روايات

رواية بك أحيا الفصل التاسع والخمسون 59 بقلم ناهد خالد

رواية بك أحيا الفصل التاسع والخمسون 59 بقلم ناهد خالد

رواية بك أحيا الجزء التاسع والخمسون

رواية بك أحيا البارت التاسع والخمسون

بك أحيا 2
بك أحيا 2

رواية بك أحيا الحلقة التاسعة والخمسون

قالوا (كما تداين تُدان), والدين لابد له من مردود, وما فعلته يومًا مع أي بشرٍ كان سيأتي يوم ويُرد لكَ فيه سواء كان خيرًا أو شرًا, وماذا إن كان البشر هم والديكَ؟ حتمًا سيُرد أضعافًا”
ومن بين قبضته التي تمسك قميصه بأحكام سأله:
– ليه؟ أنتَ تغدر بيا أنا ليه؟
أزاح “مراد” كفيهِ بقوة وأعاد ترتيب قميصه قبل أن يجيبه ببرود وقد فرد ظهره بشموخ:
– عاوز تعرف الأسباب كلها؟ ولا نكتفي بسبب واحد وعقلك يفهم الباقي؟
لم يجيب “حسن” وكأن الصدمة ما زالت مسيطرة عليه, وهي بالفعل كذلك, ليتنهد “مراد” قبل أن يقول:
– تمام… إني غدرت بيك وجبتك هنا وجعك؟ طب مانتَ كمان غدرت بيا سنين, كنت شايفني بتوجع وبموت كل يوم على حاجه مش عارف اوصلها وكنت أنتَ اللي بتبعدني عنها…
خرج من طور هدوئه وهو يهدر بهِ بغضب واضح:
– قولي ازاي؟ ازاي أب يحرم ابنه من الحاجة اللي عارف ان روحه فيها, ازاي بكل جبروت كنت شايفني بلف حولين نفسي عشان اوصلها او اعرف عنها أي معلومة وأنتَ بتضلل رجالتي وكل ما يقربوا خطوة تبعدهم ألف, و ازاي كنت أنتَ السبب زمان انها تهرب وتسبني! أنتَ كنت عارف كويس هي ايه بالنسبالي, كنت عارف انها اهم حاجة في حياتي…
ضغط على أسنانه بقوة قاسية حتى أدماها وضرب كف بآخر قبل أن يكمل بوجع:
– حرضتها تهرب عشان حاجة أنتَ اللي خلتني اعملها, مين اللي حرضني اقتل سارة ها؟ رد عليا, مش أنتَ اللي حرضتني اعمل ده لما سمعتني بحكي لماما إن سارة كانت هتزق خديجة من على السطح واحنا بنلعب لولا إني لحقتها, مش أنتَ اللي قولتلي يومها لما تحب حاجة ويكون حد مهددك إنه ياخدها منك لازم تخلص منه قبل ما يفكر يعملها؟ مش أنتَ اللي يومها خدتني في مكتبك وقولتلي كان لازم زي ما انقذت خديجة تزق سارة وتعمل اللي كانت هتعمله فيها, أنتَ اللي قولتلي إنها مادام حاولت مرة يبقى مش هترتاح غير لما تخلص منها عشان بتغير منها ومبتحبهاش…
ضرب الكرسي الذي كان جالسًا فوقه بهياج قبل أن يكمل بسخرية مريرة:
– خليت عيل عنده 13 سنة يخطط ويستنى الفرصة المناسبة عشان يخلص من عيلة عندها 10 سنين, خليت كل تفكيري ازاي اخلص منها قبل ما تأذي خديجة, كنت عارف إن أي حاجه تخص خديجة ببقى عامل فيها زي المجنون واستغليت ده ضدي, عشان توصل لهدفك المريض… هدفك إنك تخليني شبهك, تخليني من وانا لسه عيل أأذي واقتل من غير ما أخاف ويكون الموضوع عندي عادي… فاكر قولتلي ايه لما جيت تدخلني شغلك وانا لسه 16 سنة! قولتلي مش هتعمل حاجة جديدة عليك, أنتَ قتلت واللي يقتل يعمل أي حاجة في الدنيا…
– كنت بعلمك تحافظ على اللي ليك, كنت بعلمك تحمي الحاجة اللي بتحبها مهما كانت الوسيلة.
هز “مراد” رأسه مستنكرًا:
– حتى لو الوسيلة دي هي القتل؟!!
دار حول نفسه عدة مرات في الغرفة قبل أن يقف وهو يقول بادراك:
– عارف… أنا اكتشفت انك انسان مريض, بجد أنا مش بغلط فيك ولا ببالغ, أنتَ مريض بالتحدي وحب السيطرة, من كتر ما اتحرمت زمان تعمل اللي نفسك فيه قلب معاك بمرض, بقيت بتتحدى نفسك وعاوز تسيطر على كل حاجة في حياتك, ومعندكش احتمالية إنك تفقد حاجة بسبب حد, عاوز تاخد كل اللي أنتَ عاوزه حتى لو هتدوس على مين في المقابل…
اعترض “حسن” وقال بجمود:
– أنا مدوستش على حد, أنا عملت اللي عاوز اعمله, مأذتش حد هم اللي كانوا بيدخلوا نفسهم في حياتي بالغصب وعاوزين يتحكموا فيها.
هز “مراد” رأسه نافيًا:
– لا دوست, دوست على اهلك لما هجرتهم عشان تكمل في طريقتك اللي اختارته, دوست على أمك لما عيشت سنين من غير ما تفكر تسأل عنها ورفضت كل مرة أخوك طلب منك تشوفها فيها, دوست على ليلى لما رفضت تبعد عن شغلك وقت ما عرفت… وأنا مش بلومك, بس كان حقها تطلق وقتها مادام رافضة حياتك كده, لكن أنتَ حتى الطلاق كنت أناني فيه ورفضت تطلقها, عيشتها معاك غصب عنها مقهورة لحد ما اتشلت وفضلت سنين مشلولة بسببك, دوست عليا لما خلتني مجرم وأنا لسه عيل عشان تضمن أكون معاك وامشي في الطريق اللي رسمتهولي, ودوست عليا تاني لما بعدت عني البنت اللي حبتها عشان فاكر إن وجودها هيضعفني او هيبعدني عنك وعن الشغل, أنتَ مفيش حد في حياتك مدوستش عليه, أنتَ مفيش حد في حياتك حبيته بجد! أنتَ أصلا متعرفش يعني ايه حب.
– فتقوم تبلغ عني؟ تسجني وأنتَ عارف إني هاخد اعدام؟
– بخلص الناس من شرك, أنتَ عارف إن القانون بيحتم عليا ابلغ عنك مادام عارف بجرايمك, يعني أنا معملتش حاجة غلط, لو سبتك أكتر من كده هتخرب حياتي وحياة اللي بحبهم….
لمعت عيناه بالمكر وهو يكمل:
– أصل أنا عرفت إنك كنت ناوي تخلص من خديجة, متولي باعك قبلي وقالي إنك طلبت منه يراقب بيتي عشان لما تكون لوحدها يدخل ويخلص, وعملت كل حاجة عشان الموضوع يبان إنه له علاقة بدياب الحلاوني, وكده كده دياب بيني وبينه عداوة, وده كان كارتك الأخير معايا يا…. يا بابا, وصدقني أنتَ المفروض تفرح إنك ملحقتش تأذيها, لأني كنت هعرف إنك أنتَ اللي وراها وساعتها, السجن مكانش هيرحمك مني.
ابتلع ريقه بصدمة ولم يتوقع أبدَا أن يكن قد علم بما خطط له, ولم يتوقع أن يفصح “متولي” عن ما أمره بهِ, وسؤال غبي في وضع كهذا خرج منه وهو يسأله:
– أنتَ جبت القسوة دي منين يا مراد؟ جبت القسوة منين إنك تحبس أبوك؟
رفع حاجبه الأيسر وكأنه يتعجب لسؤاله, ثم أجابه بنبرة عادية كأنه يخبره بأحوال الطقس:
– منك, جبت القسوة دي منك ومن أفعالك, القسوة دي اللي ربتني عليها وزرعتها فيا من أول ما وعيت على الدنيا, شوف نجحت ازاي! برافو.
لم يسمع باقي جملته, بل يتردد في أذنه صوته هو وهو يقول لوالدته نفس الرد حين سألته نفس السؤال, هو أيضًا حينها أجابها أنه اكتسب القسوة من أفعال والده, ورُدت له الجملة بنفس الشعور, شعور والدته حين أجابها بنفس الإجابة, رغم الفرق الشاسع بينه وبين والده, فوالده لم يؤذيهِ بقدر ما أذى هو ولده, أفعال والده لا تأتي ذرة في أفعاله.
– أنا حبيت أجي اعرفك إنك هنا بسببي, عشان انتقامي يكون اكتمل, وتعرف إن وجودك هنا مش ظلم خالص, وجودك هنا بسبب افعالك.
أخذه الكبرياء المرضي الذي يعاني منه وهو يقول بهدوء:
– عموما أنا مبقتش محتاج حاجة من الدنيا, أنا حققت كل اللي حلمت بيه في يوم, وبالنسبة للي عملته, فردي هيوصلك يا مراد.
ضحك “مراد” ساخرًا وهو يقول:
– باين نسيت إن تنفيذ الحكم آخر الأسبوع, يعني بعد اربع أيام.
احتدت ملامحه وقست عيناه يقول:
– ولو آخر لحظة في عمري, لازم اردلك اللي عملته.
هز “مراد” رأسه يائسًا:
– حتى في آخر ايامك مفكرتش تعمل حاجة واحدة كويسة افتكرهالك, عموما مستني ردك يا حسن بيه.
وخرج من عِنده, لم تأخذه الشفقة ولم يشعر أنه سيشتاق له كابن يدرك أنه يرى والده لآخر مرة, وكيف يفعل والأخير ولآخر لحظة لم يظهر لمحة من الأبوة.
جلس “حسن” على الكرسي بعد ذهابه ينظر أمامه بشرود في كل الحديث الذي دار منذ قليل, وبداخله يعترف ولأول مرة….
هو مريض…. مريض بالغرور والكبرياء, مريض بحب السيطرة والقوة, مريض بالقسوة وانعدام الرحمة, مريض بأذية كل من حوله… ولأول مرة صوت بعيد من داخله يعترف… والده لم يكن له ذنب في مرضه, بل هو مجرد شماعة علق عليها صفاته الدنيئة.
وبعد أربع أيام… أُغلقت صفحة “حسن” وللأبد, بخيره وشره ذهب لخالقه لتكن هناك النهاية…العقاب…الجزاء الأعظم.
—————-
في فيلا مراد وهدان…
جلست “سميرة” على كرسي في الحديقة مكانها المفضلة منذُ أتت لهنا, تحديدًا من يومين فقط, كانت قد مرت بوعكة صحية شديدة ألزمتها البقاء في المستشفى لسبعة عشر يوم وحين خرجت منها طلبت من “نبيل” أن يحضرها لهنا, بيت حفيدها, تخيلت لقائها بهِ كثيرًا ورتبت له أكثر, توقعت أن يكون كأبيه فظ سيء المقابلة, ورتبت كيف ستخبره بهويتها, لكنها تفاجأت بمعرفته لها ما إن رأى “نبيل” الذي كان يعرفه ويعرف أنه عمه, ومفاجأتها الأشد كانت حين قابلهم مقابلة لطيفة, حسِنة, بل ورحب باستضافتها حين أعربت عن رغبتها في البقاء في بيته, ومن معاملتها له فهو لطيف كما لم تتخيل.
– مراد.
نادته حين أبصرت خروجه من الباب الآخر قاصدًا سيارته, اقترب منها ببذلته الأنيقة بنية اللون, وما إن أصبح أمامها انحنى يقبلها وتبادله قبلاته وهي تردد:
– صباح الخير يا قلب ناناَ.
ضحك وهو يجلس على الكرسي المجاور لها:
– بردو ناناَ! أنا قولتلك ناناَ دي تقولها جاسمين او ابني لما يشرف, لكن أنا أخرى اقولك تيتة رغم إنها مايصة بردو بس أهون.
ضحكت على حديثه وهي تقول بحنان:
– وأنا بحب اسمع تيتة منك, بس ناناَ علقت معايا بسبب جاسمين ربنا يسامحها بقى, المهم قولي عملت ايه مع خديجة؟
زفر أنفاسه بضيق قائلاً:
– ولا حاجة, أنا مش فاهمها, بقت عصيبة اوفر وعلى طول مضايقة ومتنرفزة, ومحدش عملها حاجة.
– ما يمكن تكون هرمونات, الستات بردو بيكون ليهم تقلبات كده.
نفى برأسه يقول:
– ما لو هرمونات كانت تبقى على الكل, لكن هي كويسة مع كله إلا أنا, تخيلي امبارح بعد ما ننام تقوم من جنبي وتنام على الكنبة, فاكرة إني محستش بيها بس أنا سكت عشان منعملش مشكلة وأنا كنت على أخري.
ربتت على كتفه بحنو تقول:
– معلش سيبها وهي هتروق لوحدها, وأنا هتكلم معاها من بعيد كده يمكن في حاجة مضيقاها.
– ماشي, ادخلي افطري مع ليلى هي كمان صحيت.
امتعضت ملامحها وهي تقول:
– لا مش عاوزه, أنا طايقة أمك بالعافية هدخل افطر معاها لوحدنا!
ضحك يأسًا:
– بردو! مش قولنا هي ملهاش ذنب في اللي حصل زمان!
– بص يا مراد أنا مستحملها والله عشانك, أنا صحيح مبكرهاش لأنها مضربتش ابوك على ايده, بس أنا بردو مبحبهاش ومش هعرف احبها, لأنها لو كانت رفضت زمان وخصوصا انها كانت متجوزة راجل سمعت انه كان كويس مكانش كل ده حصل, بس عموما سيب الأيام تصلح الدنيا, قولي ابوك عامل ايه؟
تنهد وهو يجيبها كاذبًا:
– بخير, همشي أنا عشان شغلي.
ونهض قبل أن تسأل عنه ثانيًة فجميعهم أصر على إخفاء خبر إعدامه عنها, فصحتها لا تحتمل الآن, وكذبًا أخبروها أن تنفيذ الحكم بعد عدة أشهر وربما عام, فبرغم علمها بالنهاية إلا أن معرفتها بموته ستكن صعبة.
——————-
نظرت لها بتردد قبل أن تسألها:
– يعني أقول ومش هندم؟
زفرت “سرية” بضيق وهي تخبرها:
– يا بت جولي, هتندمي كيف يعني؟
أعربت عن مخاوفها تقول:
– خايفة تقطميني بالكلام, أو تفهميني غلط.
– لا متخافيش, جولي, مش أنا بجيت اسمعك ومبجتش اسمم بدنك بالحديت كيف ما كنتِ بتجولي؟
اومأت برأسها بتأكيد فبالفعل والدتها تغيرت وربما هذه عجيبة الدنيا الثمانية, حتى “خديجة” باتت تسأل عنها وتحدثها دون سخرية او قسوة كالسابق, و “خديجة” نفسها لا تصدق تغيرها وكثيرًا ما تخبر “فريال” أن والدتها قد صُدمت برأسها ربما!
فركت كفيها بتوتر وهي تبدأ في الحديث:
– مش عاوزه اروح عشان… عشان لما بشوف تصرفات جوزها معاها بييجي في بالي حاجات مش عاوزها تيجي في بالي.
قطبت “سرية” ما بين حاجبيها تسألها بحذر:
– زي ايه؟ وحاجات ايه دي؟
أدمعت عيناها وهي تقول باستفاضة:
– غصب عني والله, غصب عني بفتكر وبقارن, بفتكر أفعال إبراهيم معايا وتصرفات مراد معاها, بفتكر ازاي كان بيعاملني وهي جوزها ازاي بيعاملها, أنا مهما حكتلك عن حبه ليها وتصرفاته معاها مش هعرف اوصلك اللي بيعمله, وبسأل نفسي ليه أنا كان حظي واحد زي إبراهيم؟ هو أنا مستاهلش الاقي واحد زي مراد؟ مستاهلش إن جوزي يعمل معايا زي ما جوزها بيعاملها؟ كل حاجه في حياتها كويسة… أنا عارفة هي قد ايه اتعذبت بس في الاخر ربنا عوضها عن كل ده, جوزها بيعشقها, معيشها في عز وهنا, رجعها لدراستها, وبيعمل كل حاجة عشان تبقى مبسوطة, وامه كويسه معاها… أنا ….أنا والله مش بحسدها, بس لما بشوفها غصب عني بتمنى أكون مكانها, او الاقي اللي هي لقته.
فهمتها, وفهمت ما تشعر به, فاقتربت منها تمسك كفيها بين كفيها وهي تقول بنبرة حنونة بدأت تظهر مؤخرًا:
– أنا فاهمة كل اللي هتحسي بيه, أنا زمان كنت كيفك اكدة, كنت اطلع لاخواتي واسأل حالي ليه هم عندهم كل اللي عاوزينه وانا لاه, ليه رباح تخلف واد ودينا تخلف واد وأنا لاه, ليه رباح تبجى حياتها مرتاحة أخوي بيحبها وكارمها وأنا ابوكي كان دايما كاسر نفسي, هي الوحيدة اللي مرته وانا كان ابوكي متجوز اتنين جبلي واحدة ماتت والتانية كانت لسه مرته, حتى عيشتي كانت يدوب مكنتش في عيشة رباح وعزها, حسيت كل اللي هتجوليه وتحسي بيه, بس خابره كانت ايه النتيجة؟ بجيت سرية اللي كرهتيها والكل بجى كارهها, بجيت واحدة لسانها مبرد بيأذي الكل وبتعمل كل حاجة عشان تاخد اللي ريداه, عملت ذنب لسه متعلج في رجبتي ومعرفاش اخلص منه, وخلاص الوجت عدى ومبجاش ينفع اخلص منه, عشان أكده بلاش يا بنتي, بلاش تسيبي حالك لاحساسك ده, عشان متبجيش نسخة تانية من سرية, ركزي مع حالك يا بتي, شوفي كيف تكوني الشخصية اللي انتي تحبيها, قارني نفسك زمان بنفسك دلوجتِ, حاربي عشان تكوني حد احسن منك مش من غيرك, وإن كان على الراجل فهو بيكون رزج “رزق” في اللي ربنا بيكرمه براجل ولد حلال ويصون الست اللي وياه, وفي اللي ربنا بيختبره براجل عفش ويكون صبرك عليه أجر, فمتفكريش في النجطة دي دلوقت خالص سيبي رزجك ييجي كيف ما ربك رايد, وركزي في دراستك الناس في البلد مستنيين العيادة اللي هتفتحيها.
ادمعت عيناها بشدة طوال حديث والدتها, ولأول مرة تنجح في لعب دور الأم بجدارة, لأول مرة لم تبخل عليها بما احتاجت اليه من دعم ومشاعر جيدة تدفعها للأمام, لأول مرة لم تبخل عليها بالنصيحة الحسِنة, وهي بالمثل لم تبخل عليها وهي تحتضنها بقوة مرددة بصدق نبع من قلبها:
– أنا بحبك, بحبك اوي وكان نفسي تكوني كده معايا من زمان.
مسدت على ظهرها بكفها وهي تخبرها باعتذار صادق:
– متزعليش مني يا بتي, عجلي كان متوهني.
ولم تنطق “فريال” فقط زادت من احتضانها وهي تحمد ربها على تغير والدتها قبل فوات الأوان.
—————-
خرج من مكتب رئيس المنظمة ليتحرك “غسان” فورًا خلفه ويسبقه الحارس الآخر للسيارة, لكنه توقف حين واجه “دياب” وهو يدلف للمبنى, وجهًا لوجه وقفا والتحدي حليف الأول لكن الأخر نظرته مختلفة هذه المرة! نظرة هادئة, ساكنة وهذا غريب عليهِ وجعل “مراد” يقف أمامه بادئًا هو بالنطق لأول مرة:
– ليك وحشة يا بن الحلاوني, بقالي مدة طويلة مشفتكش.. من امتى يا مراد؟
تصنع عدم التذكر, ليلحقه “غسان” وكأنه يذكره:
– من قبل حريق مصنعه بكام يوم يا باشا.
– آه صح, قلبي عندك عرفت إن خسارتك كانت كبيرة.
ابتسم “دياب” ابتسامة هادئة وهو يقول متجاهلاً حديثهم:
– مبروك عليك منصبك الجديد يا مراد, اكيد كنت هنا عشان كده.
حرك رأسه حركة عادية وكأنه أمر مسلم به:
– اكيد انا اللي هكون مكان ابويا.
وحركة مماثلة من رأس “دياب” قبل أن يكمل سيره للداخل تحت استغراب “مراد” الخفي…
وفي سيارته بعد دقائق كان يسأل “غسان”:
– غسان هو الواد ده ماله؟ في حاجة حصلت مؤخرا معرفهاش؟
التف “غسان” الجالس في المقعد الأمامي بجوار السائق نصف التفاته وهو يقول باستفاضة:
– والله يا باشا هو في الفترة الأخيرة حالته غريبة اوي تحسه اتبدل.
– ازاي؟
– يعني ظهر راجل كده في حياته اول مرة اشوفه, لكن بعد بحث عرفت انه اخوه, ومن وقتها وهو بقى شخص عجيب… طبعا حضرتك عارف ان مراته في العناية بقالها كذا شهر.. كانت حياته بين الشركة والبيت والمستشفى, لحد ما اخوه ظهر, اخوه ده شيخ, ومن بعدها وهو بقى أوقات كتير مع اخوه في المستشفى او في بيته او مع بعض في الجامع..
– جامع؟؟!
رددها مستنكرًا بشدة ليؤكد “غسان” مكملا:
– آه, وبقى مسالم كده, في حاجة غريبه فيه, حتى اكيد حضرتك لاحظت انه مش متعصب ولا غضبان على توليك للمنصب الجديد.
أكد “مراد” قائلاً وهو ينظر للخارج عبر نافذة السيارة:
– ومردش على حرق مخازنه, هو فعلا غريب.
——————–
دلفت للمطبخ حين علمت بوجود والدة جوزها بالداخل, وبالفعل رأتها تقف تقطع بعض الخضروات لتقول باستغراب:
– أنا لما قالولي إن ليلى هانم في المطبخ مصدقتش.
التفت لها “ليلى” تبتسم بهدوء معقبة:
– وحشني المطبخ ووقفته, وقولت ادخل اعمل اكلة من اللي كنت بتفنن فيهم زمان.
اشرأبت بعنقها تحاول تبين هوية الطبخة:
– ويا ترى هي ايه؟
– طاجن تورلي باللحمة, هتاكلوا صوابعكم وراه.
– ده كده كده.
قالتها “خديجة” بتشجيع ثم ضحكت وهي تقول بخبث:
– بس اعتقد ان أحدهم مش هياكل منه خالص.
امتعضت ملامح “ليلى” وهي تقول بينما تضغط على السكينة بغيظ:
– اممم, قصدك سميرة هانم.
اومأت وهي تقول ضاحكة:
– تيتة سميرة رهيبة, اول ما هتعرف هتقول ….
وحاولت تقليد صوتها وهي تقول:
– ايه ده! انا مش هاكل منه ده هيرفعلي الضغط.
ضحكت “ليلى” تلقائيًا وهي تسمع لصوتها المقلد وقالت:
– معاكي حق, هي أي حاجة من ناحيتي بترفعلها الضغط.
اومأت “خديجة” وهي تقول بجدية:
– بس هي طيبة والله.
تنهدت “ليلى” بحزن:
– أنتِ هتقوليلي, دي كانت جارتنا وصاحبة ماما زمان, انا عارفة ومتأكدة أنها طيبة بس… بس اللي حصل زمان هي غصب عنها مش قادرة تتقبلني, أنا لو مكانها هعمل اكتر من اللي بتعمله دلوقتي.
– ان شاء الله ربنا هيهدي الأمور.
دلفت الخادمة للمطبخ وهي تقول ل “خديجة”:
– خديجة هانم, سميرة هانم عاوزة حضرتك.
– هي فين؟
– بره في الجنينة.
كادت تتحرك لتمسكها “ليلى” من ذراعها توقفها وهي تهمس لها بتحذير:
– بت يا خديجة اوعي تعمل معاكِ حزب ضدي.
ضحكت “خديجة” وهي تقول رافعة ذراعيها للأعلى:
– أنا حزب محايد, متقلقيش يا طنط لا هكون مع ده ولا مع ده.
وخرجت من المطبخ وصوت “ليلى” المندهشة يصدح خلفها:
– أنتِ لازم تكوني في حزب حماتك يا بت.
وهمست لنفسها بغيظ مضحك:
– انا شكلي اتساهلت مع البت دي.
وبالخارج…
جلست أمامها مبتسمة ببشاشة, فرغم معرفتها القصيرة لهذه السيدة والتي لم تتعدي الثلاثة أيام إلا أنها أحبتها ورأت فيها جدتها التي لم تراها يومًا.
– ها يا تيتة عوزاني في ايه؟
سألتها “سميرة” بجدية:
– أنتِ بتزعلي حفيدي ليه؟ افهم بقى ايه البوز اللي ضرباه له بقالك كام يوم ده؟
رفعت حاجبيها مندهشة تردد:
– كام يوم! ده أنتِ بقالك 3 أيام بس معانا, ولا هو اشتكالك بقى؟
اومأت تقول بحدة مقصودة:
– اه اشتكى, ايه المشكلة؟ عندك مانع يشتكي.
ابتلعت ريقها بقلق من حدتها وهي تجيبها:
– لا, ابدًا يا تيتة.
تنهدت “سميرة” تقول:
– قوليلي بقى مالك؟ هو زعلك في حاجة؟
اصطنعت الابتسام وقالت:
– لا بس نفسيتي تعبانة شوية.
نفت “سميرة” برأسها غير مصدقة:
– لا, مش نفسيتك تعبانة, أنتِ زعلانة منه هو في حاجة, ايه هي بقى؟
تجاهلت سؤالها وهي تقول بشرود:
– تيتة أنتِ عملتي ايه لما عرفتِ أن عمو حسن بيشتغل شغل مش كويس, حضرتك قولتي لمراد وأنتِ بتتكلمي معاه إنك عرفتي ده زمان قبل ما يتجوز طنط ليلى ويسيب البيت.
ضيقت “سميرة” عينيها بشك وهي تسألها:
– بتسألي ليه؟
توترت وهي تقول:
– عادي… فضول.
ورغم يقينها بأنها لربما علمت شيء يخص عمل حفيدها إلا أنها قالت بحزن:
– للأسف يا خديجة ملحقتش اعمل حاجة, أنا عرفت قبل ما حسن يسيب البيت بيومين, ملحقتش اخد رد فعل, بس لو هتسأليني كنتِ هتعملي ايه هقولك مكنتش هسيبه, كنت هقف جنبه واخد بايده لطريق الصح, مش هسيبه لشيطانه اللي راكبه, الانسان منهم بيكون معمي يا بنتي, ومحتاج اللي يرشده.
نظرت لها بصمت دام قليل من الوقت, قبل أن تنهار باكية فجأة وكأنها تلقت خبر وفاة أحدهم للتو!
وهنا تأكدت “سميرة” بأن الأمر يخص عمل مراد, ربطت بكفها على ظهر الفتاة وهي تقول:
– بس يا حبيبتي اهدي, قوليلي في ايه؟ أنتِ عرفتِ حاجه عن مراد؟
نفت برأسها وسط بكائها لتقول “سميرة” بعدم اقتناع:
– لا, أنتِ بتكدبي, مهو مش هتعيطي كده بعد ما سألتيني عن شغل حسن إلا لو اكتشفتِ حاجه!
نظرت لها من وسط دموعها الغزيرة, وعيناها حكت ما تخشى بوحه, فكرت “سميرة” قليلاً قبل أن تقول لها متنهدة:
– اهدي يا خديجة عشان نعرف نتفاهم.
وبالكاد حاولت الهدوء وبعد دقائق نجحت, لتمسح دموعها وهي تنظر لها بمقلتيها الحمراء من البكاء, اتسمت ملامح “سميرة” بالجدية قبل أن تقول:
– بصي يا خديجة من غير لف ودوران قولي أيه اللي عرفتيه وخلاكِ في الحالة دي؟؟
ارتبكت, وتوترت وبالأخير قالت:
– بصي هو يعني سمعت كلام كده من بعيد, انه ممكن يكون شغل زي ابوه.
– قولي إنك اتأكدتِ, بلاش لف ودوران قولتلك, بس عرفتِ ازاي؟
شردت “خديجة” وهي تتذكر منذُ ثلاثة أيام حين أتى لها ساعي يخبرها بوجود جوابين أحدهم باسم “خديجة” والآخر باسم “ليلى” ولأن الأخيرة لم تكن في المنزل حينها فاستلمت هي الجوابين وحين فتحت جوابها صُدمت وهي ترى محتوياته, والتي تخص “مراد” وكل ما بها يوشي بحقيقة عمله, وحينها شكت في جواب “ليلى” لتفتحه ووجدته نسخة مطابقة لجوابها وحينها حمدت ربها ان الجواب لم يقع في يد “ليلى”, ولكنها ومن وقتها لا يهدأ لها بال وعقلها يطوف دون هوادة والصدمة حليفتها حتى أنها لم تجد في عقلها رد فعل مناسب ولم تتخذ موقف سوى أنها ورغمًا عنها لم تستطع التعامل معه بعدها.
– هتفضلي ساكتة كتير؟
انتبهت من شرودها على صوت “سميرة” لتقول بإرهاق:
– مش مهم وصلي ايه ووصلي ازاي, أنا تايهه.
ولخصت حالتها في الكلمة الأخيرة, لتنظر لها “سميرة” بتفهم:
– أنا فهماكِ, أنتِ بتحبيه يا خديجة؟ وشيفاه يستاهل تعافري عشانه؟
اومأت برأسها دون تردد:
– ايوه.
ابتسمت لها “سميرة”:
– يبقى هتحاربي كل حاجة وأي حاجة عشانه, حتى لو هتحاربيه هو شخصيًا.
ورغم قصر النصيحة إلا أنها فهمتها, وأعطتها الطاقة التي كانت تحتاجها…
” هي لحظة تأخذ فيها قرارك إما أن تقف في مواجهة العاصفة إما أن تتنحى جانبًا لتتركها تهدم ما تهدم وتعود محملة ببقايا ما حطمته، ولأنها ستحطم حياتك إذًا فما ستعود به هو بقاياك أنتَ، فهل ستتنحى جانبًا أم ستقف في الصف الأول متصديًا؟!
وأنا قررت…..”
“خديجة الدالي”
———–
كان يركب سيارته متجهًا للقاهرة عبر الطريق السريع ليتفق على بضاعة خاصة بمصنعه, وكان يتحدث عبر الهاتف ليصرخ في المتصل:
– أنتَ بجالك سبوع تجولي بكره, هتخلص ميتى!؟
– يا إبراهيم بيه المصنع حوليه لبش كتير الفترة دي, وعمال طالعة وداخله بسبب تسليم طلبيات, مستني الجو يروج ويهدى وهنفذ.
– لبش ولا مش لبش أنتَ هترممه! ده أنتَ هتجيب عليه واطيه.
– يا باشا احرج المصنع كيف والعمال فيه ليل نهار بسبب ضغط الشغل الفترة دي, أنتَ عاوز تجبلي مصيبة ويروح فيها أرواح!
– والبيت؟ أنا جولتلك مش عاوز شبر ملكهم يفضل, كل حاجة ملك باهر وفريال تجيبها الأرض.
– أمرك يا بيه أمرك, بس تبعت دفعة تانية من الفلوس.
– الفلوس اول ما ارجع القاهرة هتوصلك وتنفذ بعدها مش عاوز يوم زيادة فاهم!
– اتفجنا يا بيه.
القى بالهاتف جواره وهو يقول بغضب:
– أنا وانتوا والزمن طويل يا ولاد ال**** وهطفحكوا حجي دم.
أتى بعقله أن يتصل ب “باهر” ليكسب وده حتى إن حدث ما يخطط له يبعد عنه الشكوك…
وما إن مد كفه ليأخذ الهاتف مرة أخرى حتى عاد ببصره مذعورًا حين استمع لصوت مزمار قوي لأحد السيارات الآتية في اتجاه عكسي… وكانت آخر حاجة رآها هي وميض قوي لنور السيارة المقابلة.
—————–
وقف في الشرفة يتحدث عبر الهاتف مع “غسان” وقال:
– يعني وصلت لايه؟
– يا باشا الحوار ده مش هنعرف نوصل فيه لحاجة, دي ليلة كبيرة سعادتك, يعني هعرف ازاي عيلتها ولا دخلت العيلة ازاي , هو بعد ما طلع عيني يا باشا موصلتش لحاجة, الحل الوحيد فاللي باقيين من عيلة محمود الدالي, عمتها ومرات خالها, هم الوحيدين اللي ممكن يكون عندهم معلومة.
– تمام يا غسان سبلي الموضوع ده, واسبقني على الشركة.
التف دالفًا للغرفة ليراها تقف في مواجهته, نظر لها بابتسامة محاولاً التخلص من الجو المشحون الذي بات يحيطهما هذه الفترة:
– ايه يا حبيبتي واقفة ليه كده؟
أخذت نفسًا قويًا قبل أن تقول بملامح جادة وكأنها تستعد لخوض حديث يخص أمن الدولة:
– عوزاك في موضوع مهم.
قطب ما بين حاجبيهِ مستغربًا جديتها ليقول باستغراب:
– موضوع مهم! قولي في ايه؟
نظر لساعته ليهتف مدركًا:
– طيب بصي يا ديجا خلينا نأجل الكلام لما ارجع, عشان عندي اجتماع مهم ويدوب الحقه.
وتحرك فورًا للخروج من الغرفة ليتوقف بغتة على جملتها التي صدحت قوية في أرجاء الغرفة:
– ويا ترى اجتماعك ده في الشركة ولا مع المافيا؟

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بك أحيا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى