رواية ترانيم في درب الهوا الفصل السابع عشر 17 بقلم دودو محمد
رواية ترانيم في درب الهوا الجزء السابع عشر
رواية ترانيم في درب الهوا البارت السابع عشر

رواية ترانيم في درب الهوا الحلقة السابعة عشر
جلست ترنيم على المقعد، وعلامات الألم بادية على وجهها، تنهمر دموعها بغزارة وكأنها شلال من الحزن. كان الألم يثقل قلبها، إذ إن أكبر مصدر للمعاناة هو بعد سلطان عنها، الذي كان بالنسبة لها أكثر من مجرد شريك، بل كان شعور الأمان والحنان الذي تحتاجه في عالم مليء بالفوضى. تركها تواجه التيارات الحياتية بمفردها في تلك اللحظة القاسية، وكأنها عالقة في دوامة لا تنتهي. في تلك اللحظة، كانت تفكر في كل اللحظات الجميلة التي شاركتها مع سلطان، كيف كانت تضحك في أحضانه وتشعر بأنه درع يحميها من كل شرور الحياة.
أمامها، كان غريب يجلس بهدوء، لكن ملامح وجهه كانت تحمل علامات القلق، إذ كانت مشاعره متضاربة؛ مزيج من الغضب والألم والقلق. أغمض عينيه بنفاذ صبر، كأنه يحاول أن يسيطر على مشاعره المتفجرة، ثم نطق بصوت يحمل قسوة:
“ممكن تسكتي شوية؟”
كان صوته خشناً، كما لو كان يحاول أن يحمي نفسه من انغماس أكبر في مشاعر الغير. لم يعلم أنه بتلك الكلمات القاسية يزيد من حدة معاناتها، بل كان مشغولاً بفكره الخاص، وهو ما زال تحت تأثير موقفهم الغامض.نظرت إليه بعينيها المتورمتين إذ كانت دموعها لا تزال متألقة على وجنتيها، كأنها تعكس كل الألم الذي بداخلها. ردت بصوت مختنق، يحمل صدى يأسها:
“ماما تحت إيده انقذها منه، ارجوك.”
كانت كلماتها تتدفق من قلبها المكسور، تخاطب فيه الأمل الذي ما زالت تعتقد بوجوده، حتى في هذه اللحظة المظلمة. لقد استنجدت به، كمن يلقي طوق النجاة في وسط عاصفة هوجاء.
سمع صوتها الجريح وأجاب بنبرة جادة، مؤكداً:
“متقلقيش، هي دلوقتي في مستشفى(…..)، ورجالتي واقفين يحرسوها.”
كان يعرف أن تلك الكلمات لن تهدئ من روعها كلياً، لكنه أراد أن يشعرها بأن هناك بصيص أمل قد يلوح في الأفق.أرجعت ترنيم شعرها إلى الوراء، لكنها لم تستطع إخفاء قلقها، فقد كان يتغلغل في أعماقها كالعاصفة. وتحدثت بصوت ممزوج بالاختناق، هشاً كأوراق شجر في مواجهة العواصف:
“وسلطان، هتسيبه محبوس ظلم؟ أنت وعدته أنك هتساعده وعارف إنه ملوش دعوة باللي عملوا الزفت ده.”
شرب من كأس المشروب ثم نظر إليها بجمود، واختار نبرة هادئة تُخفف من حدة الموقف:
“أنا قلت هعمل كده لو وافقتي أتجوزك.”
لكن كلماته كانت كالسيف المزدوج، التي تحتاج لترنيم أن تفكر ملياً قبل أن ترضى. كانت لحظات من الصمت تتخيم بينهما، حيث كان كل منهما يدرك أن الخيارات التي ستتخذها قد تترك أثرًا عميقًا في حياتهم.نظرت له بحزن عميق، وعيناها تعكسان الألم الذي تحمله، وقالت:
“بس أنا منفعكش، إحنا مش شبه بعض. وبعدين، أنا قلبي فيه راجل واحد بس، من يوم ما خلقه ربنا ودق ليه، نبضه حافظ حروفة هو وبس، مش هقدر أكون لغيره حتى لو مش هكون ليه.”
هذه الكلمات كانت مثل السهام، تُظهر إخلاصها وولاءها غير المشروط لسلطان، لكنها كانت تحمل شهقة تعكس بها شجاعتها في مواجهة مشاعرها، حتى وإن كانت مهددة بفقدان ذلك الحب.
نظر إليها بصمت تام، ثم استقام بجسده، ممسكاً بكأسه، واقترب نحوها كأنه يحاول كسر الجليد الذي انتشر بينهما. مال بجسده وتحدث بنبرة همس، عن قرب كأنما يسعى لأن تكون أسرارهم محفوظة بينهما:
“إنتي مجربتيش تدي فرصة لأي راجل غيره، علشان كده بتقولي كده. اللي في قلبك ده مجرد تعود، لأنك مشوفتيش غيره، هو كان الراجل الوحيد في حياتك، بس أنا متأكد هقدر أدخل قلبك وتحبيني أكتر منه كمان.”
كان يحاول أن يضيف لمسة عاطفية على حديثه، وأن يفتح لها نافذة على عالم جديد، لكن كانت الكلمات تتشرب بالشكوك التي تعتريه. رفعت عينيها إليه، وابتلعت ريقها بتوتر، واقعها يتصارع مع حلمها، وقالت:
“ب بس أنا مش عايزة أجرب، أنا راضية بحب سلطان ومش عايزة أحب غيره.”
كانت كلماتها بمثابة عهد يجوب بينهما، إعلان عن إيمانها العميق بأن القلب لا يتجول في الطرق المجهولة، بل يتشبث بما يعرفه ويؤمن به. وقد أدرك كل منهما في تلك اللحظة أن الحب هو نوع من التحدي، يتطلب أحياناً تضحيات مؤلمة قد تغير مسار حياتهم إلى الأبد. اعتدل بجسده مرة أخرى، وبدأ يتحدث بنبرة أكثر هدوءً، كأنه يحاول اختيار كلماته بعناية لتفهمه:
“والله، ده اللي عندي، تتجوزيني، هخرج سلطان وأساعده كمان ينتقم من رجب، إنما هترفضي، يبقى مافيش مساعدة ليه، بس هفضل أساعدك أنتي، واللي عمله رجب معاكي ده، مش هعدي بالساهل هو دلوقتي تحت أيدي .”
استقامت بجسدها، اقتربت منه، وضعت يدها الصغيرة على ذراعه، ونظرت له برجاء، متحدثة بنبرة حزينة مليئة بالألم:
“طيب، ما تشيل موضوع الجواز ده من دماغك. أنا منفعكش والله، بكرة ربنا يرزقك بواحدة أحسن مني مليون مرة. بس ساعد سلطان يخرج من المكان ده، ارجوك.”
أغلق عينيه، محاولاً جاهداً ألا تتأثر قناعاته بنظراتها ولمستها الناعمة، ثم ابتعد عنها، قائلاً بنبرة غاضبة ممزوجة باليأس:
“أنا سبق وقلتلك يا ترنيم، في إيدك خلاصهم، يا ترميهم في الهلاك يا تنقذيهم. القرار في إيدك. وأرجع وأقولك، أنا عمري ما أديت لحد حرية الاختيار، دايماً كنت أنا القرار. هديكي وقتك تفكري فيه، بس اعملي حسابك، أنا مش هقبل بالرفض، تقدري تطلعي أوضتك جاهزة ليكي.”
حركت رأسها بعدم فهم، وقالت ببراءة: “أوضة مين؟ أنا مستحيل أعيش معاك هنا.”
رد عليها وهو يتجه إلى الدرج، على وجهه تعبير متجدد من الخيبة:
“ملكيش مكان غير هنا. البيت اللي في الحارة استولت عليه مرات المعلم حافظ، وخالتك وبنت خالتك، ومرات سلطان وبنته دلوقتي قاعدين عند جاركم اللي اسمه حسام. حتى المكتب بتاع سلطان، أخدته.”
جلست على الأريكة، والدموع تتساقط على وجنتيها وكأنها ترسم دوائر من الحزن، وبدأت تشعر بثقل الظروف تتراكم حولها: “احنا اتبهدلنا من يوم واحد بس، سلطان اتسجن فيه، أمال إيه هيحصل فينا لو قعد يومين تلاتة؟”
لقد كانت تفكر في العواقب التي تنتظرهم في حال استمر الوضع، ورأت في عينيها الكآبة التي تتجلى أمامها.
تحدث وهو أعلى الدرج، صوته مضطرب بين الغضب والتعاطف:
“فكري كويس يا ترنيم، في إيدك تنقذي أهلك من الضياع.”
ثم اتجه إلى غرفته وأغلق الباب خلفه، كأنه يحاول أن يحمي نفسه من مشاعر الفشل واليأس.
نظرت إلى أثره بدموع، ثم نظرت إلى الباب، متحركة نحوه مغادرة المكان قبل أن تفقد قدرتها على اتخاذ القرار. كان كل شيء يكتنفه ضباب من التفكير المعقد، لكنها كانت مضطرة إلى اتخاذ خطوة نحو إحضار الأمل إلى حياتها، مدفوعة بحبها لسلطان.
**********************
جلست سمية على الأريكة بجوار والدتها، والدموع تتسابق على خديها كالمطر المتساقط في يوم حزين. كانت عيناها تتلألأن بالقلق والخوف، بينما كانت تراودها أفكار تتعلق بمستقبلها المجهول. تكلمت بصوت محشرج من شدة البكاء، قائلة:
“طيب احنا دلوقتي هنعيش فين وهنعمل ايه لحد ما سلطان يخرج من المكان اللي هو فيه ده؟ وكمان احنا لحد دلوقتي منعرفش فوفة وترنيم فين، أنا هتجنن ازاي كل ده حصل لينا في يوم وليله.”
كان قلبها ينفطر مع كل كلمة، كل جملة تحمل عبء الفوضى التي غمرت حياتهم بين عشية وضحاها.
رد حسام بصوت مختنق، مفعماً بالقلق، وقال:
“انتوا هتقعدوا هنا لحد بكرة بس، وإن شاء الله هخدكم مكان آمن بعيد عن هنا لحد ما يخرج المعلم سلطان. وخالتك وبنت خالتك هدور عليهم لحد ما أوصلهم.”
كانت كلماته محاولة لتهدئة الأوضاع، لكنه كان يعلم في داخله أن الأمور قد تكون أكثر تعقيداً مما تبدو…
“متقلقوش، كل حاجة هتبقى تمام.”
لكن خيالاته كانت مضطربة، إذ كان يستشعر أن الأرض تتزعزع من تحت أقدامهم.
تكلمت صباح بصوت حزين ومنكسر، وكأن كل كلماتها تحمل ثقل العالم:
“كل حاجة هتبقى تمام ازاي يا أبني وسلطان في يوم واحد بس دخل المكان ده، حصل لينا كل ده؟”
لقد شعرت وكأن الزمن قد توقف، وكأن كل الأحلام التي بناها هؤلاء الناس سقطت في ثوانٍ. عموماً، كانت مشاعر اليأس تتسلل إلى قلبها، لكنها تحاول بكل جهد أن تمسك بزمام الأمور من جديد.
رد عليها بنبرة هادئة، تحمل الحكمة والأمل:
“معلش يا أما، ده أختبار من ربنا، وإن شاء الله يظهر الحق ويرجع لينا المعلم سلطان بألف سلامة، وينتقم من كل واحد عمل فيكم كده.”
كانت عبارات حسام بمثابة بصيص أمل في ظلام الرعب الذي يحيط بهم، لكنه كان يعطي حديثه قدرة على تجسيد الحلم المستحيل في عقولهم، حيث كان يرفض الاستسلام.
أومأت رأسها بحزن، وكأنها تشعر بوطأة العذاب على قلبها، وقالت:
“إن شاء الله يا ابني.”
كانت تشعر بأن حياتهم قد تحولت إلى درب من الأشواك، لكنها تحاول أن تتمسك بالأمل، حتى لو كان في قلبها يتزاحم الألم.
نظرت لهم والدة حسام وقالت، وكأنها تريد أن ترسم ابتسامة:
“والله منورينا يا أم سلطان، تعالي يا أختى، أخدك الأوضة ترتاحي شويه، وانتوا يا بنات ادخلوا الأوضة بتاعة حسام وخليكم براحتكم.”
أدركت أن الاحتواء والحديث يمكن أن يخفف من وطأة اللحظة، لذا كانت تأمل في أن تستعاد البسمات في وجوههم.
رد حسام بلهجة هادئة، فقد قرر أن يكون الداعم لبلطجة الظروف الصعبة:
“خليكم براحتكم يا جماعة، أنا كده كده مش هنام في البيت.”
كانت كلماته تأتي من مكان داخلي يعكس الشجاعة، على الرغم من كل ما كان يشعر به من ضغوط وتوترات عميقة.
ردت سميه سريعاً، وجاءت كلماتها كطائر جريح:
“طيب هتروح فين يعني احنا نيجي ونمشوك من بيتك؟”
كان صوتها يحمل قلقًا عميقًا، مفعمًا بالمشاعر المتضاربة، حيث كانت تحاول أن تحافظ على شعور الأمان في عالم بدأ ينهار من حولهم.
ابتسم لها بحب، عاكساً روح الأمان، وكأن ضوءاً دافئاً قد سطع في ظلمات اللحظة:
“يا ستي، متشغليش بالك بحاجه، أنا هروح أنام النهاردة عند واحد صاحبي، هو مش بعيد عن هنا، الشارع اللي جنبنا علشان لو حصل حاجه أكون جنبكم على طول.”
ثم استقام بجسده، عازماً على أخذها في حديث خاص، وكأنه أراد أن يخفف عنها ويفتح نافذة جديدة من الأمل:
“تعالي يا سمية، عايز اتكلم معاكي كلمتين.”
نظرت إلى والدتها، التي أعطتها الإذن وكأنها تفتح لها بابًا للحوار، نهضت من على مقعدها واتجهوا إلى الشرفة. قد كان الهواء ينفخ برفق على وجوههم، ومع ضوء القمر الخافت، كانت الأجواء تتطلب حديثًا خاصًا. نظرت له بتوتر، وقالت:
“ن نعم يا حسام؟”
نظر لها بحب، وتحدث بنبرة هادئة مليئة بصدق المشاعر وكأنه كان يحاول أن يكون شمعة في عتمة خوفها:
“أولاً، كده ممكن بلاش دموعك دي علشان بحس نفسي متكتف وانتي بتعيطي ومش قادر امسح دموعك بأيدي.”
أومأت رأسها بحزن، كأنها تحمل عبء عالمها، وأشاحت بوجهها بعيداً قليلاً، وكأنها تحاول أن تجد القوة في نفسها، وقالت:
“ح حاضر.”
ثم اقترب منها، وتكلم بنبرة أكثر هدوءً كأنه ينسج كلمات من الأمل:
“تاني حاجه مش عايزك تخافي ولا تزعلي، أنا جنبك وهحميكي بعمري كله. لما سمعتك قولتي كده لمعلم سلطان، حسيت بالعجز قد كده، انتي شيفاني قليل اوي في عيونك.”
حركت رأسها سريعا، متحدثة بتوضيح، وكأن كلماتها خرجت من أعماق قلبها:
“لا والله يا حسام، مش قصدي، انتَ حاجه كبيره اوي في عيوني، وبعد موقف النهاردة كبرت أكتر فيهم. بس أنا فعلاً بحس بالأمان ومطمنه، وسلطان أخويا جنبي هو أماني وسندي وضهري، اللي فتحت عيوني عليهم. أنا مقصدش والله أقل منك ولا حاجه، بس انتَ ليك مكانه وهو ليه مكانه تانيه خالص، هو أبويا وأخويا وكل دنيتي.”
أومأ رأسه بتفهم، وكأن تلك الكلمات كانت بمثابة بلسم لجرحه العميق الذي كان لا زال ينزف بصمت.
“أنا عارف على فكره، بس كنت عايز اسمع منك الكلمتين الحلوين دول، يلا بقى امسحي دموعك، ومش عايز أشوفك بتعيطي خالص، ولو حصل أي حاجه أنا سجلتلك رقم تليفوني، اتصلي بيا، هجيلك على طول.”
نظرت إلى الأرض بخجل، وأومأت رأسها بالموافقة، وكأن قلبها ينبض بامتنان، فتحت عينيها على شجاعة جديدة لدعم العلاقة التي تنمو ببطء بينهما.
علق نظره عليها لفترة، وكأن الزمن توقف ليهدي دعوة الحب بينهما، ثم خرج من عندها، وغادر الشقة، تاركاً وراءه كلاً من الأمل والمشاعر الجياشة، كزهر ينمو في الصخر، يصارع الظروف ليظهر عذوبته. في قلبه، كانت هناك شعلة صغيرة تمنحه القوة للاستمرار، وتجعله يفكر في الغد وكيف سيشعر بمسؤولية حمايتها.
تنهدت بحزن وتكلمت بصوت قلق ومختنق، وكأن الكلمات تعلق في حلقها:
“يا ترى انتي فين يا ترنيم انتي وفوفه، ربنا يطمن قلبي عليكم.”
**************************
وقفت ترنيم أمام باب القسم، تتأمل فيه بتوتر وخوف عميق، وكأن ذلك الباب يمثل بداية رحلة جديدة لا تعرف أين ستقودها. كان قلبها ينفطر في صدرها، فقد كانت هذه البوابة هي الحاجز بينها وبين حاميها الوحيد، الشخص الذي تراهن عليه في أحلك لحظاتها. هطلت الدموع من عينيها بغزارة، وكأن عواصف الألم التي تعصف داخلها وجدت سبيلها للخروج. بدأت قدماها المرتعشتان تتحركان ببطء صوب الداخل، وكأن كل خطوة كانت تحسب بعناية، تحمل معها ثقل التجارب المؤلمة. تقدمت نحو الشرطي، الذي وقف على باب المكتب بوجهه الجدي، وتبادلت معه بضع كلمات، بينما كان قلبها ينبض بشكل متسارع، تبحث في أعماقها عن الأمل. وبعد لحظات، كانت تواجه سلطان بجسدها الهزيل الذي يتقلص تحت ضغط الألم والقلق. رفعت عينيها إلى الأعلى، وكان نظرهما يتحدث بلغة لم تحتاج إلى كلمات، تعبير يخبره بكل ما لم تستطع قوله، كلمات مكتومة عن الخوف والشعور بالعجز. ثم أخذها داخل أحضانه، حيث شدّها إليه بقوة، مما جعلها تشعر بألمٍ عميق في قلبها، كأنها تخشى أن تكون هذه اللحظة هي الأخيرة من الأمان الذي اعتادت عليه. ابتعد عنها في استغراب، وبدت على وجهه علامات القلق، وكأن اللحظة فهمت عمق الجرح الذي تحتاج إلى شفاء. كان يسأل بصوت ضعيف يختلط فيه الخوف والحنان:
“مالك يا ترنيم؟”
نظرت إليه بتوتر وحركت رأسها برفض، وكأنها تحاول حجب البؤس الذي يعتصر قلبها. كانت عيناها تتجولان بلا هدف، شبه غائبة، ثم تبع ذلك بدت على وجهه علامات الصدمة عندما نظر إلى وجينتها، فتوسعت عيناه بلون الدم، وكأنها صورة مأساوية رسمت في خياله. تحدث بحذر، وكأن كل كلمة كانت تخرج من شفتيه تتحمل الوزن الثقيل للواقع المرير:
“ايه ده! مين اتجرأ ومد أيده عليكي؟”
أنهى كلامه وأمسك بذراعها برفق، لكنه سرعان ما بدأت أصابعه ترتجف من الغضب عندما بدأ يتفحص آثار الكدمات وعلامات الحزام الجلدي التي أظهرت قسوة الإنسان الذي فعل بها ذلك. اشتعل الغضب في قلبه، وكأن لهبًا قد اجتاحت كل جزء منه، بينما ضغط على أسنانه بعنف، محاولاً كبح مشاعر الحنق التي كانت تغلي بداخله. ثم، في لحظة استسلم فيها لغضبه، صرخ بصوتٍ يقطع الهواء مثل الرعد:
“انطقي مين ابن الكلب اللي امه داعيه عليه وعمل فيكي كده؟”
على الرغم من الصدمة والألم الذي كانت تشعر به، ارتمت ترنيم في أحضانه وكأنها تبحث عن ملاذ آمن يخفف عنها وطأة الألم. تمسكت به بقوة، وبدأت تبكي بوجعٍ شديد يعكس الأسى الذي تركه هذا الموقف المرير في قلبها. ودون أن تتمكن من السيطرة على مشاعرها، قالت بدموع مريرة وهي تشعر بعجزها:
“أنا اتبهدلت أوي يا سلطان، الكل استغل حبستك دي ونهشوا لحمنا احنا من غيرك ضعنا.”
ضغط على أسنانه بغضب، مشاعره محتقنة، وأخرج صوتاً جهورياً من أعماقه. كانت الكلمات تنفلت من شفتيه كالرصاصة، محملة بكل الأذى الذي عان منه:
“انطقي مين ابن الـ*** اللي عملك فيكي كده.”
مدت بعيداً عن حضنه ونظرت إليه بعيونٍ دامعة، وبدأت تسرد له ما حدث بالتفصيل، كل كلمة تنطق بها كانت بمثابة نصل يقطع غموض الألم الذي عاشته. كان يستمع إليها، والشرر يتطاير من عينيه وكأنه تحول إلى وحشٍ كاسر يتهيأ للدفاع عن قطيع. لم يستطع تحمل المشهد المفزع الذي واجهته، ثم لكم الحائط بيده بشكلٍ فجائي، مما أحدث صوتاً مدوياً اجتذب انتباه جميع العساكر حولهم، وكأنه يمهد لإعلان حرب على كل من أساء إليها.
“وديني وما أعبد لقتلهم كلهم! هعرفهم مين المعلم سلطان! لو مقفول عليا مليون باب هوصلهم! وانتي اياكي تروحي عنده تاني! أنا هتصل بحسام يخدك انتي وامك، أنا قولتله ينقلكم في فيلا كنت بجهزها ليكم علشان نعيش فيها بعد جوازنا، وهيخلي باله منكم لحد ما أطلع من هنا.”
كان الغضب يتملك منه، يتصاعد كالدخان من فوهة بركان، وهو يجسد الشجاعة والتصميم في عينيه. كان يعلم أن الأمر يتجاوز مجرد الانتقام، بل يتعلق بحماية من يحب، ويجب أن يتخذ كل خطوة بحذر. بينما كانت أفكاره تتراقص بين الخوف والقوة، أومأت برأسها وهي تبكي، مشيرة إلى إنهاء الكلمات التي تخرج من شفتيه، وقالت:
“حاضر بس اهدا علشان خاطري.”
تذكر كيف أنهما تخطوا معًا العديد من التحديات، وكيف كانت تبث فيه الأمل عندما كان يظن أن العالم قد انتهى. حاول فك نفسه من قبضة العساكر، قائلاً:
“ده أنا جوايا نار، لو خرجت دلوقتي هدمر العالم كله! اقعدي هنا واياكي تتحركي غير لما حسام يجي فاهمه.”
ردت عليه بتوتر، معبرة عن القلق الذي يعتصر قلبها:
“بس أنا عايزه اروح اطمن على ماما وهو يبقى يجي يخدنا من هناك.”
أغلق عينيه لتهدأ أعصابه قليلاً، ثم قال بصوتٍ مفعم بالحنان:
“متتحركيش من هنا غير لما يجي حسااام.”
تعالت أصوات الصراخ والضوضاء في الخارج، وكافحت العساكر وأخذوا سلطان بقوة من أمام ترنيم، وأعادوه داخل الزنزانة، ثم دفعوه إلى الداخل وأغلقوا الباب من ورائه.
نظرت ترنيم إلى أثر سلطان، بينما تعالت شهقاتها. جلست على المقعد، وأرجعت شعرها خلف أذنيها، وظل صدرها يعلو ويهبط في قلق. كان صوت قلبها يقرع بأعلى صدى، ترافقه ذكريات الألم والخوف.
ثم استقامت، وتحركت نحو الخارج، حيث أوقفت سيارة أجرة وانطلقت بعيداً عن هذا المكان.
************************
وصلت ترنيم إلى المشفى حيث كانت والدتها، تتؤجج مشاعرها بين القلق والخوف. كانت عيناها تبحثان عن أي علامة على سلامتها، وعندما تقدمت نحو الباب، اعترض طريقها رجل غريب، يلبس بدلته الرسمية بشكل صارم، وتحدث بنبرة خشنة:
“ممنوع.”
ردت عليه بغضب، يمتلئ صوتها بالتحدي، وكأنها تعبر عن كل الآلام التي عاشتها خلال الأيام الماضية:
“وسعوا من وشي، اللي جوه دي أمي.”
حرك الرجل رأسه بتساؤل، ولكن نبرته كانت جدية، مفعمة بالصلاحيات الملقاة على عاتقه:
“احنا عندنا أوامر، ممنوع أي حد يدخل عندها.”
زفرت بضيق، وكأن هذا القرار يزيح عن قلبها أحمالاً ثقيلة، ورفعت صوتها في وجهه، قريبة من الانفجار:
“اتصل باللي مشغلكم.”
نظر إليها باستغراب، مدهوشًا من شجاعتها، لكنها لم تتردد وصرخت بوضوح، متحدية الإملاءات:
“اتصال على غريب ضرغام، أخلص.”
أومأ برأسه بالموافقة، وأخذ يجهز نفسه للاتصال، وعندما سمعت ترنيم صوت الرجل يتحدث معه، أمسكت الهاتف بغضب وصرخت بوضوح:
“قول لرجلتك تدخلني عند ماما.”
أجابها بصوت رجولي يغلب عليه الجدية، كأنه يحمل عبء جميع المصاعب:
“هاتيه.”
حركت بيدها الهاتف في اتجاه الرجل دون أن تتكلم، وكأن الموقف يستدعي الحسم سريعًا، وبعد لحظات من الصمت المطبق، فتح الرجل الباب واندفعت ترنيم إلى الداخل. كان كل جزء منها يشعر بالشتات، لكنها ارتمت في أحضان والدتها، وانهارت دموعها بغزارة، ممسكة بها كطفل صغير يبحث عن ملاذ:
“سلامتك يا ماما، ألف سلامة. ربنا ياخدوا الحرامي الكداب، تاجر السلاح ده.”
ابتسمت وفاء بألم، ممزوجًا بالحنان الذي تحمله الأم، ربتت على ظهرها بحنو، وسألت بصوت خافت، يحمل بين طياته مشاعر القلق:
“طمنيني يا حبيبتي، عليكي حصلك حاجة من ضربة فيكي؟”
حركت ترنيم رأسها بالنفي، وهي تحاول بث الطمأنينة في قلب والدتها، ثم اضافت بجدية:
“لا، أنا كويسة، وأنتي كمان يا فوفه، لازم تبقي كويسة وتخرجي من هنا. وسلطان، إن شاء الله، هيطلع براءه، وحياتنا هترجع تاني أحسن من الأول.”
تجمعت الدموع في عيني وفاء، وكأن الكلمات تخرج بصعوبة، وتحدثت بأسف، لتظهر مدى إحباطها:
“حقك عليا يا بنتي. أنا السبب في اللي حصلك ده. لو مكنتش اتجوزت بعد موت أبوكي، مكنتيش اتخطفتي مني وأنتي صغيرة، وعشتي سنة بحالها بعيد عن حضني. مكانش جه واحد زي ده ومد إيده عليكي بالوحشية دي. مكنتش هجيب أخوكي اللي طلع زي أبوه في الشر، بس والله مكنتش أعرف أنه هو بالشر ده، عشرين سنه عاش معايا مظهرش أي حاجه تشككني فيه، كان بيمثل دوره ببراعه أنا أسفه يا بنتي.”
أزالت ترنيم دموع والدتها بأصابعها برفق، وكأنها في تلك اللحظة كانت تعيد إليها الأمل، قبلت رأسها بحنان، وقالت بصوت مختنق، محملةً بالكثير من عواطف الفراق والألم:
“متقوليش كده يا ماما. أنتي ضحية زينا، ومكانش إحنا المقصودين بيها. هو اتجوزك علشان يبقى قريب من سلطان وشغله، يستغله، وكان متفق مع المعلم حافظ . أنا متأكدة أن سلطان مش هيسكت على اللي حصل، وأنه هيخرج ليه ويدفعه التمن غالي أوي. أما بقى تامر، أنا هعرف إزاي اعدله وأبعده عن السكه دي، واحافظ عليه من شر أبوه، أهم حاجه أرجعي أحسن من الأول علشان تساعديني على اللي جاي.”
ابتسمت وفاء لها بحزن عميق، وكان هناك شعور من الفخر في عينيها، وكأن الكلمات تسرقها إلى عالم مليء بالأمل، وقالت:
“إن شاء الله يا بنتي، أنا هنام شويه. العلاج اللي لسه اخده متقل دماغي.”
أومأت ترنيم برأسها بابتسامة عابرة، ونظرت إلى والدتها بحب، وقالت:
“ماشي يا حبيبتي، نامي شويه، وأنا هروح أجيب حاجة أغيرها. الهدوم اللي عليا متبهدلة خالص.”
خرجت ترنيم من عند والدتها، وتوجهت نحو الخارج، مع أحد الرجال الذين عينهم “غريب باشا” لحمايتها. لكن سرعان ما توقفت بغضب، وصاحت في وجهه:
“نعم، رايح فين؟”
رد عليها بصوت خشن، مليء بالسلطة:
“غريب باشا أمرني أحرسك وأكون معاكي منين ما تروحي.”
عقدت ترنيم ذراعيها على صدرها بغضب، وقد غطاها إحساس مفاجئ بالخنق في صدرها. ردت بصوت متوتر:
“متشكرة، مش عايزة منكم حاجة لا أنت ولا الباشا بتاعك. أنا أقدر أتعامل مع نفسي.”
ثم تحركت سريعًا بعيدًا عنه، متوجهة نحو الشارع، حيث شعرت بحاجة ملحة للهروب من القيود التي فرضوها عليها. لكن قبل أن يتحرك ذلك الرجل، توقفت فجأة، شعر بشيء غير صحيح وأدار جسده بسرعة. لاحظ سيارة سوداء تتوقف بجانبها. قبل أن يدرك الرجل ما يجري، التقطت ترنيم إلى داخل السيارة، انطلقت بها بسرعة كبيرة.
حاول الرجل إطلاق الرصاص على الإطار لكن فشل، فقد كانت قد اختفت معهم في لمح البصر، تاركة وراءها الدخان وصرخات الغضب.
*************************
بعد مرور عدة أسابيع…
كانت ترانيم تجلس على سرير خشبي في غرفة أشبه بالسجن، قدميها قريبة من صدرها، تبكي بمرارة. كان وجهها شاحبًا كأن الحياة فارقتها، وجسدها نحيل بشكل يبعث على القلق. عيناها متورمتان من كثرة البكاء، متلألئتين باللون الأحمر، كأنها تحمل هموم العالم في عينيها. كل زاوية من زوايا الغرفة تذكرها بواقع لا تستطيع الهروب منه، حيث جدرانها عارية تنطق بالصمت، يخنقها ببطء ويجعلها تشعر وكأن العالم خارج هذه الحوائط المنهارة لم يعد يعنيها. كانت عيناها تتجولان في أركان الغرفة، تبحثان عن أي بصيص من الأمل، ولكن كل ما وجدته كان ظلال الكوابيس الماضية، في تلك اللحظة القاتمة، انفتح الباب فجأة بقوة، ليقطع الصمت الذي كان يحيط بها، ودخلت امرأة في منتصف السبعينات، تجسد القوة والحزم، كأنها تجسيد للسلطة القاسية التي لا ترحم. أطلقت نظرات قاتلة على ترنيم وكأنها قد رصدت فريستها، وتحدثت بصوت حاد، يقطع الأمل في قلوب المستمعين:
“فيه أيه يا بنت إبراهيم؟ هتفضلي قالبها مناحة كدة؟ اخلصي وأجهزي، زمان ابن عمك جاي ياخدك، الناس يشوفوا وشك كده يقولوا عليكي معيوبه ولا إيه؟ وبالذات بعد الكلام اللي سمعناه عنك. كنتي عايشة حياتك أزاي مع عشيقك ابن خالتك.”
نظرت ترنيم لها بكره عميق وأجابت بصوت حزين، يفيض بالاستنكار:
“أنا أشرف منكم كلكم. أزاي تفعلون كده في لحمكم ودمكم؟ قبل كدة خطفتوني من ماما وحرمتوني منها سنة بحالها، ودلوقتي خطفتوني تاني وعايزين تجوزوني ابن ابنكم الفاسد اللي كل يوم مع واحده شكل علشان أجبلكم وريث، أنتوا أيه معندكمش قلب؟”
أمسكتها المرأة من ذراعها بقوة، وتحدثت معها دون رحمة أو شفقة كما لو كانت تتحدث إلى مجرد غرض:
“إنتي بنتنا، ولينا الحق نعمل فيكي اللي أحنا عايزينه، وبالذات لما تكون سمعتك على لسان الناس كلها وهتجيبي لينا العار. من حقنا نسترك، واحمدي ربنا أن ابن عمك هيعمل كده، يا فاج**!”
صرخت ترنيم بغضب استثنائي:
“قلتلك أنا أشرف منكم كلكم! أنا تربية المعلم سلطان الدسوقي، واللي يقول كلمة عليا أقطع لسانه!”
نظرت في عيون المرأة، ورأت فيها عَقد السنين القاسية التي مرت بها، ولكنها كانت مصممة على عدم الاستسلام. جذبتها المرأة من شعرها بعنف، وقالت بنبرة غاضبة:
“ده أنا اللي هقطعلك لسانك ده، وهعرفك إزاي تتكلمي كده مع جدتك، ما أنتي طالعة زي أمك، ما صدقت جوزها يموت علشان تروح تترمى في حضن راجل تاني. ألبسي فستانك وأخلصي، المأذون وابن عمك على وصول.”
أنهت كلامها ودفعتها بقوة، مما أدى إلى سقوطها على الأرض، تشعر بضغط الندم واليأس. ثم خرجت من الغرفة، تاركة ترنيم وحيدة مع دموعها والحزن الذي يختلج في قلبها.
نظرت ترنيم إلى الفستان، وبدأت دموعها تسقط بغزارة وكأنها تشعر بأن كل خيوط الأمل قد تم قطعها، صرخت باسم سلطان، الذي يجسد لها الأمان والراحة في عالمها المتعب، وتعلت أنفاسها، لكنها تفاجأت بدخول امرأتين ذواتي بنية ضخمة، اللتان بدتا كأنهما كانت تراقبانها منذ زمن، أرغمتاها على الوقوف، وكأن إرادتها لا تعني شيئًا أمام قوتهما، وبدأتا في تبديل ملابسها رغماً عنها. رغم محاولاتها المذكرة للمقاومة، إلا أن جسدها الهزيل لم يستطع مقاومة قواهما التي تشبه صخرة موصدة. وعندما انتهوا من تجهيزها تحت صراخها ودموعها، جاء المأذون، الذي مر على شؤون العائلات دون أن يأبه بحالة من أمامه، وبدأ في إجراءات عقد القران، وكأنه يؤدي طقوسًا مألوفة لا تعبر عن أي مشاعر إنسانية. نظرت ترنيم إليه، وحركت رأسها وهي تبكي:
“مش موافقة يا شيخنا! الناس دول خطفوني وعايزين يجوزوني غصب عني! ده يبطل الجواز، أترجاك أنقذني منهم!”
لكن لا آذان تسمع ولا عين ترى، فالمأذون تجاهل كلماتها واستمر في الإجراء، كأنه عازم على اللعب بمصير فتاة سلبت حقوقها وأحلامها. أرغموها على إمساك القلم، وحركوها بالقوة، كما لو كانت دمية في يدهم. بعد وقت طويل من الرفض والصراخ، غادر المأذون، تاركًا خلفه فوضى من المشاعر الحزينة، وأجبرها ابن عمها على التحرك معه إلى منزله. وعندما أغلق باب الغرفة خلفهم، كانت تخشى ما هو قادم، نظر إليها بنظرات كانت تعرفها جيدًا، تبحث في أعماق روحها، والتي عانت الكثير، فكانت مرتعشة وهي تقول:
“أ.. إيه أنت هتعمل إيه؟ أ.. أياك تلمسني، فاهم؟”
اقترب منها ببطء، ونظراته تتجول بشهوة على جسدها، محاذاة يديها وقال وهو يتحدث بأنفاس لاهثة تملأ المكان بحالة من الرعب:
“هو أيه اللي أوعى تلمسني دي؟ أنا متجوزك علشان نلعب استغماية، دي الليلة ليلتك يا عروسة.”
انهى كلامه وكأن القدر قد حُكم عليه، واقترب منها أكثر، وأسقطها على السرير، ليبدأ فصلًا مظلمًا من حياتها.
**************************
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ترانيم في درب الهوا)