ، ثُم أخرج الزفير الملتهب بمرارة الفقد، و كَفْكَفَ دمعه تَزامُنًا مع وصوله رسالةً مِن والد زوجته المجرم.. محتواها:
” ابنتي مقابل ابنك ”
تَوَسَّعَتْ حَدَقَتَا عينيه بِصدمةٍ انْتَابَتْ أَوْصَالَهُ، و استدار يتأمل « آسية» الشَّارِدَةَ فى سقف المشفى بِوَجْهٍ حزينٍ دَامٍ، كما الْحَالُ عليه منذ رؤيتها لِشقيقها المذبوح، ثُمَّ هَزَّ رأسه بِنَفْيٍ كَتعبيرٍ عن الدهشة التي يستوعبها بِبُطْءٍ مِنْ محتوى الرسالة.. حُبُّهُ الشديد لها جعله يُغَمْغمُ لِنفسه:
” أنا قبل آسية في الألم.. ”
لقد وضعه بين المِطْرَقَةِ و السِّنْدَان، وجد نَفْسَهُ في موقفٍ صعبٍ، و جميع الخيارات متساوية في سُوئها، فماذا سيفعل حيال تلك المُعْضِلة القاسية ؟!
_____________
قصر القيصر، أو أرض الظُلم و الظلام كما يسميها البعض، أو منبع اضطهاد المسلمين خاصةً العرب ! ذلك القصر الأسود الضخم، الذي يبدو كوحشٍ أسطوريّ يبتلع كل ما يقترب منه، يمارس فيه أبشع أنواع الظلم والاضطهاد.. الهدف الرئيسي وراء كل هذه المؤامرات هو اسقاط الهوية العربية، و جعل العرب ينساقون خلف الغرب في كل شيء، حتى يفقدوا هويتهم و ذاتهم.
في هذا القصر، تُحاك المؤامرات و تُدبّر الخطط لتدمير الإسلام والمسلمين، يُصنعون حفلات لمطربين عرب يتبعون الماسونية، فينساق خلفهم الكثير من الشباب المسلمين، و يُبتعدون عن دينهم و هويتهم، و يُصنعون تطبيقات ذكاء اصطناعي لتجعلهم مكتفون بالتحدث مع التطبيق كأنه شخص حي يرزق، فيبتعدون خطوة خطوة عن دينهم و أهليهم، و يصبحون انطوائيين فيسهل اختراق هويتهم.
الهدف هو السيطرة الكاملة على العالم، و جعل العرب و المسلمين يفقدون هويتهم و دينهم، فيصبحون تابعين للغرب.. هذه هي الخطة التي يتم العمل عليها الآن، و كل يوم يمر يزيدنا قُربًا من تحقيق هذا الهدف المشؤوم.
في هذا القصر، يُحاك الصمت و الظلام، و تُدبّر المؤامرات، ويُخطط للمستقبل.. يُخططون لصناعة جيل جديد من العرب و المسلمين، جيل يفقد هويته و دينه، ويكون تابعًا للغرب في كل شيء.
في ظل هذه المؤامرات، يبقى السؤال قائمًا: هل سيتمكن العرب والمسلمون من الحفاظ على هويتهم و دينهم ؟ أم أنهم سيكونون ضحية لهذه المؤامرات ؟ الجواب يعتمد على وعيهم و قدرتهم على مواجهة هذه التحديات.
في النهاية، يبقى الأمل في أن يدرك العرب و المسلمون حقيقة ما يحدث، و يقفوا صفًا واحدًا لمواجهة هذه المؤامرات.. يجب أن يكونوا على وعيٍ تامٍ بما يحدث حولهم، و أن يعملوا على الحفاظ على هويتهم و دينهم.
رغم انغماس « روزالين» في أعماق الثقافة الغربية، إلا أن جذور هويتها العربية ظلت متأصلة في أعماقها، كَشجرةٍ استوائيةٍ تتشبث بجذورها في الأرض، لم تستطع التخلي عن مبادئها و قيمها، التي كانت منارةً لها في ظلمات الغربة، منذ مكوثها في بلاد الغرب، لم تدع رجلاً يمس جسدها، محافظةً على عرضها وشرفها، و متشبثةً بدينها إلى حدٍ ما الذي يحرم العلاقات خارج إطار الزواج، وهذا لا يعني أنها على طريق الصواب، فمحافظتها على نفسها شيء، و الدجل و التنجيم المُحرَّم شيئًا آخر.
لكن «يونغ»، ذلك الكوري الوقح، أول رجل يحاول الاعتداء عليها، و لم ينجح في مسعاه، رغم تشجيع «القيصر» له والهتاف بالقضاء عليها وتمزيق ملابسها، استطاعت « روزالين» الإفلات منه، و استجمعت قوتها لتوجيه ركلة قوية في منطقته الحساسة، شلت حركته لدقائق ظل يصرخ فيها بألمٍ مبالغ.
بينما «يونغ» يتلوى من الألم، وقفت «روزالين» بثباتٍ، رافضةً الخنوع أمامهم.. أصلحت شعرها و مسحت دموعها، ثُم استقامت في وقفتها و اتجهت ناحية صاحب الشعر الثلجي الذي يجلس على مقدمة السيارة، يضحك باستهزاءٍ عليها، و وقفت أمامه، قائلةً بكل شجاعة:
“عديم الشرف”
و بصقت في وجهه بجرأة ذُهلت لها «سوزانا»، التي أخذت تعض بنان الندم على فعلة صديقتها الجريئة، و لم تكتفِ روزالين بذلك، بل اقتربت أكثر منه و أردفت في هدوءٍ أدهشه:
” عارٌ على رجولتك أن تقف و تشاهد فتاة يتم الاعتداء عليها أمامك.. أنت و صديقك لا تنتميان للرجال بأي صفة، أنتما سافلان حقيران”
في تلك اللحظة، أدرك الاثنان أن تلك الفتاة ليست كباقي الفتيات اللواتي يرفعنَّ راية التسليم و الخضوع بسهولة، بل هي فتاة قوية عنيدة و جريئة ترفض الخنوع و الهزيمة.
مسح «القيصر» وجهه بعنفٍ، كأنه يزيل قناعًا من الغضب المكبوت، و هبط من مقدمة السيارة كوحشٍ جريح يتنفس النار، يرمقها بنظرةٍ قاتمةٍ كفيلة بإحراق كل ما حولها.
فلأول مرةٍ يتجرأ أحد على تحدي سلطته بهذا الشكل المهين، و يفعل ما يعصف بكل ما بناه من قوة وهيبة على مدار سنوات.
اقترب منها بخطواتٍ ثابتةٍ، و بداخله بركان من الغضب ينوي الانفجار، مستعدًا لاستكمال ما بدأه «يونغ» و لكن بلمسة من الدهاء و الانتقام، و بطريقةٍ ستجعلها تندم على لحظة التمرد هذه إلى الأبد.
بينما هي، وبكل شجاعةٍ، تراجعت خطوتين للوراء، لكنها سرعان ما تماسكت و وقفت أمامه بثباتٍ كالجبل، عاقدة يديها على صدرها، و مبتسمة ابتسامةً خافتةً مُشبعة بالتحدي و الاستفزاز.
و قالت بصوتٍ هادئٍ حازم كالصخر:
” أرني ماذا ستفعل أيها اللعين، مثير للجدل..
أرني قوتك، و حدودها… هل ستقتلني أم ستجعلني أتمنى الموت ؟ ”
حينما بصقت «روزالين» في وجه « القيصر»، تجمد رجاله المسلحون حوله، و رفعوا أسلحتهم في وجهها، و رؤوسهم مرفوعةً بحدة، كأنها أسودٌ جائعةٌ تنتظر الإشارة للانقضاض، مستعدة لتحويلها إلى فريسة سهلة، لكن
«القيصر» رفع يده بإشارة خاطفة لهم بخفض أسلحتهم، فاستجابوا على الفور كأنهم آليون، يتحركون بتزامن تام، و كأنهم جزء من آلة حربية واحدة، مصممة لسحق أي مقاومة.. أما هو تقدم منها بخطواتٍ ثابتةٍ، كخطوات أسد يتربص بفريسته، جاذبًا إياها من ذراعها بيدٍ قاسية، ضاغطًا عليه بقوة جعلتها تكتم الألم بداخلها، و تعض على شفتيها حتى لا تظهر ضعفها أمامه، بينما كانت عيناها تنظران إليه بنارٍ من الكراهية، كأنها تطلق سهامًا من الغضب نحوه.. همس بكلماتٍ مصحوبة بنفسٍ ملتهب من الغضب:
” لم يجرؤ أحد على إهانتي، احفظي وجهي جيدًا لأنني سأظهر لك في جميع أحلامك، سأكون كابوسك المزعج الذي لن يفارقك.. بحق جلالتي و عظمتي على الأرض، سأجعلك تقدسين اسمي و تتوسلين لي كل يوم لأغفر لك، و لن أفعل.. ستتذوقين ألوان العذاب على يدي، و ستعرفين معنى الخوف الحقيقي”
بدت كلماته و كأنها تتناثر كقطرات الثلج الباردة على وجهها، تُجمد الدم في عروقها، و تجعل قلبها يخفق بشدة و زادتها رعبًا، ثُم تأملها من رأسها لأخمص قدميها بنظراتٍ مفترسةٍ كأنها فريسة بين أنياب ذئبٍ شرس، و كأنه يحلل كل جزء منها ليجد نقطة ضعفها.. ليُردف ساخرًا، بابتسامة خبيثة تثير الرعب:
“و لكن، ذلك لا يمنع أنكِ مثيرة للفتنة، حتى في غضبكِ و إهاناتكِ، تزدادين جمالًا و جاذبية، كأنكِ وُلِدتِ لتكوني فتنةً للرجل الذي سيملكك ”
جاء «يونغ» من خلفها، ثم في حركةٍ مباغتةٍ كالبرق، أدارها له و هوى بكفه على خدها، صفعة قوية كالصاعقة جعلتها تلف وجهها للجهة الأخرى من شدة قوتها، فوضعت يدها مكانها و رغمًا عنها بكت في صمتٍ من الوجع الذي اخترق خدها كالسكين الحاد.
و لم يكتفِ هو بذلك، بل تقدم ليضربها أكثر، و أخذ يهتف بأفظع الشتائم و السباب لها، فأعاق القيصر طريقه و وقف حائلاً بينهما، ليقول لصديقه الغاضب بصوتٍ آمر:
“يكفي.. أمي بحاجة لها، حالما تنتهي، بامكانك فعل ما تشاء بها، ولكن ليس الآن ”
“دعني أقتل الساقطة، لن أبرح مكاني حتى أقضي عليها..”
التفت إليها « القيصر» ليجدها تولي ظهرها لهما و تبكي في صمت، و بجانبها «سوزانا» تهدئها بيدٍ حانيةٍ تحاول امتصاص سموم الغضب من جسدها، فالتفت ليونغ و هتف بنبرة تَهَكُّمٍ ساخرة:
” اهدأ حتى لا تصيبك لعنة المشعوذة، أنها بارعة في أمور الدجل، يمكنها أن تتوقع الصفعة التالية كما توقعتها أول مرة و لم تستطع صفعها..”
قالها و ظل يقهقه بسخرية، ثُم تابع وهو يمد يده نحوها ويديرها له:
” كيف لم تستطيعين توقع تلك الصفعة وأنت مشعوذة ؟
قلت لأمي أنك كاذبة لعينة لم تصدقني.. أعلم أنك تفعلين ذلك مقابل المال.. ما رأيك بلعبة مسلية مع رجلين مقابل المال أيضًا ؟ ”
و مال عليها هامسًا بلهجة أكثر سخرية:
” صدقيني، ستستمتعين و ستجنين الكثير من المال ؟ أخبريني أنك موافقة أيتها الساقطة الصغيرة و نحن جاهزان في الحال، أليس كذلك يونغ ؟ ”
رد « يونغ» وهو ينظر إليها بنظرة كراهية عميقة بعدما فعلته به:
” لتأخذ موافقتي، اجعلها تلعق حذائي و تطلب العفو مني ”
استدارت له « روزالين» بنظرة باردة لتقول بنبرة سخرية مماثلة:
” أعرف شخصًا يمكنه فعل ذلك جيدًا دون مقابل”
تساءل « يونغ» بعفوية و ما زال يرمقها بغضب:
” من هو ؟ ”
” أمك اللعينة ”
لم يستطع « القيصر» كتمان ضحكته، و انفجر ضاحكًا بكثرة على ردها الجنوني شديد الجرأة و على ملامح صديقه التي تحولت لنسرٍ جارح، و هتف من بين ضحكاته:
” واحد مقابل صفر، المشعوذة راقت لي.. سامحني يونغ ”
“لن تفلتِ من قبضتي هذه المرة… ستشهدين أيتها المشعوذة اللعينة عاقبة تحدّيكِ لي”
هدر بها «يونغ» بصوتٍ يهدر كالرعد، غضبه يكاد يحرق صدره و يتلف أعصابه، و هَمَّ بضربها ثانيةً، لكنها فاجأته بحركةٍ سريعة، ركضت بمسافة قصيرة نحو مقدمة السيارة، ثم وثبت عليها لتلف جسدها في الهواء كالفراشة السوداء، و بركلة قوية محترفة أصابت رأس «يونغ» فجعلته يترنح لثوانٍ من الصدمة و الذهول، و سقط على الأرض يتألم، بينما هي وقفت أمامه بثباتٍ، تنظر إليه بنظرات شماتة و فخر هاتفة:
“إذا أردت أن تتحداني، عليك أن تكون أقوى”
أما «القيصر» انفجر ضاحكًا من دهشته لما فعلته «روزالين» بصديقه، وهتف مستمتعًا بما رآه:
“أوه هُوو… فتاة الكونغ فو المشعوذة ! انهض يونغ، يبدو أن المشعوذة من شجرة العائلة، إنها ماهرة في حركات الكونغو مثلك.. هيا تقاتلا، إليكما الحلبة، سأكون أنا الحكم”
تدخلت « سوزانا» تقوم بتهدئة الجو المشحون بالكراهية و المنافسة الحارة، فقالت بخوف قليلًا:
” لم نأتِ للقتال و التحدي، جئنا بأوامر من السيدة صوفيا، أرجوك سيد قيصر دعنا نذهب ”
تجاهل « القيصر» قولها، و رمق « روزالين» الواقفة تنظر له و لصديقه بكراهيةٍ و استحقار، ثُم قال بلا مبالاةٍ يُعطي الإشارة لأحد رجاله:
” خذ الفتاتين للداخل ”
نهض « يونغ» ينفض الغبار عن ملابسه، و يهتف باستشاطة و غيظٍ من «روزالين» بالتحديد:
” تقصد العاهرتين ”
ردت « روزالين» بغيظٍ مبادل:
” أُفضِّل أن أكون عاهرة على أن أكون غير مُحدد الجنس مثلك، أيها المخنث النذل ”
توسعت هو عيناه بصدمة هاتفًا وهو يشير لنفسه:
” تقولين أنني مخنث ! حسنًا، ستعرفين من هو المخنث ”
أخرج مسدسه و كاد أن يطلق النار عليها، فهو متهور و كرامته تعلو على أي اعتبار، نزع «القيصر» منه السلاح سريعًا، و همس بغضبٍ له:
“هل فقدت عقلك ؟ تريدنا أن نخالف أوامر أمي ؟ قلت لك حالما تنتهي، بامكانك فعل ما تشاء بها”
عضلات وجهه مشدودة، و كأنه على وشك الانفجار في أي لحظة من غضبه لما حدث معه:
” لا أستطيع أن أصبر أكثر من ذلك، لم يجرؤ أحد على إهانتي، تلك الفتاة الوقحة لابد أن تُقتل جزاء ما فعلت”
” أعدك بذلك، و لكن أولاً فلتفعل ما قد جاءت لأجله، ثم نتشاور حول كيفية قتلها بطريقة تطفئ غضبنا”
بدت كلماته هادئة، و لكنها تحمل في طياتها وعيدًا مخيفًا.
أوصل الرجل الفتاتين إلى الداخل، و «سوزانا» تتفحص القصر بعينين مذهولتين من روعة التصميم وفخامة كل شيء به.. الأرضيات الرخامية تلمع تحت أقدامهم، مثل بحيرة من الجليد المصقول، تعكس أضواء الثريات الكريستالية التي تتدلى من السقف، تضيء المكان بنورٍ فاخر يخطف الأنفاس، و اللوحات العتيقة المعلقة على الحوائط تُظهر روائع الفن الكلاسيكي، بلمسات فرشاة عبقرية و ألوان زاهية، و كأنها تروي قصصًا من الماضي.. الجدران المزينة بالنقوش الذهبية و الستائر الحريرية الفاخرة التي تتدفق مثل شلالات من اللون الأرجواني، كل ذلك يجعل القصر يبدو و كأنه قصرًا من الأحلام.
قالت بانبهار:
“يا للجمال! لم أرَ مثل ذلك في حياتي ! هذا القصر يجب أن يدخل ضمن موسوعة غينس بأجمل قصر في العالم”
ردت « روزالين» و هي تزفر بضيق شديد:
” نعم، معك حق.. القصر رائع، و لكن سكانه حقيرون جدًا، عليهم اللعنة جميعًا.. ذلك الوقح يونغ سأقطع يده النجسة التي تجرأت عليّ، أما ذلك السافل قيصر، أود تشويه وجهه بأظافري.. اللعين مثير للجدل حقًا ”
سارا بمرافقة الرجل عبر القاعة الرئيسية، حيث كانت الأعمدة الرخامية الضخمة ترتفع نحو السقف، و كأنها عمالقة من الحجر الأبيض، و السلالم الفاخرة تتدفق و تبدو و كأنها شلال من الرخام الأبيض، مما أضاف للقصر و فخامته إضافة رائعة يجعله يبدو و كأنه تحفة فنية لا مثيل لها، و كأنه يحاكي واقعًا مؤلمًا..القصر جميل كجمال دول الغرب، و لكن أكثر سكانها و حكامها من الطغاة الجبابرة.
دخلت الفتاتان إلى قاعة مكتبية أخرى شديدة الفخامة، يترأس مقدمة المكتب في واجهة الباب.. إمرأة يتضح عليها المكر و الدهاء في عينيها، أشارت للرجل بالمغادرة، و أشارت لصاحبة الشعر الأسود الطويل قائلة بعملية:
” روزالين ؟ ”
أومأت فسمحت لها بالجلوس، و كادت أن تجلس سوزانا، و لكن «صوفيا» أوقفتها بلهجة حازمة:
” روزالين فقط، انتظريها بالخارج ”
تبادلت الفتاتان النظرات بتوتر، و خرجت سوزانا بينما روزالين حمحمت تتساءل بأدبٍ:
” هل نبدأ الآن سيدتي ؟ ”
تفحصتها «صوفيا» باهتمامٍ، ثم أخرجت سيجارة فخمة من علبتها، و أشعلت واحدة و أعطت لها واحدة، فأخذتها «روزالين» شاكرة إياها، و بعدما نفثت صوفيا الدخان بهدوء قالت وهي تعيد تفحص روزالين المتوترة:
” سمعت عنكِ كثيرًا، أصدقائي يقولون أنكِ ماهرة في علم التنجيم و تقرئين الطالع ”
” نعم سيدتي، لقد درست التنجيم عن كثبٍ و أعرفه جيدًا ”
” جيد جيد.. أثق بكِ، لذلك لم آمر بتفتيشك أنتِ و الشقراء، مع العلم أن لا أحد يدخل الأرض التابعة لنا إلا بتفتيش دقيق ”
” لا حاجة لكِ بذلك سيدتي، أنا في خدمتك ثقِ بي ”
أومأت صوفيا و أنهت سيجارتها، ثم أخذت كأس من الخمر و قدمت لها كأس، و لكن الأخيرة لا تشرب الخمر و بذكائها قالت:
” أنصح بعدم احتساء النبيذ أثناء العمل سيدتي، لأنه يؤثر على قراءتي للطالع و كذلك عليكِ ”
رفعت حاجبها تستوعب الفكرة، فقالت بِتَفَهُّم:
” فهمت.. يؤثر على تركيز كلانا ؟ حسنًا، لا بأس.. أخبريني روزالين لأي ديانة تنتمين ؟ هل تؤمنين بوجود الله ؟ ”
تنهّدت « روزالين» بهدوءٍ، و استخدمت ذكائها مرة أخرى، فبدلاً من أن تنطق بشفتيها أنها بلا دين أو ملحدة كما تحب صوفيا سماع ذلك، أردفت وهي تخرج لها هويتها:
” هويتي الشخصية تشهد على حقيقتي سيدتي ”
ألقت صوفيا نظرة تتفحص بها هويتها، و ابتسمت باعجابٍ:
” جيد جيد.. قريبًا سنشن هجومًا على العالم الاسلامي.. القيصر ولدي هو من سيقود تلك الحرب.. ستكون حربًا فكرية و ثقافية، سنصنع عالم جديد يضم العظماء أمثالنا، نحن لا يهمنا إذا كان للعالم إله أم لا، نحن نكتفي بأنفسنا.. و حقيقة الأديان تلك ما هي إلا أكذوبة ابتدعها الحمقى و أتباعهم من البشر.. المسلمون الأغبياء يظنون أنهم ملوك العالم.. عجبًا لهم، يفتخرون بأنفسهم و بعروبتهم و هم بالأساس تابعون لنا.. جميع الدول العربية عبيد لدى أوروبا.. أمريكا هي سيدة العالم، و في القريب العاجل، سيخضع العالم لسيطرتنا.. سيكون القيصر هو الحاكم عليهم، يجب أن يساقوا هولاء العرب مثل البهائم ليتعلموا أن الولاء لا يكون إلا لنا.. لا دين، لا إله، لا كتب خزعبلات تلك التي يسمونها كتب سماوية مثل القرآن أو كتاب المعجزات.. لا يوجد ما يسمى معجزة إلهية، المعجزة الحقيقية هي كيفية السيطرة على العالم بفكره و عقله، من يستطيع فعل ذلك، يصبح صاحب معجزة و يفتخر الشيطان به.. الشيطان بجلالته هو من يحق له حكم هذا العالم الأحمق، و نحن نفتخر بكوننا تابعون له ”
بعد سماع « روزالين» لهذا الكلام المقزز، حاولت الحفاظ على تعبيرات وجهها عادية و ردود فعلها بسيطة، و كبحت مشاعر النفور و الكراهية لهم و لأفكارهم الإلحادية البحتة، ثم سألتها بابتسامة خافتة:
” هل تتبعين الماسونية سيدتي ؟ ”
رمقتها « صوفيا» ببرود و كأنها شعرت بأن روزالين تريد معرفة الكثير من أسرارهم، و من يتبع الماسونية لا يفشي بسرها، فردت ضاحكة:
” و هل هذا يهمك في شيء ؟ ”
توترت «روزالين» و ابتلعت ريقها لتجيب:
” أعذريني سيدتي.. تدخلت فيما لا يعنيني، و لكنك ذكرتي أن الشيطان مقدس ! ”
أومأت بابتسامة ساخرة:
” نعم، الشيطان مقدس لأنه عبقري، و كل عقل عبقري مقدس، هل هذا يعني أنني أؤمن بالجميع ؟ لا.. و لكنني أتبعه لأنه على صواب دائمًا، مثل الطفل الذي يتبع والدته، هل فهمتي ما أعنيه ؟ ”
أدركت «روزالين» أنها تجلس أمام امرأة قد خُلقت نار جهنم لأمثالها، ومع ذلك لم تُرد استكمال الحديث معها حتى لا تزل لسانها و تنزلق أمامها، فإذا علمت بكونها مسلمة لن تخرج من تلك الأرض الظالمة إلا وهي جثة، و «روزالين» تخاف الموت و تخشاه كثيرًا، و هذا ما جعلها تعيش في بلاد الغرب بهوية غير هويتها الحقيقية، فواحسرتاه على من غير هويته العربية وحقيقة إسلامه فقط لأنه خائف !
الموت على دين الإسلام دين الحق و السلام أفضل بكثير من العيش بهوية مزيفة باتباع الملحدين و الكفرة الفجرة، خوفًا من الموت، و الموت آتٍ سواء فعلت ذلك أو ذلك، فلا تجعله يأتيك و أنت منقلب على وجهك باتباع أعمى للغرب، بل قف ثابتًا على مبادئك ودينك، فقد قال الله تعالى: “أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَاءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ”.
امتثلت «روزالين» لأوامر «صوفيا» الصارمة و نظراتها المخيفة، و بدأت في أداء دورها كقارئة طالع بارعة.. مسكت بكف «صوفيا» بحركة واثقة، و بدأت تتحدث بصوتٍ هادئ و مطمئن:
“أمامك طريق طويل مليء بالتحديات، ولكن إذا ظللتِ تؤمنين بنفسك و بإرادتك القوية، ستصلين إلى ما تريدين بكل ثقة”
نظرت «صوفيا» إليها باهتمامٍ بالغ، و سألت بلهفة مكبوتة:
“وهل سنحكم الشرق الأوسط ؟”
أجابت «روزالين» بحذرٍ و ذكاء:
” أنتم بالفعل تسيطرون على العالم سيدتي، و لكن إذا استمر العرب في حالة التفكك و الانقسام، سيكون الحكم والسيطرة لكم أكثر سهولة، و ستصلون إلى أهدافكم بلا شك”
ابتسمت «صوفيا» بسخرية و غرور، و سألت مرة أخرى باهتمامٍ أكبر:
“و ماذا عن القيصر ابني ؟”
شعرت «روزالين» برغبة في إخبارها بما حدث لها في الخارج، لكنها خافت من رد فعلها العنيف..
لقد علمت أن «صوفيا» تتابع كل شيء من خلال كاميرات المراقبة، و لن تتردد في اتخاذ أي إجراء قد يهدد مصالحها.. لذا اكتفت «روزالين» بإطلاق تنهيدة خفيفة، و تابعت قائلة باحترافية:
“سيدتي، لن أستطيع معرفة ما سيحدث مع ابنك إلا إذا قمت بقراءة الطالع الخاص به، حيث يمكنني استكشاف تفاصيل دقيقة حول مستقبله ”
بهذه الطريقة، أظهرت «روزالين» براعة في التعامل مع الوضع، و حافظت على تماسكها رغم المخاطر المحيطة بها.
أومأت «صوفيا» و قالت بحماسٍ:
” حسنًا، و لكن ابني عنيد كثيرًا و لن يصدق بقراءة الكف، فما رأيك أن تستخدمي معه القراءة بالورق؟ ”
أيقنت أن لا مجال للهرب، فقالت بموافقة رغم عنها:
” سأفعل ما تريدين سيدتي ”
ضغطت « صوفيا» على زر في جهاز استدعاء بجانبها، فدلف رجل من رجالها، أمرته باستدعاء « القيصر» لأمر ضروري.
_______
وضع الكيان الصهيوني عينه على سيناء له بُعد عقائدي موجود في التلمود –التوراة المحرفة–، و هذا البُعد هو إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، حيث أنّ سيناء تربط قارتين ببعضهما، و حيث أن سيناء قد شهدت وجود سيدنا موسى مع اليهود بعد هروبهم من فرعون.
كما أن سيناء هي المنفذ لخروج الصهاينة على سوريا و العراق، و أيضًا هي في تلمودهم، يؤمنون بوجود هيكل سليمان و يقولون أنه كان في سيناء قبل أن يذهب إلى القدس، و بالطبع هذه – إسرائيليات – نعرف مدى كذبها.
سيناء بالنسبة للصهاينة جوهرة لا يمكن الاستغناء عنها، و الدليل على ذلك بعض بنود الاتفاقية، التي حدثت بين مصر و إسرائيل
« اتفاقية كامب ديفيد»، و كان من ضمن تلك الاتفاقية عدم إعمار سيناء حتى تصبح لقمة سائغة أمام أعينهم في كل لحظة.
سيناء من وجهة نظر الصهاينة وطنًا بديلاً للفلسطينيين..« نتنياهو» في كتابه إسرائيل الكبرى يريد إخلاء كل فلسطين من أهلها، و من ثَمَّ يذهبوا إلى سيناء كوطن بديل لهم، و بذلك تكون خطتهم الأولى قد تمت، و بعد ذلك تكون
إسرائيل الكبرى قد بدأت فعليًا ببناء مستوطنات جديدة في قطاع غزة و الباقي من الضفة، و بهذا الأمر تكون إسرائيل دولة بلا وجود عربي أو حتى إسلامي بحت.
المشكلة لا تكمن في أنهم يريدون وطنًا بديلاً للفلسطينيين، و إنما يريدون إبادة جماعية أخرى لهم في سيناء، و الحجة في هذا الأمر؛ حماية اليهود الصهاينة في مستوطناتهم الجديدة، و يحدث تكرار ما حدث في إخلاء غزة و فلسطين فيحدث أيضًا في سيناء، و يطرد الفلسطينيين أيضًا في سيناء و يتم تهجيرهم إلى مكانٍ آخر بحجة الإعمار، و لكن هو تنفيذ لمشروعهم القومي – إسرائيل الكبرى–
، ولو تمعنا في كلام « ترامب» الرئيسي الأمريكي عن خطته في تهجير الفلسطينيين من غزة و الضفة إلى سيناء، لعرفنا يقينًا أنهم يريدون تنفيذ المشروع القومي، و هذا ما رفضه المسلمون و العرب جُملةً و تفصيلاً من هذا التهجير، و الانسلاخ من الوطن، و لن يفلح الصهاينة بإذن – الله تعالى– في تحقيق مشروعهم، و سنقف إليهم بكل ما أوتينا من قوة، و لن نترك سيناء مَرتعًا للصهاينة و لا لتنفيذ أغراضهم، و لا لمشروعهم القومي.
سيناء جزء لا يتجزأ من أرض مصر، و بها ارتوت بدماء المصريين المدافعين عنها و عن ترابها، فهي جوهرةٌ سنحافظ عليها إلى آخر نفس، فلا تهجير ولا إسرائيل لا كبرى ولا صغرى.
– نرمينا راضي.
بينما «عز الدين» جالسًا في مجلسه محاطًا بدفء شاي الحطب، و يتحدث مع شقيقه «فيصل» في ذلك الموضوع الخطير، رافضًا لفكرة خيانة بلده و أرضه بكل قوة، لكنه لم يمانع في التجارة ببعض القطع الأثرية الثمينة أو حتى تجارة السلاح، معتقدًا أن هذه الأمور تندرج تحت مفهوم التجارة العادية.. و مع ذلك، بدا واضحًا أن الأرض و العرض يمثلان له قيمة كبيرة لا يمكن التفريط فيها.
تابع «عز الدين» حديثه مع «فيصل»، الذي بدا غير مهتم بما يقوله شقيقه، فقال بجدية:
” في ظابط مخابرات أعرفه من قبل ما له دخل في اللي نسويه، بس واثق تمام إنه من أفضل ضباط المخابرات و هيعرف يبرمها زين و يدير المرسال على العين، هو بيعرف يبرمج الأمور مع ولاد الحرام هذول ”
نظر «فيصل» له بفضولٍ، و سأله بخبثٍ:
” شنو اسمه ؟ ”
شعر عز الدين بشيء من الحذر و بالغدر في عينين أخوه، فتردد قليلاً قبل أن يجيب:
“ما أتذكر اسمه، بس علاقتنا قلِّت من زمان بسبب الشغل، وأنت بتدري إني لابد أبتعد عنه عشان ما يشك بنا.. ضميره حساس و ما كنت أقدر أخاطر، لو كنت على تواصل معه لحد الحين كان عرف حقيقة شغلنا و إن في خلق كبار تانيين معنا.. على الأغلب يوم باكر بكلّم واحد معرفة يوصلني له”
في هذه الأثناء، أخذ «فيصل» يفكر في كيفية التلاعب بعز الدين و الاستيلاء على الصندوق الذي يحتوي على الرسالة، و لم يجد طريقة أفضل من استخدام ورقة مؤثرة لتشويش عز الدين، فقرر أن يكشف له عن موضوع حساس يتعلق بشقيقتهم الصغرى «رغدة».. ابتسم «فيصل» ابتسامة خفيفة و هو يشرب كوب الشاي، ثم صَبَّ لنفسه كوبًا آخر و قال بجدية مصطنعة:
“والله يا خوي، في سالفة تمس شرف القبيلة.. خبيتها عنك و قولت لابد أعمل حاجة مكانك، عشان شفتك مشغول و مجهد، بس أنت عارفني زين.. ما بقدر أسوي شي بدون ما أرجع لك ”
نظر عز الدين إلى فيصل باهتمامٍ، وتساءل بقلقٍ:
” احكي شو السالفة يا فيصل ”
تهيأ «فيصل» لينقل الخبر بصيغة مؤثرة، و قال بلهجة حزينة:
” ما أعرف كيف أحكي.. أنا خايف عليك من الزعل، بس أنت شيخنا و لازم تعرف كل حاجة ”
زادت حدة صوت «عز الدين» و هو ينتظر بفارغ الصبر:
” احكي.. اتكلم يا فيصل، شو اللي صار ؟ ”
هنا، قرر «فيصل» أن يلقي بالقنبلة، فقال بجدية و ثباتٍ مصطنع:
“آسر سوى الفاحشة مع رغدة و طق حنك”
بدت ردة فعل عز الدين عنيفة، فقد ألقى بكوب الشاي من يده و صرخ بصوت عالٍ:
” كيفـاش !! ”
حاول « فيصل» أن يهدئ من روع عز الدين، فقال ببرودٍ مصطنع:
” عَقِلْ و اتروّى يا عز عشان سلامتك.. رغدة غلطت زيه، راحت حبيته من خفية ”
كانت هذه الكلمات كفيلة بأن تشعل غضب عز الدين بشكل أكبر، و تجعله يفقد السيطرة على أعصابه تمامًا.. بدأ الغضب يتصاعد في عروقه، و بدأت ملامح وجهه تتغير، و صرخ بصوتٍ أعلى:
” كيفاش ده يحصل ! ”
حاول فيصل أن يبقي الأمور تحت السيطرة، و قال ببرود:
” عَقِلْ يا عز، لابد نهدى و نشوف وين الحل ”
لكن «عز الدين» قد فقد السيطرة تمامًا، و بدأ يصرخ و يتلفظ بكلماتٍ غاضبة، مما جعل «فيصل» بجدية تلك المرة يحاول أن يهدئه بكل الطرق الممكنة.
قال « فيصل» بخبث النوايا:
” أنا سويت اللي يلزم، حبستها في حوش و حكيت لابوك و لامك إني ودّيتها تزور زميلة لها مريضة.. صخر اخوك عنده العلم ”
تنفس « عز الدين» الصعداء بغضب، و حاول تهدئة نيران قلبه، فتساءل بهدوء مزيف:
” يا عيب الشوم علينا، وينه هذا الجويهل، وينه ابن جابر ؟ ”
“رجالنا فتشوا كل مكان، لا تقلق يا خوي.. بندوخه و نخلص منه”
” لا.. وصل الخبر للرجال أنا بدي ياه يجيبوه حي.. أنا بعرف كيف أسوي اللي يلزم، عيلة المنزلاوي لازم يذوقوا الويل ”
تجاهل « فيصل» غضب أخوه، و نصب كل تركيز على كيفية أخذ الصندوق و معرفة مكانه، فتساءل بغباء:
“و الصندوق ؟ متى بتسلمه للمخابرات ولّا إحنا في حيص بيص ما نعرف كيف نتصرف ؟ وين راكنه ؟”
رمقه « عز» بتفحص لارتباكه، فعلم أن رائحة الغدر تفوح منه، فهو يدرك جيدًا مدى وله و جنون فيصل بتجميع الأموال.. قال عز بنظرة ثاقبة و بنبرة حازمة:
” قبل كل شيء، لازم أتحرك في الحال و أسلِّم الصندوق الليلة قبل الفجر لابد أخلص من هالسالفة ”
في لحظةٍ قد اتخذ فيها « عز الدين» قراره الحاسم بتسليم الصندوق إلى المخابرات في الليلة التي تسبق الغد، شعر «فيصل» و كأن الدنيا قد اسودت في وجهه، و غطّتها ظُلمة حالكة كظلام الليل البهيم، فتضاءلت النجوم في عينيه، و تركت له فقط ظلالًا من اليأس والاحباط.. تلاشت خططه، و وجد نفسه أمام حائط مسدود، غير قادر على التفكير في أي حلول، و كأن عقله قد تجمد في تلك اللحظة، مُحاصرًا بجدران من الفشل و الخيبة.
كان يعتقد أنه قادر على تشتيت انتباه عز الدين، لكن عز أثبت أنه الأذكى، و استطاع أن يلمح نوايا فيصل الخبيثة بسهولة، و كأنه يرى ما وراء الكواليس، و يتخطى الحجب التي تحاول إخفاء الحقائق.
يعرف «عز» جيدًا أن حب المال قد يعميه، لذا قرر أن يتحرك بسرعة و يسلم الصندوق إلى المخابرات في أسرع وقت ممكن، قبل أن يفلت زمام الأمور من يديه، و تضيع الفرصة الأخيرة.
لم ينتظر «عز» كلمة أخرى من « فيصل»، بل تحرك بسرعة نحو سيارته، و كأن القدر نفسه يدفعه إلى اتخاذ هذا القرار، و يعزز عزمه على إنهاء هذه القضية.. انطلق إلى المقابلة المرتقبة مع ضابط المخابرات، صديقه القديم الذي يثق به، و الذي سيكون له دور حاسم في هذه القضية، كقائد يُعتمد عليه في الأوقات الصعبة.
في المقابل، بقي « فيصل» في مكانه، يندب حظه و يشعر باليأس، و كأن الدنيا قد انقلبت رأسًا على عقب، و باتت تسير في اتجاه معاكس لما يريده.. بعد لحظات، قرر أن يمتطي جوّاده الأصيل و يعود إلى المنزل، حيث كان ينتظر أن يجد أخته «رغدة»، التي كانت قد أثارت غضبه بسبب علاقتها بحبيبها الغدّار « آسر»، و تسببت في تعقيدات لا حصر لها.
عندما وصل إلى المنزل في جهة فيه لا يصل لها والديه و كأنها مخزن خاص مخفي، تفاجأ بعدم وجودها، ظهر التوتر و الغضب جليًا على وجهه، يُجلجل بركان الغضب فيه.. بحث عنها في كل مكان، لكنها لم تكن موجودة، و كأن الأرض قد ابتلعتها، أو أنها اختفت في فراغٍ لا يمكن الوصول إليه.
بدأ يشك في أنها ربما هربت بمساعدة «صخر» رقيق القلب الذي تحكمه العواطف، منذ يوم كامل كانت قد اختفت، و تركته يواجه مصيره مع عز وحده، بلا سند أو عون يشفع له عندما يعرف كبيرهم بهروبها، فالعواقب حتمًا ستكون وخيمة.
في تلك اللحظة، شعر «فيصل» أن حياته كلها قد تغيرت، و أن الأمور لم تعد تسير كما كان يخطط لها.. بدأ يشك في قدرته على السيطرة على الأمور، و بدأت شكوكه القوية تزداد تجاه «صخر» بأنه قد يكون له اليد العليا في هروبها قبل أن يعلم أخيهم الأكبر، تراءى له أنهما قد اتفقا سويًا، على تركه يجابه وحده مواجهة العاصفة.. مواجهة « عز».
في لحظة غضبٍ شديد، اتصل « فيصل» على صخر، و صرخ في وجهه دون مقدمات، كأنه بركان انطلق لهيبه و دمر كل شيء في طريقه:
“خفيت رغدة وين يا صخر ؟!”
في ذلك الوقت، كان « صخر» قد اقترب من الكافيه الذي سيقابل فيه صديقه المقرب
« جبريل»، الاثنان صديقان مخلصان لبعضهما، يثق كل منهما بالآخر، و يتبادلان الأسرار دون خوف، كأنهما روحين في جسدٍ واحد، متلازمتين لا يمكن فصلهما.. عدا سر واحد أبقاه « صخر» خلف الستار؛ خوفًا من قبيلته، وهو
إخفاء « آسر» ابن عم جبريل لديهم، لاستخدامه كورقة فيما بعد إذا وقعوا في مَصَاب مع عائلة المنزلاوي.
شعر «صخر» بالضغط و التوتر عندما سمع صوت فيصل الغاضب، فاضطر إلى الكذب عليه، وقال:
” ما بعرف عن شو بتحكي، أنا خارج سيناء عندي شغل.. ما بعرف أي شي عن رغدة، ويش بها رغدة؟ ”
حاول «صخر» أن يبدو غير مبالٍ، لكنه يعرف أن فيصل لن يصدقه بسهولة، فبدا و كأنه يحاول إخفاء الشمس في اتضاح النهار.
ازداد صراخ فيصل و انفعاله، و هتف:
” لا تكذب يا صخر، بعرف إنك ورا يللي صار.. تكلم، وين رغدة ؟”
شعر صخر بالقلق، فهو يعرف أن فيصل لن يتراجع حتى يعرف الحقيقة، فحاول أن ينهي المكالمة بأسرع ما يمكن، أردف:
“آسف يا خوي، بعد الشغل بحكي معك، هنيا الشبكة مو زينة..”
و أغلق المكالمة فجأة، ثم تنهد بضيق، مُدركًا أنه وضع نفسه في مأزق صعب، لكنه كان مستعدًا لتحمل العواقب إذا كان ذلك يعني حماية شقيقته رغدة، لقد ازداد العبء الثقيل على كتفيه، كالذي يسير على حبلٍ مشدودٍ بين جبلين شاهقين.
بعد إغلاق المكالمة، توجه صخر إلى الكافيه ليقابل جبريل، يعرف أنه يستطيع الوثوق بجبريل، و استشارته في – قسوة المعضلة –، هو صديقه يعرفه أكثر من أي أحد.
فالصداقة الحقيقية هي الهدية الثمينة التي تمنحها الحياة لنا، جوهرة نادرة لا تقدر بثمن.
صديقٌ مخلص ودود، يحبك بلا حدود، دون انتظار مقابل أو مكافأة، يعرف كيف يسمعك بعمق، و يتفهم مشاعرك دون حاجة إلى كلماتٍ كثيرة، كأنه يقرأ أفكارك و يعرف ما في قلبك.
عندما تشعر بعدم الأمان، يكون هو الملاذ الآمن الذي تلجأ إليه، كأمٍ تحتوى قلبك و تعانق روحك في لحظات ضعفك؛ فتجعلها ترتاح.
يكون الصديق الحقيقي هو بنك أسرارك الذي يحفظها بدقة، كخزنة محكمة الإغلاق لا تفتح إلا لصاحبها.
في أوقات الخلافات و الصراعات، يحافظ على عهد الصداقة ولا يغدر بك، كأنه جسرٌ قوي لا ينهار في العواصف، فلا تدوم فترة غضبك الطويل، فعاطفته متعلقة بك دائمًا، و يعرف كيف يرشدك إلى الطريق الصحيح.
عندما تنجح، يصفق لك بفرحٍ دون أن يشعر بالغيرة أو المنافسة، بل يحتفل بنجاحك كما لو كان نجاحه الخاص، كَشريكٍ حقيقي في كل خطوة من حياتك، و الأهم من ذلك، أن الصديق الحقيقي يبقى اسمك جانب اسمه في دعائه، يدعو لك بكل خير و يخاف عليك كما يخاف على نفسه، كأخٍ لا يفارقك أبدًا.
الصداقة كنزٌ ثمين، و ليس كل شخصٍ يمكن أن يكون صديقًا مخلصًا، الصديق الحقيقي هو من يجمع كل هذه الصفات، و يبقى بجانبك في كل الأوقات، داعمًا و مشجعًا دون انتظار أي مقابل، فكن حريصًا على اختيار أصدقائك، و كُن مخلصًا لهم كما تتمنى أن يكونوا مخلصين لك؛ لأن الصداقة الحقيقية هي أغلى ما في الحياة.
_نرمينا راضي.
ما إن رأى «جبريل» صديقه مقبلًا حتى نهض لاستقباله بحرارة، و كأنه لم يره منذ زمن بعيد، فتعالت ابتسامته و انفرجت أساريره، و احتضنه بابتسامة واسعة، ليتحدث بالإشارة قائلًا:
“وحشتني القاعدة معك يا زين الزين”
رد «صخر» بابتسامة حزينة ظاهرة على وجهه، و كأن الحزن قد نقش خطوطه على ملامحه:
” وحشني كلامك و صُحبتك يا جبريل، بس الدنيا صارت متلخبطة، وما عاد أعرف وين الصواب من الغلط ”
جلسا معًا، و طلب جبريل العصير المفضل لدى صخر – جوافة باللبن– و طلب لنفسه عصير البطيخ، ثم أشار إليه ليتحدث و يقول ما يزعجه، فبدت عينا «صخر» تفيضان بالدمع و هو يتحدث عن معاناته، فتنهد بتعبٍ و قال:
” أنا في ورطة وما أدري كيف أطلع منها، الأمور اختلطت عليّ وما عاد أعرف إيش أسوي”
وضع «جبريل» يده على يد صخر، و كأنه يقول له: “استمر في الحديث، أنا بجانبك و أسمعك، لا تقلق، فأنا هنا لمساعدتك”
جاء العصير، فطلب من صخر أن يشربه ليرتاح قليلًا و يستطيع التحدث، شرب «صخر» العصير و بدأ يتحدث بهدوءٍ، حكى له كل شيء كان يخفيه عنه، و بدت كلماته تتدفق مثل نهرٍ جارف، يغمر «جبريل» بالدهشة والاستغراب، و الأخير مصدومًا و مندهشًا مما يسمعه، لم يكن مستوعبًا أنهم يخفون «آسر» ابن عمه عندهم، و ذهل أكثر عندما علم بالكارثة التي فعلها «آسر» مع رغدة المسكينة.. يعلم «صخر» أن «جبريل» لن يستطيع مساعدته في هذا الأمر، هو فقط كان يريد التحدث و الفضفضة عن ما يضايقه، فالإنسان يحتاج إلى من يسمعه و يحكي له أوجاعه.
تعمّق «جبريل» في تفاصيل المعضلة، و نسج خطةً محكمةً لإنقاذ الموقف من الانهيار المحقق، فاقترح على «صخر» أن يتدخل رجال زينات في المعضلة.
لم يكن صخر الصديق الوحيد لجبريل، فقد كان له علاقة وثيقة مع وسيم و كرم، و اتسمت هذه العلاقة بالود والاحترام المتبادل، خاصةً مع وسيم، الصداقة بينهم قوية بشكل خاص، نظرًا لتقارب أعمارهم، مما أتاح لهم فهمًا عميقًا لبعضهم البعض و تواصلًا فعالًا.. بعيدًا عن أعمالهم المشبوهة، تجاوزت علاقتهم حدود السطحية لتتحول إلى صداقة متينة قائمة على الاحترام و التقدير.
و « لباشا» دور محوري في هذه الخطة، نظرًا لمكانته الخاصة عند « عز»، حيث يمكنه أن يتفاهم معه بخصوص « رغدة»، و يحاول إقناعه بعدم خسارتها، كما حدث مع أسماء في الماضي.. و مع تقديم هذه الخطة، شعر «صخر» ببصيص أمل حقيقي، وب دأ يقتنع بأن هذا الحل قد يكون المفتاح لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ودَّ جبريل أن يمحو بعض الضغط و التوتر عن رأس صديقه، فأخذه لحوار آخر و موضوع آخر، متسائلًا عن « آلاء» و هل ما زال يفكر في الزواج منها و يعترف لها بحبه، فتحدث « صخر» عن حُبه السري لها، الذي بدأ منذ لثلاث سنوات، و كيف كان يكتب لها الأشعار و يعبر عن مشاعره بأسلوب رومانسي.. كلماته تفيض بالشوق و الحنين وهو يتحدث، و تكشف عن عمق حبه لها.
لقد أحب بها كل شيء، من ملامحها الهادئة التي ترسم الهدوء على وجهها، إلى قوتها و اعتزازها بنفسها الذي يجعلها تتألق في كل لحظة، حبه لها حبًا شاملًا لا يتجزأ، يجمع بين الحنان و الاحترام و التقدير.
كلماته عبّرت عن مشاعر جياشة و مشاعر متأججة.. فاتضح عليه أثناء الحديث أنه يعيش في عالمٍ من الأحلام و الخيال، حيث « آلاء» هي البطلة و الأميرة، و هو الفارس الذي يبحث عنها ليحميها و يحافظ عليها.. مشاعره تتنفس حبًا و شوقًا، و تتأجج لهبًا يملأ قلبه و روحه.
عندما تحدث عنها شعر و كأنه يعيد اكتشاف نفسه، يعيد اكتشاف مشاعره و أحاسيسه، كان حبه لها مثل النار التي لا تنطفئ، مثل الشمس التي لا تغيب، يشعر و كأنه يعيش في حالة من الجنون، حالة من الحب الشديد الذي لا يمكن السيطرة عليه.
« آلاء» بالنسبة لصخر هي الحياة، هي النور الذي يضيء دربه، و هي الأمل الذي يبعث في نفسه التفاؤل، حبه لها مثل الحلم الجميل، حلم يراوده كل ليلة، و يجعله يستيقظ كل صباحٍ و هو يبتسم، يعيش في حالة من الحب الشديد، حب لا يمكن وصفه أو التعبير عنه، حب يملأ قلبه و روحه و كيانه كله، لكن ما لا يعرفه «صخر» و يعرفه «جبريل» هو أن « آلاء» معجبة بباشا منذ زمن، و تخفي ذلك لنفسها بسبب مبادئها التي لا تسمح لها بحب مجرم.. و «باشا» يعرف ذلك من خلال « قابيل» الذي لاحظ نظراتها عدة مرات عندما كانوا يذهبون لإبرام صفقات مع شكري المنزلاوي في القصر، لكنه لم يضع الأمر في حسبانه، فهو لم يكن متوقعًا أن تكون معجبة به، و حتى لا يعنيه ذلك.
و هكذا، تتشابك الأمور و تتعقد، و تتداخل العلاقات فيما بينهم، لتصبح المعضلة أكثر تعقيدًا عندما تنكشف خباياها.
اختتم « صخر» حديثه بغصة متقرحة قائلاً:
” كل شي انقلب يا رفيقي بعد اللي سواه آسر، و حبي لها مخبيه في قلبي، لأن لو طلع لأهلي أو لأهلكم، أبدًا ما رح يوافقون على زواجنا، و هذي هي الغصة يا غالي”
ثُم أخذ يتغنى بالشعر البدوي بعينين ملؤها العبرات:
” ما قام حظي ولا فادت تدابيري
ولو أن قربك خطأ يبيض رايتنا
يزيد قدرك غلا من زود تقديري
يا غايتي يوم تنهينا نهايتنا
تعالي خذي من أوجاعي تعبيري
أنا وشِعري وصلنا فوق طاقتنا
أحزن وحزني يحبونه جماهيري
واليوم لدفن بقايا حي ميتنا
ما عاد تحيي معاذيرك معاذيري ”
تأثر «جبريل» بتلك الكلمات، و اختزن حزنه في أعماقه، لكن عينيه تعبران عن عشقه الخفي لابنة عمه، كلما تذكر نظرتها له كأخ فقط، شعر بألم عميق في قلبه، يتمنى لو يستطيع أن يأخذها بعيدًا عن العالم، و يعترف لها بحبه، و يعيشان معًا بسلام، لكن الحياة، بكل أسف، لا تمنحنا دائمًا ما نتمنى.
__________♡
في القصر الأبيض، تقوم « أمينة» الأخت الصغرى لشكري، باجراء مكالمة فيديو مع « أنور» الذي قام بتسليم شحنة البويضات و احضار المخدرات عبر سفينة الشحن التي يعمل عليها كقبطان.. أثناء المكالمة كان عائدًا لمصر، ظلت «أمينة» تتحدث معه بكلامٍ غير لائق، مما جعل «ماجدة» تشعر بالاشمئزاز عندما سمعت بعض الكلمات التي خرجت من فم «أمينة» بكل وقاحة.. حينها كانت « ماجدة» مارّة من أمام غرفة أخت زوجها، تصطحب « مهند» صاحب متلازمة الحُبِّ تجاه المرحاض تغسل له يديه من أثار اللعب باهمال، فاكتفت بالاستغفار في قلبها، لكن «مهند»، ببراءته، تكلم بعفوية و بصوت عالٍ، مما جعل « أمينة» تصاب بالفزع، و تغلق المكالمة سريعًا؛ خوفًا من أن يكتشف أحد علاقتها المشبوهة مع «أنور».
عندما فتحت «أمينة» الباب، وجدت «ماجدة» و «مهند» يقفان بالقرب منه، فحاولت «ماجدة» تجنب المواجهة، و بدأت في توبيخ «مهند» برفقٍ على لعبه في التراب، بينما بداخلها تحاول إخفاء شعورها بالضيق و التوتر من هجوم لسان «أمينة» البذيء عليها ككل مرةٍ، اضطرت « أمينة» بدافع الدفاع عن نفسها، قررت أن تتهم «ماجدة» زورًا أمام إخوتها، في محاولة لتشويه سمعتها و إبعاد الشبهات عن نفسها، مستخدمة كل الحيل و الخداع لتدمير سمعة «ماجدة».
هتفت بصراخٍ عليها:
” شوفي يا ماجدة، لو فاكرة إن عشان أخويا مات يبقى مبقاش ليكِ حاكم و تمشي على كيفك !.. سمعة أخويا أهم من حياتك أنتِ و ولادك، و مش هسمح أبدًا بأي * تحصل من بعده.. الله يرحمه غلطته الوحيدة إنه راح اتجوز واحدة من العشوائيات.. طبيعي بنت الحارة يطلع منها المشي البطّال، بس و رحمة أخويا اللي في تربته، لو ما اتعدلتِ و مشيتِ عِدِل، لأنا بنفسي اللي هقفلك.. هديكِ آخر فرصة المرة دي تراجعي نفسك عشان خاطر بس عيالك اللي هما عيال أخويا، لكن هتمشي عِوِج تاني، هتبقي رسمتي نهايتك و نهاية عيالك بايدك ”
وقفَت «ماجدة» مصدومة، متجمدةً في مكانها، غير قادرة على النطق أو الرد، بعد أن وجّهت «أمينة» إليها اتهامات باطلة كالصاعقة.. شعرت بصدمة كبيرة تزلزل كيانها، و توشك أن تصاب بجلطة من شدة الألم الذي يمزق قلبها، « ماجدة» امرأة حسنة الخصال، حافظت على نفسها و على جسدها بعد وفاة زوجها، عكس «أمينة» التي سلكت طريقًا آخر بعد سجن زوجها، طريقًا مليئًا بالفاحشة و المنكرات.
تبكي «ماجدة» بحرقة، و يدق قلبها بعنف من شدة الحزن و الغضب، و كأن الدموع والآهات تخرج من قلبها كالينبوع، أوشكت أن تذهب إلى غرفتها لتفادي المواجهة، لكن «شكري و جابر» يصلان إلى المكان بعد سماع صوت « أمينة» العالي، و نظراتهما تسألان عن سبب المشكلة.
في الوقت نفسه، تستيقظ « عايدة»، أخت أمينة، من نومها بعد أن تخبرها إحدى الموظفات بالقصر، التي تتولى مهمة نقل الأخبار الطازجة بما حدث، فتخرج لتشارك أمينة في الافتراء على ماجدة.. جريمة لا مغفرة فيها.
خططت أمينة بموافقة عايدة لإيقاع ماجدة في الفخ منذ أسبوع، بهدف إجبارها على التنازل عن حقوقها في القصر مقابل التستر على الفضيحة التي يتهمانها باطلاً بها، الاثنتين تغارين من معاملة الأب لماجدة باحترام و تقدير، فتُريدان التخلص منها بأي ثمن، مما اتفقت « أمينة» مع السائق الذي يوصل ماجدة إلى مقامات الأولياء على مبلغ مالي كبير مقابل أن يفتري عليها و يقول أنها تطلب منه إيصالها إلى رجل لإقامة علاقة غير شرعية، و تقترح عايدة أن يتفقوا مع شخص آخر ليؤكد هذه الادعاءات، كما يقومون بتزييف صور لماجدة أمام شقة الرجل القريبة من المقام الذي تزوره.
عندما أحست «أمينة» أن « ماجدة» ربما تكون قد سمعت مكالمتها مع «أنور»، قررت تنفيذ خطتها للتخلص منها نهائيًا، و تواجه «ماجدة» اتهامات باطلة و افتراءات لا أساس لها من الصحة، فتكون حياتها و سمعتها على المحك.
قبل يومٍ واحد من الأحداث، كان «شكري» في اجتماع مع شركائه في الشركة عندما علم بتحقيقات «فاطمة» في الجريمة التي تورط فيها ابنه آدم و عثمان، ابن أخته عايدة.. قرر شكري التعامل مع الموقف ببراعة وهدوء؛ ليبعد الشكوك عنهم.
في اليوم الذي حدثت فيه الجريمة، تصرف شكري بغضب مصطنع تجاه آدم و عثمان أمام أهل القصر على مائدة الطعام، فكان يعلم أن الشكوك ستتجه نحوهما أولًا بسبب تصرفاتهما الطائشة و ميلهما لصنع المشاكل، استغل شكري كاميرات المراقبة التي أظهرت عودتهما في الفجر، ليزيد من حيرة آلاء و فاطمة.
عندما أخبر «جبريل» آلاء عن تورط عمه شكري في الجريمة، زادت حيرتها، خاصةً أنها تثق في جبريل و تعلم أن خالها شكري دائمًا ما يخطط بذكاء ليبعد نفسه عن الشبهات.. هكذا، نجح شكري في تشتيت الانتباه و إبعاد الشكوك عن نفسه، ليبدأ في تنفيذ خططه الأخرى.
تمكن عثمان و آدم من الوصول إلى الصائغ الذي صمم السوار الفضي الأصلي، و هناك كشف لهم الصائغ عن تفاصيل مذهلة.. قال إن شخصًا ما جاءه منذ أسبوعين، و طلب منه تصميم سوار مطابق للسوار الأصلي بعد أن شاهد صورة لعثمان على الانستجرام، حيث كان عثمان يظهر بصحبة آدم و السوار الفضي يزين يد آدم بشكل واضح، و أضاف الصائغ أن هذا الشخص ادعى أنه من المعجبين المخلصين لعثمان، و يتابع أعماله الفنية بشغفٍ كبير؛ نظرًا لأن عثمان ممثل مشهور.
و ما زاد الشكوك هو أن العطل الفني في كاميرات المراقبة حدث في نفس الوقت الذي زار فيه الرجل المحل لطلب تصميم السوار المطابق، مما يثير التساؤلات حول ما إذا كان هذا العطل مقصودًا أم أنه مجرد صدفة.. عندما طلب عثمان من الصائغ الحصول على صورة للشخص من كاميرات المراقبة، وجد أن العطل الفني قد حال دون الحصول على أي تسجيلات.
بذل الصائغ قصارى جهده لتقديم وصف عام للشخص، لكن هذا الوصف لم يكن كافيًا لتحديد هويته بشكل دقيق، و على كُلٍ الفاصل الزمني الذي حدثت فيه الجريمة و الذي طلب الرجل فيه تصميم سوار مطابق، كان أسبوعين، أي أن الشكوك تبتعد عنه أيضًا.
بقرارٍ حاسم، قرر شكري إنهاء القضية بشكل نهائي.. تصرف بذكاء، حيث أرسل بعض رجاله ليتولوا الاعتراف بالجريمة، مقابل ضمان سلامة أسرهم.. اضطر الرجال للموافقة على هذا العرض، و استغل شكري سوابقهم الإجرامية لإقناع الشرطة بصحة اعترافاتهم.
بينما كانت فاطمة مازالت تعمل على القضية، شككت في صحة اعترافات الرجال، فحاولت تقديم أدلة إضافية، و عرضت على المحقق السوار الذي عثرت عليه، لكن أحد الرجال اعترف بملكيته و وصفه بدقة دون أن يريه إياه المحقق، مما زاد من مصداقية اعترافهم.
بهذا، أُغلقت القضية و عرض الرجال للمحاكمة، لتنتهي بذلك التحقيقات.. و هكذا، بدا أن نفوذ شكري و سلطته قد انتصرا على حق الضحية، و بدت العدالة و كأنها أخذت مجراها، رغم الشكوك التي بقيت في الأذهان حول حقيقة الجناة.
في ليلة الجريمة، عاد آدم و عثمان من الديسكو وهما في حالة سُكر، بينما كانت الضحية في طريقها لإحضار دواء لابنها المريض. للأسف، كانت المنطقة خالية من كاميرات المراقبة الليلية، مما أتاح الفرصة لحدوث الاعتداء دون رادع.
عندما هاجم آدم و عثمان و صاحبهما الثالث الذي كان يقود سيارته خلفهما، الضحية، ظلت تصرخ، فتجمع الناس في النوافذ لمشاهدة المشهد دون أن يتمكنوا من تمييز الجناة بسبب الظلام، ثُم أغلقوا نوافذهم خوفًا من المجرمين.. بعد مقاومة عنيفة، تركوها و غادروا المكان.
في تلك الأثناء، اتصل شكري بآدم لمعرفة سبب تأخره، و علم منه تفاصيل الجريمة.. بسرعة، تحرك شكري بذكاء، حيث أحضر زيتًا مقليًا يحتوي على بقايا طعام، بعد أن علم أن الجريمة وقعت بالقرب من مطعم.
كانت خطة شكري الأولية هي إلصاق التهمة بصاحب المطعم، في محاولة لإنقاذ ابنه وابن أخته من العواقب، مستغلًا ذكاءه و دهاءه في التخطيط للخروج من هذا المأزق.
قاموا برمي الضحية في صندوق القمامة القريب، و أشعلوا النار فيها و هي لا تزال تتنفس، في جريمة بشعة لا تُنسى.
«جبريل» هو الوحيد الذي اكتشف الحقيقة، حيث كان يقرأ كتابًا في شرفة غرفته و رأى عمه شكري وآدم و عثمان يعودون في الليل بوجه متوتر، و سمع آدم يتحدث إلى والده عن الجريمة و يخشى أن تعرف الحكومة بالأمر.
«شكري» دخل القصر من الباب الخلفي بعد أن عطل الكاميرات بجهاز التحكم الذي كان بحوزته، كأنه لص يهرب من العدالة.
«آلاء»، التي تعمل طبيبة شرعية، لم يكن لها دور في البحث عن المجرمين، لذا لم يكن أمامها خيار سوى متابعة عملها و ترك الشرطة و المحققين يقومون بدورهم.
«فاطمة»، من ناحية أخرى، شعرت بالارتياح عندما تم إغلاق قضية الجريمة و لم يعد مطلوبًا منها الشك في شقيقها.
و تلك هي – قسوة المعضلة –، تموت الحقيقة و تُدفن العدالة في رمال الصمت، حيث يتحكم أصحاب النفوذ و السلطة في مجريات الأمور، و يتمكنون من التلاعب بالحقائق و تشويهها لصالحهم.. في عالمٍ تُقبل فيه الرشاوى و تُساوم فيه المبادئ، يصبح من الصعب على العدالة أن ترفع رأسها و تُحاكم الظالمين.
العدالة الحقيقية تُؤجل إلى الآخرة، حيث يُحاسب كل فرد على أفعاله دون محاباة أو محسوبية، أما في الدنيا، فتختلف القصص و تتنوع الأساليب التي يتبعها أصحاب النفوذ للهروب من العقاب، و تتآكل الثقة في المؤسسات التي من المفترض أن تحمي الحقوق و تحاسب المجرمين.
عندما تتدخل المصالح الشخصية و العلاقات الاجتماعية و المالية لتغيير مجرى العدالة، يصبح الفساد جزءًا من النسيج الاجتماعي، و تتآكل القيم التي تُبنى عليها المجتمعات، و تظل الحقيقة ضائعة في متاهات الصراعات و المصالح المتضاربة.
هكذا، تظل العدالة مجرد حلمٍ بعيد المنال، يراود المجتمعات التي تسعى للمساواة و العدل، و يبقى الأمل في أن تأتي لحظة تنتصر فيها الحقائق و تُحاسب فيها النفوذ.
_نرمينا راضي.
وجَّه « شكري» سؤاله الصارم لماجدة:
” صحيح الكلام اللي أمينة بتقوله ده يا ماجدة؟ ”
يعلم شكري أن زوجة أخيه امرأة شريفة ولن تفعل ذلك بتاتًا، و لكنه في نفس الوقت يميل لشقيقته الصغرى، التي يكبرها بخمسة عشر عامًا، و التي لها مكانة خاصة في قلبه، و لن يقبل بتشويه صورة أمينة بأنها كاذبة أمام أحد؛ لذا أعاد سؤاله بغضب أعمى لبكاء ماجدة أمامهم:
” انطقي يا ماجدة.. بتتسرمحي من ورانا.. مختومين على قفانا ولا مفيش رجالة مالية عينك ؟! ”
كادت أن تنطق « ماجدة» و تدافع عن نفسها، و لكن تدخل «عايدة» أعاق دفاعها، فقالت هي الأخرى بغضبٍ:
” صحيح يا شكري، و عندي الدليل و الشهود.. إحنا كنا ساترين عليها عشان خاطر العيال، بس اظاهر كدا، أرملة أخوك مش متربية و محتاجة اللي يربيها ”
” و عاملة لنا فيها الشيخة و لابسة لنا حجاب، و رايحة فين ؟ رايحة أزور سيدي فلان، جاية منين ؟ جاية من عند سيدي علان، و هي بتروح تمشي في البطّال.. الـ * تربية العشوائيات ”
هتفت بها « أمينة» بسخرية لاذعة، مما فاض بماجدة الكيل، و صاحت باكية:
” حرام عليكم، أنا معملتش كدا ولا يمكن أعمل كدا، أنتم بتظلموني، و الله العظيم يا أبو آدم ما حصلت حاجة من اللي بتتقال دي، حسبي الله ونعم الوكيل ”
ردت « أمينة» بعصبية، وهي تتجه إليها و تنزع عنها حجابها ثم جذبتها من شعرها بقوة:
” أنتِ بتحسبني في أولياء نعمتك يا بنت الـ * يا * يا * يا *، ده أنتِ يومك أسود النهاردة يا * ”
بكي « مهند» على ضرب أمه أمامه، بينما
« لؤي» وضع يديه على أذنيه من ألفاظ والدته البذيئة، أما « جابر» شقيقها قال بحزمٍ:
” أميـنة.. خلاص، ادخلي أوضتك يا ماجدة، و أنتِ يا أمينة ادخلي أوضتك ”
ابتعدت أمينة عنها و التفتت لهم تصيح:
” أنتم هتسيبوها عادي كدا ؟! و سمعة العيلة؟! ”
تدخل « شكري» يتساءل بانفعالٍ:
” فين الدليل اللي بتقولي عليه ده يا عايدة ؟ ”
انتهزت « عايدة» الفرصة، و استدعت السائق، و أحضرت الصور التي تثبت صحة افتراءها، و بعدما تفحصها شكري جيدًا، اتجه ناحية ماجدة، و هوى بصفعة قوية على خدها هاتفًا:
” في دقيقة تكوني برا القصر، و تنسي إن ليكِ عيال، عيال أخويا هيفضلوا معانا، و أنتِ في ستين داهية تشيلك، أنتِ ست ملكيش أمان * بنت *.. بـرا ”
لم يكن أحدا من الشباب في القصر، جميعهم في أعمالهم، حتى « جبريل» تأخر في العودة، وجدت ماجدة نفسها وحيدة، فأخذت تقول لهم بترجي و ببكاء شديد:
” والله العظيم ما عملت حاجة، أنا مظلومة، والله مظلومة ”
تدخل « لؤي» الصغير يقول بدموعٍ متأثرة بمصاب ماجدة و صديقه مهند:
” حرام عليكم.. طنط ماجدة محترمة و أنا بحبها، اللي بيحصل ده مش عدل أبدًا يا خالو شكري.. حرام عليكِ يا ماما، ربنا يزعل منك ”
” ربنا ياخدك.. امشي يا مبقع ادخل أوضتك ”
صاحت أمينة عليه غاضبة من تدخله، فما كان من الطفل المسكين مقدرةً على الوقوف في وجوههم، فانصاع لأوامرها و دلف لغرفته وهو يودع ماجدة و مهند بنظراتٍ دامعة.
_____
في مكان آخر، في فيلا الرماح.
في لحظة هدوء مؤقتة، تستعد «ندا الرماح» لاستئناف حياتها العملية بعد إجازة مطولة، حاملة معها الكثير من الانضباط و الجدية في عملها كضابطة في الجيش المصري بعيدًا عن تعقيدات الحياة العائلية، تعيش حياة مهنية حافلة بالانضباط و التفاني، ولم يكن لها أي عِلم أو علاقة بأعمال والدها المشبوهة، التي كانت تجري في الخفاء بعيدًا عن أعينها، تلك الفتاة العزباء هي حبيبة
« عز الدين» السرية، يحبها و يتردد منذ خمس سنوات في اخبارها، فقط لأنها تعمل بالجيش، أما هي فضَّلت العمل عن الحُب و الزواج.
«ندا»، البالغة من العمر ثلاثة و ثلاثون عامًا، في نظر نفسها نموذجًا للمرأة القوية المستقلة، التي رسمت طريقها بنفسها بعيدًا عن الضغوطات و التأثيرات العائلية السلبية.
في صباحٍ يوم جديد، ربطت شعرها بعناية، و أعدت حقيبة الملابس استعدادًا للمغادرة، لكن صوتًا قادمًا من الطابق العلوي قطع هدوء الصباح، صوت صراخ «ميار» زوجة شقيقها، الذي جعل « ندا» تتوقف فجأة.. لقد عادت « ميار» أمس من قصر والدها، بسبب عدم شعورها بالارتياح وهي بعيدة عن زوجها لا تعرف مداخله من مخارجه.
في تلك اللحظة، ظهر «نور» الأخ الصغير غير الشقيق لندا، الطفل المصاب بالمهق و الذي يعاني من التنمر..
وجهًا لوجه، يحمل في عينيه مزيجًا من الخوف و القلق، وهو يهرع ليخبر ندا بما يجري، لم تكن ندا لتتردد لحظة في التدخل، خاصةً و أنها تكره بشدة إهانة و ضرب النساء.
صعدت الدرج بخطواتٍ حازمةٍ و وصلت إلى الطابق العلوي لتجد شقيقها أحمد يُعنف زوجته ميار، التي كانت آثار الضرب بادية على وجهها و جسدها، و لم تتردد ندا في التدخل بسرعة، حيث أبعدت شقيقها عن ميار، و وقفت حازمة بقوة لتضع حدًا لهذا العنف الذي لا يمكن السكوت عنه.
هتفت بضيقٍ من تصرف شقيقها:
” إيه العبط و الغباء اللي أنت بتعمله ده ؟! أنت اتجننت يا أحمد ؟ بتمد ايدك على مراتك ؟ ”
” أصل.. ”
” لا أصل ولا فصل، الست اللي تتهان في بيت يبقى صاحبه مش راجل ”
ازداد ضيق أحمد و صاح موجهًا الاهتمام لميار التي كادت أن تفقد الوعي من كثرة التعنيف:
” بتدخل في شغلي ! من امتى و الحريم بيدخلوا في شغلنا أو يردوا على تليفوناتنا ؟! أمك الله يرحمها عمرها ما ادخلت في شغل أبوكِ ولا حتى مرات أبوكِ، لكن الهانم دي كل شوية تسأل رايح فين و جاي منين ! أنتِ مال أهلك أفهم ؟ مش طلباتك كلها مجابة، بتسألي كتير ليــه ؟؟ هكون بروح فين يعني، منا بتنيل طافح الدم و بشتغل ليل نهار زي الحمار ولا حد بيرحم.. لأ و كمان جاتلها الجرأة تمسك تليفوني و تفتش فيه ! ده أنا عمري ما عملتها معاكِ.. ينعل ** يا شيخة.. عيشة تقرف ”
ردت « ندا» متجاهلة كل ما قاله:
” مش مبرر.. إيه يعني اما تسأل رايح فين و جاي منين ؟ مراتك و بتقلق عليك أو بتغير عليك.. إيه المشكلة ! مش قضية هي.. أحمد.. اتعدل مع ميار، ولا هي عشان بتحبك بجد هتعمل فيها كدا ؟ مش حُب عمرك دي اللي قولت هموت لو متجوزتهاش ! إيه اللي حصل ؟ قليل اللي يلاقي حد يستحمله و يحبه، و ميار على عيوبك و على لسان الطويل مستحملة عشان بتحبك.. اعقل يا أحمد و حافظ على بيتك بدل ما أخدها و أخليها تعمل كشف طبي توديك في داهية.. أنت عارف كويس إني في الحاجات دي مبهزرش، و عند إهانة الست معرفش أبويا من أخويا.. اعقل كدا و متمشيش ورا شيطانك”
هتف بامتعاض غير متقبلاً تهديد شقيقته:
” أنتِ بتهدديني يا ندا ؟ ”
” و بحذرك كمان، لو مديت ايدك عليها تاني مش هسمي عليك يا أحمد ”
لم يقل شيئًا و ظل يرمقها بغضبٍ، بينما هي أخذت ميار من يدها و غسلت لها وجهها، ثم وضعت لها مرهم للكدمات، و قالت بحنانٍ:
” متديلوش فرصة إنه يمد ايده عليكِ، و متبقيش مدلوقة عليه أوي كدا، أنا عارفة انك بتحبيه، بس أحمد أخويا أنا عارفاه كويس، مبيجيش بالاهتمام المبالغ فيه، سيبيه كدا طايح مع نفسه، هيعرف إن محدش هيهتم بيه غيرك، و بعد كده بلاش أنتِ تبادري في أي حاجة تخص علاقتكم، سيبيه هو اللي يجي يقولك بحبك و يهتم بيكِ، أنا عارفة إن هو زوجك و حبيبك و من حقك تعملي كل ده، بس أحمد مش هيجي بالطريقة دي.. طنشيه خالص و متسأليش فيه، هتلاقي هو بنفسه جاي يقرب منك تاني ”
تساءلت ميار بحزنٍ وهي تمسح دموعها:
” تفتكري لو عملت كدا هيرجع يحبني تاني ؟ ”
” جربي، و في الآخر أنتِ مش خسرانة حاجة، أنتِ بتختبري غلاوتك عنده.. المهم متفكريش في أي حاجة تزعلك عشان الحساسية تخف، و ارجعي ارسمي تاني أنتِ موهوبة في الرسم، ارجعي اعملي الحاجات اللي بتحبيها و اهتمي بنفسك و طنشيه خالص ”
أومأت في صمتٍ، فَربتت ندا على ظهرها، ثم ودعتها متجهة لعملها.
أما « أحمد» استقل سيارته متجهًا لصديقة ميار التي تزوجت مِنهُ عرفي، و ضربت بالصداقة عرض الحائط.
______
تقف « إيمان» على خشبة المسرح، محاطةً بالظلام الهادئ و الإضاءة الخافتة التي تلقي بظلالها على حركاتها الرشيقة.. ترقص بحركة متناغمة و سلسة، و كأن جسدها يتحرك من تلقاء نفسه دون تفكير، لكن في عمقها، أفكارها مشتتة، تائهة في بحر من المشاعر و الأحاسيس.
كل خطوة تضعها على خشبة المسرح، تشعر و كأنها تقترب أكثر من «كرم»، الشخص الذي استحوذ على قلبها دون أن يدري.. حركاتها تعبر عن مشاعرها، عن الشوق، عن الحنين، عن كل لحظة جميلة تخيلتها معه.. تذكرت كيف ترى ابتسامته التي تضيء حياتها في اللقاءات العابرة عند قدومه مع إخوانه للقصر لإبرام صفقات جديدة تخص العمل، و نظرته التي تجعلها تشعر و كأنها مكتشفة لسرٍ جديد في الحياة.
في النهاية، توقفت عن الرقص، و وقفت بثباتٍ، تنفسها هادئ، و جسدها يستريح بعد أداءٍ شاق.. و صوت الهتاف و التصفيق يملأ أرجاء المسرح.. بعد انتهاء العرض، غادرت خشبة المسرح، و هي تشعر بالارتياح و الراحة، تعلم أن عليها أن تكون صبورة، و أن تنتظر اللحظة المناسبة لتكشف عن مشاعرها لكرم.
في تلك الأثناء، كان «كرم» يعيش مشاعر خاصة تجاهها، مشاعر حب و اعجابٍ كبير، يحمل لها في قلبه الكثير من المشاعر الجميلة، لكنه لم يكن قادرًا على الاعتراف لها بمشاعره، خوفًا من والدها شكري.. يتمنى لو يستطيع أن يخبرها بحبه لها، لكنه يعلم أن عليه أن ينتظر اللحظة المناسبة، و أن يكون شجاعًا بما يكفي ليعبر عن مشاعره لها، حتى إخوانه لم يعرفوا بذلك، و لكن « قابيل» أحس و فضَّل الصمت، حتى لا يقحم أخوه الصغير في مشاكل لا حصر لها مع « زينات».
في أروقة الشركة، يمارس « سلطان» سلطته بكل قوة، نجح في إقناع الفتيات بالتوقيع على ورقة التبرع بالبويضات.. أسلوبه الجاد و الصارم في العمل كفيلًا بجعلهم يشعرون بالخوف و القلق، فوقَّعوا على الورقة دون تردد، و كأنهم يوقعون على قدرهم.
بينما في الخارج،« صفية»، الصحفية الشجاعة، جالسةً خارج غرفة الاستقبال، تراقب و تحلل كل سلوك غريب يصدر من الموظفين.. عيناها تتحركان بسرعة، تلاحظ كل التفاصيل الصغيرة التي قد تكون مفتاحًا لكشف الأعمال المشبوهة التي تقوم بها الشركة.
استأذنت للذهاب للمرحاض، و بدأت تتجول في الممرات بحجة أنها تبحث عن الحمام، لكنها في الحقيقة كانت تبحث عن أي دليل قد يقودها إلى الحقيقة.. فجأة، ظهر أحد الموظفين و سألها عن سبب وجودها في ذلك الممر، فبدأت صفية في التمثيل بدور المرأة الضائعة، محاولةً إخفاء نواياها الحقيقية خلف ابتسامة بريئة.
لكن الموظف، الذي يبدو أنه ذو خبرة في التعامل مع مثل هذه المواقف، شك في أمرها و استشعر الخطر.. برائحة الخيانة في المكان، فقرر أن يبلغ «كرم»، المسؤول عن التبرعات بأمر من المعلمة زينات، عن تصرفات تلك المتبرعة الغريبة في الشركة.
بدأت صفية تشعر بالقلق، فقد لاحظت أن الموظف لم يعد يتصرف بشكل طبيعي، و بدأت تشك في أنها قد كشفت أمرها، و لم تدُم لعبة «صفية» طويلاً، فقد أحس «كرم و وسيم» بأنها تتصرف بغرابة عكس باقي الفتيات.. أرسل كرم رسالة سريعة إلى سلطان ليخبره بأن يأتي إلى مكان تواجدهم، و كان سلطان على وشك أن يكتشف بنفسه أن صفية تكذب عليهم و أنها جاءت لتكشف حقيقتهم.. شعر الإخوة الثلاثة بالقلق والخوف من أن ينكشف أمرهم، فقرروا التصرف بسرعة، ضرب «سلطان» صفية على رأسها، و أخذها إلى غرفة مغلقة، و استولى على هاتفها، ثُم كسر الشريحة.. في الوقت نفسه، قام كرم بتهكير هاتفها ليتأكد من عدم وجود أي تتبع لخطواتها.
بعد أن تأكدوا من أن كل شيء تحت السيطرة، حاول وسيم الاتصال بالمعلمة ليخبرها بما حدث، لكن قبل أن يكمل المكالمة، وصل «قابيل» إلى الشركة، و حكى كرم له ما حدث، فقرر قابيل أن قتلها هو الحل الوحيد لأن التهديد لم يعد نافعًا معها.
اتصل قابيل بباشا ليخبره بما حدث، و اقترح «باشا» فكرة أخرى.. الفكرة مدروسة بعناية، و بدأ الإخوة في تنفيذها بسرعة و دقة بالاستعانة بالضابط
« محمود»، و الفكرة هي تلفيق قضية دعارة لها، و أخذها عنوةً لإحدى الشقق المشبوهة، لجعل القضية تمت بالفعل
في تلك اللحظة، كانت صفية محتجزة في الغرفة المغلقة، لا تعرف ما الذي ينتظرها.. تفكر في كيفية الهروب..
دلف سلطان عليها وهو ينفث دخان سيجارة الحشيش، ليتسائل باستهزاء بعد تأمُلها لدقائق وهي في كامل خوفها:
” آنسة ولا عزباء ؟ ”
ردت بخوف يسبقه الدهشة:
” نعم ! ”
” نعم الله عليكِ، نقول تاني.. آنسة ولا عزباء ؟ ”
” يعني إيه آنسة ولا عزباء ؟ ”
رمقه وسيم بتعجب متسائلًا بهمس:
” إيه اللي أنت بتقوله ده ؟ ”
” اومال أقولها إيه ؟ ما إحنا عاوزين قضية الدعارة تبقى مظبوطة ”
تساءل كرم بعدم فهم:
” تقصد إيه ؟ ”
أعاد النظر لها وقال وهو يقترب منها:
” يعني لو آنسة نخليها مدام، ولو عزباء نجوزها ”
فهمت « صفية» مقصده و أخذت ترتعد مكانها، بينما « قابيل» انحنى عليها ليجذبها بغضب هاتفًا:
” أنا قولت لهم الموت أحسن لك، بس هما كرروا تعيش طول عمرك مفضوحة و مذلولة.. قال صحفية قال.. أنتِ اللي جنيتِ على نفسك ”
غلبت العاطفة « كرم»، فقال بحل حيادي:
” أنا عندي فكرة أحسن، إحنا لا نقتلها ولا نلفق لها حاجة.. هي تمضي بنفسها تبرع و تتبرع زيها زي غيرها، و حتى لو راحت و اتكلمت إحنا معانا الورق اللي يثبت إنها اللي ماضية بنفسها ”
التفت له « قابيل» مبتسمًا بخبثٍ، ليقول:
” لسه برضو قدامك وقت طويل عشان تتعلم من اخواتك إن العاطفة ملهاش مكان في شغلنا ”
هتفت « صفية» تترجاه بخوف:
” سيبوني أمشي و أنا والله ما هجيب سيرة لحد ”
” غلطة عمرك إنك لما جيتِ تتشطري، جيتِ تتشطري على مهددين الطرق، البسي يا * ”
قام بضرب جبهتها في الحائط عدة مرات و هي تصرخ بوجعٍ شديد، حتى فقدت الوعي، و اتسعت ابتسامته المشتاقة للقتل و رائحة الدماء البشرية ليقول بلهجة آمرة للرجال خلفه:
” لسه موجود عندنا أسيد ؟ ”
” موجود يا قابيل بيه ”
” هاتوه كله ”
قرر « قابيل» التخلص منها و من جثتها نهائيًا، و لم يستمع لقرار كبيرهم.
اقترب « كرم» منه يضع يده على كتفه و يتساءل:
” أنت ليه قررت تقتلها ؟ إحنا ممكن كده نروح في داهية لو حد شم خبر ”
” كرم.. دي مش أول مرة نعمل كدا يا حبيبي.. متقلقش، عندنا اللي يغطي على أي حاجة بنعملها.. هي تستاهل، جابت لنفسها الأذية، و اللي يجي على شغلنا يستاهل سِمِّنا ”
أحضروا الرجال محلول الأسيد، و تم وضع جثة الصحفية الشجاعة
« صفية الصايغ» في حوض استحمام ملحق بحمامات الشركة، بعدما خنقها « قابيل» حتى الموت، ثُم جرَّدها من ملابسها و أضرموا النار فيها، و وضع المحلول على الجثة بأكملها.
عملية إذابة الجثة لا تحدث بشكل سريع، و إنما تمر بعدة مراحل تبدأ من إذابة الأنسجة الحيوية.
بعد وضع الجثة في محلول الأسيد، تتحلل مكوناتها من البروتينات و الدهون والكربوهيدرات و الأحماض النووية عن طريق التحلل المائي، فيما أول ما يذوب من جسمها هو شعرها و أظافرها.
و يؤكد الخبراء أن إذابة العظام تحتاج لوقت طويل و عظام الشخص البالغ تتطلب يومين تقريبًا لذوبانها، لكن من الممكن اختصار الوقت في حال رفع الحرارة و زيادة الضغط، و هو ما سيؤدي إلى إذابة العظام في غضون ساعات قليلة.
و يؤكد المختصون أن إذابة الجثة و التخلص منها بشكل كامل بواسطة حمض الأسيد أمر غير ممكن، بل تبقى آثار مجهرية عالقة في المكان أو المجرى الذي صرّف عبره الحمض و ما ذوّبه، لكن مهددين الطرق وراءهم كبار يغطون على جرائمهم مقابل المال.. حينما رأى
« وسيم» ذلك، كعادته شعر بالقرف الشديد و ظل يستفرغ حتى أنهكه التعب.
و هكذا تم عملهم الشنيع و عادوا لفيلا زينات يضحكون و يمزحون كأن شيئًا لم يحدث !.
___
بعد أن أحضر أشرف « هِداية» التي تركت في الغرفة المظلمة، و التي كانت غائبة عن الوعي، عادت إلى وعيها بعد فترة من الزمن، و بدأت عيناها تنظران حولها ببطء و دهشة.. بدأت تسترجع ما حدث لها، و بدأت الذكريات تعود إليها قطعة قطعة.
نظرت إلى خالتها نادية التي كانت واقفة ثابتة مكانها، تحدق فيها بنظرات باردة وخالية من أي تعاطف، حينها كانت نادية تواصل عملها على ماكينة الخياطة، التي كانت تصدر صوتًا متقطعًا في الغرفة المتعفنة.. تحاول إخفاء عملها الحقيقي في السحر و الدجل خلف ستار الخياطة البريئة، بمساعدة ابنها، حولت البدروم إلى ورشة خياطة مزيفة، و حاولت محو أي آثار لممارسة السحر و إيذاء الناس.
تجلس « نادية» بثباتٍ، و عيناها مثبتتان على ابنة أختها، بينما أصابعها تتحرك بسرعة على ماكينة الخياطة.. البدروم مريب جدًا، و الجو خانق، لكن نادية لم تُظهر أي قلق.. بل تعمل بجد، و كأنها تحاول إخفاء شيءٍ ما.
بدأت « هداية» تستعيد و عيها ببطء، و نظرت حولها بدهشة و خوفٍ.. فالبدروم يجعل القشعريرة تسري في الجسد، و الهواء ثقيلًا و مُتعبًا، نظرت إلى خالتها نادية، التي تجلس بثبات، و عيناها مثبتتان عليها.. بدأت تسترجع ما حدث لها، استجمعت شجاعتها و بسرعتها البديهية التي تتمتع بها هتفت:
” أنتِ عملتي إيه فيا ؟ خليتي ابنك المعتوه يخدرني مش كدا ؟ عشان إيه بقى ؟ كُنتِ بتحاولي تخفي إيه و خايفة أشوفه ؟! بس على العموم أنا عرفت حقيقتك، منا قلت برضو الفُجر ده كله ميجيش غير من دجالة كافرة زيك ”
تغيرت ملامح نادية للغضب فبدت مخيفة، حتى أن ابنها أشرف ترك البدروم خوفًا من غضبها، فهي أمه و يعرفها جيدًا، بينما « هداية» وقفت باستقامة دون خوف رغم الرعب في قلبها، و قالت بسخرية:
” إيه مالك ! مش عاجبك كلامي ؟ هتعملي إيه بقى ؟ هتنادي على جمايكا ولا تعمليلي عمل على ضهر جمل ؟! ”
” اتقي شري أحسن لك يا هداية، أنا لسه مراعية إنك بنت أختي ”
” شليــه يا بنت أختي.. أختك اللي خربتي بيتها و موتيها بحسرتها..! أنتِ واحدة خاينة مصونتيش دم الأخوة اللي بينكم، و بعدين تعالي هنا.. أنتِ إيه القرف و الهباب اللي بتعمليه ده ! دجالة ! اخس.. طب الناس الغلابة اللي بتأذيهم دول عملوا لك إيه ! و على كدا بقى عشان تسخري الجن الكافر لخدمتك، دوستِ على كام ورقة مصحف ولا قعدتِ كام يوم من غير طهارة الحيض و الجماع ! أنتِ واحدة عبارة عن قرف، كنت بحتقرك دلوقت واقفة قدامك و شامة ريحة قرف طالعة منك.. بجد ربنا يولع فيكِ و يجعل نهايتك أنتِ و كل ساحر سودة بإذن الله.. حسبي الله ونعم الوكيل فيكِ، ربنا ينتقم منك ”
اشتدت غضب نادية، و في حركة مباغتة جذبتها هداية من شعرها حتى تمكنت بقوة أن تضع رأسها تحت قدمها و تضغط عليه، و الأخيرة تئن بألم شديد.. تحدثت نادية بهدوء مريب:
” الكلام اللي هقوله لك ده يتسمع و يتنفذ بالحرف، يا إما هتعيشي عمرك كله حزينة على أختك.. تطلعي من هنا خرسة عامية ما بتسمعيش، و لا كأنك شُفتِ حاجة أصلاً.. فاهمة يا بنت نوال ؟ آخر مرة هحذرك.. لو منفذتيش كلامي بإشارة مني هتفضلي طول حياتك تايهة في الأرض لدرجة هخليكِ تمشي عريانة في الشوارع تكلمي نفسك.. أنا مش هعملك عمل أنا هربيكِ بطريقتي، تلاشيني خالص أحسن لك و اتقي شري، عشان لو حطيتك في دماغي هبعتك أنتِ و أختك لأمك.. سمعتي يا بنت الـ * ؟ ”
فكرت « هداية» في شقيقتها التي تركتها أمها أمانة لديها قبل كل شيء و قبل نفسها، فما كان منها إلا أن توافق على مضض.. تركتها نادية و عادت تعمل على ماكينة الخياطة بهدوء مخيف، بينما « هداية» كتمت الألم و البكاء بداخلها و خرجت من البدروم تبكي في صمت و تنزف قهرًا في صدرها.
ظلت تردد وهي تتجه للاطمئنان على شقيقتها:
” حسبي الله ونعم الوكيل يارب احفظنا منها يارب ”
لحظات و أستيقظ والدها، ليدلف للمرحاض ثم يأكل فطوره و يستعد للذهاب للمقهى الذي يديره، لم يطمئن حتى على ابنتيه و خرج متجاهلًا وجودهما من الأساس.
قبل أن يخرج من المنزل، رنّ الجرس، ففتح ليجد السيد جاره القديم و زوجته و ابنته « منى»، تفاجأ من وجودهم فتساءل:
” السيد ! خير في حاجة ؟ ”
نظر له السيد باقتضابٍ و قال:
” منى بنتي جاية تطمن على هداية، أنت عارف أنهم متربيين سوا ”
رد السعيد ببرود:
” جايين مخصوص تطمنوا عليها ؟ طيب.. هي كويس، أي خدمة تانية ؟ ”
شعر السيد بالخجل، فتدخلت « منى» تقول باستعطاف:
” عمو بالله عليك خليني أشوف هداية، رنيت عليها كتير مردتش، و كمان كنت.. كنت جاية استأذن حضرتك لو هداية تفضل عندي كام يوم كدا تريح فيهم نفسيتها، هي كانت متعلقة بطنط نوال الله يرحمها ولو اتسابت لوحدها هتتعب اكتر.. لو سمحت وافق ”
أدهشهم تعامله مع الأمر بكل برود و تبلد في المشاعر، فأردف وهو يتركهم و يتجه ناحية المقهى:
” أهي عندك جوا، خديها ولا ياكشي تولعوا أنتوا الاتنين ”
منع السيد دخول ابنته المنزل فقد أحس برهبة من هذا المكان، و بدأ هو يستدعي « هداية» مُناديًا عليها، فخرجت تتأملهم بدهشة غير مصدقة تواجدهم، حالما رأت صديقتها « منى» تحولت ملامحها للسعادة، و تنهدت بارتياح وهي تركض نحوها لتعانقها بحرارة.. ظلت « منى» تربت على شعر هداية قائلة بحنان:
” قلبي كان هيتخلع من الخوف عليكِ.. أنتِ كويسة يا هُدهُد ؟ تليفونك مقفول ليه ؟ ”
تبسمت « هداية» بحزن حاولت إخفائه، و همست:
” الحمدلله.. الحمدلله كويسة ”
” جينا نطمن عليكِ، و مش ماشيين من هنا غير و أنتِ معانا، أنا استأذنت من عمو إنك تقعدي كام يوم معايا و وافق.. شكلك تعبان خالص، حقك عليا إني سيبتك الفترة اللي فاتت لوحدك.. سامحيني ”
فقدت « هداية» شجاعتها المزيفة، و اندثرت بين ذراعين « منى»، تبكي بصوتٍ مسموع و تقول بضياع:
” متسبنيش تاني يا منى، خليكِ معايا، متسبنيش.. الدنيا طلعت أقوى مني، الدنيا وحشة أوي يا منى ”
” ولو وحشة إحنا نحليها بالصبر و الإيمان ”
قالتها و أخذت تمسح دموع « هداية» التي بللت حجابها هي، ثم أردفت:
” متعيطيش يا قلب منى، أنا جنبك و بإذن الله معاكِ دايمًا لحد ما نعجز سوا و مش هسيبك أبدًا يا هُدهُد.. أنا في ضهرك لآخر نفس فيا ”
أومأت « هداية» بابتسامة بسيطة، و اتجهت تحضر حقيبة ملابسها هي و أختها التي جلبتها معها، فهي بالفعل بحاجة ماسّة لترتاح من عناء حياتها و دربها الشاق قليلاً، لكن لصعوبة قدرها فالقادم لها لا ينبئ باليُسر.
______
في ظل الهدوء الذي يلف « منزل باشا الباشوات»، يبدو أن الليل قد غمره بسكونه، و لكن فجأة، يقطع هذا السكون صوت صفارات الإنذار، ليعلن عن اقتحام غير متوقع لمنزله.. هذا المنزل الذي يُعتبر حصنًا منيعًا، يحمي صاحبه من كل خطر قد يهدده.
«باشا»، الذي كان على وشك النوم بعد يومٍ طويل، يجد نفسه فجأة في مواجهة مع هذا الاقتحام الغامض.. بعد أن اتصل بصديقه عز ليعتذر عن زيارة مقررة و يطلب تأجيلها، كان باشا قد استسلم للنوم، لكن صوت الإنذار أعاده إلى الواقع.
يقفز من سريره، و يتحرك بحذر، يُخرج شومة قديمة من تحت سريره، و يحملها بيديه بقوة وثقة، ثم يتوجه إلى قفص زجاجي كبير، يحوي أكبر أفعى يملكها، و يفتح القفص ببطء، و كأنه يطلق سراح وحشًا كامنًا.!
الأفعى، التي كانت هادئة في قفصها، تتحرك الآن بعنف، و كأنها تشعر بالحماس لمواجهة الغرباء.. يمسك بها، ثُم يقوم بمعاملة خاصة معها بوضعها على كتفه، و تلتف الأفعى حول عنقه، و كأنها شريك له في هذه المواجهة، و يخرج من غرفته، و يتحرك بحذر نحو مصدر الصوت.. عندما وصل إلى الحديقة، وجد سبعة رجال ملثمين، يبدو أنهم يخططون لشيء ما، في حينٍ أنه دائمًا مستعدًا للدفاع عن نفسه، يختبئ بسرعة خلف أحد الأشجار، و يبدأ يراقب تحركاتهم بحدة و اهتمام، و بذكائه يسمح لهم بالدخول للمنزل، ثم يقوم بقفل الأبواب و النوافذ الإلكترونية، محكمًا السيطرة على الوضع، و بينما يراقب «باشا» تحركات الرجال الملثمين، الأفعى على كتفه ترفرف بلسانها، و هو يبتسم، و يستعد لبدء المواجهة.. سيعلمهم درسًا لن ينسوه، هذا ما يظنه.

يتبع…..

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية حصب جهنم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى