رواية بك أحيا الفصل السابع والخمسون 57 بقلم ناهد خالد
رواية بك أحيا الجزء السابع والخمسون
رواية بك أحيا البارت السابع والخمسون
رواية بك أحيا الحلقة السابعة والخمسون
الناجي الثاني ” في طريق الهداية”
بكِ أحيا
الجزء التكميلي
ناهد خالد
” لنكن نجوماً لبعضنا كلاً منا يضئ عتمة الآخر”
” الهداية من الله, لكن في بعض الأحيان يصيغها لنا في صورة أشخاص, أشخاص يدفعون بكَ للصالح, يُقومون خُلقك, ويعيدون اتزانك النفسي, فالمختل ليس بالضرورة أن يكن مختل عقليًا, فهناك من هو مختل نفسيًا, وليس من الضرورة أن يكن مرض, إن عزمت على أذية نفسك ومن حولك, وتعنت متمسكًا بطريق تدرك أن أخره هلاك, فمرحبًا بكَ عزيزي في قائمة المختلين, وهل من إنسان طبيعي يُساق خلف ما يُودي بهِ للهلاك!؟ لنفسك عليك حق, فأين حقها إن فعلت كل ما بوسعك لتدميرها؟
الدنيا دار الغرور, ونزواتها كثيرة ومُغرية! بعضها متاح بمقدار محدود, والبعض مُحرم وإن كان بحجم الذرة, والجنة معروفة ومعروف متاعها, وجميع ما بها متاح وأشهى وأجمل من نزوات الدنيا, فأي متزن يسير حاصدًا كل ما في الدنيا من نزوات ويترك كل ما في الجنة من مُتع؟؟!
إلا لو كان مختلاً!”
فمن من أبطال روايتنا سيثبت اختلاله بجدارة؟
” دولة موناكو…”
هنا حيث الدولة المستقلة بذاتها, التي تحيطها الجمهورية الفرنسية من ثلاث جهات, وتبعد قليلاً عن الجمهورية الإيطالية, وعدد سكانها المهول والذي أغلبهم على الديانة المسيحية وبعدها تأتي الديانة اليهودية وأقلهم المسلمين والتي تشكل فئة محدودة من فئات سكانها, ورغم كثرة سكنها إلا أن نسبة البطالة بها تكاد تكون معدومة فقط اثنان بالمائة من اجمالي نسبة السكان…
هنا حيث فرصة جيدة لحياة أفضل..
وفرصة لرغد العيش…
وفرصة ممتازة للاختفاء…!
فالدولة مستقلة وبعيدة عن ضجيج الدول الأخرى.
وبالقرب من ميناء هِرقل يقع بيتهم الصغير…
الذي اختاره “مراد” أو ربما رجاله, لا يعلم لكنه أحسن الاختيار على كلاً..
– ترجع بالسلامة يا حبيبي.
قالتها وهي ترفع نفسها قليلاً مراعية بروز بطنها وقد بدأت في شهرها السادس لتقبله برقة وحب, فبادلها نفس المشاعر, والابتسامة تزين ثغره قائلاً:
– خدي بالك من نفسك, وهجبلك بارباجوان وانا راجع متقلقيش.
“بارباجوان” الطبق الأشهر في الدولة, والتي أحبته بكثرة منذ جربته لأول مرة, والخليط بين العجين والسلق السويسري وجبن الريكوتا يبهرها, ابتسمت بشهية تقول:
– أنا تقريبًا مبقتش اعرف اعدي يومي من غيره.
– مانا ملاحظ.
قالها وهو يتجه للباب لتودعه بضحكة, وهمسة, وانها بانتظار عودته..
بينما هو وبعد خمسة عشر دقيقة وصل لمحل عمله, شركة حراسات خاصة, وقد وجد بها ضالته ومجاله الذي يفهم فيه, القى التحية على كل من قابله باللغة الفرنسية, حتى وصل لمكتبه, فجلس وهو يلقي التحية بلغته الأم:
– السلام عليكم يا حافظ.
وأجابه المدعو “حافظ” الجالس على مكتب يجاور مكتبه, يفصل بينهما القليل من السنتيمترات:
– وعليكم السلام أخي أدريان, كيف حالك؟
“أدريان” الكنية المستعارة الجديدة التي تعايش بها في الدولة, فبعدما وصل لهنا تخلص من كل الأوراق وجوازات السفر التي تحمل أسماء أخرى, ليحتفظ بكنيته الدائمة هنا “أدريان ” التابع للديانة المسيحية وزوجته “ميا” والتابعة لنفس الديانة.
وعن تحدثه للعربية, فأوراقه الرسمية تحمل الجنسية المغربية, وهذا أكثر اقناعًا, فالمغرب دولة تتحدث بالعربية, ولكن لغتها الأجنبية الأولى والتي يتقنها أهلها بامتياز هي الفرنسية وهذا من أثر الاحتلال الفرنسي سابقًا والذي دام ل أربعة وأربعين عامًا.
“حافظ” رجل مسلم الديانة باكستاني الجنسية, يتحدث باللغة العربية الفصيحة, هادئ, ودود, ومحب لدينه بشكل واضح, حتى أنه ومنذُ عمل معه وهو وبشكل غير مباشر يحاول أن يحببه في الإسلام, على أساس أنه “أدريان” المسيحي, فلا ينفك في كل موقف أن يربطه بالدين, وكأن الأمر غير مقصود! و”طارق” أحب, فهو بالفعل يستفيد منه الكثير مما يجهله عن دينه…
وفي ساعة الراحة لهم, كانا يتناولان الغداء سويًا, ليباشر “حافظ” بقول:
– لقد نمت أمس متأخرًا, وجئت اليوم نائمًا أثناء سيري.
ضحك “طارق” بخفة يسأله بعبث:
– ولِمَ النوم متأخر؟ هل كانت ليلة رومانسية؟
ضحك “حافظ” هو الآخر يجيبه:
– للأسف لم تصب هذه المرة, لم يكن للأمر علاقة, لقد كنت أقرأ كتاب أكثر من رائع, وقرأت عن قصة من ضمن القصص التي ذكرها الكتاب أثارت فضولي ومشاعري فلم استطع النوم دون أن انهيها.
– أثارني الفضول لأسمعها.
ابتسم “حافظ” وكأنه وصل لمبتغاه:
– وأنا يثيرني الشغف لأسردها..
وكما توقع “طارق” تمامًا كانت القصة بها لمحة دينية, بل محورها الأساسي عن الدين..
– سأسرد عليك القصة باختصار قدر المستطاع حتى لا يصيبك الملل..
وقد كان “حافظ” يحرص دومًا على ألا يمل “أدريان” من سمع أحاديثه وقصصه كي يكون متشوق كل مرة للاستماع جيدًا..
– القصة عن ثلاثة أشخاص كانوا يمشون فأمطرت عليهم السماء فاضطروا للجوء إلى غار، وبعد دخولهم إليه تدحرجت صخرة وسدّت فم الغار وحبستهم داخله، فراحوا يفكرون بحل يمكّنهم من الخروج، فأشار بعضهم إلى بعض بالتوسّل إلى الله تعالى ببعض أعمالهم الصالحة التي فعلوها، لعلّه يُفرّج عنهم بسبب هذه الأعمال…
فدعا الأول ربّه وتوسّل إليه بأنّه كان لديه والدان كبيران ولديه زوجة وأولاد صغار، ويعمل في رعي الغنم، وكان حين يعود بالغنم إلى مكان مبيتها يحلبها ويأتي بالحليب لأهله وأولاده، فيبدأ بسقي والديه قبل أطفاله، ولكنّه تأخر ذات مرة بالعودة، فلمّا جاء بإناء الحليب وجد والديه قد ناما، وظل أولاده مستيقظين ينتظرون أن يسقيهم، ولكنّه كره أن يوقظ والديه ويزعجهما من نومهما، ولم يرغب أيضًا بأن يسقي أولاده قبل أهله, فظلّ على هذه الحال حتّى طلع الفجر، والأطفال يصيحون من الجوع ويطلبون الحليب حتى استيقظ والديهِ، وبعد ذكره لعمله هذا دعا الله تعالى أن يُفرّج عنهم فرجة يرون منها السماء، إن كان يعلم أنّ عمله هذا كان ابتغاءً لوجهه، فاستجاب الله تعالى دعاءه وانزاحت الصخرة قليلًا ورأوا السماء, ومعنى هذا أن عمله كان صالحًا وتقبله الله منهُ..
ذكر الآخر عملَا صالحًا قام به؛ وهو أنّه كانت لديه ابنة عم وكان يحبّها كثيرًا ويرغب بها، وقد طلب منها أن يُعاشرها بغير زواج فأبت ذلك حتّى يُعطيها مئة دينار، فجمع المال بجهدٍ وتعب وأتاها به، فلمّا أقبل للفعل، قالت له: “يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم إلّا بحقّه”، والخاتم كناية عن البكارة، أي لا تفعل هذا بزنا وإنّما بزواج، فقام عنها، وبعد أن ذكر عمله هذا توسّل إلى ربّه بأنّه لو كان فعل ذلك ابتغاءً لوجه الله الكريم فليفرّج عنهم، فانزاحت الصخرة أكثر وتوسّعت الفتحة, لأنه اتقى الله ولم يفعل ما يغضبه حتى وإن تراجع في اللحظة الأخيرة, فقد تقبل الله منه….
قال الثالث إنّه استأجر عاملًا، وكان الأجر كمية معينة من الأرز، فلمّا أتّم الأجير العمل طلب الأجر وعندما دفعه إليه صاحب العمل لم يعجبه وتركه وذهب، فقام الرجل بزراعة ذاك الأرز وأنتج خيرًا كثيرًا وجمع منه بقرًا ورعاها، ثمّ عاد العامل وطلب أجره وناشده بتقوى الله وعدم الظلم، فقال له اذهب إلى تلك البقر وخذها فإنّها لك، فظنّ العامل أنّه يقول ذلك استهزاءً به، فأكّد له أنّ هذا هو الصدق وأنّ البقر له، فأخذها ومضى، وتوسّل الرجل إلى ربّه بعمله الصالح هذا أنّ يُفرّج عنهم ما بقي، فاستُجيب له، وهذا من رحمة الله بعباده وأُزيحت الصخرة بالكامل وخرجوا من الغار.
قطب طارق ما بين حاجبيهِ بعدم فهم يسأله:
– وما مغزى القصص الثلاث؟
ابتسم له “حافظ” وقد نجح في إثارة فضوله, ليخبره:
– المغزى, هو أن كل ما يُفعل ابتغاء رضا الله مقبول ويجازيك الله عليه, فالرجل الأول لم يعطي اللبن لوالديهِ كل يوم غصبًا أو من باب الواجب بل ليرضي الله حتى أنه لم يستغل فرصة نومهما في أخذ حصتهما من الطعام, بل فضلهما على أولاده, وخشى أن ينهي الأولاد الطعام وحين يستيقظا لا يجدان ما يسدا بهِ جوعهما فانتظر, والثاني والثالث مغزاهما أن الله يقبل العمل الصالح حتى وإن سبقه طالح, فالثاني كانت نيته سوءً وكان سيرتكب كبيرة من الكبائر لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة ليرضي الله, وقبل الله عمله, والثالث لم يعطي الأجير حقه في أول الأمر, ولكن بعد ذلك أعطاه حقه مضاعف, وتقبل الله عمله… المغزى أن الانسان مهما اخطأ فيمكنه اصلاح خطأه وسيتقبل الله منه.
هز “طارق” رأسه مبتسمًا وقد فهم مغزى قصته.. فالإنسان مهما اخطأ يمكنه إصلاح خطأه, والله سيتقبل..
*******
وليلاً على العشاء وفي منزله..
تساءلت “هاجر” وهي تتناول طعامها معه:
– صاحبك حكالك قصة النهادرة؟
اومأ مبتسمًا:
– اكيد, حافظ مستحيل يعدي يوم من غير ما يحكي قصة, أو يتكلم في حاجة تخص الدين.
وبعد انتهاء الطعام…
أمام المدفأة الصغيرة الموجودة في صالة المنزل, جلسا على كرسيان متجاوران, بين أيديهم قدح من الشاي الساخن, وابتسمت وهي تقول:
– احكيلي القصة.
وبحماس كان يبدأ:
– بصي يا ستي, القصة عن تلاته كانوا ماشيين والسما مطرت عليهم….
وهي أصبحت شغوفة للاستماع لقصص “حافظ” وأحاديثه, فهي تثير بداخلها مشاعر جميلة وترسخ بها قيم ومعتقدات أجمل, والأمر بالمثل معه، حتى أنهما أصبحا يؤديان صلاتهما حتى وإن كانت متقطعة لكنهما يجاهدان..
******************
في منزل شقيقه “محمد” جلس “دياب” يتناول طعامه بعد أن أصر عليهِ شقيقه أن يأتي لتناول الغداء معهم لليوم الثاني على التوالي, قالت “رقية” زوجة “محمد” وهي ترى “دياب” يقلب في طعامه بشرود:
– عرفت ليه يا محمد أخوك مبيحبش ييجي ياكل عندنا, عشان اكلي مبيعجبوش.
رفع “دياب” رأسه منتبهًا لحديثها, ليقول بنفي:
– لا ابدًا, تسلم ايدك الاكل حلو.
ابتسمت له بحنان وهي تقول:
– ولو حلو مبتاكلش ليه؟ عمال تقلب في الاكل من وقت ما قعدت.
ترك الملعقة ورجع بظهره مستندًا على الكرسي يقول بارهاق:
– انا قولت لمحمد إني مليش نفس وهو اللي أصر.
وهذه المرة قال “محمد” معترضًا:
– عشان كده مينفعش, أنتَ مش شايف بقيت عامل ازاي؟ وشك مرهق ومصفر, وجسمك تعبان وتايه ومش مركز, أنتَ عاجبك حالك كده؟ عاوز تقطع الاكل كمان؟
تدخلت “رقية” في الحديث تقول بعقلانية:
– مهو لو الاكل اعتبرناه تبع حزننا ونفسيتنا وظروفنا يبقى هنقع من طولنا, الأكل ملوش علاقة بالحزن ولا بالظروف, لازم تضغط على نفسك وتاكل يا دياب عشان صحتك.
– أنا اكيد مش مانع الأكل, بس كل الحكاية مليش نفس.
عقب “محمد” متفهمًا:
– عارف, وفاهمك, الواحد وهو مخنوق او زعلان بيحس الأكل بيخنقه اكتر ومبيتبلعش, لكن مش لازم تستسلم للاحساس ده.
تنهدت “رقية” سائلة:
– هو لسه مفيش جديد عن رنا؟
نفى برأسه مجيبًا باختناق:
– اهو الدكاترة مستنينها تفوق في أي وقت.
– إن شاء الله هتفوق وهتبقى زي الفل.
أمن على دعائها وهو ينظر لصغيره المندمج وبشدة مع أولاد شقيقه, حتى أنه لم يعد يسأل عن والدته مثل الأول, فهو في سن صغير وسهل الهائه, واولاد شقيقه خير من فعل هذا..
نهض عن الطاولة قائلاً:
– تسلم ايدك يا رقية, أنا همشي أنا عشان عندي شغل في الشركة.
نهض “محمد” هو الآخر ناظرًا لساعة الحائط وقال:
– تمشي ايه! ده باقي ربع ساعة على صلاة العصر, خليك ننزل نصليها جماعة وبعدين امشي.
اومأ برأسه موافقًا ولم يستطيع الاعتراض, ونهضت “رقية” تقول:
– هعملكوا شاي تشربوه على ما الأذان يأذن.
طلب منها “دياب” بأدب:
– لو مش هتعبك معايا ياريت قهوة عشان حاسس بصداع.
– وأنا زيه يا رقية.
قالها “محمد” لتجيبهما:
– من عنيا.
اتجها للجلوس في شرفة المنزل, ومن الطابق الثاني أخذ “دياب” يتابع المارة بعقل شارد مهموم, ليستمع لصوت “محمد” يقول فجأة:
– في كتاب اسمه التوابين, قريت فيه مرة عن قصة لجندي, الجندي ده بيقول انه شاف حية داخلة جحرها فمسكها عشان يقتلها فعضته من ايده فايده انشلت , وعدى وقت طويل ومن غير سبب ايده التانيه صابها الشلل, ورجله كمان صابها رجفة غريبة, وبعدها اتعمي وبعد كده اتخرس….
قاطعه “دياب” نازقًا:
– خلاص يا محمد, هو أنا ناقص!
ضحك “محمد” بخفوت وهو يقول:
– استنى بس اكملك, المهم فضل سنة كاملة على الحالة دي, والحاجة الوحيدة اللي كانت سليمة فيه, تقدر تقولي هي ايه؟
رد مستهزأً:
– هو فيه حاجه سليمة؟
اومأ مجيبًا:
– أه, السمع, لسه بيسمع متقلقش..
أردف بالأخيرة ضاحكًا بخفوت, ليبتسم “دياب” على أثره, فيكمل:
– المهم بقى يسمع اللي مش عاوز يسمعه وهو مش قادر لا يتكلم ولا يشاور ولا يعمل أي حاجة, وبقى اللي حوليه يشربوه وهو مرتوي, ويسبوه وهو عطشان, ويأكلوه وهو شبعان, وميسألوش عنه وهو جعان ..
– استغفر الله العظيم.
رددها “دياب” بصوت عالي حانقًا ومسح وجهه بكفيهِ, ليقول “محمد” مبتسمًا:
– اصبر بس هي في الاخر مش نكد كده, المهم بعد سنة كاملة من الوضع ده, جت ست لمراته, وقالتلها هو لا عايش فيفيدك بحاجة, ولا ميت فتخلصي وتتحرري منه, وطبعا هو سمع كلام الست فوجع قلبه وحس انه بقى حمل على اللي حوليه فقضى الليلة كلها يعيط ويدعي ربنا يكتبله الراحة واللي فيه خير له, إن كان موت أو شفاء, وسبحان الله بعد دعاء ليلة كاملة لربنا بدموعه صحي تاني يوم ولا كأنه كان تعبان أصلاً..
ردد “دياب” بهمس:
– سبحان الله.
ربط “محمد” على منكبه برفق يقول:
– اصبر يا دياب وربنا هيجازيك خير وهيشفيلك مراتك, بس كله بأوانة.
اومأ برأسه وهو يقر:
– أنا مببطلش دعا ليها, ومن يوم ما قلتلي على الصدقة وأنا يوميًا بخرجها بنية شفائها.
– وعامل ايه في الصلاة؟
أجابه مبتسمًا بتوتر:
– بحاول انتظم.
ابتهج “محمد” قائلاً:
– طب ما ده كويس، ربنا يكتبلك الهداية ويرضى عنك، وانا هديك كتابين من عندي تقرأهم وقت فراغك وهيخففوا عنك كتير صدقني.
– يــــارب..
رددها من كل قلبه, يرجو الله أن يهديه, ويأخذ بيده لينتشله من الضياع, فلعلك لا تهدي من أحببت, لكن بالطبع الله يهدي من يشاء.
***********
فيلا مراد وهدان…
عادت من جامعتها “جامعة بدر” لتدلف لغرفة شقيقها أولاً, فوجدته جالس أمام مكتبه يراجع بعض دروسه, اقتربت منه مبتسمة تقول:
– حبيب قلبي عامل ايه؟
رفع رأسه لها وبادلها الابتسامة يجيب:
– الحمد لله, لسه راجعة من بره؟
اومأت برأسها لتجلس مستندة على مكتبه وهي تجيب:
– بجد مشوار الجامعة ده بعيد اوي.
– عشان كده مبتروحيش غير مرتين في الأسبوع؟
اومأت تجيبه:
– هو اه بُعدها سبب, بس بردو عشان مكان غريب عليا ولسه مكونتش صدقات, وطبعًا دفعتي كلهم أصغر مني بسنتين.
هز رأسه متفهمًا:
– يعني انا فاهم ده, بس اللي مش فاهمه ليه تروحي مع فريال جامعتها؟ وتحضري محاضرات فرقتها وهي اصلاً في سنة تالتة!
– عشان اخد على الزحمة وجو الجامعة عمومًا, ده أولاً, ثانيًا بقى عشان الفترة اللي فاتت مكنتش بحب اقعد في البيت لوحدي, مراد وطنط مش هنا, وأنتَ طول الوقت يا بتذاكر يا في دروسك أو المدرسة, فكنت بروح معاها اسلي وقتي.
ابتسم يقول بمكر:
– اممم, وأبيه مراد راجع بكره فطبعًا مش هتروحي مع فريال تاني؟
ابتسمت تجاوب:
– أصلاً فريال هتمشي من هنا وهيكون طريقها غير طريقي فمفيش داعي اروح معاها.
– طيب ممكن اطلب من أختِ حبيبتي طلب؟
لوت فمها متشدقه بقلق:
– ربنا يستر, الدخلة دي وراها حاجة مش ولابد, بس قول.
نهض ليصبح أمامها وقال:
– رحلة, بس مش تبع المدرسة, وبعترف اهو عشان متقوليش بكدب عليكِ, صحابي حابين نطلع يوم اسكندرية صد رد كده بس تغيير جو من المذاكرة.
رفعت حاجبها ساخرة:
– من المذاكرة! ده انتوا لسه بادئين مدرسة من شهر, لحقتوا تتخنقوا من المذاكرة؟
– وبادئين دروس من شهرين ونص, بعدين يا حبيبتي اخر الشهر ده امتحانات الميد الأول ومذاكرة للامتحانات وخنقة, وبعد كده هتلاقي الترم جري وملاحقناش نخرج.
صمتت تفكر قليلاً ثم قالت بلؤم:
– هشوف مراد كده واعرفك.
رد سريعًا دون قصد:
– لا مانا كلمته وقولتله وهو معندوش مانع.
أشاحت بذراعيها بسخرية غاضبة:
– طبعًا, كنت متأكده إنك قايله هو الأول, وإلا مكنتش جيت قولتلي, هو أنا قراري تحصيل حاصل؟
اقترب مقبلاً وجنتيها بمزاح وهو يقول:
– متقوليش كده, ده أنتِ أختي…حبيبتي…وروح قلبي.
وحينما ابتعد لا تعلم ما أصابها, لكنها شعرت بضيق لأول مرة تشعر بهِ من قربه, استقامت في وقفتها وقالت بتوتر وجسد متشنج:
– خلاص يا مصطفى, روح مادام مراد موافق, بس لازم الحراسه تكون معاك زي ما مراد قايلنا, محدش فينا يخرج من غيرهم.
والمبرر أن له أعداء في مجال عمله بالشركة ويخشى أن ينالوا من أحدهم للضغط عليهِ بأي وسيلة كانت ولأي سبب كان.
احتضنها بفرحة وهو يردد:
– ربنا يخليكِ ليا.
رفعت ذراعيها ببطء حتى أحاطته وقالت بهمس:
– ويخليك ليا يا حبيبي.
ابتعدت هي عنه أولاً وقالت بابتسامة متوترة:
– كمل مذاكرة بقى, هروح اغير هدومي عشان شوية ونتغدى.
وخرجت مغلقة الباب خلفها, لتستند عليهِ وملامحها قد عبست بينما تردد لذاتها باستغراب:
– أنا ايه اللي بيحصلي ده؟ هو كلام مراد أثر عليا ولا ايه؟
دومًا يذكرها بعدم أحقيتها في القرب منه، ويغضب إن حدث أمامه، ويحذرها من البقاء معه فى غرفته، هو واثق بها وواثق أن مصطفى لن يتخطى حدوده فهى بالنسبة له شقيقته، لكنه يحترق من قربه منها وتلامسه معها، والغيرة تقتله، فقد كان يغير حين يقترب منها وهو يدرك أنه شقيقها فماذا عن الآن؟!
نفضت رأسها من أفكارها الغريبة واتجهت لغرفتها بإرهاق, فتحت الباب ودلفت تلقي حقيبة يدها فوق الكرسي المجاور وتبعها حذائها الذي خلعته للتو, توقفت فجأة ترمش بأهدابها باستغراب, تشعر برائحته تعبأ أرجاء الغرفة! وتشعر بأنه قريب! التفت حولها تتفحص الغرفة بأكملها لتجدها فارغة, لكن كيف؟ فهي ظلت تشتم رائحته بالغرفة لأيام قليلة بعد سفره ثم اختفت تدريجيًا لغيابه, كيف عادت الرائحة بهذه القوة؟ ولِمَ يخفق قلبها هكذا؟
– يكون مصطفى حط من البرفيوم بتاعه؟
هذا تفسير منطقي للرائحة, تفسير اغضبها وستتحدث معه في الأمر فان احتاج لعطر ليشتري واحدًا ولكن لا يضع من عطره، لكن ماذا عن الخفقات؟ ارتمت فوق الفراش بإرهاق, فارده جسدها فوقه, وقطبت ما بين حاجبيها مستغربة وهي مغلقة العينين:
– هو متصلش بيا ليه؟
وكانت من عادته أن يهاتفها فور عودتها للمنزل للاطمئنان عليها, هل نعست؟ لا تعلم لكنها تشعر أنها ربما غفلت لبضع ثواني أو دقائق! حتى شعرت بشيء يجثم فوقها, رغم عدم تلامسها بهِ, تشعر بأنه حجز الهواء عنها, تسارعت دقات قلبها أكثر وابتلعت ريقها بقلق, لربما تتخيل! فتحت عينيها ببطء لتتسع رويدًا حين أبصرته, وجهه أمامها وابتسامته الساحرة تزين ثغره مظهرة الغمزاتين المزينتين لوجنتيهِ, وتلقائيًا وجدت نفسها تردد بفاه مفتوح:
– أنتَ ايه اللي طلعك فوق؟
تحولت بسمته لضحكة مجلجلة لم يتوقع ابدًا رد فعلها هذا, ثم هدأ قليلاً وقد ادمعت عيناه من الضحِك:
– أنتِ ايه اللي نزلك تحت؟
وللتو استوعبت وجوده! ادمعت عيناها بفرحة وهي تردد بدهشة طفيفة:
– أنتَ رجعت؟
اومأ برأسه مؤكدًا ليميل عليها دافنًا رأسه في تجويف عنقها يلتمس وجودها بعد غيابها عنه لثلاثة وستون يومًا, وفورًا رفعت ذراعيها تحيط جسده بقوة وقد سندت ذقنها فوق كتفه وتمتمت بصدق وعاطفه قوية:
– أنتَ وحشتني اوي.
نهض عنها ليصبح جالسًا فوق الفراش, وأجلسها على فخذيهِ ليعاود احتضان جسدها بقوة هذه المرة وهو يقول بنبرته الحنونة, العاشقة, التي اعتادت سماعها منه:
– مش أكتر مني يا ضيّ, أنا قلبي مكانش بيتنفس وهو بعيد عنك, كنت عامل زي العيل التايه من أمه, تخيلي احساسه لما يلاقيها ويرجعلها!
أبدًا لن تستطيع مجاراته, ابدًا لن تصل لتعبيراته ووصفه لمشاعره تجاهها, لكنها تحاول, فقالت بهمس:
– كنت بقوم من النوم بحس إني منمتش عشان مش نايمة في حضنك, وطول الوقت كنت حاسه بحاجة نقصاني, وكل حاجة بعملها كان ناقصها أنتَ.
احتوى رأسها بكفه العريض مملسًا على خصلاتها برتابة, وقال:
– خلاص يا حبيبتي عمري ما هبعد عنك تاني.
وظل الوضع كما هو لعشر دقائق, لم تبتعد وهو لم يتحرك, والصمت سائد, صمت جعلها تطمئن وترتاح فلم تشعر بنفسها وهي تنعس على هذا الوضع, شعر بنفسها المنتظم ليدرك نومها, فتحرك بهدوء ليضعها فوق الفراش ناظرًا لوجهها وملامحها التي اشتاقها بحنان, رغم أنه لم ينفك عن محادثتها عبر الفيديو لكن الواقع أمر آخر, فك حجاب رأسها بهدوء كي لا يزعج نومها, ووضعه جانبًا, وعدل من وضع جسدها فوق الفراش ثم تسطح جوارها ليجذبها له واضعًا رأسها فوق صدره بلطف فتململت تفتح عيناها وتهمس:
– مراد..!!
أجابها فورًا وهو يمسد فوق شعرها دافعًا رأسها ليستقر فوق صدره:
– أنا هنا يا حبيبتي نامي.
عدلت رأسها لتصبح مستندة على كتفه ودفنت وجهها في تجويف رقبته ويبدو أنها وجدت راحتها هنا, ليسمع همهمة بسيطة صدرت منها قبل أن تستكين وقد وضعت إحدى ذراعيها فوق بطنه, حرك رأسه قليلاً مقبلاً جبهتها بحب, قبل أن يعود لوضعه مغمض عينيه فهو الآخر لم يجد في نومه راحة بعيداً عنها, وبداخله يرجو الثبات وأنفاسها تصطدم بعنقه وجانب وجهه هكذا فقط حتى تفيق, وبالطبع بعدها لهما لقاء..!
******************
في أحد سجون القاهرة…
دلف لغرفة الزيارة بعد أن أخبره العسكري بقدوم أحد لزيارته, رفع رأسه بعد أن وقف على باب الغرفة ينظر للزائر, لتجحظ عيناه وهو يردد بصدمة:
– ليلى!!
والصدمة ليست من وجودها فهو قد توقع قدومها يومًا ما, الصدمة كانت أن ليلى أمامه تقف بكل ثبات دون الحاجة لكرسي أو شيء تستند عليهِ, بعد ثلاثة عشر عامًا عاد ليراها تقف مرة أخرى على قدميها!
اقترب منها يقول بابتسامة غير مصدقة:
– رجعتِ تمشي؟
بدت مختلفة تمامًا, لم تبدو “ليلى” الأم, المريضة, المنكسرة, بل بدت أخرى, أصغر سنًا, وبصحة جيدة, وقوة غريبة!
التواء بسيط في ثغرها يشبه الابتسام وهي تقترب منه وكعب حذائها يصدر صوتًا يطن أذنه, وقفت على بعد قريب منه, وبنظرات ثابتة ونبرة قوية قالت:
– رجعت امشي, بسببك بقيت مشلولة ومحرومة من الحركة, وبسبب ابني رجعت امشي من تاني.
نظرت له من أعلاه لأسفله عدة مرات قبل أن تقول بتقييم زائف:
– شكلك يجنن في اللون الأحمر يا حبيبي.
وقد قصدت باللون الأحمر, البدلة الحمراء المخصصة للإعدام…!!
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بك أحيا)