رواية حان الوصال الفصل الأربعون 40 بقلم أمل نصر
رواية حان الوصال البارت الأربعون
رواية حان الوصال الجزء الأربعون
رواية حان الوصال الحلقة الأربعون
“ليتني كنت القوة التي تحمل عنكِ الأوجاع، ليت لي يداً تمسح تعبك وتخفف همك. ليتني أكون الحماية التي تحيط بكِ، ليتني أستطيع أن أكون كل شيء تحتاجينه. ليتني أُم، لأكون لكِ كل الأمان والراحة يا أمي.”
اهداء الادمن القمر سنا الفردوس
ممكن نقعد أنا وأنتِ لوحدنا؟
دوت هذه العبارة في ذهنها، مع انتباهها الشديد لتجنبه المقصود، وتهربه من النظر إليها. لقد صدق ما قالته بالفعل، أن رؤيتها لم تكن مفاجأة سارة على الإطلاق. ابتلعت الغصة التي مرّت في حلقها، وعلت فوق جرحها، مفضلة الانسحاب بكرامتها، في تعارض مع نجوان التي اكتنفها الحرج والدهشة في آن واحد.
وماله، نتغدى الأول أنا وأنت وبهجة، وبعدين…
مفيش بعدين يا نجوان هانم، أنا أصلاً كنت ماشية. عن إذنك بقى، أسيبك مع الباشا.
استدارت على الفور مغادرة، بقلب مفطور، تتابع نجوان انصرافها بذهول مضاعف نحو ابنها الذي لم يرفع حتى بصره أو يبادر لإيقافها.
فخرج قولها بتوبيخ:
في إيه يا رياض؟ مخدتش بالك إنك أحرجت البنت؟
زفر بتثاقل، مخرجًا دفعة من الهواء المحبوس في صدره، يعلق على قولها بجمود:
بهجة مقدور عليها إن شاء الله. المهم إنك ما تضيعيش مني.
عقدت حاجبيها بريبة واستفهام:
وأنا أضيع منك ليه؟ إنتَ مخبي عني إيه بالضبط؟
رد متمعنًا النظر بها:
هتعرفي دلوقتي، لما نفتح في الحديث اللي بقاله سنين معلق بينا.
❈-❈-❈
كانت في طريقها إلى السوق، حينما اصطدمت عينيها به، جالسًا على إحدى المقاهي ينفث الدخان من خرطوم أرجيلته بشموخ، فارضًا سيطرته على من حوله. هو الآخر انتبه لرؤيتها، فتحفز معتدلًا بجذعه بتركيز تام لھا رغم حديث شخص آخر معه. ثم نهض فجأة متجاهلًا الرجل، وتقدم نحوها.
ارتجف داخلها برد فعل غريزي أصبح يلازمها كلما التقت به، رغم إنكارها طوال الوقت وادعائها العكس، لكن ذلك لا ينفي أبدًا فرض سطوته عليها.
ماشية كده، وواخدة في وشك، رايحة فين؟
توقفت على غير إرادتها، لتزفر بسأم، قائلة:
يعني هكون رايحة فين؟ بالعباية السودا دي اللي لابساها؟ أكيد طبعًا مش هبعد عن السوق اللي ورانا بشارعين، أظن دي مش محتاجة استئذان.
أمممم…
زم بها ثم أومأ بعينيه كي تتراجع عن طريق المارة وتقف في زاوية قريبة من البناية المجاورة لها. اضطرت للتراجع واطاعة الأمر، فلطمت بيدها على ظهر الآخر، وتابعت بحنق:
اديني اتنيلت، لكن لزومها إيه الوقفة في الشارع؟ على فكرة، أنا بكره كده.
وافقها الرأي مؤيدًا بنبرة لائمة:
وأنا كمان مبحبش يا سامية، بس اعمل إيه بقى؟ وإنتِ سايقة العوج، وقافلة نفسي من المرواح لبيتكم عشان أقابلك وأقعد معاكِ؟ ولا أكلمك في التليفون زي أي اتنين مخطوبين؟ ولافكرك إن ده هين عليا، بس بصبر نفسي على ما تيجي بيتي ونتكلم ونرغي كمان. هو انا هفضى لحاجة تانية غيرك.
هل كان هذا خجلًا؟ تلك اللمحة التي طفت على ملامحها سريعًا، قبل أن تُجليها بسرعة، عائدة لطبيعتها الشرسة، بصورة أظهرت اضطرابها وهي تنهره:
لمّ نفسك وبلاها تلميحاتك القبيحة دي يا طلال.
ردد بابتسامة رائقة علت محياه:
يا حلاوة طلال اللي طالعة منك، تصدقي حبيت اسمي، مع إنّي كنت اتعودت على شيكاغو.
زمت ثغرھا بضيق تدعيه، رغم تأثرها الواضح بغزله، تستدعي حدتها في الرد:
أنا بنطق الاسم عادي، عشان ده اللي اتعودت عليه من وأنا عيلة صغيرة، مش دلع يعني عشان يستاهل ده كله. عن إذنك بقى، كفاياها عطلة.
لم يتأثر بخشونتها، ليوجه السؤال نحوها بنعومة عارضًا:
تحبي أبعت معاكي حد من عيال الشارع؟ ولا أروح أنا وأشيل عنك؟
بالطبع كانت عازمة على الرفض، ولكن ما أجبرها على التريث هو طريقته الجديدة واللطيفة في الحديث معها، حينما لامس حس الأنثى الذي يتأثر بالتدليل، فارتد عليها ذلك بانتقاء كلماتها في الرد عليه بلطف:
متشكرة أوي، هما يدوب كام حاجة هجيبهم، مش كتير… عن إذنك.
إذنك معاكِ.
تمتم بها من خلفها، يتابع أثرها بنظرات كانت تشعر بها كسهام تخترقها، والغريب أنه لم يزعجها، بل العجيب أن هذا الشعور الذي يشبه الراحة كان يرافقها بمراقبته لها واستحواذه على اهتمامها.
❈-❈-❈
دلف خلفها داخل غرفة المكتب الخاص بها، في منصب نائب مجلس إدارة الجمعية الموقرة، بخطوات متأنية، دارت عيناه قليلًا يتأمل محتوياته، والديكور الأنثوي الرقيق لأغلى امرأتين على قلبه، مكتب والدته بالقرب من مكتب حبيبته.
كانت من خلفه تتأمله بتوجس حتى فرغ من استكشافه ليلتفت إليها قائلاً بإستدراك جيد لفعل والدته من تغيير شامل قامت بھ لحبيبته
حقك عليا أني أشكرك يا نجوان هانم، عملتي مع بهجة اللي معرفتش أعمله أنا.
مفيش داعي للشكر، لأنّي ما عملتش حاجة. بهجة حتة جوهرة، كانت محتاجة انھا تبان للنور وتعرف قدرها. المهم، سيبنا من الكلام ده، وادخل في الموضوع على طول… حديث إيه يا رياض اللي معلق بقاله سنين؟
بادرته بطلبها المباشر، فلم تكن لديها طاقة للتريث، وكأنها على استعداد تام للمواجهة وفتح جراح الماضي. بالطبع هو يريد ذلك، ولكن هذا لن ينفي صعوبة الأمر.
جلس على أقرب كرسي وجده أمامه، وأشار لها بيده لتقابله في جلسته، ومرت لحظات قليلة من الصمت كان الترقب فيها هو سيد الموقف، قبل أن يحسم الموضوع ويبدأ بمفتاح الحديث:
ناريمان.
اعتدلت في جلستها وتحفزت كل خلية بجسدها، لتعلق بحدة، مُعلنة أنها ما زالت متذكرة:
مالها؟
تردد قليلاً في إجابتها، لتواصل هي بحدة:
إنت لسة ليك علاقة بيها يا رياض؟
كادت أن تصيبه خيبة الأمل لوقوفها عند نفس النقطة في الخلاف القديم، لكن في النهاية تدارك لالتقاط الفرصة أخيرًا في توضيح موقفه، فخرج قوله بهدوء:
أولًا، يا ست الكل، أنا عمري في حياتي ما كان لي علاقة بيها.
فتحت فمها في نية لمقاطعته، لكنه لحق ليوقفها قبل أن تبدأ:
أرجوكي يا ماما، اسمعيني المرة دي… وبلاش تعملي زي المرة اللي فاتت لما ضيّعتي نفسك وضعت أنا بعدها معاكِ.
استجابت لرجاءه، وأغلقت فمها، بشفاه مرتعشة ودموع تلألأت بعينيها، لتزيد من صعوبة المهمة عليه. ولكن آن الأوان لكشف كل الحقائق. يناجي الله المساعدة:
أنا مقدر صعوبة الموقف عليكِ لما تكتشفي بعد وفاة بابا في الحادثة إياها، إن غريمتك حيّة وفي بيتك كمان، بس أنا كنت مُجبر أحتفظ بيها، مش حبًا فيها، قسمًا بالله العظيم وربنا شاهد.
دموع حارقة أصبحت تسيل على خديها، وذهنها يستعيد تلك اللحظة القاسية بعد الحادث الأليم وانهيارها، لتمكث أيامًا وليالي داخل المشفى تتلقى العلاج المكثف كي تستعيد رغبتها في الحياة بعد صدمتها القصوى في حبيب العمر، واكتشاف خيانته لها مع تلك الفتاة اللعوب سكرتيرته، والتي ظنت وفاتها مثله كما شيّع وانتشر أمام الجميع، حتى جاءت القاصمة، حينما قطعت علاجها، لتخرج من المشفى بنفس لم تهدأ وجرح لم يُشفى.
بدون تصريح من طبيب أو إعلام أحد من عائلتها أو الطاقم الطبي المسؤول عنها، هربت عمدًا ذلك اليوم لتذهب إلى منزلها. فكانت المفاجأة حين دخلت المنزل لتفاجأ بتلك الفتاة حية أمامها. كانت الفتاة في طريقها للخروج، مستندة بجسدها إلى ذراع ابنها الوحيد، والذي تجمدت عيناه باتساع هلعًا لرؤيتها. حاول أن يترك الأخرى ليشرح لها حقيقة الموقف، لكنها لم تسمع أو تري ظلت تصرخ فقط ،صوتھا يدوى في أنحاء المنزل الخالي إلا منهم:
“إنت كمان يا رياض، انت كمان طلعت زيه، طلعت شبهه، طلعت شبهه!”
وسقطت بعدها في دوامة من الصدمة والإنكار، ترفض الواقع والحياة، ولا تريد سماع أي تفسير منه.
“ليه يا رياض؟ ليه؟ من وقت ما استرديت عقلي، وأنا رافضة أسألك عشان عايزة أنسى وأعيش. إنت بقى جاي دلوقتي تفكرني بيها ليه؟”
عشان أقولك السبب الحقيقي اللي خلاني أخبيها في بيتي يا ماما. إنتِ كنتِ في المستشفى وهي كانت محتاجة علاج ورعاية شديدة بعد الحادثة. مكنش في مكان قدامي غير بيتنا. كانت فترة مؤقتة على ما أجهز لها الأوراق اللي هتسافر بيها والمكان اللي هيكون سكنها بعيد عنك، مش عشان سواد عيونها لا سمح الله، لأ، دا كان عشان حملها. ناريمان كانت حامل يا ماما، حامل في أخويا.”
“إنت بتقول إيه؟”
انتفضت كمن لدغها عقرب، تطالعه بعينين متسعتين، وقد نثرت في قلبه الهلع، ولكنه استجمع شجاعته ليكمل الحقيقة التي يعلم أنها ستنكشف عاجلًا أو آجلًا.
“رد عليا يا رياض، حكيم خلّف من الخاينة دي كمان؟ وإنت كنت مخبيهم عليا هي وابنها؟ وجالك قلب؟”
“الخاينة ماتت يا ماما.”
“نعم؟”
“بقولك الخاينة ماتت يا ماما، وسابت ابنها وحيد، وملوش في الدنيا غيرنا.”
هكذا أخبرها دفعة واحدة، حتى لا يترك مجالًا للتخمينات، وليكن الله في عونها الآن.
في جهة أخرى
داخل غرفتها التي انكمشت بها بعد رجوعها إلى المنزل، واتصالها بصديقتها لتأتي وتُفرغ مكنون حزنها معها بعيدًا عن أشقائها، وعدم رغبتها في إظهار ما يؤلمها أمامهم.
حسيت نفسي غريبة وسطهم يا صفية، أنا غريبة عنهم، حتى ما عبّرنيش وأنا بمشي وأسيبهم، لدرجادي مش فارق له؟ ولا شكله استغنى عني، وأنا اللي افتكرته خلاص راجع يصالحني، ويعرف الدنيا بصفته بيا. لدرجادي كنت عبيطة، لدرجادي؟
شدّت على كفّها صفية تبث فيها الدعم والمؤازرة:
متقوليش كده يا بت، خليكي واثقة في نفسك ومتقلليش منها، عمر الطيبة ما كانت عبط، ولا الحب كان ضعف، إلا إذا كان من طرف واحد.
سمعت منها تشير على نفسها بسبابتها:
أنا الطرف الواحد يا صفية، وأنا العبيطة عشان أصدّق إنه واحد زيه ممكن يحب بجد واحدة في ظروفي. كان إعجاب وراح، ولا رغبة زي ما قالها لي من البداية.
مظنش يا بهجة.
قالتها صفية تعتدل في جلستها، لتربع ساقيها على الفراش مردفة:
عشان ابن حكيم حبه ليكي مفضوح للأعمى، هو بس فيه حتة غباء وعنترية ودماغ جزمة عايزة الدق.
دماغ جزمة عايزة الدق!
رددت بها بهجة بدهشة من خلفها، لتعود إليها الأخرى بتصميم:
أيوة زي ما بقولك كده. انتي تعيشي وتستمري في حياتك الجديدة، استغلي التغيير اللي حصل فيها، وما تبصيش وراكي ولا تخلي حاجة توقفك. هو لو يستاهل حبك هيتمسك ويعمل المستحيل، إنما لو غير كده، يبقى ما يصعبش عليكي ولاتقعدي تقطّمي في نفسك.
تمتمت بهجة بما يكتنفها في هذه اللحظة:
الكلام سهل أوي يا صفية، بس التنفيذ صعب، صعب أوي كمان.
عادت تشدّد عليها بتصميم:
أنا ومش بس أنا، إحنا كلنا في ضهرك يا بهجة، حبايبك اللي بيحبوكي هنقف معاكي عشان تفضلي قوية. الراجل ما يحبش الست الضعيفة والمجتمع كله ما بيرحمهاش، يبقى لازم نبقى أقويا وما نربطش حياتنا بشخص ممكن يستغنى في أي لحظة. مفيش راجل مضمون أبدًا في الزمن ده.
بشيء من الاستيعاب المتأخر، تمتمت بهجة تسألها:
هو أنا ليه حساكي بتوجهي الكلام لنفسك قبل ما يكون ليا؟
نفت باستنكار تام يقارب التشنّج:
لا طبعًا، إيه اللي بتقوليه ده؟ هو أنا عمري كنت ضعيفة، ولا ألتفت لراجل أصلًا. ما تركزي معايا كده، وبلاش ندخل في مواضيع تانية غير موضوعك.
رددت بهجة من خلفها بسخرية:
أنا برضو اللي بدخل في مواضيع تانية غير موضوعي الأصلي؟ آه صحيح عندك حق.
❈-❈-❈
ضمها إليه
بعدما انتهى من حديثه الشاق عليها وعليه،
لم ترفضه، بل هي من ألقت برأسها على صدره لتبكي بنشيّج هادئ يُقطع نياط قلبه، ومع ذلك يدخل في قلبه بعض الارتياح، لعلمه الأكيد أن هذا أفضل بكثير من الكبت الذي أدى بذهاب عقلها في السابق.
خلاص يا ماما، أنا آسف إني فتحت الموضوع ده قدامك، بس كنت هخبّي إزاي بس والولد جه البلد، وفي أي مكان بعد كده ممكن تقابليه…..
مش عايزة يا رياض، مش عايزة أشوفه ولا أشوف خيانة حكيم متمثلة قدامي فيه. أوعى تخليني أشوفه يا رياض أوعى.
حاضر يا ست الكل، بس الولد إيه ذنبه؟…..
مالوش ذنب يا رياض، ولا أنا بقولك اظلمه ولا تقصر في رعايته، أنا بس مش عايزة أشوفه، أرجوك يا رياض أرجوك.
توقف عن الإلحاح، يواصل فقط مهادنتها، بترديد الكلمات وتقبيل رأسها:
حاضر يا ماما، خلاص ولا يهمك. أنا مش هخليكي تشوفيه ولا تصادفيه في أي حتة، كويس كده يا ست الكل؟
كويس أوي، كويس خالص. عشان كده أحسن، كده أحسن يا رياض.
❈-❈-❈
دلف إلى داخل الحارة
بأقدام مرتعشة، يتلفت يمينًا ويسارًا وفي كل الأنحاء. الخوف يكتسح جميع أطرافه، ولكنه مجبر على التقدّم وادعاء الشجاعة في سبيل الوصول إلى وكالته، فقد نفد المال وزوجته الأخرى لا ترحمه في التقريع المباشر والكلمات القوية في تسميم البدن. اللعنة عليها! امرأة لديها جرأة وأعين مكشوفة لا تراعي ولا تعمل حسابًا لشيء سوى مصلحتها وفقط.
عم خميس.
دوى صوت المنادي باسمه، كنجدة حطّت عليه من السماء يتلقفها بلهفة، يهرول نحو صاحبه:
طلال يا بن الغالي، إزّيك يا حبيبي وإزّاي أبوك؟ عامل إيه ها؟ عامل إيه؟
رغم استغراب الأخير من مبالغته في الحديث واضطرابه الملحوظ في المصافحة، إلا أنه حاول التعامل بشكل عادي، يسحب كفه المطبق عليه بيديه الاثنتين:
كويس يا عمي، ربنا يخليك. أصل بقالك فترة مختفي يعني، ومش قاعد في وكالتك.
تلعثم في الرد عليه بكلمات غير مفهومة:
أاا ما أنااا مكنتش فاضي أااا
خلاص يا عم خميس، انت قاعد ومراتك الجديدة، دي اتعرفت في كل الحتة. مش مستاهلة لخبطة في الكلام هي.
باغته بالكلمات يفحمه بها، فلا يجد ما يسعفه في الرد عليه، ليواصل طلال:
إنت راجل حر يا عم خميس، ومحدش له حق يحاسبك. بس إيه ذنب الوكالة تفضل مقفولة اليوم كله وما تتفتح غير ع المسا بعد المغرب، بعد رجوع سمير من الشغل؟
إيه؟ مقفولة طول اليوم؟ يا ولاد المؤذية.
غمغم بها خميس بحسرة، قبل أن يردف نحو الآخر مبررًا:
طبعًا دي باب رزق، ولازم تبقى مفتوحة اليوم كله. بقولك إيه يا طلال، أنا عايزك تيجي معايا دلوقتي، نقعد نتوانس فيها.
رد طلال بابتسامة مرحة لاحت على زاوية شفتيه، وقد فهم سبب رعبه وخوفه الشديد:
وماله يا عمي، دي حتى فرصة عشان أفاتحك في موضوعي.
موضوع إيه؟
هقولك لما نوصل وأشرب معاك كوباية شاي يا عمي، تعال معايا.
ماشي ماشي يا بني، يلا بينا.
❈-❈-❈
وصل إلى الوكالة
ليقوم بفتحها متخذًا صهره المستقبلي درعًا حاميًا له.
ليدلف داخلها وهو معه يتطلع إلى أرجائها باشتياق معبرًا عنه:
ياااه، دي الوكالة كانت وحشاني أوي.
سخر طلال من خلفه، يسحب أحد المقاعد ويجلس عليها معقبًا:
ولما وحشتك كده، كان إيه اللي منعك بس يا عم خميس؟ اقعد يا راجل اقعد، خلينا نقول كلمتين، أنا كمان ورايا شغل.
انتاب خميس الذعر فور ذكره الذهاب، ليسارع في منعه:
تمشي ليه بس يا بني؟ هو انت لحقت تقعد؟ وأنا اللي قلت أتونس بيك! بقولك إيه، انت قاعد معايا النھار كلھ مش ماشي.
تبسم طلال شاعرًا بخوف خميس مخاطبًا:
النهار كله؟ طب اقعد بس نقول كلمتين الأول، وبعدها نشوف الموضوع ده.
وما كاد ينهي عبارته، حتى أجفل بدفعة قوية، وكأن إعصارًا هب، ليفاجأ الاثنان بولوج مصدر الخوف لدى خميس.
أهلااا… انت نورت يا سبع البرمبة.
انتفض على الفور يلتصق بصهره:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم! هما بيهلوا أمتى دول؟
كبت طلال ضحكته بصعوبة ليعطي اهتمامه لتلك المرأة بهيئتها المتوحشة، وكأنها على وشك الفتك بهذا المسكين:
أخيرًا جيت توريني وشك يا خميس! إيه يا غالي؟ مبلبع حبوب الشجاعة قبل ما تيجي؟
تمتم خميس في رد لها بتلعثم مكشوف وارتجاف يشمل جميع أعضاء جسده:
حبوبب ششجاعة؟… ليه؟ هو انتي فاكراني خخايف منك؟
هذه المرة لم يقوَ طلال على كبت ضحكته، فهذا الرجل بجبنه لا يعطيه فرصة للجدية بأفعاله:
خالتي درية، اقعدي واهدي كده، الراجل جاي يفتح مكان شغله، ماعملش حاجة غلط.
كل ده وماعملش غلط؟ انت بتقول لمين الكلام ده يا طلال؟ اشحال إن ما كان كله على يدك انت وأبوك؟ بقي أنا، أنا درية! أتسجن ويتمسح بكرامتي الأرض بسببه وبسبب مراته تربية الشوارع، بنت ال…
متغلطيش في بنات الناس، الله يرضى عنك! انتي معاكي ولاية يا خالتي درية، الله.
صاح بها طلال مقاطعًا بحدة أرعدتها، حتى تمسك لسانها من البداية عن إضافة المزيد من الشتائم والبذاءة، التي ليست بغريبة عنها.
فولجت على صيحته سامية بدهشة تستفسر قبل أن تقع عيناها على والدها:
في إيه ياما؟ وإيه اللي حاصل؟… أبويا؟
قطعت محدجة والدها بحقد، فاستغلت درية الموقف:
تعالي شوفي يا بنتي بنفسك، أبوكي جاي يتحامى في خطيبك، وطلال بيدافع عنھ! مش حامل كلام مني عن المحروسة مراته! بدل ما يقف للراجل اللي قبل على مراته تنسجن، مكنش العشم والله، مكنش العشم.
وانطلقت تذرف الدمعات لتجلب تعاطف ابنتها، التي رمقت والدها بمقت وغضب عاصف نحوھ ھو خطيبها المزعوم.
فهم طلال ما تفعله المرأة وخبثها في بث سمومها، لترتد بأثرها على خطيبته التي يأمل في إصلاحها يومًا، لكن بوجود هذه المرأة يعلم باستحالة الأمر:
معلش، ياما، عشان بس تتعلمي ما تتعشميش بحد.
أنا متعشمتش يا بنتي! أنا بس عايزاكِ تعرفي الظلم اللي اتعرضتله والإهانة! هو ده كله شوية عليا يا ناس؟
إلى هنا وقد فاض به، ليهتف بحزم يوقف هذا العرض المسرحي:
سامية، خدي أمك وروحي بيها عَ البيت.
نعم؟ وهي عمل…
بقولك، اسحبي أمك وروحي بيها، اسمعي!
هدر الأخيرة بأعين تلونت بالاحمرار، تذكرها بشيكاغو الذي تعلمه المنطقة بأجمعها، حتى انتفضت درية تتكفل هي بسحب ابنتها والخروج بها خوفًا منه.
ليلتقط خميس أنفاسه، فيعبر عن فرحته:
تسلم مرجلتك يا واد ياطلال! أيوة كده! الولية دي مفترية وتستاهل اللي يشكمها.
رمقه بنظرة شرسة، يباغته بقوله:
اسمع أما أقولك، بدل الهري ده كله عشان أنا خلقي ضيق، فرحي على بنتك يتم في أقل من شهر، يا إما هطربقها عليك وعليهم كلهم.
ردد خلفه بعدم استيعاب:
في أقل من شهر! طب إزاي؟ ده إحنا ماجبناش حتى نص الجهاز، ده غير إنك شوفت الظروف يعني و…
قابل قوله مقاطعًا بصرامة:
مليش فيه يا عم خميس! أنا قلت كلمتي ومعنديش فيها تراجع.
❈-❈-❈
هذا يومها.
كان يعلم من البداية أن مرور ذلك الأمر ليس هينًا عليها،
حتى مع رغبتها القوية هذه المرة في التمسك بالحياة، عكس الماضي. لكن الفتح في جرح قلبها الثائر، رغم ضعفه، كان له الأثر البالغ عليها في تلك اللحظات، وعليه المسؤولية الكبرى الآن في احتوائها.
وقد أتى بها إلى المنزل، وأجبر نفسه على الاتصال بذلك الطبيب المستفز كي يأتي ويشرح له الأمر بعد فحصها والاطمئنان عليها. وها هو الآن يُلقي عليه وعلى الدادة نبوية التعليمات الواجب اتباعها كي تمر الأزمة:
زي ما قلتلكم من البداية، هي عايزة رعاية شديدة اليومين دول لحد ما تتجاوز محنتها بإرادتها. نجوان حساسة أوي وده سبب تعبها، يعني واجب ناخد بالنا منها أوي، فاهمني؟
أيوة طبعًا فاهمين يا دكتور هشام.
قالتها نبوية، بينما الآخر اكتفى بالصمت كما يفعل منذ البداية. فتوجه إليه بعينيه كي يضطره للإجابة. ليكز على أسنانه بغيظ شديد، يهديه ابتسامة صفراء:
فاهمك، في حاجة تاني؟
بادله نفس الابتسامة بهدوئه المعتاد:
لا، كفاية كده بقى. أنا كمان هفضل مداوم على رعايتها ومش هسيبها، عن إذنكم بقى.
ماشي.
تمتم بها بحنق شديد، يتركه يغادر مع الدادة نبوية، ثم تناول هاتفه كي يتصل ببهجة قلبه، ولكنها لم تجب للمرة الألف. ليحسم أمره، ناهضًا يتناول سترته الملقاة على ذراع الكرسي منذ عودته، فيرتديها مناديًا على نبوية:
دادة، خلي بالك منها على ما تصحى، وبلغيني بالأخبار كل شوية، تمام؟
دي في عنيا يا رياض يا بني.
تسلم عنيكي الجوز.
واتخذ طريقه نحو الخروج، ليذهب إليها. حيث كانت في هذا الوقت تستمتع بوقتها في الكافيه الخاص بها، هي وإخوتها.
❈-❈-❈
وإلى مكان آخر…
داخل مكتب المحاماة، حيث تعمل فيه بجدية، منهمكة في شرح ملابسات القضية الجديدة للمدعوة ريهام مع والدتها:
يا أم ريري، يا أم ريري، اسمعيني. بنتك مش هتجيبها لبر، وأنا للمرة الألف بحذرك. مش كل مرة تسلم الجرة. هي كل ردود أفعالها بالأيد مع أي راجل يكلمها، تفتح دماغه برُوسية ولا بإزازة. مفيش مرة ترد بالشتيمة حتى!
ما هي متكلة عليكي يا أستاذة صفية وعلى شطارتك. كل مرة بتخرجيها.
كان هذا قول المرأة قبل أن تشدد عليها صفية بحزم:
خلاص، بقى دي آخر مرة. ونبهي عليها تشوف لها حد تاني بعد كده، لأن أنا جبت آخري. المرة دي وافقت بس عشان خاطرك.
تطلعت إليها بابتسامة مرحة تغازلها بمعسول الكلام:
ده كلام من ورا قلبك عشان تتعظ وما تكرر عمايلها. أنا فھماكي يا أستاذة ذكية انتي. إلهي يا رب يرزقك ب…
الله يخليكي متكمليش.
هتفت بها صفية مقاطعة برجاء، جعل المرأة تسألها بدهشة:
مكملش ليه؟ دي دعوة يا أستاذة صفية! حد يكره الدعوة؟
معلش، خديني على قد عقلي وبلاش دعوات من أصله ممكن.
تمتمت بها صفية بيأس قبل أن تجفلها مساعدتها وهي تلج إليها مهللة:
أستاذة صفية، أستاذة صفية! الدكتور خطيبك وصل، وبيستأذن برا إنه يدخلك.
وقبل أن تفتح فمها بالاعتراض والتوبيخ لها، سبقتها أم ريري بالاستفسار:
هي الأستاذة اتخطبت؟ طب ليه ما قلتوليش؟ ولا هو فين أصلاً عشان أبارك له؟
ردت سندس بلهفة:
اتخطبت يا أم ريري. دكتور زي القمر قاعد بيسلم على الناس وبيعرفهم بنفسه.
هو مين اللي بيسلم ع الناس ويعرفهم بنفسه؟
صاحت بها صفية في تساؤل نحو مساعدتها، لتفاجأ بدخول استعراضي من الآخر:
مساء الخير. ممكن أدخل يا أستاذة؟
همت بتوبيخه، ولكن أم ريري سبقتها للمرة الثانية:
هو ده الدكتور خطيبها؟
أيوة أنا الدكتور خطيبها.
أجاب بها هشام وهو يدلف إلى داخل الغرفة بابتسامة الواثق، ليصدر رد أم ريري بالتهنئة وزغرودة دوت عاليًا وبقوة تصل للبناية أجمعها بل وللمباني المجاورة:
يا ألف مبروك يا أستاذة! والله صبرتي ونلتي! لولولوي!
سقطت صفية على كرسيها بعجز على إيضاح الموقف أو نفيه، بعد موقف حمله لها وكشف شعرها، والآن يضعها هذا الماكر في موقف لا تُحسد عليه. لتطالعه بتوعد، يقابله بعبثه المعتاد وتلك الابتسامات التي تجعلها تود الانقضاض عليه حتى يغلق فمه، ولا يظهر لها تلك الأسنان اللؤلؤية البيضاء.
❈-❈-❈
داخل الكافيه، حيث كان مزدحمًا اليوم بصورة تزيد على باقي الايام، يرجع ذلك لاقامة حفل عيد ميلاد احد الرواد به، فكانت هي تتولى مهمة التجهيز في المطبخ، نظرا لانشغال شقيقاتها في الخدمة في الخارج، وبانهماك تام في تزين قالب الحلوى في انتظار موعد الخروج به إلى صاحبة الحفل، ليصلها صوت قدوم احدهم من الخلف، خمنت برأسها هوية القادم، تتحدث:
– هتيجي تاخدي انتي التورتة يا جنات، ولا هتيجي البت المروشة صاحبة عيد الميلاد؟
– ينفع انا .
شهقة عالية صدرت منها اوقعت منها طبق قطع الفراولة التي كانت تزين منه، وتلتلف اليه بإجفال، تردد اسمه :
– رياض !
– ايوة رياض يا قلب رياض اللي وحشتيه
تفوه بها واقترب فجأة وبدون استئذان ليرفعها بين ذراعيه بشوق يكتسحه، فيضمها ويقبلها:
حاولت الاعتراض:
– يالهوي انت بتعمل ايه…. رياض حد يدخل دلوقتي.
– مفيش حد هيدخل انا قافل باب المطبخ ومخلي عائشة حارس عليه.
– يانهار اسود خليت حارس؟
– وامسكها سلاح كمان عشان اوصلك،
كانت تلك اخر الكلمات التي نطق بها، ليجبرها على الاستسلام، في لحظات من العشق المختطف، انستها غضبها وعتبها ، واسمها، تغرق معه ويغرق معها قبل ان يقطع علبهم دوي الهاتف الذي استمر دون انقطاع حتى
اجبره على النظر به ليجفل بالرقم الغريب وصوت المرأة التي تهاتفه ولأول مرة !
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية حان الوصال)