رواية بك أحيا الفصل الثاني والخمسون 52 بقلم ناهد خالد
رواية بك أحيا الجزء الثاني والخمسون
رواية بك أحيا البارت الثاني والخمسون
رواية بك أحيا الحلقة الثانية والخمسون
الفصل الثاني والعشرين “نكبة أخرى”
الحصان والبيدق
ناهد خالد
” لا يهمني اسمك، نسبك، أصلك، دمك! فجلَ ما يهمني.. قلبك و روحك و كونك أنتِ من أحببت، بغض النظر عن نكبات القدر و…. أي تداعيات أخرى”
ورغم حيرته والأفكار التي تعصف برأسه لفِهم الحقيقة، لكنه لم يحبذ الضغط عليها أكثر، وهو يرى خوفها وحالتها النفسية السيئة، أحاطها بذراعيهِ يرفعها لطوله بين أحضانه وهمس في أذنها:
_ ميهمنيش اسمك ولا حقيقتك… المهم إنك حبيبتي اللي قلبي مغلطش فيها وعرفها من أول نظرة، ميهمنيش غير إنك حبيبة عيوني وكل ما ليا، مش مهم أي حاجة تانية.
وما زادها حديثه إلا بكاءً وهي تشدد من احتضانه كأنها ولأول مرة تريد أن تدلف لداخله لو تستطيع…!
هدأ بكائها فانزلها برفق ورفع كفه يربط فوق رأسها بحنو قبل أن يوجه حديثه ل “حسن” الواقف يطالعهما بغيظ ومقت لرد فعل “مراد” الذي لم يتوقعه، هتف وهو ينظر لها لم يكلف نفسه عناء النظر إليهِ حتى:
_ تمام يا بابا، عرفتني الحقيقة وعملت اللي عليك…
حول نظره له وهو يكمل بابتسامة باردة:
_ تقدر تمشي أنتِ بقى عشان في أمور حابب اتناقش فيها مع مراتي… لوحدنا!
ضغط على حروف كلمته الأخيرة، ليجز “حسن” على أسنانه وهو يدرك معنى حديثه، “مراد” لن يتخذ أي رد فعل سلبي تجاه ما علمه، والأمر لم يشكل فارق معه، لن يثور عليها، ولن يتهمها بخداعه، لم يفلح في التوقيع ونشب النيران بينهما كما ظن، رسالة واضحة وصريحة من الثعلب الصغير للثعلب الكبير… رسالة فهمها فورًا فهز رأسه وهو يقول بغل واضح:
_ ماشي يابن وهدان… بس خد بالك بدأت تخيب، أدتك على قفاك مرة وده رد فعلك، استنى بقى القلم الجاي منها.
ورغم برود “مراد” وهو يستقبل ما يسمعه، وعدم تغير ملامحه ولو بلمحة واحدة، لكنها لم تهدأ، أدركت أن “حسن” لن يهدأ ابدًا حتى يفتعل الوقيعة بينهما ويطردها من حياة ابنه للأبد، وهذا ما جعلها تشتعل غضبًا ويظهر جانبها الخفي.. جانبها الذي دومًا رفض أن تتعرض للظلم أو التهديد بأي شكلاً كان، ظهر الآن محتميًا ومتقويًا بالواقف بجوارها، لتحتد ملامحها وهي تراه يرحل، فتوقفه بصوتها الثابت:
_ على فين يا حمايا، مش تستنى لما اقول اللي عندي!
وقف “حسن” ينظر لها بشرار يتطاير من نظراته، لكنها حقًا غير آبهة، ونظرته المحذرة، لم تفرق معها، وابتسمت بسخرية وهي تقول وعيناها مسلطة عليهِ:
_ مش زي ما قولت حقيقتي واللي تعرفه، اقول أنا كمان اللي اعرفة واللي أنتَ عملته..
_ أنتِ بتخرفي تقولي ايه؟ متحاوليش تهربي من عملتك بكلام فارغ…
في محاولة منه للتغطية على ما تريد قوله وإرهابها، وهي أدركت… فابتسمت بهدوء وهي تخاطبه:
_ أنتَ عارف انه مش كلام فارغ، مين طلب مني زمان ابعد عن هنا… مين طلب مني اهرب عشان لو فضلتِ ” مراد هيقتلك زي ما قتل اختك”… ” مراد عنده مشاكل نفسية، يمكن متفهميش الكلمة عشان لسه صغيرة، بس هو ممكن يقتلك عادي ومن غير ما يحس”…. ” لو عاوزه تعيشي يبقى لازم تهربي من هنا وإلا أنا مش مسؤول عن اللي هيحصلك”…
رددت الثلاث جمل وهي تحاول تقليد صوته، مستدعيه ذكرياتها القديمة المقيتة، اقتربت خطوات منه، وهدر صوتها عاليًا ودموعها تنزل بغزارة، كالغيث بعد الجفاف:
_ انا كنت طفلة، ٨ سنين… مش طبيعي افتكر كلامك، لكني منستش لحظة كل حرف قولته، عارف ليه عشان المواقف اللي بتعلم فينا عمرنا ما بننساها…
اتسعت عيناها فجأة بادراك، وفغر فاهها بشكل مريب، وصمتت… لثواني، قبل أن تصرخ بهِ:
_ أنتَ… أنتَ السبب الحقيقي في معناتي.. أنتَ الكابوس اللي كان بيطاردني كل السنين اللي فاتت، أنتَ اللي اقنعت طفلة انه قاتل ومريض، أنتَ اللي كرهتني فيه وخليته زي الشبح في ذاكرتي، أنا… أنا مخوفتش منه غير بعد كلامك… أنا يمكن كنت خايفة طبيعي بعد اللي حصل وكانت حالتي مش كويسة بس.. بس مكرهتوش، انا كنت شايفه انه مش قاصد، كنت شايفه اننا غلطانين مش هو بس، لكن بعد كلامك دخلت عقلي انه كان قاصد وانه هو بس المذنب، كلامك حسسني بالذنب اكتر اني عرضت اختي لمريض زيه بجملة عفوية مني له وانا بشتكيله انها بتضربني… انا كنت طفلة عمري ما افكر اهرب ولا افكر انه ممكن يقتلني.. لاني ببساطة كنت مقتنعة انه مكانش قاصد…
نظرت خلفها ل “مراد” الصامت، والهادئ بشكل مريب، عيناه ثابتة عليهما فقط، لم يتفوه بحرف، ولم يظهر على ملامحه أي رد فعل… كالعادة! حركت رأسها يمينًا وهي تبكي بشهقات تعالت في اللحظة:
_ مكنتش أنتَ سبب تعبي وهلاوسي، لو كنت فضلت معاك ومسمعتش كلامه وهربت مكنتش هبقى كده، مكنتش هبقى مريضة نفسية بتعالج، ولا كنت هكرهك واشوفك عدوي… انا دلوقتي بس فهمت جملة الدكتور لما قالي مرة دوري على السبب الحقيقي لكل اللي أنتِ فيه… دوري على الشخص اللي أذاكي فعلاً مش مجرد شماعة بتعلقي عليها اللي حصلك… هو…
التفت تنظر ل “حسن” مرة أخرى وهي تصرخ بهِ:
_ أنتَ اللي أذتني… أنت المؤذي الحقيقي في حكايتي..
شعرت بذراعه يحاوط كتفها يرجعها برفق للخلف لتبتعد اكثر عن “حسن”، ووقف هو أمامه بجمود ملامحه ونبرته حتى نظرته وببطء قال:
– شوف وراك ايه يا بابا متعطلش نفسك.
والواقفة خلفه اتسعت عيناها ذهولاً وهي تسمع حديثه، ألم يصدقها، ورددتها بصوتٍ عالٍ متسائلة:
_ أنتَ… أنتَ مصدقتنيش؟
التف برأسه فقط لينظر لها من فوق كتفه وقال بهدوء:
_ أيًا كان اللي حصل زمان فهو حصل، المهم إنك معايا دلوقتي… ومعتقدش في داعي انكوا تفتحوا في القديم..
قال جملته الأخيرة وهو يعاود النظر ل “حسن” الذي طالعه بشك وعدم ثقة في موقفه، لكنه وعلى مضض هز رأسه ونظر لها مرة أخيرة بكره واضح، قبل أن يقرر الانسحاب.. وقبلها مالَ عليهِ “مراد” برأسه يهمس له:
_ مخلصتش….
فقط وعاد لوقفته يبتسم بهدوء، حتى ظن “حسن” لوهلة أنه اخطأ السمع… لكن نظرت الأخير أكدت له صحة ما سمع… فقد كانت هادئة هدوئة المخيف..
__________________
وصلوا لشقة “باهر” الخاصة…
وبعد تناول عشاء خفيف أحضره “باهر” في طريقه، اتجه كلاً منهم لغرفته ليستريح من عناء اليوم، وكان من الطبيعي أن يكون الوضع ل”باهر” و “جاسمين” على النحو التالي، كلاً منهما سيبيت ليلته في غرفة منفردة، حتى يتوصلا لحل أخير… إما البعد إما…
استمع لدقات خافتة فوق باب غرفته والتي يبيت فيها لأول مرة تاركًا غرفتهما الرئيسية، فحتى بعد انفصالهما المؤقت لم يبرحها أبدًا شاعرًا بوجود رائحتها وروحها فيها، علم من دقاتها أنها هي.. فمن سيأتيه غيرها بعد أن خلد الجميع للنوم!
أخذ نفسًا عميقًا… عميقًا جدًا، قبل أن يرتدي قميصه العلوي ويتجه لفتح الباب، فتحه ليجدها أمامه، كما توقع تمامًا، كانت نظراتها هادئة وطبيعية وهي تطلب منه برفق:
_ ممكن نتكلم؟ أنا مش هعرف اقضي الليلة عادي كده قبل ما نتكلم.. مش هرتاح!!
_ تمام تعالي نتكلم في الصالة..
وكان تنبيهًا منه لعدم أحقيتهما للمكوث سويًا في غرفة مغلقة، ولكنها تجاهلت تنبيهه، ودفعته ليبتعد عن طريقها وهي تدلف للغرفة متجهة للأريكة الموجودة بها وجلست فوقها براحة تحت نظراته المندهشة!
وببراءة بررت:
_ نقعد في الصالة ونزعج النايمين بصوتنا! الناس جاية ترتاح عندنا يومين نقلقهم؟
تنهد وهو يتجه لها يشاركها الأريكة بصمت، ظلت تنظر له لدقائق لا تعرف كيف تبدأ بالحديث، وفجأة اختنق صوتها وهي تقول كأنها لا تحدثه هو بالعنية:
_ أنتَ حبتني؟ ولا حبك اللي كنت بتتغنى بيه كدب؟ أصل لو حبتني مكنتش سبتني بالسهولة دي!
ابتسمت بألم ساخر وهي تكمل:
_ ده ناناة كانت بتحكيلي عن عمي، وقد ايه حارب الدنيا عشان حبيبته، لدرجة انه خسر اهله عشانها! أنتَ خسرت ايه عشاني؟
نظر لها بجانب عيناه يخبرها بكلمة واحدة تعني الكثير:
_ خسرتك.
نظرت له بدموع عينيها:
_ مين طلب منك تخسرني؟ ولو خسرتني، فأنت متحدتش حد عشاني.. حاربت مين؟ حاربت نفسك يا باهر؟ اللي وزتك تبوظ حياتنا! حتى دي محاربتهاش.
سألها بنبرة لائمة:
_ وأنتِ؟ حاربتي نفسك؟ اللي خلتك تفكري في…
_ فكرت.. أنتَ قولتها، مجرد تفكير.. مش من حقي؟ مش من حقي افكر واشوف هرتب حياتي ازاي!؟
زفرت انفاسها المختنقة:
_ أنتَ حتى مسبتليش فرصة اثبتلك فيها إذا كنت بحبك ومتمسكة بيك تحت أي ظرف ولا لا، مفيش ست في الدنيا هتعرف إن موضوع الإنجاب صعب للدرجة اللي الدكتور قالي عليها ومتفكرش، مهما كان غلاوة جوزها عندها، أنا كنت بفكر عشان ماظلمكش معايا قبل ما اظلم نفسي.. عشان معملش فيها بطلة وبعد كام شهر اقولك مش قادرة اكمل واسحب البساط من تحت رجلك.. أنا مغلطش ولا اذنبت إني فكرت… اقولك حاجة كمان… حتى لو كنت قررت ابعد، كان ده هيبقى من حقي ومش دليل ابدًا على عدم حبي ليك.. لما واحدة مننا بتحب واحد وتتعلق بيه واهلها يرفضوا اوقات بتقف قدامهم وتخسرهم عشانه، هل ده معناه أنها مبتحبش أهلها!! مستحيل.. بس كل الحكاية انها اتمسكت في حقها انها تحب شخص وتختاره ويكون ليها… كل ست مننا جواها غريزة الأمومة.. حب بيتولد لطفل لسه متزرعش جوانا حتى، وبنتمسك بوجوده قبل ما يكون موجود، متقدرش تلوم راجل ساب ست عشان يخلف او العكس.. لأنك لو حطيت نفسك مكانه هتفكر.. وهتتردد تكمل.. ومش مقياس ابدًا للحب، هو مقياس إنك هتقدر تتنازل ولا لأ.. والتنازل في حاجة فطرية وضرورية مش رفهيات!
أتى صوته كأنه من بعيد رغم قرب المسافة بينهما، وكأنه خارج من اعماق افكاره وهو يقول:
_ محبتش احيرك، ولا احطك في موقف تحسي فيه إنك بعتيني، من قبل ما سمع كلامك وأنا كنت ناوي اعمل كده.
جحظت عيناها غير مصدقة اعتراف هذا، لتسأله بصدمة:
_ يعني كنت هطلقني حتى لو مسمعتش!!؟ اومال ليه عيشتني الأيام اللي فاتت بذنب إني السبب في اللي وصلناله! كنت اقول لنفسي إن لولا الكلام اللي ما لوش لازمه اللي قلته لخديجه في التليفون وإنك سمعتني اكيد ما كناش هنوصل للمرحله دي! اكيد كنا هنقعد ونتفاهم ونوصل لحل يرضينا احنا الاثنين!!
طفرت الدموع لعيناه رغمًا عنه وهو يقول باختناق:
_ الدكتور قالك إن الإنجاب صعب، بس اللي ما قالهوش لكِ انه مستحيل، جاسمين انا حالتي حالة عقم كامل.
لم ينظر لها طوال حديثه، فقط يستند بمرفقيه على فخذيه ورأسه منحنيه كظهره، يطالع الأرضيه الرخامية اللامعة بين قدميهِ…
جمدتها جملته لثواني لم تنكر صدمتها هي الأخرى من معرفة حقيقة حالته، كانت عائده مُحمله بالحلول والأطباء المشهورين فهذا المجال والذين بحثت عنهم في الآونة الأخيره، مقرره خوض كل الطرق لعلهم يحققان أملهما في نهاية أحدهم، والآن الوضع اختلف تمامًا هل تتراجع؟؟
_ باهر…
قاطعها ناهضًا بشبح ابتسامة ونظر لها يقول:
_ أرجوكِ، بلاش تقولي حاجة دلوقتي… فكري، فكري تاني يا جاسمين.. عشان زي ما قولتي، متاخديش قرار وبعدين تتراجعي فيه.. انا ممكن اتحمل إنك من دلوقتي تقرري الانفصال، لكن اللي مش هتحمله إنك تقبلي تكملي وبعدها ترجعي تطلبي البُعد، عشان خاطري لو بتحبيني فكري كويس بعيد عن اي مشاعر وبعيد عن حبك ليا وعن أي اعتبارات تانيه.. زي ما هتحكمي قلبك حكمي عقلك.
نهضت بدموعها تتساقط فوق وجهها، ونظرت لجانب وجهه المقابل لها لثواني بصمت قبل أن تنسحب في هدوء ويلقي هو بثقل جسده على الاريكة مرة أخرى وهو يشعر نفسه في دوامة لا تنتهي…
________________
في فيلا مراد وهدان…
انتهت من تبديل فستانها بالكاد، بعد أن ساعدها في فتح سحابه من الخلف، ارتدت منامة حريرية من اللون النبيذي بنصف أكمام ملائمة تمامًا لجسدها، خرجت تبحث عنه بعينيها لتجده يخرج فجأة من غرفة تبديل الملابس ويبدو أنه استخدم حمام آخر للاستحمام، وبدل ثيابه لبنطال وقميص بيتي بنفس اللون الرمادي، ابتسم لها ابتسامة خاطفة وهو يشير لها بالاقتراب واتجه للجلوس على الأريكة الوثيرة الموجودة في أحد جوانب الغرفة..
جلس وأصبحت أمامه الآن وما كادت تجلس على كرسي مجاور للأريكة حتى أشار لها لتجلس جواره، ففعلت، لتتفاجئ بهِ بعدها يوجه جسدها تحت استغرابها ليجعلها تتمدد فوق الأريكة ورأسها وضعه عنوة فوق فخذه وشعرها فرده خلفها لتكن أكثر راحة، لكنها قالت بتوتر بالغ:
_ انا مش حابة انام كدة…
_ ليه؟
سألها وهو يحرك أصابعه بوتيرة هادئة ومريحة بين خصلات شعرها المفرود، ابتلعت ريقها بارتباك وأجابته:
_ مش.. مش مرتاحة يعني.
ابتسم لشعوره بتوترها من وضع جديد عليها كهذا، لكنه تجاهل رغبتها وهو مستمر فيما يفعله وقال:
_ دلوقتي هترتاحي.
يبدو أنه أمر مفروغ منه!
استسلمت وصمتت رغم تخشب جسدها، واستطاع أن يجذب انتباهها وصرفه عن وضعها وهو يسألها:
_ حابة تتكلمي؟
رفعت نظرها له وكم بدت جميلة وهو يناظرها من علو هكذا، فابتسم تلقائيًا وهو يغرق في عينيها للمرة التي لا يعلم عددها… وقد شبهت كوب قهوة صُنع بمزاج رائق…
_ ولو مش حابة؟
سألته تستشف رد فعله، ليقول بصدق:
_ متقوليش.. ووقت ما تحبي ابقي اتكلمي.
_ يعني حتى لو متلكمتش دلوقتي خالص مش هتتضايق؟
حرك رأسه مصدرًا صوتًا نافيًا بحنجرته، لتتنهد بهدوء وهي تقول:
_ صدقني مش عارفة… اللي اعرفه مش هيرضي فضولك زي ماهو مرضيش فضولي.
_ سامعك.
قالها وهو يمسد بكفه على خصلاتها لتغمض عينيها محاولة عدم البكاء قدر الاستطاعة..
_ أنا… بابا لما عمل حادثة ودخل المستشفى كانوا طالبين له نقل دم.. وأنا قررت اتبرع، وقتها عملوا تحاليل ليا ولمصطفى وقبلوا مصطفى بس، فسألت الدكتور بعد ما مصطفى دخل يتبرع.. قالي انه نفس فصيلة دم بابا، وقالي لو له ابن تاني ممكن يكون نفس الفصلية فاكلمه ييجي.. وقتها استغربت، وقولتله ان ملوش ولاد غيري انا ومصطفى، لاقيته بصلي باستغراب وهو بيسألني أنتِ بنته؟ فقولتله ايوه، سكت ومتكلمش وفضل باصصلي.. حسيت ان في حاجة غلط فسألته لاقيته بيقولي أنتِ بتعتبري نفسك زي بنته يعني؟ وقتها اتضايقت وقولتله لا أنا بنته ومش فاهمه ايه الاستغراب في كده… فصيلة دم بابا مستحيل تخلف ابن فصيلة دمه زي فصيلتي… مفهمتش اوي الحوار اللي قاله وقتها.. بس فهمت ان في حاجة غلط وانه اكتشف ده من الفصايل…
بابا تاني يوم كان فاق شوية، لما دخلت اشوفه فضلت ابصله وأنا متردده مش عاوزه اسأله عشان حاسة ان ده مش وقته وفي نفس الوقت كنت خايفة.. لأني سمعت من الدكاتره ان حالته صعبة..
تهاوت دموعها وهي تكمل بنبرة متحشرجة:
_ خوفت يمشي قبل ما افهم، قبل ما يقولي لو في حاجة مخبيها عني… هو حس إني عاوزه اسأله في حاجة.. قالي اتكلم.. من وسط تعبه رغم انه مكانش قادر يشوفني كويس حتى.. وأنا اتكلمت وسألته، قولتله الدكتور بيقولي اني صعب اكون بنتك.. سألته لو في حاجة مخبيها عليا وإني من حقي افهم..
شعرت بكفه يمسح وجهها من الدموع برفق، لتغمض عيناها وهي تكمل بألم:
_ لقيته بدأ يعيط.. ووقتها حسيت ان خنجر ادب في قلبي، عرفت اني في حاجه غلط وان كلام الدكتور صح، وبعد ما هدي شوية… قالي جملة واحدة مفهمتهاش قالي ” خديجة اللي في ورق الحكومة ماتت وهي عندها شهر واحد، لكن أنتِ خديجة بنتي اللي ربيتها”… مقالش غير كده..
نهضت عن نومتها، وجلست بجواره تنظر له بينما تقول ببكاء من بين شهقاتها ونظراتها الحزينة له تقتله:
_ مقالش غير كده… معرفتش هو جابني منين، مين أهلي وليه مسألوش عني ولا مرة… بس… بس عرفت…. عرفت حاجات… تانية.. عرفت ليه ماما مكانتش بتعاملني زي سارة.. هي عمرها ما عاملتني زيها… لما سارة.. لما سارة ماتت…قالتلي هي ليه تموت وأنتِ تعيشي… أنا وقتها مفهمتش والله ما فهمت.. فكرت انها زعلانة ومقهورة.. بس حتى بعد كده كانت بتعامل مصطفى أحسن مني بكتير.. بس.. بس هو كان كويس…ازاي مش ابويا.. انا كن…
أحمر وجهها كأنها تختنق، ليقترب الخطوة الفاصلة في جلستهما يلتقط وجهها ويدسه في أحضانه وضعه على صدره وهو يقبل رأسها مرارًا وتكرارًا كأنه يعتذر بالنيابة عن كل شيء، يعتذر عن أذيتها إن كان له دخل بها أو لم يكن، يعتذر عن قسوة الحياة عليها وهي مازالت مجرد طفلة في ريعان شبابها، يعتذر عن من أذوها وأولهم والده ووالدتها… حتى شقيقتها الكبرى التي تنوح عليها لطالما أرادت أذيتها رغم صغر سنها حينها، أغمض عيناه بألم يفتك بخلايا جسده، وسؤال واحد يتردد بذهنه، ماذا فعلت هذه الصغيرة لتستحق كل هذا العناء؟؟ أنها مُدمرة بالكامل… والبقية تأتي!!
_ هششش.. بس عشان خاطري اهدي، بس يا حبيبتي خلاص اهدي… كفاية كلام متفتحيش الموضوع ده تاني ابدًا.
خرجت من حضنه تنظر له بملامحها الباكية وهي تخبره:
_ بس أنا عاوزه اعرف.. عاوزه اعرف أنا مين.. أنا مش هعيش كده.. بهوية واحدة تانية، عاوزه اعرف هو جبني من ميتم ولا لاقاني في الشارع… يعرف أهلي؟ كان يعرفهم ولا لأ؟ عاوزه اعرف أنا بنت حلال ولا….
قاطعها ناظرًا لعينيها بصدق وهو يخبرها بوعد قاطع:
_ اوعدك إنك تعرفي كل حاجة، اوعدك إني هجبلك تاريخ عيلتك كلها، وده وعد مني.. وأنا لما اوعد مستحيل ماوفيش بوعدي.. ما بالك معاكِ؟!
نظرت له بامتنان جم، وحركت رأسها واثقة بهِ، ليخبرها بابتسامة حانية:
_ ننزل ناكل بقى.. أنتِ ماكلتيش من الصبح.
هزت رأسها نافية وهي تخبره:
_ أنا محتاجه انام بس… تعبانة أوي ودماغي مصدعة.
نظر في ساعة الحائط المعلقة خلفه ليقول:
_ الساعة لسة ١١ .. خلينا ناكل بعدين…
_ كل أنتَ انا بجد مش قادرة، اليوم كان متعب أوي، غير الطريق كمان… واللي حصل من شوية.
_ خلاص يا حبيبي زي ما تحبي، أنا بس مش عاوزك تتعبي من قلة الأكل.
اتجهت للفراش وهي تخبره:
_ لما اصحى هبقى أكل.. هيروح فين يعني الأكل.
اتجه لأنوار الغرفة يطفأها، ظنته سيخرج، لتتفاجئ بهِ يجاورها فوق الفراش وهو يردد بمرح:
_ خديني جنبك بقى، لأحسن أنا كمان عضمي مفشفش.
ضحكت بصدق وهي تعقب:
_ اومال عامل فيها جامد وناكل الأول وبتاع!
_ عشانك.. أنا اصلاً مبيفرقش معايا الأكل.
مد ذراعه يجذبها برفق لتنام فوقه ورأسها قريب من صدره بينما استند برأسه على رأسها، ليسمعها تناغشه:
_ ليه بتخزن الأكل زي الجمل؟!
ابتسم بخفة يجيبها:
_ بتقولي فيها؟ على فكرة انا عندي بنيان قوي ولما فضل فترة مباكلش جسمي بياخد طاقته من مخزون العضلات، لكن أنتِ مش هتلاقي عندك مخزون عضلات أصلاً.
ابتسامة صغيرة نبتت على شفتيها قبل أن تغمض عيناها مستسلمة لسلطان النوم… وبعد دقائق كان يلحقها هو الآخر..
_____________
اليوم التالي….
العاشرة صباحًا..
استيقظ منذ ساعتين، تسلل من جوارها بهدوء كي لا يزعجها، وأخذ حمامه وغير ثيابه لثياب رياضية أكثر ونزل لاسفل، قابل “ليلى” ليلقي عليها تحية الصباح، وسألته بقلق عن أحداث أمس ليطمئنها بكلمات مقتضبه، فهمت منها أنه لن يخوض في تفاصيل، جلس معها قليلاً ليجد “مصطفى” ينزل ومعه حقيبته فقد كان موعد مدرسته، تحدث معه قليلاً ثم سمح له بالانصراف، وبعدها ذهب للركض حول فناء الفيلا الواسع، يخرج شحنة غضبه الكامنة فيهِ منذ أمس ولم يستطع إخراجها..
وبعد ساعة توقف أخيرًا عائدًا للمنزل، ليصعد للغرفة مرة أخرى ليستحم ويغير ثيابه التي بللها العرق من فرط المجهود.. وبعدما فعل، خرج يقف في شرفة الغرفة ملتقطًا هاتفه يحدث شخص بعينه…
_ غسان…
أتاه الرد على الجهة الأخرى من شخص ذو نبرة خشِنة، وجادة لحد كبير:
_ أؤمر يا بوص…
زفر “مراد” حانقًا:
_ قولتلك مية مرة بلاش بوص دي! بتحسسني إني زعيم عصابة ولا قتال قتلة!
أتاه رد الأخير المتسرع بلهفة:
_ متقولش كده يا باشا احنا وش ذلك برضو!
ضرب سور الشرفة بقبضته عدة مرات في وتيرة منتظمة يحاول الهدوء، فغسان دومًا يثير اعصابة، لكن لن ينكر انه أفضل رجاله، حتى أفضل من “طارق حربي” لكن عيبه الوحيد انه متهور، والتهور في عملهم لا يفلح دائمًا…
_ أنتَ طبعًا كنت مسؤول طول السنين اللي فاتت بانك تدور على مراتي.
_ طبعًا يا باشا، طارق بيه كان أمرني ادور عليها وأنا عملت كده من وقت ما بلغني، لحد ما لاقيناها أخيرًا.
_ حلو، عاوزك بقى ترجع تعيد من الأول..
قاطعه يسأله باستغراب:
_ هي تاهت تاني ولا إيه؟
هدر بهِ معنفًا:
_ ده انا اللي هتوهك في الدنيا لو مخرستش وسمعت للآخر…
_ تمام يا باشا، معاك.
اسودت عيناه وهو يوضح له:
_ عاوزك ترجع تدور في نفس الموضوع، بس المره دي مش هتدور عليها… هتدور على حاجتين.. اولاً عاوزك تعرفلي لو كان ابويا له أي علاقة او عنده أي معلومة عن مكانها قبل ما نوصلها.. لو في يوم اتكلم عنها او ذكر اسمها بالغلط حتى عاوز اعرف.. فاهمني يا غسان؟
اتاه صوت الأخير الحائر:
_ ايوه بس… ودي هعرفها ازاي يا باشا، ده حسن بيه حويط وكل اللي حواليه زيه.
التوى فمه بابتسامة ماكرة يجيبه بكلمتين فقط:
_ متولي مثلاً!
“متولي” الرجل الأقرب ل “حسن” والذي ينفذ له جميع اعماله، همهم “غسان” على الجهة الأخرى، ليكمل “مراد” :
_ متولي بيقلق منك عشان عارفك غشيم، لو اضطريت تستعمل معاه عنف يا اهلاً، عرفت تخلع بالمعلومات بهدوء يا سهلاً…
رد “غسان” بثقة:
_ تم يا باشا اعتبر لسان متولي تحت جزمة سعادتك، والسبب الثاني.
تنهيدة قوية خرجت منه قبل أن يخبره:
_ عاوز اعرف أصل مراتي ايه، وعشان تبقى عارف بتنبش على ايه، هي مش من العيلة دي.. عاوز اعرف محمود ومراته وصلولها ازاي ومنين وامتى… فاهمني؟
_ تمام يا باشا فهمتك.
اغلق المكالمة ونظر أمامه بشرود، ولم يشعر بها خلفه..
تقف هنا منذُ بدأ مكالمته لكنها لم تحب أن تتحدث خوفًا من أن يكون شيء يخص العمل، لتتفاجئ أنه يخصها، ابتسمت ولمعت عيناها وهي تسمع ما طلبه، لم يمرر فعلت “حسن” كما ظنت أمس، فتقريبًا قرر أن يجمع كل اخطائه ليكن الحساب دفعة واحدة، وكما وعدها بدأ البحث فيما يخص نسبها…
اقتربت بخطواتها دالفة للشرفة ليشعر بها، فالتفت ينظر لها ليبتسم فورًا بحنو، وقبل أن ينطق اقتربت تندس في حضنه برفق ولفت ذراعيها حوله وهي تقول بصوت مسموع دافئ:
_ صباح الخير يا… مراد.
_ صبا….
كان قد لفَ ذراعيهِ حولها فورًا، وابتسم براحة وسعادة لقربها المرغوب من جهتها، ليتجمد جسده واسمه يضرب في أذنيهِ، أبعدها فورًا ينظر لها بعدم تصديق، هل نطقت اسمه؟ هل تخلت عن “زين” وباتت تناديه بكنيته الحقيقية!
_ أنتِ… أنتِ قولتي ايه؟؟؟
ابتسمت عيناها قبل شفتيها وهي تهمس له بصوتها:
_ صباح الخير يا مراد…
_______________
في عيادة الطبيب….
طالعها بأسف وهو يخبرها:
_ للأسف شكي في محله، حضرتك حامل.
تسمرت وصُدمت بحقيقة حملها، وبنفس الوقت جملته غريبة، لتسأله:
_ هو… هو ليه للأسف؟!
هو كل الأسف لها هي، لكن للطبيب لِمَ؟؟!
اجابها بعملية:
_ الحمل ده في خطر على حياتك.
أسرعت تقول بلهفة:
_ خلاص انزله.
هي بالأساس لا تريده، لا تريد حملاً أتى بالإجبار، وبغير رضاها، ولا تريد رابط جديد بينهما.
_ مهو للأسف برضو مش هينفع تنزليه.
قطبت ما بين حاجبيها جاهلة، وسألته باستنكار:
_ يعني ايه؟ خطر ومش هينفع انزله!
_ يعني الحمل ده في خطر على حياتك سواء نزلتيه او كملتيه..
وهل يخبرها أنها في كلا الحالتين هالكة!!!
____________
وعلى طاولة الفطار…
“باهر” و “رباح” و “فريال” بينما “جاسمين” مازالت نائمة… او هكذا يظن!!!
_ باهر.
نظر لها بانتباه:
_ نعم يا فريال.
_ مش كان واجب نصحي جاسمين تفطر ويانا…
_ وهي نايمة مبتحبش حد يصحيها، غير انها مبتفطرش أول ما تصحى.
هزت رأسها بعدم اهتمام، لينظر لها متفحصًا قبل أن يقول:
_ في حاجة تانية عاوزه تقوليها، قولي سامعك.
نظرت له بأعين دامعة، لثواني بصمت، قبل أن تقول بتعب:
_ ممكن… ممكن تحدت ابراهيم.
تصلبت ملامحه، وهكذا “رباح”، قبل أن يسألها بجمود:
_ خير؟
نظرت لهما، مرتبكة، متوترة، وقالت أخيرًا:
_ جوله… جوله يردني.. وأنا موافجة اتنازله عن ورثي… بس انا مجدراش اعيش أكده.
جحظت عيناهما، الأول غضبًا، والأخرى ذهولاً، قبل أن يهتف بحدة مستنكرة:
_ أنتِ مفيش فايدة فيكِ!!!!
______________________
_ هتموت..
نظر لتلك الدخيلة وكأنها مجنونة، وابتعد عن طريقها، لتركض خلفه وهي تصر:
_ صدقني هتموت، لو ركبت العربية دي هتنفجر اول ما تركبها، اسمعني ارجوك… بلاش تركبها… اسمعني وصدقني.
كان شخصية مهمة، نائب وزير المالية، عرفته منذ رأته في حلمها، وعلمت موقعه من الحلم والمبنى المميز الذي ظهر بهِ..
لم يستمع لها، ووقف حراسه يمنعوها بقوة من المرور ومواصلة السير خلفه… وهي تصرخ، وتتملص، على شفا الجنون وهي تراه يفتح باب السيارة وسائقة يبدأ في تشغيلها…..!!!
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بك أحيا)