روايات

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الفصل الثامن والخمسون 58 بقلم حسناء محمد

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الفصل الثامن والخمسون 58 بقلم حسناء محمد

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الجزء الثامن والخمسون

رواية بنت المعلم الجزء الثاني البارت الثامن والخمسون

رواية بنت المعلم
رواية بنت المعلم

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الحلقة الثامنة والخمسون

على الجهة الأخرى

حاول مرتضى الوصول لسالم جابر ولكن كل مرة دون جدوى وينتهي جرس المكالمة دون رد، فانتقل للاتصال بسالم عبده الذي أجابه ملقي التحية، بعدما ردد مرتضى التحية سأله بشك :

سالم أنت تعرف عمك وسالم راحوا فين ؟؟

تعجب سالم من سؤاله ولكنه أجابه بعدم فهم :

يشوفوا مكن جديد على ما أظن، ليه ؟؟!

كاد أن يفجر خبره الصادم الذي وصل إليه من أحد المعارف الذي كان يجري بعض الفحوصات في مشفى بالقاهرة، ولكنه أستمع إلى أحد يصرخ بجانب سالم الذي انتفض من مكانه في بهو منزلهم وركض بقلق للداخل ..
سقط الهاتف على الدرج وفُصلت المكالمة، أوقف مرتضى السيارة وهو متردد من أي جهة يسلك، وانتهى التفكير بأن يذهب لمنزل عبده فربما أن يكون أصيب أحدهم بمكروه..

عودة إلى منزل عبده الذي دار به مشهد أسوأ من مشهد في فيلم سينمائي مصنف جريمة ورعب … أعمى الغضب بصيرة عبده وسحب السكين حاسم أمره بقتل رحاب ورحم العالم من شرها، إلى وقته لم يشفى غليله منها، تعيش تحت سقف منزله بأريحية وكأنها لم تفعل شئ!! تنام قريرة العين وهو لا يجد الراحة في حياته..
وأي حياةً بعد موت زهرة في ريعان شبابها !!
وابنه الذي ربى على يد غريب بسببها !!
ووقوفه قليل الحيلة يزوج ابنة أخيه لابنه وهو يدرك أن تؤامه يرديها !!

لم يقوى سعد ويونس على الاقتراب من عبده الذي كان يخرج نيران من عينيه، تمكن الشر منه والدمار آتي لا محال … في جانب الغرفة وقفت مروه وسحر وعلى الجهة الثانية كانت سميه تضع يدها على قلبها بهلع، سار سالم لجهة أبيه وهو ينظر إلى رحاب التي تقف أمام عبده ترتعش أوصالها شاخصة البصر والسكين يلمع حيالها :

يابا مضيعناش ودمرنا كفايا علينا كده

صمت تام وكفه يضغط على مقبض السكين بقوة، ابتلع سالم ريقه بخوف وهو يردد بتوسل :

بالله عليك يابا ما تعمل فينا كده

وعلى حين غرة رفع عبده السكين وبتر اي هراء يمنعه للأخذ بثأره، كانت يد سالم للاسرع وهو يحكم على معصمه قبل أن يخترق جسد رحاب، تعالت الصرخات من النساء ولازال يونس وسعد متجمدين مكانهما دون حركة وقوة الصدمة شلت أعصابهم .. شدد سالم على قبضة والده والموت أهون عليه أن يرفع يده في وجهه وما باليد حيله لإيقاف سفك دماء والدته حيال عينيه :

أبوس ايدك يابا متعملش فينا كده

اجتمع شرور العالم كله في نبرته وهو يهمس بغل:

ابعد عني يا سالم

انكسر صوته ولمع الدمع في مقلتيه يرد بهمس مماثل :

اقتلني أنا الأول وبعدين اقتلها ما أنا في الحالتين ميت

دفعه عبده بحده وهو يصيح بانفعال أعمى :

خدها واطلع بره بيتي ما أنت تربيتها وطالع زيها

اختبأت رحاب خلف سالم وخرس لسانها بتاتاً، تجزم أنها لم ترى الشر في عينين عبده مثلما رأته الآن، كان الموت وشيك وخطوات بسيطة فاصلة بين حياتها والقبر، الذي لم تضعه رحاب في الحسبان كما تخطط لكل تفاصيل راغبة للتمتع بالمزيد، مال إن كان أو طمع لا نهاية له ..

في نفس الوقت جاء محمود ومعه عائلته الصغيرة، أسرعت سميه وأخذت صغار محمود تقديرًا منها لعدم مشاهدتهم لمثل هذه الأحداث المثيرة للشفقة … سقط سالم على ركبتيه بغتةً يعلن استسلامه، انتهت كل ذرة جمود يتمسك بها للامتثال للقوة، نزع قناع كاذب ورفع راية بيضاء في ساحة معركة لم تكن له يومًا، بنبرة تحمل كل معاني الحزن والألم قال وهو ينكس رأسه:

خلاص تعبت حرام عليكم، حرام اللي بيحصل فيا ده

سال الدمع من عينيه وتمتم بوجع :

ياريتني كنت موت بدل سمر، ياريت كنت أنا وارتحت

شعر محمود بالانهزام معه فأسرع إليه وسحبه يقف مجددًا، بينما بكت مروه واقتربت من عمها تأخذ منه السكين برفق وهي تترجاه بعينها أن يتركها… تطلع عبده للسكين تارة وإلى رحاب تارة وهدر بخفوت :

مشوها من هنا

حدج محمود أحد الواقفين بالتدخل وأخذ رحاب بعيد عن رؤية والدهم، لم يتحرك يونس ونظر إلى سعد باضطراب وهو يشعر أن الشأن لا يخصه وكأن عقله اختار الفرار من المواجهة أو الاحتكاك بمن المفترض والدته … جر سعد قدميه وأخذ رحاب لخارج المنزل متجه إلى جابر يلجأ إليه لإنقاذ ما يمكن قبل فوات الأوان..
ألقى عبده بنفسه على المقعد بإهمال، تراخ جسده المنهك الذي يطالب صاحبه بأن ينعم بقسط من الراحة، فقد فارقه النعاس منذ أن آفاق على صراخ يونس وفوجئ بنكبة مفجعة، وتعرضه لصدمة جعله يتوجس من النوم والاستيقاظ على الموت يأخذ منه أحد أخر .. كل هذا الوهن لا يختصر ولو قطرة صغيرة في بحر كمد روحه، أخذ يتنفس بصعوبة وحجر ثقيل يعتلي صدره، فاقتربت سحر منه وهي تقدم إليه كوب ماء وعينيها تفيض من الدمع حزن على مشاهدته بتلك الحالة، رفض أن يأخذه وقال بفتور وهو يرمق سالم بعجز :

بترفع ايدك عليا يا سالم

فتح سالم عينيه على وسعهم بفزع وهرع يمسك يد عبده يقبلها وهو يغمغم بندم وآسف :

تتقطع ايدي وينقطع نفسي من على الدنيا لو اعملها يابا

وتابع بقهر ودموعه تتسابق على وجنتيه :

دي أمي يابا، أقف أشوف أبويا بيقتل أمي وهو مش واعي في غضبه

تألم عبده وهو يرى دموعه الغالية التي تحرقه لِما وصل إليه من انكسار وضعف .. ربت على كفها برفق وقال بعناء ليخرج نبرته المهزوزة :

ربنا يصبرني يا بني ويباركلي فيكم

واستكمل بشراسة :

والست دي ملهاش قعاد هنا من انهارده، يإما متلمش غير نفسها

حركة سالم رأسه بالموافقة فلا يملك اختيار ثانً، وإذا أبعدها عن المنزل أهون من أن يعود في يوم ويجدها غارقة في دمائها ووالده اقترف الجرم في نفسه أولاً وهم بعده … ولج للداخل يغسل وجهه وصعد يبدل ثيابه بسرعة لاتصال مرتضى يخبره بأنه يقف أمام منزلهم ينتظره لأمر عاجل !!

؛***************

وقفت كفراشة في البهو ترتدي عباءة سوداء بأكمام واسعة، ووضعت الحجاب بإهمال على خصلاتها التي صنعتها على شكل كعكة للأعلى … شقت البسمة وجهه وهو ينظر إليها مردد برحابة :

ايه ياعم التقيل هناخد معاد قبل ما نعرف نتكلم معاك ولا ايه

ضحكت حسناء بنعومة مردده بلطف :

لا تقلانه ولا حاجه بس الأيام معاكسه معايا

رفعت يدها تصافحه وهو متشبثة في وقفتها، فتطلع إلى يدها متسائلاً بتهكم :

ده ايه السلام ده أن شاء الله ؟!!

وبخبث استكمل وهو ينوي أن يطبع قبلة رقيقة على وجنتها، مال بجزعه قليلاً ليكون قبالة لوجهها، وفجأةً فتحت البوابة الحديدية ودلف مرتضى وسالم عبده معًا، مداهمة ليست في الحسبان جعلته يلتفت يحدق بهما بغيظ وهو يضغط على فكه .. توسعت مقلتي حسناء بذهول مما كان مقبل عليه يعقوب، لم تصدق أنه تجرأ وفكر أن يفعل مثل هذه الأشياء، حدجته غير مستوعبه ظنه بقبولها تلك الوقاحة !! أم أنه تمادى لمعرفته بعدم وجود والدها ؟؟

: حسناء ادخلي نادي لامي صباح

قالها مرتضى بجدية، رمقه يعقوب باستهجان وسأله باستهزاء :

على أساس أنها واقفه مع خيالها ؟؟!

رد عليه بتبرم :

بعدين الله يكرمك مش وقته

رفعت حسناء يدها تهندم الحجاب فوق راسها بأحكام وتساءلت وهي تتطلع إلى سالم بقلق :

مالك يا أبو حسن مش عوايدك يعني ؟؟

ابتسم بسمة صغيرة وأردف برجاء :

بخير يا سمسم، بس معلش تدخلي تبلغي عمتي أننا عايزنها ضروري

هزت رأسها وولجت للداخل تنفذ ما قاله متجاهلة يعقوب وهذا إن كان اعتقاده فهي لم تقصد سوى الإسراع اخبار صباح فمن الواضح أن هناك أمر خطر …

: انتوا واقفين بره ليه ما تدخلوا

قال مرتضي باقتصار وعجلة :

مستعجلين والله يا أمي، متعرفيش عمي وسالم راحوا فين بالظبط

عقدت صباح بين حاجبيها بدهشة وسألته بتعجب :

راحوا يشوفوا المكن الجديد، ليه في حاجه ؟؟!

نظر سالم إلى مرتضى بذهول وعلامات استفهام تجوب بينهما، علم يعقوب أن مجيئهم وراءه مصيبة جلية .. بينما سألتهم بقلق :

في ايه ؟؟ بتبصوا لبعض كده ليه ؟؟

ردد سالم بلا مبالاة :

مفيش بس كان تاجر عزيز على عمي جه فجأة وكنا محتارين نقوله ايه ونخليه يرجع ولا يستنى

اصطنع مرتضى حجج وهمية واستأذن بالرحيل مع سالم ويعقوب الذي وقف أمام البوابة الحديدية وسألهما باهتمام :

في ايه ؟؟ وفككم من حوار التاجر ده لانه مش واكل معايا

هتف سالم بخفوت وهو ينظر خلفه بحذر :

والله ولا واكل مع مرات عمي بس هي عدتها علشان حسناء واقفه

قطب يعقوب جبينه باستفهام فأشار مرتضى إليهما بالتحرك :

مش مكانه الكلام هنا خالص

؛*****************

عودة للمشفى حيث وقف سالم أمام غرفة سحب العينات، عاقد ذراعيه يرمق الباب بلهفة وتوتر، من حين لآخر يتأمل ساعة الحائط بخشية ورعب تمكن منه …

: حضرتك مع المريض سالم سويلم

اعتدل في وقفته ونظر إلى الممرضة بخوف وهو يهز رأسه بحركة بطيئة، رفعت إليه حقيبة بها ثياب ليست غريبة عليه وهي تشير إلى باب اخر الطرقة :

دي الهدوم بتاعته وتقدر تشوفه قبل ما يدخل العمليات في الاوضة دي

شخصت مقلتي سالم وهو يهتف بعدم استيعاب :

يدخل عمليات ايه ؟؟ لسا معادها ١١ الصبح

ردت عليه برسمية قبل أن تغادر وتعود لعملها :

لا يا فندم معادها الساعة ١ بليل وخلاص كلها نص ساعة ودكتور التخدير يدخله

صعق سالم وركض إلى الغرفة وهو يفتح الباب على مصراعيه، بهتت ملامحه وهدأ كل شيء من حوله، طبيب يمسك جهاز قياس الضغط من جهة وممرضة تضع له إبرة الوريد في كفه .. سار بخطوات على جمر ساخن وهو يهتف بفزع وذعر :

عمي .. أبويا

ازدرد غصة تشق حلقه، وتماسك بصعوبة وهو يقف جوار الفراش يتأمله مغمض العينين مستسلم تمامًا ونطق بنبرة مرتعشة :

عمي

فتح المعلم سالم جفونه على صوته المذعور وقال بمشاكسة :

ما تجمد كده يالا متبقاش خرع، الله يسامحك بقا أنا مخترتش غيرك تقوم تشيلني همك

ضحك الطبيب وهتف بآلية :

ده خوف وقلق الحب ده يا معلم سالم، هسيبكم دقيقتين لأن خلاص مفيش وقت

مال سالم على كفه ووضع جبينه يمنع نفسه من الصراخ كطفل صغير يحتاج والده، ضغط على فكه بقوة يحجم مشاعره، ثم قبل يده واستقام مردد بتلعثم وصوته يخرج مختنق :

هتقوم لينا بالسلامة أن شاء الله

أومأ إليها بهدوء مردد برفق :

“بناتي” يا سالم أمانة

ولج الطبيب ومعه طاقم كبير :

اسف لازم نبدأ وتقدر تنتظر بره

ألقى نظرة أخيرة وخرج وعينيه معلقة على الأطباء وهم ملتفون حوله مستعدين لنقله لغرقة العمليات، أسند رأسه على الحائط وتمتم بارتعاب :

يارب .. يارب

؛؛
في الداخل على الفراش، والإضاءة المسلطة عليه، حديث كثير بين الأطباء، والممرضين يتسابقون لتجهيز المعدات والتأكيد أن كل شئ على أتم الاستعداد … حيث الفراغ المحيط به، شريط حياته يمر بسرعة البرق أمام عينيه، لا يملك إلا عمله يقابل به الموت، الثراء والنفوذ، مصانعه والأراضي، الذهب والنقود، كل شيء تبخر كما لم يكن..
رجفة سرت في أوصالها خشية من عدم استعداده لأن يكون آخر يومه له، استمع للطبيب يخبره بأنه سيحقنه بالمخدر، وها هو سيصبح بين تارة وتارة، أخذ نفس عميق ونطق الشهادتين ودعى الله بأن لا يضيع عمله في الدنيا، واخر ما شعر به والمخدر يسري في عروقه استودع نفسه وعائلته عند الله وتوكل عليه …

؛**********

الواحدة والنصف بعد منتصف الليل
وقف يعقوب على أول طريق القرية وكذبة مبيته في المحجر قد نجحت للخروج دون أن يجبر على إجابات لا يدري عنها، انتظر مجيء مرتضى وسالم لتوجهم بسيارة مرتضى إلى عنوان المشفى الذي قاله أحد أقاربهم لرؤيته المعلم سالم بها، وهذا هو الحل الوحيد للتأكد بعدما أغلق هاتفه كلا من سالم والمعلم ..

في نفس الوقت تململت هند في نومها بانزعاج على صوت رنين هاتفها، نهض موسى بقلق يضيء المصباح الموجود بجانب الكومود، واتبعته هند تبحث عن هاتفها بتوتر، الساعة الثانية إلا ربع ليلا توقيت مثالي للمصائب..

: فيه ايه يا سالم كلكم كويسين

رد عليها الآخر بتلعثم ولا يعلم كيف يلقي عليها الخبر :

هند تعالي حالا على العنوان اللي هبعته ليكي

خطى موسى يقف أمامها وهو يهدأ من روعها وهي تصيح بنفاذ صبر :

عنوان ايه ؟؟ أنت فين وايه الصوت اللي جنبك ده !!

سمعت أصوات متداخلة وأبرزها اشياء عن أطباء وعلاج وما شابه فسألته برعب :

أنت في المستشفى ليه ؟؟ مين في المستشفى ؟؟

لا مفر من الاصطدام بالواقع، وشعر أن سكوته يتلف أعصابها القلقة بين افكار لا حصر لها من الأسوأ:

هند عمي في العمليات من نص ساعة محدش يعرف

تجمدت مكانها ورددت بهستيريا :

عمك مين !! عمك بابا .. بابا، أبويا أنا

صرخت بهلع وهي تردد بلا توقف وجسدها ينتفض بلا إرادية :

بابا في العمليات، بابا يا موسى ..بابا حبيبي في العمليات

امسكها موسى قبل أن تسقط على الأرض وهتف بحنو :

اهدي يا هند
اهدي علشان نفهم

هزت رأسها بصدمه فحاوطها بقوة ومسح على رأسها برفق، ثم أخذ منها الهاتف يتحدث إلى سالم الذي قال له بتحذير :

محدش يعرف في البلد أن عمي في العمليات يا موسى اوعا هند تكلم حد فيهم لحد ما اعمل زي ما طلب مني

سأله موسى باهتمام وهو يعاون هند على الجلوس ويمسح دموعها :

أنت فين ؟ ومين معاك وايه العملية دي اصلا ؟؟

: عملية قلب مفتوح

صمت حل عليها بغتةً ووقفت مجددًا وهي تتحامل على يد موسى, بنبرة مرتعشة مذعورة همست بذهول :

قلب مفتوح.. بابا بيعمل عملية قلب مفتوح

رمقها موسى تنهار دون استجابة منها للتحلي بالصبر فطلب من سالم بأن يرسل إليه العنوان واغلق معه، استقبل نوبات البكاء والهلع برفق وحنان، عجز بكل طرق السيطرة على انفعالاتها ورعشة جسدها بين يديه، ظل يحتويها بذراعيه مردد كلمات تهدأ من ذعرها ثم قال بصوت رخيم :

حبيبتي لازم تهدي وتقومي تلبسي علشان نتحرك، معرفش عن هند القويه كده

رفعت عينيها المتورمة وهي تهتف بصدمه مريرة وبكاء :

بابا في العمليات، بابا يا موسى

مسح على شعرها وتمتم بحزن على حالها وقلق من حديث سالم :

متخافيش هيقوم بالسلامة ولازم يلاقيكي جنبه

هزت رأسها عدة مرات متتالية وهي غير واعيه، مغيبة العقل المرتاع الذي وقف عند كلمة واحدة ” عملية قلب مفتوح” .. أخذها موسى بعد أن ساعدها في تبديل ثيابها، وأمسك كفها يجاريها الطريق، ونظراته تمنحها الاطمئنان والسكنية، تمعن في العنوان بالتفاصيل ثم أشعل مقود السيارة متجه في ظلام الليل لأقصر طريق للمشفى..

؛***************

نهضت من الفراش متجها إلى المرحاض وهي شبه مغلقة العنين، خطت من أمام غرفة والدتها فتوقفت قدامها عن التقدم وصوت بكاء جعلها تنظر للغرفة بخوف وهي تصيح بقلق :

ماما أنتِ كويسه ؟؟ هو أنتِ بتعيطي ؟؟

لم تنتظر إجابة وفتحت الباب تبحث عنها بتوجس، مسحت نجاة دموعها والتفت إليها تسألها مستفسرة :

أنتِ ايه مصحيكي لحد دلوقتي ؟؟

سارت حسناء تقف مقابل لها تتأمل الدموع العالقة في مقلتيها متسائلة باضطراب وعدم فهم :

مالك يا ماما بتعيطي ليه ؟؟ أنتِ تعبانه ولا مالك

هزت رأسها بالنفي مردفه بلا مبالاة :

مفيش حاجه أنا كويسه، بس مخنوقة شويه

تبدلت ملامح حسناء بحزن وعادت تسألها بتفحص :

عشان بابا سافر صح؟؟ أنتِ كل مرة بابا يسافر في أي مكان تضايقي وتفضلي لحد ما هو مسافر قلقانه، ده اللي مزعلك صح ؟؟

ردت عليه بفتور وقلبها ينبض بقوة والخوف يتراقص على طرب القلق والتوتر :

دي مش زي كل مرة، أنا حاسه كده

وتابعت بسخرية وهي تشير بعينيها على النافذة :

ومش أنا لوحدي، هما بس بيعرفوا يداورا إنما أنا لا

تطلعت حيث تشير فوجدت صباح جالسة على الأريكة في البهو، وحدها مع توجس مشاعرها بعدما هرب النوم من كثرة تفكيرها .. هتفت حسناء باستغراب :

ماما صباح قاعدة لوحدها ليه كده متأخر

ثم همست بشك وهي ترفع رأسها تبحث في الشرفة أسفلهم:

مش بعيد ألاقي ماما ناديه هي كمان واقفه في البلكونه

ضحكت نجاة بخفة مردده بخفوت :

مش شامه ريحة كيكة، هي المختلفة فينا كل ما تقلق أو تزعل تدخل المطبخ تبدع في المخبوزات

أخذت حسناء نفس عميق تستنشق رائحة شهية بالفعل لفتت انتباهها عند استيقاظها، وقالت بفخر :

لازم احكي لبابا لما يرجع، هحكيله على غلاوته الكبيرة اللي مخلتش واحدة فيكم تنام يوم ما سافر

أومأت إليها وهي تدعي الله بأن يخيب إحساسها المتوجس، وكي لا تثير قلق ابنتها تحدثت معها في أمور مختلفة وطلبت منها أن تذهب للنوم فقد مر الوقت سريعًا دون أن يشعروا … انصاعت حسناء إليها وذهبت إلى فراشها الحبيب تعانقه بعجلة وتغط في نوم عميق، بينما اتجهت نجاة للمرحاض تتوضأ وتصلي إلى إقامة اذان الفجر.

؛************** بقلم حسناء محمد سويلم

ركضت هند وموسى إلى الواقف ينظر إلى باب في اخر الطرقة، منتبه بحواسه وتركيزه لدرجة أنه لم يشعر بأنه يقف منذ ما يقارب ساعتين …

: سالم بابا فين .. ازاي يدخل العمليات ومحدش يعرف

نظر سالم إليها ورد بقلة حيلة :

غصب عني والله يا هند حاولت معاه رفض اني اعرف اي حد غير لما يخرج

تطلعت هند إلى الباب بنظرات مفزوعة وهي تتمسك بيد موسى الذي ربت على كفها بحنان وهو يهمس بلطف :

حبيبتي اهدي مش كده، هيخرج بالسلامة أن شاء الله

دفنت رأسها في صدره وهي تبكي بقلق ينهش قلبها، وعقلها يضعها في بؤرة سوداء تهلك أعصابها المضطربة، حاصرها موسى بذراعه وطبع قبلة حنونة على رأسها، يكسر قلبه وهو يرى دموعها تلك لكن ما باليد حيلة….
لم يمر وقت طويل وتجمد سالم وعينيه معلقة على من ظهورا من مصعد المشفى .. دهشة طاغية غير مستوعب كيف علموا !!
ابتسم مرتضى بسخرية وقال بضيق شديد :

طيب مش كنت عرفتنا نيجي بدري شويه ؟؟

تطلعت هند إليهم وسألتهم بعدم فهم :

انتوا كنتوا عارفين ؟؟ ازاي محدش يقولي ؟؟

رمقها سالم عبده باستغراب ورد عليها بصدمه :

عارفين ايه !! احنا جاين على كلام واحد قريب مرتضى شاف عمي الصبح وحنا مصدقناش وجينا نتأكد

حدج سالم جابر بحده وتابع بغضب :

عشان البيه قافل تلفونه

نفذ صبره فهو في حالة لا تسمح بكلمة واحدة وإلا سينفجر كبلون نفخ بلهيب ساخن، سرد إليهم ما حدث منذ أن أخبره عمه بالسفر وإلى أن تفاجئ بكل ما يدور معهم في المشفى، ولم يجد سوى الاتصال بهند وبعدها يستطيع التفكير في الخطوة التالية والتي بالتأكيد لن تحدث إلا بخروج عمه …

ساعة تلو الأخرى واستحوذ الصمت على الجميع، دقات عقارب الساعة تتنقل ببطيء مميت، بين كل ثانية والتي تاليها أفكار مخفيه وقلق الانتظار يطول… تقدمت هند للنافذة ترفع رأسها وتنظر للسماء المظلمة تدعي الله بأن ينزل عليها الصبر كي لا تصاب بالجنون وتفقد عقلها من هواجس الخوف، انتبهت إلى سالم يسرع باتجاه ممرضة تسير في الممر قائلاً بلهفة :

لو سمحتي أنا شوفتك جوه مع عمي قبل ما يدخل العمليات، هو طلع ؟؟ هو كويس صح ؟!

وقف الجميع منتظرين اجابتها بتحفز وركضت هند تسألها بقلق وفزع :

طمنيني بالله عليكي، بابا كويس

ابتسمت إليهم وردت بهدوء :

الحمدلله هو كويس ويعتبر العملية نجحت الحمدلله بس لسا مخرجش وأول ما يخرج الدكتور هيجي يطمنكم بنفسه

تنهد سالم براحة مبتسمًا بفرحة، وهتف مرتضى ويعقوب في نفس واحد يحمدون الله على الأخبار السارة، فقال سالم عبده بعدما تركتهم الممرضة :

الحمدلله وعقبال ما نطمن وهو وسطينا أن شاء الله

مسحت هند دموعها ورددت بسعادة :

يارب .. يارب يا سالم

أردف يعقوب متسائلاً وهو ينظر إلى بزوغ الفجر من النافذة :

طيب يا جماعة شكل الفجر إذن واحنا مش سامعين، خلينا نشوف المسجد فين ونصلي تشوفوا حوار البلد قبل ما يعرفوا من بره

أضاف موسى على حديثه بحيره وهو يرمق هند التي كادت أن تفقده عقله بانفعالها المفجع إليه :

ياريت لأن دي واحدة وكانت هتوقف قلبي ما بالكم بالباقي

في أثناء حديثهم فكر سالم عبده في أمر وود أن يقترحه بعدم تأكد من نجاحه :

هو في حل بس مش عارفه هينفع ولا ايه

ضيق سالم جابر عينيه وسأله بتحفز :

الحقني بيه بدل ما دماغي ضاعت مني

فرك ذقنه واجابه بشرود :

هكلم محمود يجيب أبويا وعمي القاهرة على أساس عمي سالم محتاجهم في أي شقة من اللي هنا ولما يوصلوا نبعت لمحمود يجي على عنوان المستشفى

: وماما واخواتي ؟؟؟

سؤال هتفته هند بارتباك، تطلع إليها واجاب بتفكير :

ممكن نقولهم برده نفس الكلام وسعد يتحرك بالعربية ورا محمود ولما يجوا أن شاء الله يكون عمي طلع بالسلامة ووقتها نقرر ازاي نعرف إخواتك ومين يستنى ومين يرجع

هز سالم جابر رأسه يؤيده وتمتم بقلق :

أنا شايف كده برده

؛***************

لا تعلم لِما ساقتها قدميه إلى هنا؟؟ ولا تدرك سبب إلحاح عقلها على المجيء للتحدث معه، كل ما تشعر به أنها مشوشة لا تجد من يشبهها في هذا العالم، دائمًا توجه إليها نظرات الرفض، الجميع يخف من الاقتراب منها، وحيدة وشعور النفور بعث إليها أنه مثلها وربما لأنه رأى فيها كما رآى نفسه بغت هي الأخرى أن تجد نفسها به …

طرقت الباب بضيق وهي تجول بنظرها في المكان الكئيب، انقبض قلبها منذ أن وطئت قدمها الدرج، وكأن هذه المساحة قوقعة مهجورة تحوم بأجواء الغم والهم :

ساره !!

تطلعت إلى عمر بملل وسألته باقتصار :

فين أبو عين واحدة ؟؟

رفع عمر حاجبيه بذهول شديد وعدم استيعاب ما تفوهت به بكل سلاسة، وهذا لم يعجبها واستنكرت دهشته الغريبة:

مالك اتخشبت كده ليه، هو موجود ولا امشي مش فاضيه

هتف بتعجب وهو يفسح إليها الطريق :

موجود، ادخلي وأنا هروح أقوله أنك هنا

: لا يا خويا روح قوله وأنا هستنى هنا، مش ناقصه ضيق نفس والواحد جايب آخره أساساً

دلف عمر وصعد لغرفة سيف يخبره بالضيفة التي جعلته يقفز من مكانه متعجبًا للسبب حضورها المفاجئ، لم يصدق عمر وظن أنه يمازحه إلا عندما وجدها تقف وعلى وجهها معالم الضيق، سألها بدون مقدمات:

فيه ايه ؟؟ ايه جابك ؟؟

رفعت حاجبها قائلة بتهكم :

مالك كأنك شوفت عفريت كده، سبحان الله مش كنت جاي من كام يوم عايز تتجوزني اومال هتعيش معايا وأنت خايف كده

جحظت مقلتي عمر بصدمه وصاح بعدم تصديق:

يتجوزك !! ازاي ؟؟

حدجته ساره بحنق وهي تهتف بسخرية :

مالك يا خويا أنت كمان ايه مشبهش ولا مشبهش

توتر عمر بعض الشئ وهتف بتلجلج وهو ينظر إلى سيف بانزعاج على البلاء الذي يسعى إليه :

لا مقصدش، أنا أول مرة اسمع عن الكلام ده استغربت مش اكتر

خرج سيف عن صمته وسألها باستفهام وهو عاقد جبينه بضيق :

ايه فتح الكلام ده مش خلاص عرفت اللي عندك ؟؟ ولا ليكون ناقص شتيمة مقولتيهاش جاي تكملي ؟؟

شهق عمر بفزع وردد بصدمه :

شتيمة!!

ردت ساره على سيف متجاهلة عمر كي لا تسمعه كلمات قد تخدش حيائه صباحًا :

ولما هو كده باعت مرات أخوك ليه، بعتها تقولي أبعد عنك وهو أنا أصلا ماسكه فيك يا جدع أنت

: ليلى

ردد اسمها بذهول فصاحت ساره بتبرم :

آه يا خويا ليلى، بقولك ايه طلعني من دماغك و..

: وتتجوزيني

شهق عمر مرة أخرى وعينيه ستخرج من مكانها وهو يحدق بعدم استيعاب المشهد المقابل له .. سكتت ساره من المداهمة الغير متوقعة بتاتاً، لم يبالي سيف بدهشتها وتابع ببسالة وإصرار :

في حاجه جوايا مخلياني متأكد أنك هتكوني مراتي، ومتسأليش ليه لأني مش عارف غير أننا شبه بعض وننفع نكمل المشوار سوا

على حين غرة التفت واسرعت راكضة للخارج وكأنها تهرب من شبح يلاحقها، فنظر عمر إليه بتعجب قائلاً :

أنت واعي بتعمل ايه ولا رجعت تشرب

اقتضبت ملامح سيف مغمغمًا بكدر :

لا واعي ومتجبش السيرة دي تاني

: تتجوز لا وكمان ساره

عقد بين حاجبيه وسأله باهتمام وفضول :

ومتجوزش ليه ؟؟ ومالها ساره !! دي الوحيدة اللي قابل منها تقولي يابو عين واحدة من غير ما حس أنها شمتانه ولا بتعايرني.. حاسس إني مرتاح ليها يبقا ليه لا ؟؟

رفع عمر حاجبيه بذهول وهو غير مصدق أن سيف يتفوه بمثل هذا الحديث العقلاني الحكيم، واصل شيف بحنق :

اطلع كلم ليلى دي وفهمها متدخلش في حياتي، مين سمح ليها تكلم ساره أساسًا

رفع عمر كتفيه مردفًا بلا مبالاة :

لا ماليش دعوة دي حوارات عائلية مليش فيها

هز سيف رأسه بتعجب ساخر ثم قبض على لياقة قميصه يقربه منه عنوة وهمس بخبث :

لو مطلعتش وبلغتها الكلمتين هوصل لموسى وأعرفه أنك لسا بتكلم أخته كل يوم وبتحبها

امسك عمر يده وقال بتمسكنا :

يرضيك البنت تزعل مع اخوها بسببي والحب يطير مني

ابتسم باستفزاز وهو يدفعه للخلف :

آه يرضيني

زفر عمر بغيظ وصعد للأعلى على مضض، طرق باب غرفة ليلى بغضب وما إن خرجت ابلغها بما قاله سيف، لم يعطيها فرصة للفهم كي ترد ودار يهبط الدرج مجددًا وهو ينظر للآخر شزرًا الذي ابتسم برضا ودخل يتفقد يزيد وزياد اللذان أصبح شغله الشاغل منذ فترة وجيزة …

؛***************

الساعة الثامنة صباحًا
استقر المعلم سالم في غرفة العناية المركزة لحين غير معلوم، فقد صرح الطبيب بنجاح العملية وتبعًا لها يبقى ,المريض من يوم ليومين أو أكثر حسب حالته في العناية المركزة وتحت فحوصات مستمرة دقيقة… اتفق الجميع على أن اقترح سالم عبده هو أنسب حل إلى الآن، فخرج من المشفى كي لا يذعر والده بسماع صوت الأطباء والانذار المجاورة واتصل به :

أنت فين يا سالم ؟؟ طلعت بدري من غير ما تفطر ولا أنت عند ندى ؟؟

طيلة الليل وعبده يشعر بالندم وينتظر بزوغ النهار كي يقابله ويعتذر منه عما عاشه أمس عندما فقد السيطرة على نفسه، رد عليه سالم بهدوء تلبسه باحترافيه :

لا يابا أنا مش في البيت، بليل عمي سالم كلمني وقالي أتحرك أنا ومرتضى ليه ضروري على القاهرة

: ليه ؟؟ عمك كويس ؟! وابن عمك سالم كويس ؟؟

توجس سالم من ردة فعله ولكنه مضطر لسير الأمور بتمهل فربما يتحمل هو الصدمة، وهذا غير مضمون البتة مع عمه جابر :

كويسين الحمدلله بس هو قالي ابلغ محمود يجيبك أنت وعمي جابر، وسعد وراكم بالعربية مع مرتات عمي

” ايه !! ” رددها عبده بذهول ثم سأله باستغراب :

ليه وهنروح عندك ليه ؟ سالم أنت بتكدب وعمك فيه حاجه صح ؟؟

: يابا حاجة ايه بس، وأنت عارف اني بكدب

تأكد عبده من كذبة فقال بشك :

اديني عمك أكلمه

ضغط سالم على فكه بانفعال ثم زفر بضجر وهو يتمتم بنفاذ صبر:

والله أنا ما بقا فيا حيل للمناهدة وللغلب ده

زجره عبده بحده :

أنا بقيت غلب يا بن الكلب ما تقول على طول عمك فين

: في العناية المركزة

قالها بسلاسة وتابع بحنق :

ارتحت كده صح ياريت بقا متقولش لاخوك لأنه مش بعيد نجيبه في سرير جنب عمي سالم ولو عايز وجع دماغ عرف مرتات عمي وهما يزفوك من عندك لعندنا

: عمك ماله يا سالم .. أخويا فيه ايه

تنهد سالم وهتف بحزن على نفسه وعلى موقفه :

متخفش يابا هو كويس والدكتور طمنا أن الحالة مستقرة والعملية نجحت الحمدلله

بهت صوته وفرت الدماء من عروقه وهو يهمس متسائلاً بفزع :
عملية ايه ؟؟ وانتوا فين

أراد أن يبعث إليه الاطمئنان لحين وصوله والتأكيد بنفسه:

عمي كان جاي يعمل عملية قلب مفتوح ومكنش عايزه حد يعرف هو كويس الحمدلله بس بلاش تعرف حد غير لما ي
تيجوا هنا

ارتفع نبرة عبده بعدم تصديق ينهره على تصرفه :

وأنت ازاي متقوليش

: مكنتش أعرف الموضوع كله جه صدفه من واحد قريب مرتضى وجينا نتأكد بدل ما يطلع غلط وتبقا شوشرة

حوقل عدة مرات غير مستوعب شدة جفاء أخيه ليقبل على عملية جراحية خطيرة كتلك دون أن يعلم أحد، هز رأسه لا يعي أنه يقلل من وجود إخوته إلى هذا الحد، لا عذر ولا حجة لعدم اخبارهم بمرضه ليكونوا معه بدلاً من منعهم والاستغناء عنهم وكأنها غير كفء لمهمة تخصه..

: يابا أنت سامعني

آفاق عبده من شروده في مداخل صورها له الشيطان ليقع الإخوة في الفتنة، أفكار لا صحة لها تثير الفوضى والسخط من قلة قيمة ولا إهانة للكرامة، مصطلحات سطحية لا تكمن بين الإخوة والاحباء دون أن نتأكد من منظور الجهة الأخرى وإلا ستكون نهاية الخذلان والتخلي …. شدد سالم علية مرارًا بعدم اخبار عمه جابر أو إحدى زوجات عمه إلى أن يأتوا، ثم اتصل بمحمود وسعد كلا منهما يتجه بسيارته كي لا يتأخروا، قبل أن يغادر عبده أخبر يونس بعدم الخروج من المنزل ويظل مع النساء من حين لآخر يذهب مع مروة للاطمئنان على إخوتها فإنه الوحيد الموجود الآن، لم يتأخرن زوجات المعلم وكانوا واقفين منتظرين سعد على احر من الجمر، تعجب وقلق من هذا الطلب المريب ولأن الاجابات ليست هنا، استعدوا على عجلة وحذروا الفتيات من الخروج في غيابهن، بعد أقل من ساعة فقط تحركت السيارتين في طريقهم للقاهرة ….

؛**************

: متقلقيش يا بنتي، خير أن شاء الله تلاقيه بس مش سامع التلفون

قطمت مها شفتيها بقهر وغيظ وهي تخفي انفعالها الشديد من إهمال مرتضى، منذ أن تركها أمس لم يعد للمنزل ولا يرد على اتصالها، وعندما أكل قلبها القلق جاءت إلى منزل عائلته علها تجده، تتفاجأ بسفره للقاهرة لأمر اضطراري من والده :

ده حتى مردش مرة عليا ولا عرفني هو فين

رد عليها والد مرتضى بهدوء يطفئ تلك النيران المنبعثة في عينيها :

أنتِ عارفه اني لا دي عوايده ولا دي تصرفاته، وطالما سافر مرة واحدة كده يبقا في حاجه مهمه

وتابع ببسمة صغيرة يمازحها :

وعلى العموم لما يرجع هقرصلك ودانه عشان ميعملش كده تاني

ابتسمت مها رغم عنها فقالت تغريد بمشاكسة :

لو شاكه أنه بيلعب بديله عرفينا وبابا هيشد على ودانه جامد اوي

شهقت والدة مرتضى وتوسع فاهها بذهول لوقاحة ابنتها، صاحت بحده تزجرها :

ايه قلة الأدب دي يا تغريد، اخص عليكي تقولي على اخوكي الكبير ده

واستكملت وهي تنظر الى مها باعتراض :

وبعدين وهو لو لف الدنيا دي كلها يلاقي زي مها

تطلعت تغريد إلى والدها ببراءة تستغيث به من الاشتباك مع والدتها، فضحك مردفًا بتعجب :

ولما أنتِ مش قد الكلام بتقوليه ليه !! خلاص يام مرتضى هي بتهزر

: الدلع ده غلط وبيتخن دماغها

صاحت تغريد معترضة فضحكت مها وغفلت قليلاً عن ما يراودها من توتر وعدم ارتياح لهذا السفر العجيب، بينما وهم مندمجين في أحاديث مختلف بعدما انضم سامر وسالم، يجلس على بعد قريب خليل يعقد ذراعيه أمام صدره ينظر إليهم بشرود، غير منتبه لِما يدور وحالته أصبحت مريبة في الفترة الأخيرة، دائمًا شارد الذهن، مهموم، ملامحه حزينة وهذا ما جعل الجميع يظن أنه يتعرض لفترة اكتئاب لموت سمر، حتى هو يعتقد ذلك ولا يريد الاعتراف بما يجلده به ضميره ندمًا لمعاملته الجافة معها، شعور ارتكاب ذنب يود الاعتذار عنه بعد فوات الأوان …

؛************

جاءها اتصال من أحد العمال بأن باب مكتب مرتضى مفتوح ويظهر من خلاله الخزانة التي لم تغلق وبها مبالغ التحصيل وملفات كثيرة .. بدلت حسناء ثيابها وارتدت عباءة سوداء ذات طراز خليجي، مطرزة يدويا بخيوط فضية على أطراف الأكمام ومن جانبيها للأسفل، ومعها حجاب من نفس لون التطريز، سارت بين الشوارع بثبات وقوة، تقدم التحية ببسمة صغيرة على الأهالي المرحبين بها بحفاوة، تستمع إلى الترحاب الحافل من بينهم والدعوات الصادقة بقلب يرفرف بالسعادة، حمدت الله على زرع تلك المكانة والحب إليهن داخل قلوب الأهالي، ودعت لوالدها بالصحة والعافية وأن يديم وجوده في حياتهم على ما قدمه إليهن من محبة وتقدير أوصلهن إلى ما هن عليه الآن بفضل الله ثم هو ..

ولجت للمصنع واتجهت حيث مكتب مرتضى، عقدت بين حاجبيها عند رؤية الباب مغلق ؟!! فتحته متعجبة من اتصال العامل إذا كل شيء على ما يرام.. لم تعجب أفكار عقلها وتسمرت محلها تحدق بأحمد يقف حيال الخزانة، يمسك أحد الملفات يقرأ أوراقه !!

: أحمد!! بتعمل ايه هنا ؟؟

أغلق الملف وأعاده مكانه بهدوء، ثم رمقها وسألها مستفسرًا ببرود :

ايه جابك انهارده ؟؟!

فتحت الباب على مصراعيه وتقدمت للداخل متسائلة بتهكم:

حاسه أن السؤال المفروض يكون العكس، أنت ايه الجابك هنا ؟ وفي مكتب مرتضى !!

: سمعتي سؤالي ولا اعيده تاني

قالها بلا مبالاة وهو يغلق الخزانة ثم التفت إليها ينتظر الإجابة وكأنه لم يسمعها من الأساس، استشاطت من أسلوبه المزعج والمستفز، لكن عليها التريث في الرد كي لا تنفعل وهذا خشن الطبع، غليظ القلب…

: في حد ىن على تلفون البيت وبلغني إن مكتب مرتضى مفتوح ومش لاقيه

أومأ وهو يجلس على المقعد ويخرج علبة التبغ منه يده قائلاً بملل :

طيب ياله ارجعي زي ما جيتي

رفع حاجبيها بدهشة ثم هتفت بضيق :

هو ايه اللي ياله ارجعي أنت بتكلم مع عيله وبعدين مش همشي غير لما مرتضى يرجع وأعرف حوار الخزنة المفتوحة دي

وضع التبغ بين شفتيه يشغله بالقداحة وهو يحدق بها بجمود، وقبل أن يلقي كاملاً لاذعة على سمعها اقتحم منير الغرفة وعلى هيئته العجلة، تنفس الصعداء وقال براحة عند رؤية حسناء:

الحمدلله أنك جيتي، مسعد أول ما قالي أن الباب مفتوح جيت جري من المخزن خوفت لميكنش حد هنا

خرجت قهقه خافتة من أحمد وهو ينظر إليه بسخرية ثم تابع استهزائه قائلاً :

منير الشيال اترقى وبقا أمين مخازن

تطلعت حسناء إليه بضيق فهي تعلم أن منير لن يتمكن من مجاراة خبيث، ماكر مثل ابن عمتها .. ابتسم منير وهتف يوضح إليه سوء الفهم :

لا يا ريس أحمد أنا موجود انهارده بدل الريس سالم عشان سافر مع المعلم لكن أنا بجهز ورقي ومسافر الكويت بإذن الله

” تؤتؤ ” كررها بأسف وأضاف ساخرًا :

بقا يا راجل مشحطط نفسك ومسافر علشان تشتغل شيال طيب ليه ما المصنع كبير والخير كتير

واستطرد بخبث وعيناه معلقة على لفافة التبغ بين أصابعه:

ولا مش قادر تكمل في الشغلانه عند حماك

وصل مغذى الحديث متأخرًا إليه فقد أحسن نيته ورد عليه بتلقائية، يعلم منير أن الطريق الذي اختار أن يسلكه شائك، ومتعب على قدر من العقبات التي ستواجه بقسوة .. أجمع شتات نفسه سريعًا يحفظ ماء وجهه وهو يهتف ببسمة واسعة :

هنا أو هناك الشغل مش عيب، ولا مش رايح شيال أنا بإذن الله محاسب في شركة عقارات ربنا كرمني وقبلوني

: وأنت رد سجون!! قبلوك وأنت ليك سوابق!!

وهل يتصور أن يغلبه في الحوار؟؟ ابتسم أحمد ونهض كأنه لم يقل شئ واستطرد بملل :

هات ورقة تسيلم المخزن وخليك هنا لحد ما ريسك يجي

تطلع منير إلى حسناء باضطراب فأشارت إليه بأن يعطيه إياه، هي الأخرى لن تقدر على العناد مع أحمد وفي كل الأحوال لن يفعل شئ وهو يسلم الطلبيات مع العمال ..

؛************

وضع مقعد في ركن هادئ بجوار إضاءة مريحة، وأمامه طاولة صغيرة على سطحها جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بالشركة التابع لها، تراكم عليه أعمال الأيام الماضية وأن علم مديره لن يجد ما يقدمه إليه … بدأ يونس يدون في بعض الأوراق يخطط الأهم في العمل المؤجل يبدأ به، وفي الداخل انتهت مروه في تبدل ثيابها وقررت أن تذهب لأخوتها تفهم منهم سبب تلك السفرية لأمهاتهم واعمامهم، وهي تأخذ هاتفها من الكومود لفت نظرها في النافذة المجاورة سيارة أجرة تقف أمام المنزل، توسعت مقلتيها بذهول مع من ترجل من المقعد الخلفي ووقف يتحدث في الهاتف …

: يونس تعالى بسرعة

ركضت تخرج من غرفتها وهي تصيح إليه بأن يتقدم من الشرفة تشير للأسفل بدهشة، استقام هو وألقى القلم من يده وسار بجانبها ينظر حيث تشير .. والصدمة لم تكمن لوجود إبراهيم هنا ولكن لِما خرجت رحاب ومعها حقيبة سفر !! جحظت عينين مروه بصدمة وفغر فاهها بذهول وهي تشير عليهما غير قادرة على التحدث، تجمد يونس مكانه وجف الدماء في عروقه وهو يكذب نفسه، مستحيل أن يفعلوا ما ينوي عليه وتهرب معه، آفاق الاثنين من صدمتهم وسحر خرجت تترجى رحاب بأن تعود عما تقوم به، تنبهها بأن أولادها الرجال لا يستحقوا أن تكسرهم بتلك الطريقة، تحاول أن تلمس أي جانب للأمومة بداخلها للعار الذي سيلحق بهم بعد أن تغادر والدتهم مع رجل آخر وهو السبب في خطف أحد أبناءها كما قالوا هم ..

هبط يونس الدرج وكأنه يطير فوقه ولم يهمه تعرقله مرتين، آفة وذلة ستجاريه طيلة حياته فهو من رفض أن يحبس إبراهيم وها هو يعود دون اي تقدير لإنقاذه له من سجنً سيموت بين جدرانه .. وصل للبهو ورحاب تدفع سحر بغل وغيظ بعيدًا إلى أن جعلتها تفترش الأرض ثم صعدت بجانب إبراهيم الذي أمر السائق بأن يتحرك على الفور، ثوان تقابلت عينيه معه ولكن تلك المرة لم يكن ابراهيم الذي عاش معه، لا ليس والده الذي تربى بين أحضان منزله، تمنى يونس أن يصرخ ويخبره لو كان بإمكانه لمحى أثره من حياته واستطاع كرهه ..

ابتعدت السيارة ولم يبقى سوى الغبار خلفها الذي لطخ وجهه يونس وهو يقف في منتصف الطريق يتطلع إلى بصيص أمل يتبخر أمامه، ساعد سحر على الوقوف وهي تنظر إليه بأسف وحسرة …

لن يضيع الوقت في مشاعر سخيفة وأخرج هاتفه يتصل بالشرطة، لحظات ورد أحدهم فقال يونس بفتور :

عايز ابلغ عن مكان واحد متهم بقضية خطف وتزوير

علم الشرطي مكان الشقة الذي وفرها لابراهيم للجوء فيها، كان يسعى للحفاظ عليه وهو يصر لإفساد ما تبقى من حياته .. ضربت سحر بيدها على صدرها وهي تهمس بتوجس :

يا دي المصيبة بلغت عنه وهي معاه لو اتمسكو سوا هتبقا فضيحة

رد عليها باندفاع وغيظ شديد :

يتحرقوا هما الاتنين

وضعت يدها على قلبها هامسة بشفتي مرتعشة والحزن يتغلغل ملامحها:

هقول لعبده ايه وازاي .. لراجل هيستحمل فراق بنته والمصايب دي

شعر يونس بتبلد مشاعره، وتجمد عقله عن العمل والذهول المؤلم سيطر عليه، سحب نفسه وصعد للأعلى يجر حطام روحه وينفرد مع ذاته، رفض أن يبقى في عذاب الواقع وأخذ قرص من أحد عقاقير المهدئات .. أغلق جهاز الكمبيوتر المحمول وأخذ وسادة صغيرة وضعها على الأريكة واستلقى ينظر للسقف بضياع، عينين تتوقد بالحيرة والإنكار.. ذهب عقله في الفراغ ومفعول المهدئ سرى في عروقه، أغلق جفونه وانفاسه انتظمت وبدأت تشنجات جسده تسكتين رويدًا إلا أن غط في نوم عميق غاب به عن كل ألم وحزن يرفقانه ..

؛*************

تقبل عبده الصدمة بهدوء وانفعال أقل من جابر الذي صاح بصوت جهوري يعنف ابنه :

ازاي متعرفنيش!! أنت اتهبلت في دماغك وجاي تعرفنا بعد ما عملها

رد مرتضى بتودد بدلا عن سالم :

ما هو عمل زي المعلم ما طلب منه يا عمي جابر وبعدين ما أنت عارف ما دام المعلم عايز كده محدش هيعترض

هتف سالم جابر بحنق وأشار على زوجات عمه وهند التي شاركتهم البكاء والعويل وكأنها علمت للتو مثلهم :

ومن الاخر بقا أنا كنت معترض وحاولت مع عمي كام مرة اعرفكم بس دلوقتي عرفت ليه هو كان مصمم بالمناحة دي

رفعت ناديه وجهها من الأرض والدموع تنهمر على وجنتيها مرددة باستنكار :

واحنا عملنا ايه ولا في أيدينا نعمل ايه

بانهيار سألتهم نجاة وصوتها يرتعش بذعر :

خلونا ندخل نطمن عليه، نطمن عليه بس

هز سالم عبده رأسه بالنفي وأردف بقلة حيلة :

مش هينفع الدكتور مانع أي زيارة

زادت وتيرة نحيبها وتعالت شهقاتها متسائلة بقلب يرتجف من الخوف العاصف به :

لحد أمته ؟؟ وهي حالته وحشه كده علشان ميدخلوش حد

: لا هو كويس الحمدلله والعملية نجحت، لكن لازم يستنى في العناية المركزة يوم وبعدها يطلع فترة نقاهة كله كده

كانت ناديه تجلس بجوار هند ونجاة على الأريكة المعدنية، لكل منهن ردة فعل تمكنت منهم عند سماع الخبر الذي أشبه بصاعقة ضربت بهن، كمن جاء فجر قنبلة موقوتة عند رأسهم، عكسها التي اختارت أن تقف قبالة باب العناية بوجه خالي من التعابير، نظراتها الخاوية مثبتة على فراغ سحب روحها منها، ردت فعل مكبوتة لم تستطع صباح أن تتخطاها ..

تسارعت أنفاس جابر وبدأ يتصبب عرقًا فاقترب منه سالم قائلاً بقلق :

تعالى يابا نقيس ضغطك شكله عالي

دفع جابر يده بحده وهدر بضيق :

ملكش دعوة بيا

خرج عبده عن صمته مغمغم بحده من توتر الأجواء التي جعلت حالة من الذعر والهلع يتمكن من الجميع :

خلصنا يا جماعتنا خلينا نشوف الدكتور يفهمنا ايه المفروض نعلمه دلوقتي ويعرفنا لو سالم فاق

واستكمل وهو يرمق هند بحده :

قومي شوفي أمك بدل ما بتعيطي شبه العيال الصغيرة كده وتلاقيها طبت ساكته

انتبهت هند لوالدتها الساكنة بريبة فنهضت تتحدث معها، بينما مال جابر على عبده هامسًا باستياء :

براحه يا عبده خايفه على أبوها

: يعني احنا مش خايفين عليه، سبحان الله ياخي عطلة ووجع دماغ في كل وقت وكل حتة

حدجه جابر لبرهة بحنق وهتف بسأم منه :

يا خي أنت مفيش من لسانك رجا أبدًا

على بعد قليل اجتمع الشباب تغلبهم الحيرة مما عليهم فعله، خرج سالم جابر عن نسق الحديث وهتف بيأس :

على فكره بقا عمي عنده حق أنه معرفش حد

عقب موسى بسخرية وقد ذاق مرارة نوبة حزن هند :

ولسا لما باقي النبات يعرفوا

: يا جماعة طبيعي هو مش أبوهم وفي يوم وليلة جاين تقولوا أنه في العناية المركزة وهو كان معاهم من يومين

هكذا هتف مرتضى بحكمة وواصل بتفكير :

دلوقتي وقفتنا دي ملهاش لازمة، وأكيد المستشفى مش هتسمح بالعدد ده يفضل كتير

خرج الطبيب من غرفته فأقبل الجميع عليه بسرعة وهلع يسألون عن صحة المعلم سالم، رفع يده يهدأ من خوفهم مردفًا برسمية :

اهدوا يا جماعة مفيش داعي للقلق ده، الحمدلله الحالة مستقرة وهو فاق وتجاوب معايا ..

قاطعته نجاة بلهفة في نبرتها وهي تسأله بصيص أمل :

بجد يعني نقدر ندخل نطمن عليه

: اكيد لا، ممنوع زيارته حاليًا وعامةً هو لسا تحت تأثير البنج وبإذن الله ممكن يطلع غرفة عادية بكرة

سأله جابر تلك المرة باهتمام بالغ:

ويقدر يخرج أمته يا دكتور

إجابة مبتسمًا مقدر القلق والتوتر النفسي المصاحب لأهل المريض :

مالكم مستعجلين كده ليه هو قاعد معانا لحد ما نتأكد من صحته تسمح بالخروج، وغير كده لسا في قائمة بالممنوعات الممرضة هتجيبها ليكم

عقد عبده جبينه باستفهام متسائلاً باستغراب :

ممنوعات ليه هو مش هيقدر يعيش طبيعي بعد كده ؟؟

: هيتعامل طبيعي ويعيش يومي عادي جدًا ويمارس حياته كما كانت، لكن مش دلوقتي كله بالتدريج وعلى الأقل ٦ شهور، في خلال الفترة دي منهم ٣ شهور هيفضل في البيت ممنوع من الخروج وممنوع الزيارات نهائياً، شخص واحد بس مسموح التعامل من خلاله، وده حفاظاً علية من تعرضه لاي فيروسات في الجو أو عدوة وطبعاً ده خطر جدًا

هزت صباح رأسها بانصياع وتمتمت بترقب للحظة خروجه ورؤيته بعافية :

هنعمل كل ده بس هو يخرج ولا نشوفه نطمن عليه

حرك الطبيب رأسه رافضًا وتابع بهدوء :

مش هينفع ده لوعايزين سلامته، وأنا بعتذر بس سياسة المستشفى رفيق واحد بس مسموح ليه أنه يستنى

أومأ جابر بتفهم مرددًا بامتنان :

شكرًا يا دكتور وأحنا مش مطولين أهم حاجة اطمنا على أخويا

غادر الطبيب فنظر جابر إلى ابنه متسائلاً مستفسرًا :

الحساب هنا ازاي ولا نسأل فين ؟؟

تركه عبده يستفسر ونظر إلى صباح قائلاً بصرامة :

ياله علشان سعد يرجعكم

رفعت صباح حاجبيها باستنكار وهي تسأله بحنق :

يرجعنا من غير ما نطمن عليه ؟؟!

انفعل عبده وارتفعت نبرته وهو يصيح بحده :

مسمعتش كلام الدكتور يعني، محدش هيدخله ولا هتفضلوا واقفين على الفاضي وبناتك لوحدهم في البلد

بحده مماثلة عنفته صباح وقد اشتعل الشجار بينهما وكلا منهما أعصابه متوترة :

متعليش صوتك علينا يا عبده وهنفضل واقفين على الفاضي وبناتي في بيت أبوهم محدش يقدر يجي يمهم

تدخل جابر يفصل بينهما بتبرم :

اهو ده اللي ناقص، احنا في مستشفى مش في شارع

وتطلع إلى أخيه مستكملاً بلوم :

في ايه يا عبده طايح في الكل من ساعة ما جينا، اهدى خلينا نلاقي حل علشان البنات يجوا برده

فتح عبده عينيه على وسعهم مرددًا بذهول :

يجوا !! بنات مين اللي تيجي ؟! أنت عايز تفضحنا

انكمشت تعابير وجه صباح وردت عليه بعدم فهم واستنكار لِما يتفوه به :

يفضحكم عشان البنات هتيجي تطمن على أبوهم

: أيوه يفضحنا، دي تعيط ودي تصوت، ودي تتشحتف وحليني على ما نسكت واحده فيهم

حدجته صباح بغيظ ثم نظرت إلى نادية مردفه بجمود :

هنرجع أنا وأنتِ البلد ونجاة هتستنى هنا، وبكره الصبح هنتحرك بعد صلاة الفجر مع البنات ويجوا يطمنوا على أبوهم

استشاط عبده من تجاهلها لكلامه وقبل أن يشتبك معها مرة أخرى قاطعه جابر موجه حديثه لهند وموسى :

ياله انتوا كمان ملهاش لازمة وقفتكم دي ارجعوا بيتكم وتعالوا بكرة

حاولت هند الاعتراض فأمرتها والدتها بعدم الجدال لأن وجودهم الآن لن يفيد، وكذلك فعل مرتضى ويعقوب وهبطوا منتظرين عودة سالم عبده من الحسابات للتأكد مع سالم جابر أن الأوراق المالية مدفوعة الأجر .. رفض سالم جابر أن يغادر ويظل أحد أبناء عمه وأصر على البقاء كي يفيق المعلم سالم ويجده بجواره كما دخل وهو معه، تحرك محمود بسيارته بعد أن اصطحب سعد للمرحاض يغسل وجهه الذي غرق بدموعه من هشاشة قلبه الذي لم يتحمل صدمة الخوف والقلق على عمه، عنفه محمود في الخفاء كي يستمد قوته ويكف عن العويل مثل النساء فإن رآه والدهم لن يمر اليوم مرور الكرام عليه ..

بعد رحيل الجميع سألت نجاة إحدى الممرضات عن مكان مسجد المشفى وأخبرت سالم بأنها سيذهب لتصلي ما فاتها وهو ذهب يبحث عن مطعم قريب يجلب إليهما وجبة فقد قارب أذان العصر ولم غفل عن جوعه من الضجيج الذي عاشه في يوم عصيب لا يتمنى أن يعيشه مرة أخرى…

؛************* بقلم حسناء محمد سويلم

أمسكت الهاتف بين يديها وهي تتحرك باضطراب في غرفتها، تتجول لتخفف من حدة توترها .. شعور الانتظار مقيت أشبه بعجز يقيدك وأنت على جمر ساخن، رفعت شاشة هاتفها بلهفة وابتسمت بسعادة وهي ترى اسمه أمام عينيها، وأخيرًا بعد يومين من انقطاع الأخبار عنه يتصل بها، بنبرة تحمل من الشوق والقلق ردت عليه :

سفيان أخيرًا رديت عليا قلقتني قوي، أنا كنت لسا هكلم هيفاء اسألها عليك

: مشغول يا أمل

تعجبت من جفاء نبرته فسألته بقلق :

مالك ؟؟ أنت كويس

ردد باقتصار وجمود :

آه كويس

تأكدت أمل أنه ليس بخير على الإطلاق، فعادت سؤالها بخشية من أن يكون أصابه مكروه :

لا مش كويس وصوتك بيقول كده، في ايه ؟!

صاح بغضب غير مفهوم واندفاع شديد :

أنتِ مبتفهميش بقولك كويس، متبقيش زنانة

تجمدت لبرهة وهمست بعدم استيعاب :

أنا!! سفيان أنت بتكلمني أنا !!

لم تسمع رده ولكن صوت أنفاسه المتسارعة بدت عالية دليلاً على تحكمه في نوبة غضب شديدة، لم تفهم أمل ما يحدث معه وخاصة من أسبوعين وهو شارد الذهن في التحدث معها، أصبح قليل الكلام، لا يجيب على اتصالاتها، ردوده مقتصرة، ومنذ يومين اختفى فجأةً وانقطعت عنه كل إمكانية للوصول :

أنا آسف

قالها بخفوت ثم استطرد بندم :

عشان كده مكنتش بكلمك اليومين الفاتو لأني مش قادر اتحكم في اعصابي، أنا آسف مقصدش اقولك كده

سألته بشك :

مالك ؟؟

زفر بقلة حيلة وقال بتعب وضح على صوته :

موضوع طويل صعب أقوله دلوقتي، هخلص شغل في المكتب واعدي عليكي

ردت عليه باقتصار قبل أن تغلق المكالمة :

تمام هستناك

وضعت الهاتف أمامها تحدق به بعدم تصديق أن سفيان من تحدث معها، تعلم أنه مضغوط بسبب عمله بمفرده على عدد كبير من القضايا في مكتبه، ورغم أنه لازال في بداية الطريق يحاول بأقصى جهده أن يرسم لنفسه مكانة خاصة، وهذا لن يعطيه حق بأن يهينها وهي أرادت الاطمئنان عليه فقط، شعرت أنها بحاجة للتحدث مع مروه وتأخذ درس لفنون الرد كي تثأر منه، وأن كانت إحدى الفتيات بالتأكيد لن تتأخر لتفعلها إلا أمل رقيقة القلب التي أعطت سفيان الف عذر لانفعاله وهجومه الغير مبرر، واقنعت نفسها بالانتظار وتسمع منه قبل أن تحكم وحينها تقرر العفو أو تجلب له مروه ….

؛***********

قرابة المغرب
اجتمعت مها مع أخواتها ينتظرون مجيء أمهاتهم كما طلبت صباح منهم وهم على وشك الوصول .. كل واحدة تفكر في السبب مختلف عن تلك السفرية، إلى أن وصلت احداهن أن والدهم قرر الزواج بالرابعة أو تزوجها بالفعل وجعلها مفاجئة للجميع …

استمعوا إلى صوت السيارات وما هي إلا دقائق وولجت ناديه وصباح، عقدت حسناء جبينها باستغراب متسائلة بتعجب :

اومال ماما فين ؟؟

تطلعت صباح إليهم وقالت بوجوم والإرهاق استحوذ عليها :

أقعدوا عايزه اقولكم على حاجه مهمة

هيئتها المريبة ووجه ناديه الحزين لا يبشر بالخير قط، لم تريد صباح أن تلعب بأعصابهم وقالت بأسى:

احنا كنا في المستشفى

وتابعت ببكاء فشلت في السيطرة على:

أبوكم عمل عملية ومحدش كان يعرف

؛*************

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بنت المعلم الجزء الثاني)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى