رواية حتى اقتل بسمة تمردك الفصل الثاني عشر 12 بقلم مريم محمد غريب
رواية حتى اقتل بسمة تمردك الجزء الثاني عشر
رواية حتى اقتل بسمة تمردك البارت الثاني عشر

رواية حتى اقتل بسمة تمردك الحلقة الثانية عشر
إتسعت عيناها في ذهول بالغ عندما رأته أمامها ، في حين تسارعت ضربات قلبها عندما سمعته يحيها بصوته العميق:
-صباح الخير يا داليا.
عقد لسانها و لم تعرف ماذا تقول ، و بصعوبة خرج إسمه من بين شفتيها:
-مستر عز الدين !!
كان”عز الدين”يقف أمامها بثقة و كبرياء و حزم كما عرفته دائما و قد أضفت عليه ملابسه الداكنة قسوة و تمرد بالغين ، فهو لم يكن يرتدي بذلته السوداء الرسمية التابعة لعمله بل كان يرتدي سروالا أسود و قميصا رماديا أسفل كنزة سوداء صوفية ضاقت حول ذراعيه حيث أبرزت عضلاته القوية و بنيته العريضة الصلبة ، حتي في أبسط إطلالاته لم يتخلي عن هيبته و عنفوانه اللتين لطالما تمتع بهما ..
كانت تطل من عينيه نظرة متفحصة شملت كل جزء من ملامحها المصدومة ثم أخيرا نطق فقال بهدوء:
-مش هتقوليلي اتفضل ؟ و لا هتسيبيني واقف علي الباب كده ؟؟
لم تستطع التفكير بسؤاله إذ سألته مذهولة:
-حضرتك عرفت عنواني ازاي ؟؟
إبتسم بخفة ثم أجابها:
-انتي ناسية انك موظفة عندي ؟ و ان كل بياناتك تحت ايدي ؟؟
صمتت تماما ، فقط ظلت تنظر إليه في دهشة بينما جاءت”ياسمين”فجأة و وقفت إلي جانب شقيقتها عاقدة حاجبيها في تساؤل لدي رؤيتها الضيف الغريب فهتفت متسائلة:
-داليا ! مين ده ؟؟
إنتفضت”داليا”منتبهة ثم إستدارت بسرعة نحو شقيقتها و أجابتها في إرتباك و تعلثم واضح:
-أاا أاا ياسمين د ده ده مستر .. مستر عز الدين نصار.
عند ذلك حولت”ياسمين”نظرها إلي”عز الدين”في سرعة و سرعان ما تذكرته علي الفور ثم رمقته بعداء سافر و صاحت قائلة:
-هو حضرتك بقي ؟ اهلا بيك.
رمقها”عز الدين”بهدوء كما ثبت بمكانه بنفس الهدوء و البرود أيضا بينما كان الغضب و الإنفعال يملآن كيان”ياسمين”كلما نظرت إليه و تذكرت معاملته لشقيقتها و ما فعله بها فيما تابعت بحدة قائلة:
-امرك يا استاذ ؟ اي خدمة ؟ عايز ايه ؟ لو كنت جاي لغرض سافل من اغراضك اللي سمعت عنها من اختي و ربنا في سماه لهخرجك من هنا بفضيحة و مش كده و بس جيراننا موجودين حوالينا بردو احسن تكون فاكرنا لوحدنا لأ و اقل واحد هنا يقدر يتصرف معاك كويس اوي فانا بقول احسنلك يعني تاخد بعضك و منغير مطرود يـ …
-ياسمين !
هتفت”داليا”بغضب جامح مقاطعة شقيقتها ثم تطلعت إلي”عز الدين”بأسف و إضطراب قائلة:
-أ انا انا اسفة .. انا اسفة جدا يافندم اختي ماتقصدش.
-لأ اقصد.
عارضت”ياسمين”بقوة ثم تابعت في غضب يكاد يعميها:
-الاستاذ غلط معاكي كتير و لانك طيبة يا اختي و انا عارفاكي متسامحة كنتي بتنسي اهاناته فطيبتك دي شجعت حضرته علي التمادي في تصرفاته لدرجة انه افتكرك رخيصة يقدر يشتريكي بفلوسه بس لحد هنا و عندك بقي .. انا اللي هقفلك.
-ياسمين اسكتي قلتلك اياكي تتكلمي تاني سامعة ؟؟
هتفت”داليا”بإنفعال هش معنفة شقيقتها ثم عادت تنظر إلي”عز الدين”بوهن متسائلة:
-حضرتك جاي ليه يافندم ؟ انا سيبت الشغل خلاص عايز مني ايه تاني ؟؟
تنهد”عز الدين”بعمق ثم قال بصرامة هادئة:
-انا عايز اتكلم معاكي علي انفراد يا داليا .. و لو وجودي مش مرغوب فيه في بيتك ممكن تيجي معايا و نتكلم بهدوء في اي مكان تاني.
-تيجي معاك فين يا استاذ انت ؟؟
تدخلت”ياسمين”في حدة ثم تابعت:
-لأ طبعا مش هتروح معاك في حتة.
نظر”عز الدين”أرضا ثم ضم قبضتيه في غضب بينما نظرت”داليا”إلي شقيقتها في حدة ثم أشارت لها برأسها بأن تتواري بأي غرفة الأن حتي تنهي حديثها معه ، عارضتها”ياسمين”في بادئ الأمر إلا أنها رضخت بالنهاية تحت إصرار شقيقتها ، حيث زفرت في حنق ثم إستدارت علي نفسها و توارت بعيدا عن نظريهما ..
إنتظرت”داليا”حتي غابت”ياسمين”في الداخل ثم حولت نظرها إلي”عز الدين” و قالت مترددة:
-اتفضل !
عند ذلك رفع”عز الدين”رأسه فلاحظت ملامحه الجامدة التي تبدلت لتصبح واجمة و أكثر حدة جراء ما تلقاه من شقيقتها للتو ، بينما خطي إلي داخل المنزل و هو يتفحص كل ركن و كل زاوية بفضول بالغ ، كان ينظر حوله بإهتمام و إستغراب فتساءلت”داليا”بإنزعاج .. بماذا يفكر الأن ؟ هل يقارن ؟ بالطبع لا شيء هنا يمكن مقارنته بقصره العظيم غير أن الشقة فارغة أساسا !!
و لهذا إستدار إليها بسرعة و راح يحدق فيها بقوة جعلتها تفقد توازن عقلها فتعلثمت قائلة:
-اسفة بقي .. مش عارفة اقولك اتفضل فين ؟؟
-انتي كنتي بتعزلي و لا ايه ؟؟
سألها بفضول فهزت رأسها في إضطراب قائلة:
-حاجة زي كده.
-كويس اني لحقتك بقي.
-خير يافندم كنت عايزني في ايه ؟؟
سألته في جمود بينما رمقها بنظرة ثاقبة ثم سألها:
-بقالك كام يوم مش بتيجي الشركة .. ليه ؟؟
أجابته في هدوء:
-سبق و قلت لحضرتك اني مستقيلة.
هز رأسه في لامبالاة قائلا:
-عموما مش مهم .. انا عمري ما كنت هسمح لمراتي انها تشتغل اساسا.
-مراتك !!
هتفت في صدمة فأجابها باسما:
-اه مراتي .. انا جاي اطلبك للجواز تاني .. بس المرة دي رسمي يا داليا.
إتسعت عيناها في دهشة و ذهول ثم سألته بصوت مختنق:
-رسمي ؟؟
-ايوه .. ايوه يا داليا انا هتجوزك رسمي اظن بالطريقة دي اكيد هتوفقي !
تسارعت أنفاسها و جف حلقها فقالت لاهثة:
-ايوه بس .. بس حضرتك .. انت نسيت اخر مرة لـ …
-اه نسيت.
قاطعها في سرعة ثم تابع:
-و عايزك انتي كمان تنسي.
حدقت فيه غير مصدقة و قد أربكها تناقضه الغريب ، فتساءلت .. أين مجابهته ؟ أين إسترساله في إهانتها ؟ و لماذا يعاملها الأن برقة و إحترام ؟ ماذا حدث له ؟ أيطلبها للزواج حقا ؟ ..
أفاقت من تأملاتها مذعورة و كادت تجزم بأنها في حلم و يجب أن تستيقظ منه في الحال !
و لكن لا .. هذا
حقيقي .. كل شيء حقيقي ، هاهو ذا يقف أمامها تراه يحدق فيها بعيناه البراقتين ، و لا شعوريا إسترسلت في تأمله ، ما أوسمه ، بالتأكيد إذا إقتربت منه أي إمرأة لابد و أن تفقد صوابها بسبب تلك الجاذبية التي ينطق بها وجهه و جسده القوي ، فيما تركزت عيناها علي عنقه الصلب تحديدا في المنتصف ، حيث شعرت برغبة غريبة في أن تلمس تفاحة آدم و ذاك العصب الجانبي البارز بوضوح !
هذه الرغبة المفاجئة جعلتها تنتفض مرتبكة فسألته بلهجة جامدة شوبها إرتباك بسيط:
-حضرتك جاي عادي كده و فاكرني هوافق علطول ؟؟
سألها دون أن يبالي بنبرتها الجامدة:
-و ليه لأ ؟ ايه اللي يخليكي ترفضي ؟؟
هدأت قليلا ثم أجابت:
-في اسباب كتير تخليني ارفض.
-زي ايه مثلا ؟؟
إلتقت عيناهما طويلا قبل أن تخفض”داليا”نظرها هاربة من سؤاله الثاقب ، كالعادة تذوب شخصيتها تماما ما أن يتكلم أو عندما يوجه سؤالا صارم .. ثم أخيرا رفعت رأسها و نظرت إليه بقوة قائلة:
-اسفة يافندم .. انا برفض طلبك.
همهم في هدوء ثم إقترب منها حتي وقف أمامها مباشرة لا يفصله عنها سوي سنتيمترات قليلة بينما حدقت به في توتر عندما سمعته يقول:
– و انا كمان اسف اني مش بقبل جوابات بالرفض علي طلباتي.
ثم تابع في ثقة:
-انا متأكد انك هتفكري تاني .. و لما اشوفك تاني المرة الجاية و اسألك هتبلغيني بموافقتك .. مش برفضك.
هزت رأسها عابسة ثم سألته:
-حضرتك عايز تتجوزني ليه ؟؟
صمت قليلا ثم أجابها في هدوء:
-معجب بيكي .. عايزك .. و الوسيلة الوحيدة اللي هتوصلني ليكي الجواز .. الا اذا كان عندك اقتراح تاني !
تراجعت و هي ترتجف و قد أخافتها كلماته و نظراته الجريئة ، عند ذلك تيقنت بأن هذا هو السبب الرئيسي الذي يدفع رجلا مثل”عز الدين”للزواج منها و ربما بل و حتما أنه سيطردها من حياته ما أن ينال منها مآربه !
كانت هذه هي المرة الأولي التي تلمح فيها الرغبة الخالصة بنظراته ، عادة كان ينظر إليها بسخريته المعهودة و إزدراءه كلما أحب إثارة غيظها أو أشعارها بالإهانة ، بينما إرتجفت رفضا و نفورا ثم تمتمت بخفوت كاذبة:
-بس انا مش عايزة اتجوزك.
-هتتجوزيني يا داليا.
كان يحدثها بهدوء كمن يخاطب طفل صغير فيما تابع بإبتسامة خبيثة:
-للأسف .. ماعندكيش اختيار تاني.
ضاقت عيناها و هي تنظر إليه في شك ثم سألته:
-قصدك ايه ؟؟
تجاهل سؤالها و عوضا عليه قال:
-هديكي يومين عشان تفكري و هبقي اكلمك.
و دون أن ينتظر جوابها تجاوزها متجها صوب باب المنزل ثم فتحه و إلتفت إليها ، ألقي عليها نظرة فاحصة خاطفة ثم إبتسم في خبث و رحل مسرعا ..
بينما وقفت جامدة ، غير قادرة علي التفكير ، حتي سمعت صوت شقيقتها آت من خلفها:
-داليا.
إنتفضت منتبهة ثم إلتفتت في مواجهة شقيقتها قائلة بنصف وعي:
-ايوه يا ياسمين ؟؟
-هتعملي ايه ؟ بعد ما طلب ايدك رسمي ؟ انتي موافقة ؟؟
تهدجت نبرة صوتها و هي تقول:
-مش عارفة .. مش عارفة … !
******************************************************************
وقفت”عبير”وسط حديقة القصر ، تراقب دخول تلك السيارة السوداء الفارهة و التي توقفت بصورة تدريجية عند فناء الساحة المتوسطة ، ترجلت منها فتاة ذات جمال ناعم تتألق بثوب زهري رائع و قد إعتنت بمظهرها إلي أقصي حد من أعلي رأسها حتي أخمص قدميها ..
إبتسمت الفتاة لدي رؤيتها”عبير”فلوحت لها بيدها ثم تقدمت صوبها بخطي واثقة حتي وصلت إليها ، فإصطحبتها”عبير”بسرعة و من دون كلام إلي طاولة خشبية بإحدي زوايا الحديقة الشاسعة ، و بعدما جلسا قبالة بعضهما بدا التعجب و الذهول علي وجه زائرة”عبير”حين رأتها كالوردة الذابلة فبادرتها قائلة:
-ايه ده يا بيرو ! مالك يابنتي ؟ شكلك عامل كده ليه ؟ انتي تعبانة و لا ايه ؟؟
رمقتها”عبير”بنظرة ذابلة و سرعان ما تجمعت الدموع بعيناها ليتطور بها الأمر فيتعالي صوت بكائها المرير ، بينما صاحت صديقتها في قلق:
-ايه ده مالك يا عبير ؟ في ايه اتكلمي مالك ؟؟
بجهد كبير إستطاعت”عبير”أن تكف عن البكاء فهدأت قليلا ثم نظرت إلي صديقتها بإنكسار و ألم قائلة:
-حسيت اني هتخنق لو فضلت ساكتة كده يا ريم .. كان لازم اتكلم مع اي حد و كنتي اول واحدة جت علي بالي .. مالاقتش حد غيرك ينفع اتكلم معاه و احكيله سري.
إنحنت”ريم”عبر الطاولة نحو صديقتها ثم ربتت علي يدها بلطف قائلة:
-اتكلمي يا حبيبتي .. اتكلمي يا عبير انا سمعاكي و اوعدك ان اي حاجة هتقوليهالي هتفضل سر بينا.
خيم الصمت قليلا في حين كانت”عبير”تنظر إلي صديقتها بأسي ، و بعد تردد كبير بدأت”عبير”بالتحدث ، فقصت عليها كل شيء ، أطلعتها علي كافة التفاصيل و الأسرار ..
كانت تحكي و هي في حالة يرثي لها و قد أضناها العذاب ألما لا مثيل له ، بينما إستمعت”ريم”للقصة في صدمة و ذهول بالغين حتي إنتهت”عبير”فصاحت بها:
-يانهار اسود يا عبير ! ايه اللي هببتيه ده ؟ كان فين عقلك ؟ انتي متخيلة حجم الكارثة اللي وقعتي نفسك فيها ؟؟
إنفجرت”عبير”باكية ثم قالت واهنة:
-كنت بحبه و كنت فكراه بيحبني .. ماكنتش اعرف ان كل ده هيحصل .. ماكنتش اعرف.
-لأ .. لأ يا عبير الموضوع ده من اوله لاخره غلطتك انتي .. انتي غلطانة يا عبير محدش عليه اللوم غيرك.
-غلطانة ؟ غلطانة عشان حبيته يا ريم ؟؟
-ايوه يا عبير .. اولا انتي و من قبل ما تعرفيه مخطوبة يعني ملتزمة بعلاقة و كنتي لازم تحترمي حاجة زي دي .. ثانيا انتي اللي روحتي للباشا ده و بمنتهي البساطة قولتيله بحبك ! متخيلة هيقولك ايه غير و انا كمان ! و هو شايفك بنت جميلة و دلوعة و فوق ده كله يعتبر شغال عندك.
ثم سألتها فجأة:
-قوليلي يا عبير .. هو كان بياخد منك فلوس ؟؟
أومأت”عبير”رأسها المتعبة ثم قالت بصوت ضعيف متهدج:
-ساعات .. ساعات كان بياخد مني اه.
-لعبها بذكاء الحيوان.
قالت”ريم”بعنف هادئ ثم تابعت:
-من ناحية كان بيتسلي بيكي و من الناحية التانية كان بيستغلك .. واطي.
ثم صمتت قليلا و قالت:
-بس انتي دلوقتي حامل يا عبير و ماينفعش حضرته يتخلي عنك طبعا لازم يصلح غلطته ..
توقفت فجأة و تعمدت تقول:
-اقصد غلطتك انا لسا مُصرة انك انتي اللي غلطانة مش هو .. لكن خلينا في المهم دلوقتي .. انتي تكلميه حالا و تخليه يجي يقابل اخوكي في اسرع وقت و لازم اخوكي يوافق يا عبير لازم.
إبتسمت”عبير”بمرارة قائلة:
-مش راضي .. مش راضي يا ريم .. انتي فاكرة اني ماقولتلوش يجي يقابل عز الدين ؟ قلتله .. بس رفض.
-يعني ايه رفض ؟ هي لعبة و لا ايه ؟؟
-ده اللي حصل .. و عايزني انزل البيبي كمان.
-كمان !!
علقت”ريم”في صدمة ثم تابعت:
-الندل ! لأ ده طلع جبان و واطي بجد.
ثم أضافت في حيرة غاضبة:
-المشكلة ان مافيش في ايدك اي حاجة ضده .. و لا حتي ورقة جواز تنسب الطفل ليه !!
قطبت”عبير”حاجبيها في وهن بينما قالت”ريم”بلوم:
-ورطتي نفسك يا عبير .. ورطتي نفسك مع واحد واطي و للأسف الطرق مسدودة في وشك و انا مش عارفة اعملك ايه ؟!
حجبت”عبير”وجهها بكلتا يديها ثم راحت تجهش بالبكاء المُر ، كانت تبكي بحرارة حتي كادت أنفاسها تنقطع ، بينما تأثرت”ريم”بتلك الحالة التي إستبدت بصديقتها و أشفقت عليها فقالت بلطف:
-خلاص يا عبير .. اهدي من فضلك .. العياط مش هو الحل دلوقتي خلينا نفكر بهدوء احسن و نشوف هنعمل ايه.
أنزلت”عبير”يديها عن وجهها و سألتها:
-هنعمل ؟!
أومأت”ريم”رأسها قائلة:
-اه .. انا مش هسيبك تواجهي كل ده لوحدك يا عبير .. ماتقلقيش .. انا هفضل جنبك لحد ما تخرجي من الكابوس ده المهم دلوقتي اهدي عشان نعرف نفكر زي ما قلتلك.
ضغطت”عبير”علي شفتيها بقوة محاولة كبت صيحات بكائها ببنما سألتها”ريم”:
-قوليلي بقي .. انتي عايزة تنزلي البيبي ؟؟
أجابتها”عبير”في مرارة:
-مافيش قدامي حل تاني.
تنهدت”ريم”بأسف قائلة:
-طيب احنا كده بقي لازم نشوف دكتور كويس يعملك العملية و في نفس الوقت يوافق يعملهالك.
ثم طرفت حائرة و هي تفكر .. و بعد لحظات صاحت:
-في واحدة قريبتي عملت عملية زي دي .. اجهضت نفسها لما اتطلقت من جوزها انا هكلمها و هسألها علي عيادة الدكتور و علي التكاليف و التفاصيل كلها و هبقي اكلمك عشان نروح سوا.
-معقول هتيجي معايا يا ريم ؟؟
-طبعا يابنتي قلتلك انا هفضل جنبك للأخر و مش هاسيبك و خصوصا و انتي بتعملي العملية .. مش هسيبك يا عبير.
توقفت”ريم”عن الكلام و إبتسمت في وجه صديقتها بلطف و حنان ، و سرعان ما حلت إبتسامة بسيطة مفعمة بالإمتنان علي وجه”عبير”الذابل الحزين … !
********************************************************************
تحت آشعة الشمس المحرقة ، بدت شوارع القاهرة القديمة كبيرة و مخيفة و هادئة علي غير العادة حين ترنحت”داليا”تحت ثقل الحقائب التي تحملها فمالت صوب شقيقتها تعبة ثم قالت لاهثة:
-اقفي شوية يا ياسمين .. تعبت.
فقالت”ياسمين”بثبات مشجعة شقيقتها:
-معلش يا داليا .. استحملي قربنا خلاص.
-قربنا من ايه بس ؟؟
سألتها بنفاذ صبر فأجابت”ياسمين”:
-قربنا من الفندق اللي هنقعد فيه.
-فندق ! علي اساس اننا معانا فلوس للفندق يا ياسمين ؟ ثم فندق ايه ده اللي في منطقة زي دي ؟؟
قالت أخر كلماتها و هي تتلفت حولها ناظرة بخوف و قلق إلي المكان العشوائي الذي بعث بجسدها القشعريرة ، بينما توقفت”ياسمين”أخيرا ثم أشارت برأسها باسمة:
-خلاص .. وصلنا ياستي.
صوبت”دالبا”نظرها تلقائيا إلي حيث تنظر”ياسمين”فشاهدت ذاك البناء المهترئ أثر مرور السنين و الذي عُلقت عليه لافتة متآكلة بالكاد إستطاعت”داليا”قراءة ما كتب عليها”بانسيون السعادة”:
-لأ.
هتفت”داليا”بذعر و إعتراض بالغين فسألتها”ياسمين”:
-لأ ايه يا داليا ؟؟
-لأ يا ياسمين .. مستحيل نقعد في المكان ده .. لأ مش ممكن.
تأففت”ياسمين”في ضيق قائلة:
-مافيش قدامنا حل تاني يا داليا .. ده المكان الوحيد اللي هنقعد فيه علي اد فلوسنا.
هزت”داليا”رأسها في بطء ثم قالت بتردد:
-المكان شكله مريب يا ياسمين .. انا مش مطمنة !!
-ياستي ماتقلقيش انا سألت عليه قبل ما نيجي و بعدين ده في وسط منطقة مليانة ناس و بيوت يعني امان ماتقلقيش بقي .. تعالي يلا.
ثم مشت أمامها متوجهة إلي داخل المسكن الرديء ، فتبعتها”داليا”بخطي قلقة مترددة حتي وافتها أمام مكتب الإستقبال الذي كان بجلس وراءه رجلا بدين ذو بنية ضخمة ، ملامحه خشنة قاسية ، نظراته فظة أقلقتها أكثر .. قطعت”ياسمين”الصمت بقولها:
-السلام عليكم.
برقت عيني الرجل
الخبيثتين بوميض أثار الخوف بنفس”داليا”و لكنها أبت إظهار خوفها حياله ، بينما أجاب بإبتسامة صفراء:
-و عليكم السلام .. امرك يا انسة ؟؟
مضت”ياسمين”إلي القول في بساطة و إيجاز:
-عايزين اوضة بسريرين من فضلك.
-بس كده ؟ انتي تؤمري .. كام ليلة يا قمر ؟؟
رمقته”داليا”بإزدراء و كم أشعرتها كلماته بالغثيان فيما أجابت شقيقتها بجمود:
-لأ خلي الحساب مفتوح احنا ان شاء الله مش مطولين هنا بس لسا مش عارفين هنمشي امتي.
– انشالله تقعدوا العمر كله يا حلوة و الله هتنورونا.
قال ذلك بلهجة أثارت قلق و إشمئزاز”داليا”أكثر فأكثر بينما أطلق ضحكة خشنة مجلجلة ثم هتف بإسم أحد العاملين لديه ليأتي صبي صغير عمره لا يتجاوز الثانية عشرة عام:
-ايوه يا عم فتحي ؟؟
أجابه بإحترام فأمره المدعو”فتحي”بفظاظة أن ينقل حقائب الزائرتين إلي إحدي الغرف بالطابق العلوي ، أطاعه الصبي في هدوء مسالم بينما كانت عيناه تتفحصان الجسدين اليافعين بوقاحة فضبطته”داليا”و قطبت حاجبيها بغضب ، فمنحها إبتسامة زادتها نفورا و إشمئزازا … !
*******************************************************************
أسدل الليل ستاره علي قصر الـ”نصار”بينما كان هناك بالحديقة ثمة ضؤ متوهج إنعكس علي وجه”خالد”الذي هتف قائلا:
-انا مش فاهم بس ايه سر مدي اصرارك انك تخلينا نطبخ بايدينا لأ و كمان مذنبني من ساعتين قدام الصهد ده !!
قال”خالد”ذلك متذمرا و هو يباشر شي اللحوم فوق ألسنة اللهب الحديدية بينما عنفه”عز الدين”قائلا:
-اسكت شوية بقي و ركز في اللي بتعمله.
فيما كان يقف إلي جانبه منهمك بإعداد الأطباق المجهزة للطعام ، فإمتقع وجه”خالد”بحنق و قال:
-لما اتصلت بيا و قولتلي تعالي نتغدا سوا قلت و ماله الغدا عندكوا بيبقي حاجة كده ما شاء الله فجيتلك جري عشان توقفني من ساعتها قدام البتاعة دي و تخليني اهوي عليها لو كنت اعرف كده ماكنتش جيت.
رمقه”عز الدين”في حدة قائلا:
-خالد ! بلاش صداع بقي خلاص قربنا نخلص.
تنهد”خالد”مستسلما فيما إنتهي”عز الدين”من إعداد الأطباق فوقف ساكنا يتابع”خالد”في صمت حتي شرد ذهنه وسط الخيوط النارية المتوهجة ..
ما أروع منظر النار الدافئة ، و ما أشهي نكهة اللحم المشوي و عبق الفحم المتوهج .. :
-صحيح يا عز هي داليا بقالها كام يوم مش بتيجي الشركة ليه ؟ في شغل كتير متعطل هي واخدة اجازة ؟؟
أفاق”عز الدين”من شروده علي صوت”خالد”فنظر إليه في هدوء ثم قال:
-اه واخدة اجازة.
-طب لحد امتي ؟ بقولك في شغل كتير متعطل.
قطب”عز الدين”حاجبيه قائلا:
-طب معلش هنتصرف .. من بكرة هننزل اعلان في الجرايد و نعمل مقابلات شخصية لحد ما نلاقي السكيرتيرة المناسبة.
-ليه ؟ انت فصلتها و لا ايه ؟؟
سأله”خالد”بإستغراب بالغ ببنما أجاب”عز الدين”متملصا من إبداء رأي قاطع:
-مش بالظبط كده.
-طب فهمني ايه اللي حصل ؟؟
صمت”عز الدين”مترددا لكنه بالنهاية أعلن في هدوء:
-انا هتجوز داليا عشان كده خليتها تسيب الشغل.
جحظت عينا”خالد”و إتسعت في ذهول و كأن صدمة عنيفة أصابته ، و بجهد إستطاع أن يقول:
-قلت ايه يا عز ؟؟
-قلت انا هتجوز داليا عشان كده خليتها تسيب الشغل.
خيمت لحظة من الصمت كان”خالد”يحاول فيها إستيعاب ما سمعه للتو بأذنيه و لكن الأمر بالنسبة له كان أكثر صعوبة علي التصديق بل أن تصديقه محال !
يبنما قرأ”عز الدين”في ملامح”خالد”علامات الشك و الإرتياب في كل كلمة تفوه بها فضحك بخفة مستمتعا بحيرته و عدم تصديقه ثم قال:
-ايه يا خالد مالك ؟ للدرجادي مصدوم ؟ مش انت دايما اللي كنت بتقولي لازم اتجوز عشان يبقالي ولاد يشيلوا اسمي و اسم العيلة من بعدي ؟؟
أجابه”خالد”بوجوم أثر صدمته و إندهاشه:
-بس ماتخيلتش انك هتعملها ابدا ! لأ و داليا ؟!
– مالها داليا ؟؟
عاد اللون إلي وجه”خالد”فأجابه بلهجة هادئة:
-مالهاش .. بس .. اشمعنا هي بالذات يعني ؟؟
-صدقني مافيش اسباب معينة .. انا بس فكرت في كلامك و فكرة ان يكونلي ولاد هي اللي اثرت عليا عشان كده كانت هي اول واحدة جت في بالي .. اولا هي حلوة اوي ثانيا و ده الاهم انها هتكون مطيعة و بتسمع الكلام هقدر اسيطر عليها بعني.
عند ذلك همهم”خالد”بتفهم قائلا:
-هممم قول كده بقي .. انت اختارتها عشان حلوة يبقي اكيد عرضت عليها عرض من عروضك و رفضت فرفضها زاد من تصميمك عليها ده اول سبب و تاني سبب عشان تفرض سيطرتك عليها لانك متاكد ان شخصيتها ضعيفة و مش هتقدر تقف قصادك.
لم يظهر أي تعبير علي وجه”عز الدين”الجامد و كأنه يعترف بصدق قول”خالد”الذي قال بصوت يخالطه الإعتراض و الإعجاب الدفين:
-اد ايه انت ذكي يابن عمي .. مش سهل ابدا.
رمقه”عز الدين”بإبتسامة خبيثة ثم قهقه بخفة بينما سأله”خالد”:
-طب سيبك من الكلمتين اللي قولتهم في الاول عن الولاد اللي هيشيلوا اسمك و قولي الحقيقة .. الجواز ده مدته اد ايه ؟؟
زم”عز الدين”شفتيه بخبث ثم قال:
-قصدك ايه يا خالد ؟؟
-عز الدين ! عز .. ماتعملهومش عليا ده انا اكتر واحد فاهمك.
-ماشي ياسيدي بس سيب السؤال ده دلوقتي عشان ماعنديش اجابة محددة عليه.
أومأ”خالد”رأسه ثم تابع سؤاله:
-طب الجواز هيتم امتي ؟؟
تنهد”عز الدين”بعمق ثم قال و هو يحك مؤخرة رأسه:
-لسا مش عارف.
-مش عارف ازاي يعني ؟؟
-لسا محددتش يا خالد.
أجابه بلهجة حادة فزم”خالد”شفتيه في عدم رضا … !
*******************************************************************
إنتهت”ياسمين”من توضيب ملابسها داخل الخزانة الخشبية القديمة ثم إستدارت نحو شقيقتها التي جلست علي فراشها تحاول بدورها توضيب أغراضها بذهن مشوش ، فإقتربت منها ثم جلست إلي جانبها و خاطبتها بلطف قائلة:
-ايه يا دودو .. مالك سرحانة في ايه ؟؟
نظرت”داليا”إلي شقيقتها متخاذلة ثم أجابت:
-سرحانة في وضعنا الجديد يا ياسمين .. مش مصدقة اللي حصل معانا لحد دلوقتي .. معقول ! معقول احنا اتطردنا من بيتنا ؟؟
تنهدت”ياسمين”بأسي ثم ربتت علي كتف شقيقتها بحنان قائلة:
-معلش يا داليا .. معلش .. ده اختبار من الحياة .. اختبار صعب بس بإذن الله هننجح فيه سوا و الازمة هتعدي ان شاء الله .. صدقيني.
منحتها”داليا”إبتسامة لم تصل إلي عينيها ، بينما نهضت”ياسمين”و توجهت نحو فراشها ثم تمددت عليه في هدوء و قبل أن تخلد إلي نومها أطفأت الأنوار و صاحت قائلة:
-تصبحي علي خير يا داليا.
-و انتي من اهله يا ياسمين.
قالت”داليا”بلهجة دافئة ثم راحت تتأمل محتويات الغرفة الصغيرة التي تضمها هي و أختها تحت الضؤ الخافت المنبثق من نافذة الغرفة الحديدية ، كانت الغرفة متواضعة للغاية ، مكونة من سريرين صغيرين ، بالإضافة إلي منضدة زينة صغيرة و خزانة خشبية قديمة ..
تنهدت”داليا”بثقل ثم تمددت بدورها علي فراشها ، لم تكن قادرة علي التفكير بأي شيء إذ كان إرهاقها عظيما ، لذا إنتظمت أنفاسها سريعا و غطت في سبات عميق !
إلا أنها بعد قليل تحركت بقلق و فتحت عيناها ما أن سمعت صوت أزيز باب الغرفة ، حملقت في الظلام الدامس أمامها علها تتبين شيئا و لكن سرعان ما تسرب ضؤ خافت من الخارج عندما إنفتح باب الغرفة قليلا فإتسعت عيناها بذعر حين …
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية حتى اقتل بسمة تمردك)