روايات

رواية الماسة المكسورة الفصل الثامن والسبعون 78 بقلم ليلة عادل

رواية الماسة المكسورة الفصل الثامن والسبعون 78 بقلم ليلة عادل

رواية الماسة المكسورة الجزء الثامن والسبعون

رواية الماسة المكسورة البارت الثامن والسبعون

رواية الماسة المكسورة الحلقة الثامنة والسبعون

[بعنوان: عشق لا يُنسى]
جلس إسماعيل وحده في ظلام مكتبه، ضوء الهاتف يسقط على وجهه الباهت. عيناه متسعتان في ذهول، يتابع المقطع فيديو كأن الحياة انسحبت فجأة من عروقه أنفاسه متقطعة، لا صوت، لا كلمة فقط صدمة أقوى من أي شرح.
لكن يبدو إنه ألتقط من زاوية خلف تلة أو شيء ما بكاميرا عالية الجودة.على الشاشة: رجل ملتحٍ، يرتدي جلبابًا وشالًا غليظًا، يشبه أعضاء التنظيمات المتطرفة.
تحدث إسماعيل بصوت هادئاً لكن نبرته تنذر بالخطر:
اللواء بيستلم الوردية الساعة 12 بالضبط، الساعة 12 ونص بتيجي عربية التأمين تبص علي المكان وتأمن، وبعدها بتمشي، مابترجعش غير الساعة 1، يعني قدامك نص ساعة.
لوح يديه بورقة وهو يضيف: الورقة دي فيها كل حاجة، أماكن الكاميرات،المداخل، أسماء الضباط والعساكر، بالرُتب، كل واحد فيهم هايكون فين وقت الهجوم، مش هاتلاقي وقت أنسب من كده.
الرجل: نحن بنشكرك إسماعيل لأنك بتخدم الدين.
إسماعيل وهو يضحك بإستنكار: بقولك إيه بلاش إل 3جنيه متقطعة ده ولادين بلا وطن بلا بطيخ.
سحب الورقة أضاف: ثانية واحدة هو التحويل ماجاش ليه؟
الرجل: الآن سوف تصلك الرسالة.
ثوانٍ ووصل له إشعار على الهاتف، مبلغ كبير دخل حسابه. ابتسم.
وإنتهى الفيديو.
صوت الهاتف عاد يعلو من جديد رقم سليم.
الاسم وحده كفيل أن يغير كل شيء، رفع السماعة، لكنه لم ينطق فما زالت الصدمة تخفي ملامحه.
من الطرف الآخر، اتاه صوت سليم واضحًا، من مكتبه في الفيلا، ونبرة باردة كأنها سم مغلف بإبتسامة:
سمعت الفيديو؟ جميل مش كده؟ أنا سمعت إنك زعلان، وأنا بصراحة مابحبش أشوفك زعلان، فقلت أفرجك فيديو صغير يمكن يغير مودك، بص لو فضلت زعلان، أنا مش هبعته للي أكبر منك تؤ.. أنا هابعته لسيادة اللواء حافظ إبراهيم، وماما الحاجة نورهان وابنك اسمه إيه مش مهم والمدرسة كلها، وتبقى فضيحة بجلاجل.
سكت سليم لحظة، ثم ضحك بخفة:
مالك يا إسماعيل؟ صوتك راح كدة ليه؟ هاتتشل ولا إيه؟ دي جلطة؟ بص أنا هعتبر نفسي ماسمعتش حاجة بس خليك مؤدب أحسنلك.
أغلق سليم الخط.
مرت عينا إسماعيل بتوتر، وجزّ على أسنانه حتى كاد أن يفتك بها. ثم هب واقفًا، وقذف بكل ما على المكتب أرضًا، وهو يصرخ بغضب.
أما عند سليم.
فكان جالسًا على المقعد الأمامي للمكتب، بهدوء، لا أثر للانفعال على ملامحه، أمامه، لعبة شطرنج ضخمة، بيادقها على شكل تماثيل منحوتة بدقة، مد يده وحرك الجندي من مكانه، ثم أغلق عينيه، وكأن كل شيء داخله يئن.
فلاش باك
داخل مكتب عزت / تكملة مشهد عندما كان سليم يقوم بأخذ المعلومات التي لدى عزت
عزت بصوت هادئ وحاسم: الخطة كويسة بس مش شايف إنها مخاطرة؟ إنك تقول له إنك معاك الفيديو ده؟
سليم هز رأسه برفض وثقة: بالعكس أنا كده بعرفه إنه تحت إيدي، هو بيفكر يضرني، وده أنا متأكد منه بس بيجمع معلومات، دلوقتي بعد ماعرف إني ماسك عليه حاجة بالشكل ده، هايتراجع هايقف.
عزت وهو يشير بيديه بذكاء رجل مافيا: مؤقتا
نظر سليم أمامه وهو يهز راسه تابع بثقة: حتى لو مؤقتًا، وأنا مش عايز غير ده أنا دماغي مش فاضية عندي حاجات تانية أهم فمحتاج أحجمه دلوقتي.
عاد عزت بظهره على المقعد بنظرة تأمل بنبرة قاتمة وكأنه يقول له فكرة: إسماعيل بيحب مراته، ومتجوزها عن حب، وبيموت في ابنه، لو حبيت تضغط عليه استقبلهم عندك شوية خليه يخاف وهيجيلك جري راكع أنا عارف أن دي قاعدتك عايز تأذي حد؟ أمسكه من نقطة ضعفه.
سليم بهدوء مرّ: دي قوانينك إنت يا باشا، وإنت إللي علمتهالي، بس للأسف بقت طريقتي، بحاول أخلص منها، صدقني دي طريقة غلط هي بتوجع، بس بتخلي عدوك يتحول لشيطان يتسرع، لما تاخد منه أغلى حاجة عنده، مابيبقاش فارق معاه، مش بيخاف، أنت مش بتقتله، إنت بتخليه يعيش وهو ميت زى كدة، أنا دفعت تمن كبير أوي، بنتي وحياتي إللي متهددة بالموت في أي لحظة، واستقرار حياتي مع مراتي..
سكت لحظة، ونظر في عين عزت بألم ممزوج بإنتقام: يعني لما أوصل للي عمل كده، أنا هقتله هقتل كل عيلته هجمعهم في مكان وأحرقهم قدام عنيه أنا كمان بقيت شيطان عندي نفس الشراسة للانتقام، مش هتقف لحد هنا، عشان كده بقولك هي قاعدة غلط يا ريتك ماعلمتهالي يا ريت.
عزت تنهّد، رفع رأسه وقال بنبرة ثقيلة:
إحنا عايشين في غابة لو ماعملتش انت كدة وحميت نفسك هيتعمل فيك، كنت عايزني أعلمك إيه؟ السوق إللي أنت بتتعامل معاه مايعرفش الرحمة إحنا عمرنا ما كنا تجار عاديين، ولا مع ناس عادية حتى بعد مابعدنا عن الآثار لسة حوالينا حيتان، لو ماكنتش أقوى منهم هايكلوك، غابة لو ما عندكش مخالب هاتموت.
نظر سليم لأسفل، صوته مكسور: والله العظيم أول مرة أتمنى أكون فقير بس أكون مرتاح البال.
بااااك
عاد سليم من تلك الذكرة وهو ينظر لأعلى نحو السقف، تلمع فيهما دمعة وحيدة بوجع همس لنفسه:
الله يسامحك يا بابا، لأنك دخلتني السكةدي، والعالم ده، أنا مش قادر أرجع خلاص غرزنا في الوحل، حتى بعد التوبة، دفعت الثمن ببنتي وحياتي المهددة، وماسة، بس لا أقسم بالله أبدا مش هاخسرها أخسر حياتي ولا أخسرها.
💞_______بقلمي_ليلة عادل________💞
الأهرامات السادسة مساءً
مظهر عام للأهرامات وأبو الهول وتلك المنطقة الفرعونية في وقت الغروب.
نرى مكي ونيرة متوقفان أمام السيارة، يحتسيان العصير في أكواب بلاستيكية،صمت خفيف بينهما، ونظرات نيرة كانت تراقبه أكثر مما ترى المشهد حولها.
نيرة بهدوء وعقلانية: قولي شايف الحياة إزاي بعد الجواز؟ يعني ناوي تشتغل على نفسك أكتر؟ ولا هاتعيشها كده يوم بيوم؟
ابتسم مكي بتوتر، شرد لحظة قبل ما يرد:
مش عارف يعني أتمنى تبقى هادية وسعيدة، بس أنا أحيانًا مش ببقى عارف أنا عايز إيه.
نيرة بعقلانية وهدوء: هاتعرف، لما تبقى صادق مع نفسك الأول، مش مع إللي حواليك.
هز رأسه بخفة: عندك حق، طب وإنتي؟ بتحلمي بإيه في الجواز؟
تبسمت برقة، أجابته بتفسير عقلاني: أنا مابحبش الحياة التقليدية، يعني مش الفكرة إنك ترجع من الشغل أستقبلك ونقعد نحكي، لإن ده الطبيعي، ده اسمه ود، ونس.، أنا بتكلم في إللي بعد كده.، نفسي نسافر نكتشف سوا، نجرب حاجات جديدة، أكلات، بلاد، ثقافات، نفهم بعض، نحكي، نغلط ونتصالح.، تبقى الحياة فيها شراكة، مش بس روتين بس عارف أنا نفسي حياتنا تبقى مافيهاش مشاكل ولا فيها غضب هدوء وبس.
تنهد مكي وهو يقول بهدوء بنبره بها وجع مبطن: مافيش حياه خالية من المشاكل، أوقات بتكون المشاكل سبب، بإنك تعرفي هل الطرف التاني بيحبك بصدق أو لا، هل بيهون عليه يسيبك نايمة زعلانة ولا بيعمل المستحيل عشان يصالحك، والعكس صحيح مش مهم مين يبتدي بس المهم لما بيتعتذري بيتغفرلك عشان المحبة إللي بينكم أكبر من الزعل.
سكتت نيرة للحظة، ثم قالت بخوف: أنا بخاف من الزعل بخاف أخسر إللي بحبه.
هز كتفه وقال وهو ينظر بعيداً: الخوف مش صح، هو نوع من الشك، وقلة الثقة.
ابتسمت نيرة، ابتسامة خفيفة لكن فيها وعي: عندك حق، بس برضه المكان هنا حلو، تعرف إن دي أول مرة أجي الهرم متأخر كده؟
ابتسم مكي ابتسامة باهتة: مبسوط إنه عجبك.
نيرة بهدوء وهي تمسك الكوب: ممكن تحكي لي شوية عن نفسك؟
هز رأسه إيجابًا، وبدأ يروي لها ما تريد، يتبادلان الأحاديث بإبتسامةٍ كاذبة، يحاول ان يظهر اهتمامه. كانت لطيفة، عقلها منظم، وقلبها سليم.. لكن هو؟ كان واقفًا هناك، على حدود الزمن، قلبه متوقف عند عتبةٍ اسمها سلوى.
منزل مكي التاسعة مساءً
دخل وهو بيحاول يخفي توتره، لكن ملامحه كانت متعبة ومشوشة، وضع المفتاح على الطاولة وهو بيزفر نفس طويل.
كانت والدته، ليلى، جالسة على الأريكة وسط كوم من الهدوم تقوم بتطبيقها.
ليلى وهي تطوي الملايس: قول لي عملت إيه مع نيرة النهاردة؟ البنت كويسة.
مكي بإبتسامة كاذبة: كويس الحمد لله.
تأملت ملامحه للحظة، تركت الهدوم على جنب وقالت وهي تركز النظر في ملامحه: ده وش واحد لسة راجع من خروجة مع خطيبته؟ مالك؟ شكلك متضايق.
اتنهد، وجلس على المقعد أمامها، وراح يفرك يده ببعضها بعصبية: متضايق من نفسي يا أمي، البنت شكلها داخلة بقلبها، بتتكلم عن المستقبل، وعاقلة
وأنا مش عارف مالي، حاسس إني بظلمها، أنا لسه بفكر في سلوى، دماغي مع سلوى مش دماغي بس قلبي كمان، أوقات وهي بتتكلم، كنت بتخيل سلوي، بس في نفس الوقت، مش عايز أفضل محبوس في علاقة راحت، عايز حياتي تكمل مع حد يحبني يبقى عايزني ويختارني.
ليلى وهي بتتكّيء على ركبتيها: بص يا ابني، أصبر شوية، ولو حسيت إنك مش قادر، خلاص ماتكملش، بس ماتطولش في الظلم، يعني إدي لنفسك مدة، شهر مثلًا.
تابعت بحكمة:
وماتبصش بس على الحب، أنا ممكن أحبك وأتعبك وممكن ما أحبكش، بس أقدّرك وأريحك وأحترمك، الجواز مش عايز حب وبس، الجواز عايز راحة وونس وطبطبة وصبر وتفاهم، معلش أفتكر سلوى لما اتخانأتوا حصل إيه؟! حتى لو كانت شايفاها كبيرة، هي عملت إيه؟ سابتك ومشيِت، يعني لو أي مشكلة هاتواجهها بالهروب، ده يخليك تفكر تاني، خليك عاقل، وأحكم بعقلك، مش بقلبك.لو مشيت ورا قلبك يا ابني، هاتخسر كتير..
تنهدت وهي تنظر أمامها بعقلانية وحكمة:
هو وجع القلب صعب، بس العشق يا ابني خلّى رجالة كتير متجوزين بس كأنهم لسة عذاب وستات كتير متجوزين كأنهم عوانس، عشان حبسوا نفسهم بهوس الحب، أسمع مني خليك مع إللي يريحك، مش مع إللي يوجعك ويقول بيحبك.
سكت مكي للحظات، قال بهدوء بمرارة وحيرة:
والله يا أمي أنا مش عايز أظلم نيرة، هو ده إللي يهمني، أنا هدي لنفسي بس أسبوع، كدة كدة سليم مسافر، فأنا هبقى فاضي وأركّز معاها شوية لو حسّيت إنّي مش قادر خلاص.
ليلى تدعو له بحنان أم وهي تربط على كتفه ربنا يريحلك بالك يا ابني وينور لك طريقك
فيلا سليم وماسة
غرفة نوم ماسة الواحدة صباحًا
نرى ماسة جالسة على الفراش، تقرأ أحد الكتب بتركيز.
كل شيء هادئ، إلى أن بدأ صوت أنين خافت، شخص ما يصرخ من الوجع، رفعت عينيها بإستغراب، وألتفتت في إتجاه الصوت.
في الغرفة المجاورة
سليم يجلس على الفراش، وجهه شاحب، يتصبب عرقًا من وجنتيه، يتألم بشدة من قدمه، يجزّ على أسنانه وهو يتأوه من الألم، ثم وضع في فمه قطعة قماش ليكتم الأنين، يعضّ عليها من شدة الوجع.
بينما ماسة أغلقت الكتاب، نهضت وخرجت من الغرفة.
الصوت أصبح أعلى، كان صادرًا من غرفة سليم.
دفعت الباب بهدوء، فكان نصفه مفتوح، فرأت سليم جالسًا على السرير، يتألم بقسوة.
ركضت نحوه، الرعب يفيض من وجهها: سليم! مالك؟!
رفع عينيه بألم وتمتم: إنتِ قلتي اسمي.
توقفت أمامه وهى تحرك أناملها على وجهه بلهفة: فيك إيه مالك؟!
سليم بألم: رجلي بتوجعني أوي.
ماسة وهى تلمس كفه بيدها بقلق: طيب طيب أعملك إيه؟ أكلم الدكتور؟
سليم بنبرة تخرج بصعوبة: أخدت مسكّن بس الوجع جايب آخري مش عايز يهدى.
ماسة بإستنكار: مسكن إيه بس! أنا هكلم مكي يجيب دكتور فورًا.
فجأة أمسك كفها، ضغط عليه بقوة، كادت يده تكسر يدها بين أصابعه، لكنها تحملت، ثم سحب يده، وعضّ على الملاءة وهو يتأوه من جديد.
ماسة نظرت له من أعلى لأسفل، والدموع تلمع في عينيها، ركضت وأمسكت هاتفه، وأتصلت بمكي.
ألو، مكي، أنا ماسة، تعال بسرعة، سليم تعبان جدًا!
قفز مكي من على الفراش: طب كلمي عشري عندك، أنا هلبس وأجي فورًا.
ماسة برجاء وعينها على سليم: ماتتأخرش بالله عليك.
أغلقت معه، وأتصلت فورًا بعشري ليحضر الطبيب.
ثم عادت وجلست بجانب سليم بدموع وخوف: ألف سلامة عليك، إيه إللي حصل؟
وضع سليم رأسه على قدميها، وأمسك يدها بقوة:
بقالي فترة حاسس بألم، بس النهاردة الألم غير محتمل.
ماسة وهى تمسح بظهر يدها على خده: طب ارتاح، ماتتكلمش لحد ما الدكتور ييجي.
نظر لها سليم بعينين تدمعان: بتحبيني؟ خوفتي عليا.
نظرت له ماسة بصوت منخفض: أرتاح ماتتكلمش كتير.
سليم بنبرة مهتزة: لسة بتحبيني؟
ماسة بهرب: أنا بعمل كده عشان واجبي وإنسانيتى بيحتموا عليا أعمل كده إنت جوزي.
سليم أبتلع غصته: يعني شفقة؟
تنهدت ماسة بتعب، وقبل أن ترد، دخل الطبيب مع عشري.
رفعت ماسة سليم وساعدته يتمدد على الفراش.
حاولت التحرك، لكنه أمسك يدها، تبادلا النظرات، وبدأ الطبيب فحصه.
الطبيب بتساؤل: إنت عملت مجهود جامد الفترة إللي فاتت، أو عملت حركة عنيفة.
سليم: هممم
الطبيب: إن شاء الله مافيش حاجة، بس ماقدرش أحدد من غير أشعة، هاديك حقنة مسكن قوية جدًا، هاتهدي الألم، بس حاول ماتتحركش يومين.
لازم تعمل أشعة ، ونتأكد من وضع الرصاصة.
ماسة بلهفة و توتر: ممكن يكون في حاجة كبيرة؟
الطبيب: إن شاء الله لأ… أهم حاجة دلوقتي الراحة، ويأكل كويس، لإن الحقنة دي قوية، ممكن ياخد واحدة كمان بكرة، وبعد يومين نعمل الإشاعة والتحليل ونشوف.
ماسة: تمام، شكرًا يا دكتور. عشري، بعد إذنك مع الدكتور.
عشري: ألف سلامة عليك يا ملك هجيبلك الحقنة.
خرج عشري مع الطبيب بينما، جلست ماسة بجانب سليم من جديد، نظرت له بإبتسامة خفيفة، تمرر يدها على خده بحنان: إن شاء الله تبقى كويس، ماتقلقش.
تبسّم سليم، عدّل نفسه، ووضع رأسه على صدرها.
ماسة أحاطته بذراعها، ومسحت على شعره بحنان.
قال سليم بإبتسامة هادئة: على فكرة، أنا حبيت إنسانيتك.
تنهدت بتعب: ممكن ترتاح؟
سليم بنظرة حب فهو تأكد أنها تعشقه كما يعشقها لكنها غاضبة مما فعل ليس إلا: أنا كدة ارتحت جدًا وبرغم إني كنت متأكد، بس إللي عملتيه دلوقتي، أثبتلي إني مش واهم نفسي.
ماسة بشدة: قلتلك بعمل كده علشان..
قاطعها سليم: إنسانية عارف، وأنا مش طمعان في أكتر من كده.
ماسة بهدوء تبسمت: طب أرتاح يا سليم.
تبسم سليم مازحها: مش سجاني يعني.
ماسة رفعت حاجبها: وبعدها معاك؟
تبسم بدمع خائنة هبطت من عينيه: خلاص هسكت أنا أصلًا تعبان مش قادر أتكلم كفاية إنك جنبي.
أرخى ظهره، وظل ينظر إليها بإبتسامة صغيرة، ابتسامة محملة بالحب والانكسار، وهي تمسح على شعره بحنانٍ صامت، لكن دموعه كانت تنهمر في صمت، وعيناه معلّقتان بوجهها، بعينٍ لا ترمش،يفيض منها الوجع، كأن قلبه ينسكب من بين جفنيه.
ظلّ سليم مستلقيًا كما هو، ينهك جسده التعب، بينما ماسة بجواره “تسقيه من دفء قلبها واحتوائها
في صمت.
حتى دخل مكي، تظهر عليه لهفة وقلق شديد: سليم، إنت كويس؟
هز سليم راسه بصمت وهو على نفس الوضع.
ثم ألتفت إلى ماسة متسال: إيه إللي حصل؟
ماسة بتوتر: مش عارفة، كان تعبان جدًا، كنت قاعدة في أوضتي، وسمعت صوته بيصرخ من الألم، الدكتور قال لازم يرتاح يومين، وبعدهم نعمل إشعة.
مكي بضجر: أنا قلتلك تعمل الأشعة بس إنت مافيش فايدة.
سليم، بصوتٍ مرهق: أحجز تذكرة لألمانيا الأسبوع الجاي.
مكي، بهدوء: طيب، بس أرتاح الأول، بكرة نتكلم، أنا هستناك تحت، لو احتجتوا حاجة.
ماسة تدخل في الكلام سريعًا: مكي، ممكن تطلب لنا أكل؟ الدكتور قال الحقنة قوية، وسليم لازم ياكل بس بعد إذنك، ماتصحيش سحر، حرام، أطلب أي حاجة مشوية، سليم بيحب المشويات.
مكي: حاضر، سلامتك يا سليم.
هزّ سليم رأسه، وبقي كما هو. تحرك مكي وتركهما.
ماسة، بصوت خافت: إن شاء الله هاتبقى كويس مش حاسس أنك أحسن لو شويه صغننين.
تبسمت سليم إبتسامة صغيرة قال بعشق بنبرة حافضه: أكيد هكون أحسن كتير، حضنك احسن من مليون الف مسكن، ونظره من عينك هي دوايا.
رمشت بعينيها وهي تنظر له بصمت وهي تمرر أناملها على لحيته بصمت..
ظلّ سليم على حاله كان ينظر لها بصمت يتأمل وجهها بعين لا ترمش وهو يشعر بنوع من الندم ودموع تهبط من عينه بينما كانت ماسة تمر يديها على شعره ولحيته هي أيضا تتامله وكانت تريد أن تقول له لماذا فعلت كل ذلك بنا؟!
حتى عاد مكي بعد قليل، ومعه الطعام، وُضع الطعام في الأطباق، نهضت ماسة وساعدته على الاعتدال ثم، قدمته له الطعام.
ماسة بحماس: يلا بقى، كُل عشان تاخد الدواء. تصبح على خير.
سليم، بتفاجئ إيه ده؟ مش هاتقعدي تاكلي معايا؟
ماسة: لا، مش عايزة آكل، هاروح أنام.
نظر إليها سليم بوجع: ماشي… شكرًا.
أمسك بالملعقة، وبدأت يده تهتز متعمدا فعل ذلك، كأنّه لا يستطيع إطعام نفسه، نظرت له ماسة، حاولت أن تتجاهل، لكنها لم تستطع، يده ما زالت ترتجف، والطعام يسقط منه.
عادت إليه، جلست أمامه، أخذت الطبق، سكبت بعض الطعام، وقدّمته له، ثم بدأت تُطعمه، وهو يرمقها بإبتسامة ضعيفة.
سليم بمزاح محبب: ده برضه إنسانية، صح؟
ماسة، بجمود: اها.. أنا وقفت جنبك علشان ضميري كنت خايفة عليك، بس ده مش معناه إني نسيت إللي عملته، أنا أكيد في قلبي لسة حب كبير ليك بس هعرف أعلمه إزاي يكرهك.
سليم بحزن: هتفضل كدة لحد إمتى؟
ماسة تنهدت: لحد ماتريح نفسك وتطلقني، أنا قاعدة هنا بس علشان أحمي أهلي من شرك.
سليم مستغرباً بهدوء: ليه فاكرة إني ممكن أؤذيهم؟
ماسة بشدة رفعت حاجبها: يعني لو دلوقتي فتحت باب البوابة ومشيت، مش هتقرب منهم؟ مش هتسألهم فين ماسة؟ مش هاتشُك إن حد فيهم ساعدني؟ مش هاترفع مسدسك تاني عليهم.
سليم أبتلع ريقه: معرفش.
ماسة بضجر: يعني إيه ماتعرفش؟
سليم بضيق: يعني معرفش يا ماسة، إنتِ لما بتبعدي عني، بتجنّن غضبي بيعمينى، ولحد اللحظة دي، ماقدرش أديكي إجابة، بس إللي متاكد منه إني أكيد مش هقتلهم.
ماسة بشك: بس ممكن تعذبهم عموما أنا مش مصدقاك أصلا..،
مدت يديها بالمعلقة: كُل يا سليم، خلاص إحنا انتهينا.
أدار سليم وجهه عن الطعام وهو يقول بنبرة منكسرة: كان نفسي تحطي نفسك مكاني هاتعرفيني رد فعلي كان طبيعي حتى لو مبالغ فيه.
ماسة بوجع: وأنا كمان، حط نفسك مكاني، لو إنت علاقتك بأهلك حلوة، وجيت أهددك بيهم كنت هتعمل إيه؟! أحساسك هيكون إيه هتتكسر..
بدموع تهبط على وجنتيها بخذلان:
أنا بقيت بخاف منك، بخاف عليهم منك، قول لي… طبيعي الست تخاف من جوزها على أهلها؟! إنت نفسك، لحد دلوقتي، مش قادر تطلع كلمة “مش هقرب منهم” لإنك عارف يوم ماهسيبك، هتتجنن… وأول حد هتتجنن عليه، هما أهلي.
سليم، بضجر وليه تمشي من الاساس؟!
ماسة وهي تنظر داخل عينه: أفرض أي حاجة حصلت اتجننت في عقلي تاني تقدر توعدني إنك مش هتعمل فيهم إللي عملته قبل كدة تقدر؟!
سليم بنبرة مهتزة: قلتلك لحد ما أرتّب نفسي،
ماتحطيش أهلك قدامي في موقف زي ده، أصبري عليا، أنا مش بخاف من العالم كله، قد ما بخاف من نفسي من إنفعالي، من دماغي إللي لما بتولّع وما بعرفش أطفيها، علشان كدة مش هقدر أوعدك، لإني لو وعدتك وماوفيتش، هاتكرهيني أكتر من دلوقتي، وأنا إستحالة أخاطر بآخر خيط.
ماسة هزت رأسها بأسف:وأنا مش عارفة أرد عليك أقول لك إيه؟! .. كل، إنت تعبان.
سليم: أنا شبعت.
وهي تهم بالنهوض: طب تصبح على خير.
سليم، بصوت حاسم: إسمعي إنتي من النهاردة، مش هتنامي برة تاني، أوضتك هي مكان جوزك، ومكان جوزك هو إللي هتنامي فيه، أوعي تنسي إنك مراتي لحد اللحظة دي.
ماسة توقفت، نظرت له بثبات:مافيش مشكلة، احب افهمك معلومه بسيطه، أنا مش مانعة نفسي عنك ممكن تاخد حقوقك في أي لحظة، وحاضر، هنام جنبك دلوقتي، بس لازم تفهم، إللي نايم جنبك جسد، من غير روح.
سليم، بصوتٍ مكسور: نامي إنتِ بس، وأنا هعرف إزاي أخلي الجسد ده يرجع له الروح تاني.
تنهدت ماسة: طب إنت أكلت ولا لسة؟
سليم: أكلت.
ماسة بشدة: لا، إنت ماتقولش أكلت وإنت تعبان، لسة محتاج تاكل علشان الدواء.
سليم تبسم: ماتقلقيش، أنا بعرف أفصل، وأكل كويس لإني محتاج صحتي عشان أعرف أقاوم عنادك، حقيقي أنا مش قادر آكل تاني.
ماسة بإطمئنان: ورجلك؟ لسة بتوجعك؟
تبسم سليم: لا أحسن كتير حلو التناقض ده.
نظرت له دون رد، بدأت ترفع بقايا الطعام، وضعته على الطاولة، ثم تمددت على طرف الفراش، ظهرها له، عيناها مفتوحتان في العتمة،وأفكارها تتزاحم في رأسها، تنهشها:
أجمدي لازم تثبتي له إنك بتكرهيه, لازم تقنعي قلبك يكرهه، هو ماتغيرش، ولا هيتغيّر، هو بيقولها لك من غير ما يخجل: لو أهلك اتحطوا قدامه هاينهيهم عشانك ده مش حب، ولا إنسان طبيعي ممكن تسامحيه، أو تدي له فرصة، ده إنسان مريض، ماسة. لازم تكرهيه.
تضغط على عينيها، تحاول طرد الصور من ذهنها، صورته وهو يتألّم، يتنهّد، ينظر إليها بعينين دامعتين لا تستطيع نسيانهما، لكن قلبها يقاوم، يصرخ بداخلها: “كفى ضعفًا”.
على الجانب الآخر من الفراش، سليم مستلقي، عيناه نصف مغمضتين، يبدو نائمًا… لكنه ليس كذلك.
أنفاسه ثقيلة، صدره يعلو ويهبط بهدوء مصطنع وهو يقول في نفسه:
بتخافي عليا، مهما قلتي، ومهما حاولتي تظهري العكس، إنتِ لسة بتحبيني، إللي عملتيه النهاردة ماتعملهوش واحدة قلبها مات، أنا عارف، وهفضل أراهن على ده، هارجعك، يا ماسة، مش هرتاح غير لما تبقي ليا تاني، بس المرة دي، هعرف أرجعك صح مش بالقوة، هخليكي تفتحي قلبك من غير ماتحسي، أنا بحبك، حتى وإنتِ عاملة بتكرهيني..
ثم غرق كلٌّ منهما في نومٍ عميق.
استيقظ سليم في اليوم التالي، وجد الفراش بجانبه خاليًا.
أعتدل في جلسته بفزع، ألتقط التابلت بسرعة وفتح الكاميرات، رآها واقفة في المطبخ تُعدّ الفطور.
زفر براحة، وضع يده على صدره، وأغمض عينيه لثوانٍ، وكأن صدره قد تنفّس أخيرًا.
لم تمضِ سوى دقائق، وصعدت ماسة تحمل الطعام بين يديها.
ماسة بإبتسامة مشرقة: صباح الخير، صحيت؟
سليم وهو لا يزال ممدّدًا: آه، لسة صاحي الساعة كام؟
ماسة: الساعة 11.
سليم تنهد: نمت كتير أوي.
جلست أمامه بلطف: معلش، كنت تعبان، رجلك عاملة إيه دلوقتي؟ أحسن؟
سليم هز راسه بإيجاب: الحمد لله.
ماسة: طيب يلا كل بقى كويس علشان تاخد الدوا.
بدأت ماسة تُطعمه بيديها بهدوء لم تعطه فقط طعامًا، بل قدّمت له لحظة قُرب.
لم يفتح سليم باب الحديث، فكان مستمتعًا وهو يشعر بمحبتها..بعد الطعام، جلسا في غرفة المعيشة يشاهدان التلفاز بصمت، تجنب سليم التحدث حتى لا يتحول إلى شجار، أراد فقط لحظات هادئة.
أخذ حقنته، وتحسنت حالته، ليس فقط بسبب الدواء، بل لقرب ماسة واهتمامها.
خلال يومين…
كانت ماسة حاضرة في كل شيء، في نظراتها، في لمستها، في حرصها على إطعامه بيديها كما لو كان طفلًا يتعافى من وجعه، وحتى في نومها إلى جواره، كانت تفعل كل شيء رغمًا عنها، لا حبًا ولا كرهًا، بل شيئًا يشبه الحنين إلى ما لا يُقال.
كان سليم يتحسن يومًا بعد يوم، حتى استعاد عافيته وعاد إلى “المجموعة”، وعادت الحياة من حولهما كما كانت، لكن شيئًا واحدًا لم يعد:
الروح، لم يكن هناك عناد، لم تكن هناك أحاديث مؤلمة أو صدامات، فقط حياة صامتة، متوازنة، ولكن خالية من النبض.
فيلا سليم وماسة
غرفة النوم العاشرة مساءً
ماسة تجلس على الفراش، تشاهد أحد الأفلام الأجنبية سمعَت صوت الباب يُفتح ببطء دخل سليم إلى الغرفة.
سليم: مساء الخير
ماسة رافعة عينيها: مساء النور
جلس سليم بجوارها على الفراش.
سليم: عاملة إيه النهاردة؟
ماسة: كويسة.
أخرج سليم قرصًا من المسكن من جيبه، وهو يضع يده على بطنه، ، ابتلعه بهدوء بعد أن أحتسى الماء
كانت تراقبه ماسة، ثم علّقت وهي تتابعه بعينين قلقتين: بتاخد المسكن ده كتير أوي غلط يمكن هو إللي تعب معدتك كده.
سليم ببهدوء: ده مسكن لمعدتي، مش لرِجلي. بس فعلاً معدتي الفترة دي بتتعبني جامد.
ماسة: طب ماتروح للدكتور؟ ليه مستني تعبك يزيد؟
سليم ضاحك بخفة: ما أنا مسافر بكرة ألمانيا هشوف كده هناك هيقولوا ايه؟! لو كده هرجع في دكتور كويس حازم قال لي عليه اسمه مصطفى، يلا هريحك مني أسبوع بحاله..
ثم أضاف وهو يبتسم بمرارة:
أكيد إنتِ في الأسبوع ده هتعيشي أسعد أيام حياتك.
ماسة بقسوة: أنا بقدر أسعد نفسي حتى بوجودك بس صدقني، أنا خلاص، مابقيتش شايفاك.
تنهد سليم، ثم قال بنبرة هادئة: مش مشكلة المهم إنك عايشة معايا، وقدّام عينيا وخلاص.
ثم همس وهو ينظر لعينيها: المهم إني أنا شايفك بعيني.
بعد لحظة صمت، وقف سليم متجهًا نحو خزانة الملابس: هجهز هدومي.
لكن ماسة نهضت وهي تقول:خليك إرتاح أنا هجهزهالك. محتاج حاجة معينة؟
سليم: تؤ، ماتحطيش بدل كتير، كفاية واحدة.
هزت رأسها بالإيجاب، وبدأت بتحضير الملابس بهدوء، وضعتها في الحقيبة.
كان سليم يجلس صامتًا يراقبها، وفجأة وضعت يدها على عينيها.
سليم بقلق: في إيه؟
ماسة وهي تدعك عينيها: مش عارفة حاسّة إن في حاجة دخلت في عيني، بتوجعني جدًا.
أقترب منها سريعًا، توقف أمامها، وبهدوء قاد شفتَيه صوب عينها، وبدأ ينفخ فيها بحنان.
ربما كانت هذه أول مرة يقتربان فيها بهذا الشكل منذ يوم الهروب، قلب ماسة بدأ ينبض بعنف، وهذا القرب كان يربكها فتلك القشعريرة التي داهمت معدتها بسبب ذلك القرب وأنفاسه الساخنة التي تلامس وجهها جعلتها أن تهتز وأن ذلك الصخر الذي بينه وبينها على حافة التهشم وبدات ملامحها ورعشتها تفضحها.
ابتعدت ماسة بهدوء بصوت خافت: خلاص بقيت كويسة شكرا
حاولت التحرك، لكنه أوقفها، ضمم بكفيه كتفيها، ثم قال وهو ينظر دخل عينيها بشوق بصوت منكسر: عارفة إنك وحشتيني كل حاجة فيكي وحشتني.
اقترب منها أكثر، وبدأ يطبع قبلات متقطعة على وجهها، حتى وصل لعنقها، حاولت التماسك لكي لا تضعف، همست: سليم..
لكنه لم يتوقف، طوّق خصرها بذراعيه، وضمّها إليه، ثم طبع قبلة طويلة على شفتيها،وفي لحظات، ذابت ماسة بداخلها، لم تكن مجرد قبلة، بل لحظة إنهيار وصمت طويل هي لم تقوم بتبادل القبلة معه ولكنها كانت مذابة وكأنها على حافة الإنهيار لكنها فجأة جمعت شتات نفسها لكنها تركته يفعل ما يريد.
لم يكن برود لكنها ليست ماسة التى يعرفها..
حين لاحظ عدم استجابتها، ابتعد عنها قليلًا، ثم نظرت له بصمت كإنه يتساءل ما بك أجابته على تلك النظرة بهدوء: أنا مش همنعك عني، بس مش علشانك، علشان أنا مش هاخد ذنبك.
(ثم بابتسامة ساخرة): ده حقك حقك الشرعي، مستحيل آخد ذنب في شيطان زيك وأخلي ربنا والملائكة تلعنى.
سليم وهو يحاول مقاومة غضبه قال بنبرة رافضة مهتزة بكبرياء: ولا أنا هقبل على نفسي، آخد حاجة بالطريقة دي؟! مش أنا الراجل اللى أفرض نفسي على وأحده، لازم تكون عايزني أضعاف ما أنا عايزها.
تنهد، مبتعدا ثم تابع بنبرة مجهدة: محتاج أنام، عندي اجتماعات الصبح، وبعدها هسافر على ألمانيا مش هرجع على هنا، مكي هيكون معاكي، مش عايز أكرر.
تبسمت ماسة ببرود، وأعطته ظهرها وقالت باستهجان ساخر: أوعى تعملي حاجة تخليني أندم، أو تخليني أتصرف تصرف مايخطرش في بالك،
وطبعًا أهلك، ممنوع حد فيهم يدخل من باب الفيلا ولا هعمل حاجات خيالك يعجز عن تصورها.
ألتفت له بإبتسامة تهكم هادئة: مش ده إللي كنتِ هتقوله يا سجنجن؟!
سليم بنبرة لازعه مستخفاً: برافو خليكي ماشية على الطريق المستقيم، لحد ماقولك إني بقيت تمام وساعتها هقدر أوعدك إني مش هقرب من حد.
نظرت له ماسة من أعلى لأسفل بصمت بإستياء دون تعليق، ثم أغلقت حقيبة السفر وهي تقول: أنا خلّصتلك شنطتك، إن شاء الله ترجع بالسلامة.
جلست مرة أخرى على الفراش، وأكملت الفيلم.
أما سليم، فظل ينظر لها بتعب واضح، يعلم جيدًا أنه السبب فيما آلت إليه لكن ليس بيده شيء فعله حتى الأن..
تحرك، وإتجه إلى الحمام، أخذ حمامه، ثم ذهب للنوم.
وفي صباح اليوم التالي… توجه إلى المجموعة إنتهى من أعماله ثم توجه إلى المطار.
💞_______بقلمي_ليلة عادل________💞
مطار القاهرة
سيارة سليم السابعة مساء
نرى مكي وسليم يتوقفا بجانب السيارة وعشري يقوم بإهباط الحقائب ومعه الحراس.
سليم قال بهدوء: خد بالك من ماسة، أوعى تهرب، دي مجنونة وممكن تعمل أي حاجة.
مكي وهو يعتدل من توقفه بثقة: ماتقلقش، بس بقولك إيه، ماتخليني أجيبلها باباها ومامتها، من غير سلوى ولا عمار.
سليم هز راسه وهو بيقول بحدة: لأ.
مكي رفع حاجبيه بإستغراب: ليه لأ؟! إنت مش هتكون موجود، ولو عملوا حاجة؟ مش هتخاف تندم يعني مش هتم اللي خايف منه؟!
سليم: وأنا ليه أُجازف؟
تدخل عشري، بصوت هادي وهو يتوقف جنبهم:
يا ملك، مش هيعملوا حاجة… هايشوفوا بنتهم بس والملكة ترضي عنك وتتصالحوا بلاش تخاف كدة عشان انتم كدة هتخسرو بعض.
مكي : شوفت مش رأي لوحدي اسمع كلام وبطل عند.
سليم بحسم: أنا قلت لأ، مش عايز كلام كتير.
يلا، عندنا طيارة. خد بالك، مش هقولك تاني.، يا ريت تفكر في موضوع نيرة.
أكتفى مكي بهز رأسه بالإيجاب، لكن ملامحه لم تكون مرتاحة
تحرك سليم مع عشري وأحد الحراس، صوب البوابة.
رمق مكي بنظرة قصيرة تحمل ما عجز عنه الكلام، ثم صعد إلى السيارة التي أنطلقت بهدوء.
وبالفعل وصل سليم الى ألمانيا لإجراء الفحوصات الطبية. حيث نري وهو يدخل المشفى حيث خضع لسلسلة من الأشعة والتحاليل المختلفة على ظهره وبطنه وقدميه.
في الجانب الآخر، كانت سلوى تتابع تحركات مكي بدقة، تراقبه من خلف الشاشات، تقرأ ما بين الصور والكلمات، خاصة بعدما بدأت نيرة تنشر صورًا تجمعها به من لقاءاتهما القليلة، كان مكي قد حاول الاقتراب من نيرة، تحدث معها، ضحك قليلًا، وتبادل معها بعض الهدايا لكنه لم يستطع تجاوز حائط يشبه التمثال، تمثال على هيئة امرأة أخرى تُدعى سلوى.
لم يكن قادرًا على إنكار أنه يفكر بها، ولا يكف عن النظر إلى صورها، وكأن عينيه تأبى نسيانها.
ومع كل خطوة يخطوها نحو نيرة، كان يشعر بشيء من الضيق في صدره، وكأنه يخون شيئًا ما في داخله، بل كثيرًا ما راودته فكرة أن سليم كان محقًا، وأن نيرة فتاة طيبة فعلًا، وتستحق من يحبها بصدق.
كان يحدث نفسه: ربما… لو انتظرت قليلًا، ربما نيرة تستطيع أن تنسيني سلوى… ربما.
لكن الحقيقة أنه خائف، خائف ألا يستطيع، أن يفشل في نسيان سلوى، وخائف أكثر أن تحبه نيرة حقًا… فيظلمها دون قصد لكنه مازال لا يأخذ قرار.
بينما ماسة كانت تقضي أيامها في هدوء داخل الفيلا، لا تفعل شيئًا سوى القراءة، تتنقل بين الكتب ومشاهدت الافلام، وكأنها تهرب من الواقع.
ورغم ذلك، لم تتخل عن عنادها، ورفضت لمس هاتف سليم الذي تركه لها، لكنها طلبت من سحر إجراء مكالمة قصيرة مع والدتها، وقد وافقت بعد استئذان سليم.
لم تتجاوز المكالمة دقائق معدودة، سلمت على سعدية، واطمأنت على والدها، سألت عن كل شيء، وأكدت لها والدتها أن الجميع بخير، ولا أحد يقترب منهم، أنهت المكالمة بهدوء، وعادت إلى صمتها.
ألمانيا
في إحدى العيادات الطبية العاشرة صباحاً
جلس سليم على المقعد المقابل للطبيب، وجهه شاحب، ونظراته قلقة، فيما كانت ساقه اليمنى تتحرك بلا وعي.
راح الطبيب يتأمل صور الأشعة الموضوعة أمامه على الطاولة، ثم أعتدل في جلسته وقال بصوت هادئ: الألم الذي تشعر به في قدميك، ليس بسبب ضعف عضلي أو التهابات عصبية، بل نتيجة ضغط متكرر وعنيف على القدمين، يبدو أنك كنت تضرب بهما شيئًا ما لفترة طويلة لكن ليس ذلك فقط.
رفع سليم بصره إليه، وسأله بصوت خافت: هل هي الرصاصة إذًا؟
أومأ الطبيب ببطء: للأسف، نعم. الرصاصة قد تحركت. الحركة طفيفة، أقل من مليمتر، لكنها مقلقة جدًا.
سكت سليم للحظة، ثم سأل بنبرة باهتة: هل يعني هذا أنني سأموت في وقت محدد؟
ابتسم الطبيب ابتسامة قصيرة لا تحمل طمأنينة:
لا، ليس الأمر كذلك، لكن دعني أكون صريحًا معك، كل تأخير في إتخاذ القرار الجراحي يزيد من إحتمالية الخطر الرصاصة الآن أقرب إلى نقطة شديدة الحساسية، وإن تحركت مجددًا، حتى بأقل مما حدث، فقد تتسبب في مضاعفات مميتة.
أطرق سليم رأسه، وأمسك بجانبي الكرسي كأنما يستند إلى ما هو أثبت من الحياة، ثم قال بصوت متردد: وهناك ألم غريب في معدتي، أحيانًا أشعر كأن أحدهم يمزقني من الداخل، هل له علاقة بما يحدث؟
هزّ الطبيب رأسه نفيًا، وقال بنبرة ثابتة: لا علاقة لذلك بالرصاصة، ما تصفه على الأرجح ناتج عن توتر نفسي الجسد، في بعض الأحيان، يعبّر عن أوجاع النفس بطريقة قاسية، أنصحك بالعودة إلى طبيبك النفسي، فهذا الألم لا ينبغي تجاهله.
رفع سليم عينيه إليه مجددًا، وقد امتلأتا بصمت ثقيل، ثم سأل: وماذا ترى؟ هل أجري العملية؟
الطبيب دون تردد: نعم. أرى أنها ضرورية، وبأسرع وقت، إن كنا نرغب في أن نسبق الخطر، لا أن ننتظره.
تنهد سليم بعمق: الطبيب الذي أجرى لي العملية في المرة الأولى أخبرني أن احتمالية نجاتي كانت لا تتجاوز السبعين بالمئة… وإن فشلت، فقد أُصاب بالشلل، او الموت هل ما زالت تلك النسبة قائمة؟
أجابه الطبيب بهدوء: النسبة تحسنت الآن. لدينا تقنيات أدق وتجهيزات أفضل، واحتمالات النجاح أصبحت تتجاوز خمسون بالمئة، لكن كلما أسرعنا، كان الوضع أكثر أمانًا، وحين تُزال الرصاصة، أمور كثيرة ستتغير: الألم في قدمك سيزول، وقدرتك الإنجابية ربما تتحسن بدرجة كبيرة.
هزّ سليم رأسه ببطء وقال: تمام…
ساد الصمت، ولم يعد في الغرفة إلا صوت أنفاس سليم المتقطعة، ونظرة الطبيب التي حملت شيئًا من الحزن والاحترام.
مصر
أحد الكافيهات الرابعة مساء
جلس مكي أمام نيرة، يحمل كوب العصير بين يديه، ويبتسم لها بصدق نادر، يستمع لحكايتها عن مغامرة سفر قديمة بشغفٍ خافت، كأنه يستعيد شيئًا كان مفقودًا.
ضحك بخفة وهو يرد على تعليقها، ثم رفع عينيه عفويًا نحو الباب… فتوقف الزمن، سلوى.
رأته كما رأها وقعت أعينهما في عينا بعضهما تبادل النظرات، تجمّد كل شيء في عينيها للحظة، شعرك بوجع في قلبها وعينيها امتلأت بالدموع فهو المكان الذي كانوا يترددون عليه وكان شاهدا على تلك الوعود والذكريات..لم تقوى على التحمل، تحركت سريعًا، أدارت ظهرها وغادرت، وكأن الهواء لم يعد يصل إلى صدرها، أما مكي، فتغيّرت ملامحه بالكامل.
أبتلع ريقه بصعوبة، نظر إلى نيرة التى لم تلاحظ شيئًا بسبب زاويه جلستها
مكي بهدوء مضطرب وهو ينهض: ثانية واحدة هرجع حالًا.
خرج بخطوات متسارعة، قلبه يسبق قدميه، وعيناه تبحثان عنها في محيط السيارات.
رآها تقترب من سيارتها، أسرع نحوها دون أن ينادي، حتى أقترب منها.
مكي: سلوى إستني بس لحظة.
توقفت، وهي تعطي ظهرها بألم مكتوم : .جاي ورايا ليه؟
مكي موضحا بهدوء: بس لاحظت إنك أول ماشفتيني مشيتي، فقلت يعني لو فيه حاجة.
استدارت له، عيناها مملوءتان بمرارة قالت بعتاب:
جايبها كمان في المكان إللي كنا بنقعد فيه؟ للدرجة دي بقت الذكريات سهلة عندك للدرجه دب هنت عليك؟
مكي متعجباً بنبرة حادة بعتاب: أنا إللي الذكريات هانت عليا؟ ولا إنتي إللي بعدتي وقفلتى كل حاجة؟
بتلوميني ليه؟ أنا إللي مشيت؟ ولا إنتي إللي قررتي تسيبي من غير حتى كلمة؟
سلوى بدموع: أنا مش بلومك، بس أنا زعلانة، زعلانة إنك خطبت بسرعة، وزعلانة أكتر إنك جبتها هنت، في المكان إللي كنا على طول فيه، بس خلاص، ربنا يوفقك.
مكي: إنت إللي اضطرتيني أعمل كده؟!
سلوى بحزن ممزوج بحدة هادئه وكانها عتاب: وإنت كمان إللي اضطرتني أعمل إللي أنا عملته، أنا لسة شايفة دم أختي وأخويا على ايدك، ودمنا إحنا كمان، سكوتك واستسلامك لسليم وإللي ممكن يعمله وإللي عمله، لو حد فينا يتجرأ يعمل حاجة، وجعني كسرني، خلاني مش عارفة أكمل معاك لإني أفتقد إحساس الأمان إللي كنت بحسه معاك، صورتك اتهزت،
مش عايز تقتنع أنك غلطت براحتك ، عموماً خلاص الوقت فات انت أخترت حياة جديدة بسرعه،
بس أنا كنت لسة بحبك ومش عارفة أشيلك من جوايا بس مش قادرة اسامحك أنك اخترت سليم.
مكي بضجر: وأنا مش هقول لك تاني في حاجة ثانية كانت سبب إنك تبعدي حتى او بتحبيني؟!
سلوى بوجع: قولت خلاص وقت كلام انتهى، عموما ربنا يوفقك في حياتك الجديدة.
بسرعة تمسح دمعة انزلقت دون إذن منها.
صعدت سيارتها وأغلقت الباب بقوة مكتومة، ثم رحلت.
وقف مكي مكانه، كأنه تلقّى ضربة في صدره، لا يعرف إن كانت من صوتها، أو من نظرتها، أو إنها لا زلت تحبه وتغار عليه.
عاد إلى الداخل بخطوات أبطأ، جلس أمام نيرة وهو يحاول ترتيب ملامحه، أن يرسم أي ملامح وجهٍ مطمئن.
نيرة بإبتسامة: كنت فين؟
مكي: قابلت واحد صاحبي، سلمت عليه.
صوته لم يكن مستقرًا، وابتسامته لم تُكمل طريقها.
أما قلبه فقد ظل واقفًا هناك، عند السيارة التي ابتعدت، حاملة ما تبقى منه.
ومضى الأسبوع ثقيلًا على كل من سليم ومكي.
مكي أدرك أخيرًا أنه لا يستطيع نسيان سلوى، خاصة بعد الحادثة الأخيرة، وشعر بأن استمراره مع نيرة سيكون ظلمًا لها. لم يتردد كثيرًا، واتخذ قراره بالإنفصال، قبل أن تتعقد الأمور أكثر.
أما سليم، فعاد من ألمانيا صامتًا، رافضًا أن يخبر أحدًا بما حدث هناك. لم يرغب في أن يطالبه أحد بإجراء العملية، فهو لم يكن مستعدًا بعد، لم يكن يخشى الموت بقدر ما كان يخشى أن يرحل قبل أن يأخذ حق ابنته، وحق ماسة، وحتى حق نفسه. كان يتمنى فقط أن تسامحه ماسة قبل أن يفوته الأوان.
ولذلك، حين عاد، أكتفى بالقول إن ما يشعر به هو مجرد إرهاق ناتج عن الضغط المتواصل على ساقيه، ولم يُشر من قريب أو بعيد إلى الرصاصة. تجاهل الأمر تمامًا وكأنه لم يكن.
أما العلاقة بينه وبين ماسة، فلم تشهد أي تغيير. لم تعد هناك محاولات منه، ولم تعد هي كما كانت. أصبحت أكثر هدوءًا، وأقل جدالًا، لا تتحدث إلا حين يُحدثها، فتجيبه بهدوء. صارت الحياة بينهما باهتة، خالية من الدفء. ينامان إلى جوار بعضهما، لكن المسافة بينهما كانت أبعد من أي وقت مضى.
فكر أكثر من مرة في أن يفاجئها بشيء، أن يفعل شيئًا يعيد الحياة بينهما، لكن شيئًا بداخله كان يُشعره بأنها سترفض. وما زاد من يقينه، أنها لم تتواصل مع عائلتها منذ عودتها، ولم تلمح لأي خطوة جديدة في حياتها.
سيارة مكي، الثامنة مساءً
أمام عمارة نيرة
مكي متوقف أمام السيارة يبدو عليه التوتر، عيناه شاردة، ونفسه ثقيل، وكأن القرار الذي يحمله في صدره أكبر من قدرته على نطقه، بعد قليل جاءت نيرة بإبتسامة استغراب.
نيرة متعجبة بقلق خفيف: إيه ماطلعتش فوق ليه وقلت لي إنزلي محتاج أتكلم معاكي إيه إللي حصل؟!
نظر لها بصوت لا يعرف كيف يبدأ، ضيقت نيرة عينيها تراقب ملامحه، ولاحظت أن شيئًا ما مختلف.
رفعت حاجبيها قليلًا وقالت بهدوء: مالك؟ شكلك تعبان في حاجة؟
رفع عينيه إليها أخيرًا، ونطق بصوت منخفض: أنا مش هكمل يا نيرة.
سكتت لثوانٍ، لم تفهم في البداية: يعني إيه مش هتكمل؟
مكى وهو يحاول أن لا ينظر في عينيها وتوتر يتصبب خجلا لكنه حاسم: أنا مش هقدر أكمل الخطوبة، مش عشانك والله العظيم، إنتي بنت جميلة ومحترمة، وكل حاجة فيكي تشجّع أي حد إنه يتمسك بيكي بس
رفع عينه لها بأسف: أنا مش صادق، مش صادق مع نفسي، ولا معاكي.
نيرة نظرت له طويلًا، ثم انحنت برأسها قليلًا: أنا كنت حاسة، بس قلت يمكن ده في دماغي مجرد احساس وهمي، يعني ماكنتش متأكدة، وكنت بديك وقتك.
مكي بأسف مفسرا: أنا حاولت بجد حاولت أكون موجود، أكون صادق، افكر في مستقبلي معاكي، بس كل مرة بحاول أقرب، بحس إني بكدب على نفسي، وبظلمك، وده أكتر حاجة تعباني، حقيقي أسف، صدقيني، قرار اخدته في وقت كنت غضبان، وموجوع رغم إن فيه أصوات قالت لي بلاش بس كنت فاكر إني هقدر لكني فشلت.
نيرة ابتسمت ابتسامة هادئة، لكنها مكسورة: أنا مش زعلانة منك، أنا ممتنة إنك قولتلي بدري، قبل ما أتعلق بيك أكتر.
مكي قال بمرارة: اتمنى تسامحيني، أنا دخلت العلاقة دي وأنا مجروح،كنت فاكر إني ممكن أبدأ من جديد، بس قلبي لسة واقف عند إللي فات.
رفعت نيرة عينيها إليه وقالت بنبرة ناضجة: بص، أنا مش هقولك تنساها، ولا هالومك بس أوعى تعمل كده تاني، ما تدخلش حياة حد وإنت مش فاضي، القلوب مش لعبة يا مكي انا ماحبيتكش بس استريحتلك، يمكن المرة الجاية البنت تحبك وجرح القلوب إنت مجربه.
هزّ رأسه، ولم يجد ما يقوله ثم تبسم: من قلبي بتمنى لك السعادة وتلاقي إنسان يستاهلك والله أنا إللي ماستاهلكيش.
تبسمت نيرة بصمت خلعت الخاتم وقدمته له
مكي نظر للخاتم: ده هدية مني أرجو تقبليه.
نيرة وهي تهز راسها برفض: معلش أنا أسفة مش هقدر احتفظ بيه، مش عايزة حاجة تفكرني، وبعدين ده مش ملكي، ملك شخص تاني بعد إذنك.
تحركت نيرة بهدوء لم يكن بقلبها شيء فهي لم تحبه قط وكانت صادقه في حديثها، دخلت عمارتها، بينما مكي توقف ينظر لآثارها للحظة يتنفس هواء ،لكنه لم يشعر بأي راحة.
كل ما فعله، أنه أنقذ قلبًا جديدًا، لكن قلبه هو، ما زال غارقًا في سلوى.
فيلا سليم، العاشر مساءً
مكتب سليم
كانت الغرفة هادئة إلا من صوت أنفاسهما.، سليم يجلس خلف مكتبه، بملامح متعبة تخفي أكثر مما تُظهر، مكي أمامه، يميل بجسده للأمام قليلًا، وكأن الحوار بينهما لا يحتمل المسافة.
سليم بصوت منخفض بتأييد: الخطوة إللي عملتها دي كانت مهمة، هو ده الصح، بس قول لي، ناوي على إيه؟ هتحاول تاني؟
تنهد مكي، ومسح على وجهه بكفه: هو بعد الموقف إللي حصل، وغيرتها، حسّيت، كبر الأمل جوايا، بس بصراحة، مش شايف إن في حاجة ممكن تتم دلوقتي طول ما إنت مانعها هي وعمار وسعدية يبقوا هنا، هي مش هتتغيّر قرارها.
رفع سليم نظره ببطء وقال بجمود: وأنا مش ناوي اعمل كدة الا لما أتأكد اني اتغيرت، حلك الوحيد تسيب الشغل.
حدّق فيه مكي لحظة غير الحديث، ثم قال وهو يميل برأسه بشك: بس أنا مش مصدّق.، كل شوية ان تعب رجلك اجهاد بس قول الصدق، في حاجة مخبيها؟
رسليم دون تردد، وبنبرة أقرب للتهرب: لا مافيش لو قي مش هقولك ليه؟
صمت لثوانٍ، ثم سأله مكي بهدوء: معرفش، طب إيه أخبارك إنت وماسة؟
أخذ سليم نفسًا عميقًا، ثم قال بصوت مُطفأ: زي ما هي، بس بطّلت عند، وبطّلت بقى في صمت هي دلوقتي عايشة معايا بس علشان كحماية من اهلها مني، وأنا مش عايز أكتر من كده، كفاية تبقى جنبي، وخلاص.
مكي باستغراب: ودي تبقى حياة؟!
رفع سليم عينه نحوه لأول مرة، وقال بشيء من الحدة المكبوتة: كفاية إنها جنبي، وبشوفها، في نفس البيت إللي أنا فيه، لما بتعدّي قدامي عيني بتلمع، بشبع منها بنظرة. غير كده؟ مش مهم.
نظر له مكي بصمت فلا يعرف ماذا يقول.
(بعد مرور فترة)
في إحدى العيادات الباطنية التاسعة مساءً.
دخل سليم بخطوات بطيئة ومعه عشري، وعلى وجهه ملامح تعب وإرهاق دفين. استقبلته إحدى الممرضات بابتسامة رسمية.
الممرضة: حضرتك سليم بيه؟
سليم: أيوه.
الممرضة: الدكتور في انتظارك.
أشارت له بالدخول، فتح الباب بهدوء، فوجد مصطفى جالسًا خلف مكتبه، ينتظره بنظرة مهنية وابتسامة باهتة توقف عشري امام الباب.
(طبعاً كلنا عارفين مصطفى)
توقف مصطفى لاستقبال باحترام:. أهلا سليم بيه.
سليم بتهذب: أهلا يا دكتور.
صافحه سليم ثم جلس على المقعد الأمامي للمكتب، بينما مصطفى تجلس في مكانه يراجع بعض الأوراق.
مصطفى: دكتور حازم كلمني وشرح لي الوضع، ممكن توريني التحاليل؟
سليم: اتفضل.
مدّ سليم يده بملف أصفر سميك، تناوله مصطفى وبدأ يراجع الأشعة والتحاليل على بعناية، يقلب الورقة تلو الأخرى، ثم رفع عينيه.
مصطفى بهدوء: أنا مش شايف في التحاليل أي مشكلة عضوية واضحة، طب حضرتك بتحس بإيه بالظبط؟
سليم: تعب في معدتي، هنا كده، بيكون شديد، خصوصًا في أسفل بطني.
وأشار سليم إلى موضع الألم وهو يزفر بضيق.
مصطفى تسأل: بتحس بيه في أوقات معينة؟
سليم بتفسير: في الأول لما كنت بتعصب، بعدين بقى على طول، وكل اللي جربته ماجابش نتيجة، دكتور حازم قال لي إنك شاطر رغم إنك صغير.
مصطفى ابتسم باقتضاب وهو ينهض من مكانه: ميرسي يا فندم، طب خليني أكشف.
نهض سليم معه وتوجه ناحية سرير الكشف. بدأ مصطفى باستخدام السماعة الطبية، ثم ضغط بأصابعه في أماكن مختلفة من بطن سليم.
مصطفى: هنا بتحس بالم.
سليم: آه بيوجعني.
مصطفى: وهنا؟
سليم بالم اااه جامد.
مصطفى: طيب اتفضل معايا
انتهى الكشف، فعاد كلاهما إلى المكتب، جلس مصطفى مجددًا، ونظر إلى سليم بنظرة فاحصة أكثر عمقًا.
مصطفى: بصراحة، أنا شايف إن الموضوع كله نفسي.
سليم حرك رأسه ببطء، كأن الكلام ليس جديدًا عليه: حازم قال لي نفس الكلام، وكل الدكاترة اللي رحت لهم قالوا كده، حتى اللي في ألمانيا.
مصطفى: طب ليه ماجربتش تروح لدكتور نفسي؟
سليم هز راسه بلا مش هينفع، أنا محتاج مسكن، حاجة تهدي الألم ده، أنا خلاص اتعودت عليه، بقى جزء مني بس اوقات بيكون فوق طاقتي.
مصطفى فتح درج مكتبه وأخرج وصفة طبية: أنا هكتبلك نوع مسكن مختلف، مستورد، ممكن يساعدك، ياريت تبعد عن البقوليات، والحاجات المحمرة، خلينا في المسلوق والحاجات الخفيفة. ولو بتشرب كحول؟.
سليم عقد حاحبيه متعجباً: بس كده؟
مصطفى تبسم بهدوء: بس كده، حضرتك جربت كل حاجة، حتى التحاليل بره مصر، مفيش حاجة تانية أقدر أضيفها، غير إنك تحاول تهدى، وتشوف إيه اللي مضايقك وتحلّه ولازم تفكر في طبيب نفسي ده علاجك لو لفيت على دكاترة العالم مافيش حل مشكلتك نفسيه غير عضويه حتى الرصاصه مش سبب حاول تبعد عن التوتر بالقدر الكافي.
هز سليم راسه بايجاب نهضمن مكانه وهو يرتب جاكيته.
سليم: تمام يا دكتور، اتشرفت بمعرفتك.
مصطفى توقف امامه: ممكن نتابع كل أسبوعين.
سليم: لا، مش هقدر أجي كتير، موقفي حساس، وعندي أعداء، لو عرفوا إني مريض وبروح لدكاترة كتير مش هتبقى حاجة كويسة، بس أول ما أحس إني محتاجك، هكلمك.
مصطفى: ماشي، أنا أغلب الوقت في إسكندرية، وباجي القاهرة كل فترة، بس ياريت تبلغني قبلها.
سليم: إن شاء الله، بعد إذنك.
تحرك سليم خارج الغرفة، خطواته أهدأ مما كانت عليه عند الدخول، بينما بقي مصطفى في مكانه، ينظر إلى الباب المغلق بصمت، وقد شغله أمر ذلك الرجل الغريب الذي يحمل وجعًا لا تُظهره التحاليل.
مرّت الشهور..
وظلّت الحياة على حالها، راكدة لا حراك فيها، بلا جديد يُذكر. حتى العائلة، لم يطرأ عليها أمر يستحق الالتفات.
سليم؟ كأنما قرّر أن يُقصي كلّ ما حوله، ويغرق في العمل حتى أطرافه، أما البُعد الذي يفصله عن ماسة، أو التوتر العالق بينهما، فلم يعُد يُثقل كاهله كما يُفترض، بل بدا كمن يتجاهله عمدًا، أو يحاول تجاوزه بطريقته الخاصة، وما زال، بطبيعة الحال، يمنعها من رؤية عائلتها، لا لشيء، سوى لأنه ما زال يخشى نفسه.
رشدي؟ لقد التهمه الإدمان تمامًا، لم يعد يقاوم، بل استسلم بكامل إرادته، حتى بات عبئًا على نفسه، وعلى القصر أما سليم، فكان يزور القصر من حين لآخر، يطل على ما تبقى من رماده.
مكي؟ لم يحاول الاقتراب من سلوى مجددًا، تركها وشأنها، لكنه ظل يراقبها بصمت من بعيد حتى لم يخبرها أنه ترك نيرة.
وأما سعدية، فما زالت على توجسها القديم، تخشى أن يتعلق أحد أبنائها بماسة، أو أن تنجذب هي إليهم.
ماسة؟ كانت تتحدث إلى سعدية من حين إلى آخر، عبر هاتف “سحر”، مستغلةً غياب سليم، دون أن تعلم أن سليم ذاته هو من يسمح بذلك، من بعيد، دون أن يظهر.
أصبحت الحياة بينهما أكثر صمتا من أي وقت مضى كانا ينامان أحيانًا في الغرفة ذاتها، وأحيانًا لا، بحسب مزاج سليم.
وأما ماسة، فقد تركت له المساحة كاملة، لا تضايقه، وإن حاولت مضايقته، فبمزاح خفيف، باتت هادئة، لطيفة، وإذا تحدث إليها، ردت دون حدة أو اعتراض لكن الكلمات قليلة، مجردة، لا حياة فيها لم يعد يعتذر تركها، ربما لأنه يخشى أن يقدم لها حبا ذات يوم، فترفضه، فيغضب، فتقع بينهما كارثة، فاختار أن تعيش معه في صمت، على أن تعيش بعيدة عنه بحياة بلا روح، يكفيه فقط أنها إلى جواره.
رفض سليم أن يأخذ المطعم من مجاهد، او يتركون الفيلا بشكل نهائي واستمر في دفع لهم مبلغ كل شهر وعمل عمار ويوسف في شركة تبع أمنية
غرفة ماسة، السابعة مساءً
كان سليم واقفًا أمام المرآة، يهندم بدلته بعناية، يضبط ياقة القميص، ثم يرشّ عطره المفضل بثقة وهدوء بدا أنيقا ووسيمًا للغاية، وكأن كل تفصيلة في مظهره مدروسة، نظراته لنفسه في المرآة كانت مطمئنة، كأنه يستعد لشيء مهم.
بعد دقائق، دخلت ماسة الغرفة بخطوات خفيفة. وقعت عيناها عليه، فتوقفت قليلًا تراقبه بإستغراب، ثم ابتسمت وجلست على طرف الفراش، تسند ذقنها على كفها وتتابعه دون أن تخفي دهشتها.
ماسة تساءلت بتعجب: متشيك كده ورايح فين؟!
لم يرد، وواصل ما يفعله من ترتيب شعره وربطة عنقه.
ماسة رفعت حاجبها بضجر: هاااي، أنا بكلمك.
ألتفت لها بعينه دون أن يحرك جسده، ثم نظر إلى المرآة مجددًا: بتسأليني ليه؟
اقتربت منه بخفة، وقفت بجانبه: عادي يعني، فضول مش أكتر، وإنت مهندم كده وزي القمر، رايح تتجوز ولا إيه؟ ضحكت
ابتسم سليم، نظر لها للحظة، ثم قال بهدوء: ممكن
ضحكت ماسة، وقفت أمامه تتأمله من أعلى لأسفل:
بجد؟ طب أبقى قولي بس قبل ماتروح عشان أجهزلك الشمعة وأمسك طرحة العروسة.
ابتسم بخفة، ثم ألتفت نحوها وقال بسخرية لاذعة: ليه؟ هو أنا مستغني عنها؟
عضت شفايفها تحاول كتم الضحكة: إنجز بقى، رايح فين؟
أكمل تظبيط شعره بأنامله: في المرآة: ماقلتلك، رايح أخونك.
ببرود وهي تتحرك ناحية الفراش: طب ماتتأخرش
توقّف لحظة، ثم نظر لها من بعيد، في عينيه تساؤل غريب: ليه؟ متأكدة كدة إني مش رايح أعمل حاجة زي كده؟
رفعت عينيها له، صوتها واثق وواضح: لإني متأكدة
ظل ينظر إليها، كمن يقلب شيئًا في رأسه، ثم قال فجأة: على فكرة، أنا بفكر بجد أتجوز، وأعمل العملية وأعيش حياتي. وإنتِ؟ خليكي قاعدة كده بوزك في بوز الحيطان إللي شبهك.
سحب ساعته من على التسريحة، وارتداها ببطء، وكأن قرارًا داخله تغير للتو:
أنا فعلاً كنت رايح برنامج، بس لا هلغيه هخرج أقابل أي بنت من اللي كنت اعرفها زمان.
نظرت له ماسة دون أن ترفع صوتها، ردت بنفس نبرة البرود: براحتك بس ماتتأخرش عاملة لك أم علي.
ابتسم بسخرية، واقترب منها خطوة خطوة، نبرته أصبحت أكثر جدية، وأكثر وجعًا: هو إنتي فاكراني بقول كلام وخلاص، هاروح يا ماسة، وهوريكي إنك غلطانة، هتجوز وهعيش حياتي وخليكي إنتي كده.
ردت ببرود: حقك أنا لو منك، كنت خنتني من زمان. إنت راجل وليك احتياجاتك برضه.
أشار بيده بتحدي: ماشي، هخونك وهتشوفي.
خرج من الغرفة وهو يشعر بضجر، توجه إلى سيارته.
جلس خلف المقود مسح وجهه بيده شعر بثقل في صدره لا يستطيع تفسيره أدار المحرك، ثم أطفأه لحظة صمت لم تكن كافية، لكنه أدرك أنه لا يستطيع فعلها، لم يستطع خيانتها، لم يستطع حتى تحريك السيارة من مكانها، هو نفسه الذي كان يتحدى شعورها الآن عاجز أمام نظرتها الأخيرة.
دون تفكير. دفع باب السيارة، نزل بخطوات سريعة، وعاد إلى الداخل.
صعد الدرج بصمت. خطواته ثابتة، لكنها مثقلة بالتردد.
فتح باب الغرفة.
كانت ماسة تجلس على الفراش تتناول الفشار، تحاول أن تبدو طبيعية، بينما التوتر يعصف بداخلها. كان شعورها الداخلي يؤكد لها أنه من المستحيل أن يقدم على ذلك.
ولم تمر سوى لحظات حتى دخل سليم الغرفة.
شعرت بفرحة عارمة، فرحة لم تستطع وصفها، لكنها كبحتها بكبرياءها. تبسمت بخفة وهي تراقبه:
إيه ده؟ لحقت تخوني؟ ولا كنت بتخوني تحت؟ إنت حتى لو بتخوني تحت مش هتلحق، إيه السرعة دي؟ مش واخدالك على السرعة دي بصراحة.
تقدم سليم وسحب الكرسي وجلس بصمت، رفع عينيه نحوها وقال بنبرة هادئة:
أنا عايز أفهم حاجة واحدة، جبتي منين الثقة دي؟ طب زمان، كان ليكي حق، إنما دلوقتي؟ بعد إللي حصل؟ وبعد البُعد إللي حصل بينا؟ زي ما قلتي أنا راجل، وليا احتياجاتي
عدلت ماسة من جلستها، وقد أصبح صوتها أكثر هدوءًا، لكن الألم كان ظاهرًا فيه: وأنا قلتلك، وهفضل أقولها، أنا مش حارمة نفسي منك، إنت إللي حارم نفسك، مني
تنهد سليم بقوة، ثم قال بصوت يحمل مزيجا من الحنان والتهديد: ماتراهنيش كتير يا ماسة على صبري.
نظرت إليه للحظة، بدت مرتبكة، ثم تمتمت: أنا أنا مش براهن، يمكن، بثق
نهض واقفًا فجأة، ورد سريعًا: لا ماتوثقيش
تحرك نحو الباب.
ماسة من خلفه، ضاحكة بنبرة ساخرة: طب هتيجي على قناة إيه؟ عشان أتفرج عليك يا سجنجن.
ألتفت ناحيتها، رأى منشفة بجانب الكومود، تناولها وألقاها عليها وهو يجز على أسنانه.
ضحكت ماسة من قلبها، ضحكة حقيقية لم تعرفها منذ مدة.
أما هو، فغادر الغرفة ضاحكًا، ينزل على السلم بخفة.
رغم غضبه منها، إلا أن شيئًا داخله كان سعيدًا، سعيد لأنها ما زالت تثق به، ووعد نفسه من جديد، لم يخونها؟ الثقة وحدها، قد تكون الخيط الأخير… الذي يعيد كل شيء كما كان.
بعد مرور فترة
قصر الراوي السابعة مساءً
السفره
نشاهد جميع أفراد عائلة الراوي جالسين حول مائدة العشاء. الأطباق مملوءة، الجو هادئ، كان من بينهم سليم ، لكن رشدي لم يكن حاضرا
فايزة:بس خطوة إنك ترشح نفسك لمجلس الشعب مش تقليل منك يا سليم.
سليم ببهدوء وثقة: تقليل مني؟ بالعكس، دي خطوة مهمة جدًا.
طه معلقاً:بس إنت مش محتاج تبقى عضو في مجلس شعب عشان الحماية، إنت اسمك لوحده حماية.
سليم وهو يتناول طعامه بعقلانية: أنا شايف إن الخطوة دي هتحسن صورتنا، وتقربنا من الناس. ماتنسوش إننا بعدنا عن كل الشغل إللي كنا بنشتغله، والفلوس الكتير إللي كانت ببتقدم لهم زي الميه، خلاص، اتمنعت عنهم فإحنا محتاجين حماية من جوه وأنا هوفرها.
صافيناز متعجبة: بس إحنا أصلًا بعدنا عن كل شغل ممكن يجيب مشاكل أو خطر علينا.
سليم بحدة ناعمة: ومين قال إنك محتاجة تشتغلي شمال عشان يوقعوك؟ ممكن ببساطة جدًا في أي شحنة، يحطوا فيها مصيبة، أو مش لازم كده ممكن يعطلوكي، يخلوكي تخسري يسيبوها مركونة في المينا شهور لكن لما أبقى جوه، هعرف أتعامل.
عزت يهز رأسه: معاك حق.
ممر سليم عينه على الجميع ثم تساءل ويمضغ الطعام: هو فين رشدي؟ مختفي، بقالي كتير ماشفتهوش.
عزت بتنهيدة ضيق: أنا تعبت منه، طول النهار نايم، وطول الليل سهران بقى اسوء ماكان.
فايزة بضجر: سيبه، كفاية إنه بعيد عن المجموعة مش عامل لنا مشاكل.
سليم: بس ده مش حل، هو فين فوق؟
فايزة: أيوة، فوق.
سليم: أنا هطلع أتكلم معاه.
عزت ساخرًا: يا ريت، قبل مأقتله.
سليم بسخرية: تقتله؟! الجملة دي سمعتها أكتر من أي جملة في حياتي، وماعملتش حاجة، ده إنت حتى ما بتقدرش توق، كمل أكلك يا بابا، المهم، عايزين نفضل نتكلم مع بعض كتير، عشان أنا محتاجك في إللي جاي.
عزت: تمام.
وبعد إن إنتهى من تناول الطعام واحتساء الشاي في حديقة القصر وتبادل الاحاديث صعد سليم إلى رشدي.
غرفة رشدي
كان الباب نصف مفتوح، ورشدي يجلس على الأريكة، جسده متراخ وملامحه منهكة من أثر السكر. تنبعث الموسيقى من هاتف ملقى بجواره، وطبق زجاجي صغير يحوي مسحوقًا أبيض، يضع فيه ورقة ملفوفة من فئة الدولار، ويبدأ في استنشاقه ببطء، في اللحظة ذاتها، مر سليم أمام الغرفة، لمح المشهد، فتوقف، ثم دفع الباب قليلًا ودخل دون أن ينطق بكلمة، وقف أمامه، صامتًا، يراقب.
سليم بنبرة هادئة: إنت مبسوط باللي إنت فيه ده؟
رفع رشدي رأسه، نظر إليه بعين زائغة وضحكة مشروخة: الأمير الصغير. تعال، أتفضل، البيت بيتك.
تحرك رشدي قليلًا ليفسح له مكانًا. جلس سليم بجواره، ناظراً إليه دون أن يحول بصره، بينما رشدي أكمل استنشاق البودرة بلا خجل.
سليم بصوت منخفض: إيه إللي وصلت له ده؟
رشدي بنبرة سُكر: إللي وصلتله ده أحلى حاجة، بدل ما جربتش، ماتتكلمش.
سليم بضجر: بتضحك على نفسك ولا عليا؟
رشدي وهو يشعل سيجارته: لا دي ولا دي، أنا بقول الحقيقة، تحب أحطلك كاس؟ آه، صح، إنت بطلت، وبعدين إنت جاي تسأل عليا بلاش مش لايقة عليك؟
سليم صمت لحظة، ثم نظر له طويلًا، تساءل متعجبًا:
إنت ليه بتكرهني يا رشدي؟ أنا بسأل نفسي السؤال ده من سنين.، مافتكرش إني عملت معاك حاجة وإحنا صغيرين تستاهل الكره ده كله، معاك، كنت برخم عليك، وبضربك، بس إحنا كنا عيال، وإنت كمان ما كنتش ملاك، أنا مشيت وأنا عندي ١٢سنة، سبت مصر، ومارجعتش غير وأنا عندي٢٣، ١١ سنة…كنت فيهم في حضن الباشا والهانم، وأنا كنت مرمي في مدرسة داخلية، يعني فين إللي يخليك تكرهني كده؟ وماتحبنيش؟
رشدي بنظرة شبه ساخرة:وعلى أساس يعني إنك كنت بتحبني؟
سليم فورًا، بنبرة حادة: بس مابكرهكش، أنا بكره تصرفاتك، وبتنرفز من إللي بتعمله، بس عمري ماكرهتك، لو كنت بكرهك، مكنتش هفديك بحياتي.
رشدي تهرب من نظراته، يحاول الهروب من المواجهة: إنت جاي تقول الكلام ده ليه دلوقتي؟
سليم بحزن: علشان مش مبسوط، وأنا شايفك كده بص يا رشدي، أنا عارف إنك هتموت على العرش، خده، أنا مش فارق معايا ولا عايزه زمان يمكن، كنت نفسي فيه بس دلوقتي؟ لأ أنا عايزك تبطل إللي، بتشربه، وتفوق، وأنا هفضل جنبك، أساعدك، لحد ماتبقى أقوى مني، بس من غير غدر.
ابتسم رشدي ابتسامة غير مفهومة: مش فاهم يعني إيه محبة كذابة دي إللي طلعت عليك فجأة؟
عقد سليم حاجبيه، متعجبًا: محبة كذابة؟
رشدي بغضب، وهو يعدل جلسته: أيوه، محبة كذابة لو بتحبني ماكنتش تعملني المعاملة إللي كنت بتعاملني بيها، لما كنت بغلط، ماكنتش بتحتويني، كنت بتضرب، تشتم، تهين، تقلل مني، كسرت دراعي، وإيدي، وصباعي، رجالتك كانوا بيربطوني بالحبال، عمرك ماحترمتني، كنت عايزني أحبك؟ إنت مجنون
سليم بنبرة ندم: أنا عارف، عارف إني كنت بعملك بخشونة، بس إنت كنت بتقتل، يا رشدي بتأذي، كسرت ناس، اغتصبت بنات أنا بعدت عنك وبطلت أقرب، بس يوم ماكسرت دراعك، لإنك عكست مراتي
لو كنت مكاني، كنت هتعمل إيه؟
رشدي بلا تفكير: كنت قتلتك على طول.
سليم: طيب أهو، أديك قلتها.
رشدي بعينين ترفض الدموع:مش يمكن، لو كنت اتصرفت معايا من أول غلطة، حتى لو كبيرة، بعقل وحنان، كان زماني بني آدم تاني، بس إنت كل غلطة مني كنت بترد عليها بإهانة، بالضرب، بالصراخ
سليم نظر أمامه، كأنه يعترف داخليًا: أنا مش هجادلك أنا غلطت وأنا معترف، بس إحنا اتربينا كده ماحدش علمنا، ماحدش احتوانا الغلط مش بس فينا إحنا ولاد عزت وفايزة وماتعلمناش غير كده.
مد سليم يده إليه: بص، خلينا ننسى كل إللي فات، نبدأ من جديد نبقى إخوات بجد، نحقق حلم الباشا نقف جنب بعض، وأنا؟ أقسم بالله مش عايز العرش.
رشدي نظر له، عيونه حمراء، مبللة، وصوته مخنوق: خلصت يا سليم ما بقتش تنفع، إنت مش هتسامح ولا أنا.
سليم: مش صحيح لو عايزين ننسى، هننسى.
رشدي: مش هينفع فات الوقت.
وقف سليم ببطء، قال بثبات: أنا لسة مصر أنا هقول للباشا على موضوع الإدمان أنا غلطت لما خبيت مش نُدالة مني.
رشدي ببرود: مش فارق معايا
سليم وهو واقف على الباب:فكر، العرض لسة قائم بس بلاش تكون نهايتك جرعة بودرة، ونصيحة خد بالك من عماد وصافيناز، عشان إنت رامي نفسك في حضنهم جامد.
ضحك رشدي، ضحكة حزينة: أنا لما بسلم على عماد، بعد صوابعي،وصافيناز؟ أنا مسجلها على تليفوني، أختي الحرباية خد بالك إنت.
أومأ سليم برأسه: زي ماقلتلك فكر، بلاش تموت بإيدك
غادر سليم الغرفة ترك خلفه صدمة، لم يكن رشدي بانتظارها، نظر رشدي إلى الفراغ، عيونه تلمع بدموع لم تسقط تمتم بإبتسامة حزينة: وسعت يا سليم، مش هينفع، أنا عمري ماهنسى، ولا إنت هتنسى، ولا هتغفر، لما تعرف الحقيقة.
أغمض عينيه للحظة، تدفقت الذكريات: الرصاص، الطعنات، الصرخات، ثم فجأة، ضرب الطاولة بقدمه بعنف.
منزل مكي العاشرة مساءً
الشرفة
وقف مكي مستندًا إلى السور، يحمل كوب الشاي في يده اليمنى، وسيجارته تشتعل ببطء في اليد الأخر، يتصفح هاتفه بلا تركيز، يتنقل بين التطبيقات دون هدف، إلى أن فتح الاستوديو وظهرت صور سلوى تأمل ملامحها التي لا تغادره، ابتسامتها العابثة، نظرتها الجادة كل التفاصيل ما زالت حية.
رغم انتهاءه من علاقته بنيرة منذ اشهر، رغم أنه لم يمنحها يومًا مشاعره كاملة، إلا أن فكرة التحدث مع سلوى عادت لتراوده بقوة، ربما، يتغير شيء هذه المرة.
تذكر حديث سليم: البنت ساعات بتعشق الراجل إللي يثبت لها إنه مش هايتنازل عنها بسهولة
فسلوى لم تكن ترفضه لأنها سيئة، أو خائنة، بل كانت ترفضه لأنها موجوعة، تحمل في قلبها جراحًا لا يراها أحد، كانت لها أسبابها، حتى وإن كانت تراها من زاوية خاطئة، زاوية أهلها شقيقتها وربما، لو حاول أن يفهمها من جديد، دون أن يحكم، لأدرك ماعجزت عن قوله تنجح، رفع الهاتف وأتصل بها.
في الجهة الأخرى، كانت سلوى جالسة في الحديقة، تقلب في أوراق صغيرة كانت تكتب فيها ملاحظات، حين رن الهاتف فجأة، نظرت إلى الشاشة، ظهر اسم “مكي”.
ترددت.ثم أجابت بجمود،: خير؟
مكي بنبرة اشتياق: عاملة إيه؟
ساوى بجمود: أنا كويسة خير؟
مكي بهدوء متردد: أنا بس كنت عايز أطمن عليكي، وأقولك أنا سبت نيرة من فترة. من بعد الخطوبة بـ 20 يوم تقريبًا.
سلوى بهدوء غريب: وبتقول لي ليه؟
مكي: عشان إنتي لازم تعرفي.
سلوى توقفت من مكانها وهي تقول بتعجب: وفاكر بقى لما تقوللي كده، هجري عليك وأقولك يلا نرجع لبعض؟
مكي بنبرة حانبة: وليه ماتعمليش كده؟ ما إنتي لسه بتحبيني.
سلوى: مين قالك؟
مكي: أمال إللي عملتيه يوم ماشفتي نيرة معايا ده كان إيه؟
سلوى بنبرة حادة: اسمه أي حاجة غير غيرة أو حب، زعلت، آه، بس زعلت إنك جبتها نفس المكان إللي كنا بنتقابل فيه وإنك خطبت بسرعة، ده شعور طبيعي إنما غيرة؟ لا..وما تتصلش بيا تاني، أنا رديت بس علشان لو فيه حاجة مهمة، غير كده ماتتصلش بيا تاني.
ثم أغلقت الخط دون أن تنتظر.
ظل مكي لحظة يحدق في الشاشة، صامتًا مسح وجهه براحة يده، لم يشعر بالندم. يعرف أنها ستفعل ذلك، لكنه كانت محاوله ربما تفوز.
أما سلوى فقد أسندت ظهرها إلى المقعد، وبدأت الدموع تنساب بصمت رغم كل شيء، قلبها كان مكسورًا.
قاعة البلياردو، السادسة مساءً
كان سليم واقفًا في صمت، يضرب كرات البلياردو بمهارة متقنة،دخل مكي بهدوء، لم ينطق، فقط نظر إلى صديقه.
سليم، دون أن يلتفت إليه، قال بصوت خافت: تعال ألعب معايا.
تناول مكي العصا ووقف إلى جواره، وبدأ الاثنان اللعب في صمت ثقيل.
سليم، وهو يضرب الكرة: كنت بتعمل إيه امبارح في البار؟ مش كنا بطلنا الموضوع ده من زمان؟
مكي، رافعًا حاجبه بدهشة: إيه يا عم؟ إنت بتراقبني أنا كمان ولا إيه؟
سليم بعين مركزة على الكرة: رديت بإجابة.
مكي بهدوء: روحت أشرب كاسين.
سليم ألتفت إليه بنظرة عتاب: وليه تشرب تاني؟ مش كنا خلصنا السيرة دي من سنين؟
مكي وهو يضرب الكرة:كنت مخنوق.
سليم بتعقل: اتخنقت، بس إنت ممكن تفك عن نفسك بأي حاجة غير السكة دي، إحنا بعدنا عنها بالعافية، بلاش نرجع.
مكي، بإبتسامة خفيفة: سيبك بقى، تعرف قابلت مين هناك؟
سليم دون أن يرفع عينيه عن الطاولة: مين؟
مكي، وهو يسدد كرة جانبية: مونيكا.
رفع سليم رأسه بإستغراب: مين مونيكا؟
في تلك اللحظة، كانت ماسة تمر أمام باب القاعة، وتوقفت فجأة، وكأن الاسم صفع قلبها، اتكأت على الحائط، تلتقط أنفاسها بهدوء، وأذناها تترقبان.
مكي أكمل:مونيكا يا سليم، البنت إللي كانت معجبة بيك، ولما حاولت تقرب منك، قلتلها أنا ما بخونش مراتي.
سليم فكر للحظة ثم قال: آه مونيكا كانت برتغالية ولا برازيلية؟
مكي ضحك بخفة:برتغالية، بنت رجل الأعمال إللي كنابنتعامل معاه في مشروع خدمات البترول.
سليم: فاكرها مالها.
مكي وهو يضحك: كانت بتسأل عليك امبارح، بتقول: لسه متجوز؟ لسة مخلص ولا غير رأيه؟
ابتسم سليم بسخرية: ماقلتلهاش إنها للأبد.
مكي، وقد لمح غموضا في نبرته: طب بجد؟ مافكرتش؟ يعني الفتور إللي بينكم، وبعدها عنك، أكيد مخلي حياتك مش سهلة.
توقف سليم عن اللعب، وأسند جسده على العصا، وقال بثبات: أخون ماسة؟
مكي شرح: يا سيدي ماسمهاش خيانة، دي أساسًا بعيدة عنك، مفيش ود، دفء، جوازة شبه واقفة.
سليم بصوت هادئ لكنه حاسم: حتى لو واقفة، حتى لو كانت على إيقاف تنفيذ مستحيل أخونها.
صمت للحظة وكأنه تذكر شئ: من فترة، كان عندي برنامج قولت استفزها، قلتلها: أنا ممكن أخونك، وهي ماصدقتش، عندها ثقة فيا،ثقة مرعبة، وماينفعش أكسر الثقة دي.
تنهد بنظر جدية حاسمة: أنا عندي حاجتين خط أحمر:
ماجبرهاش تعمل حاجة مش عايزاها، ومأخونهاش
أنا ملكها وبس، وعدتها زمان، واستحالة ألمس واحدة غيرك، ستات الدنيا كلها عندي زي أختي، محرمين عليا.
مكي سأل بهدوء: وهي تعرف حاجة عن مونيكا؟
سليم نفى: لأ، مابحبش أقول لها حاجات زي دي. هقولها ليه؟ عشان أقول لها شوفي أنا مخلص إزاي”؟ ده يبقى استعراض، مابحبش أعمل كده وبعدين، مش مونيكا بس كتير أتعرض عليا، ورفضت.
تنهد وهو ينظر بعيد بأمل: يمكن إخلاصي ليها هو الحاجة الوحيدة إللي ممكن تشفيها، تشفعلي عندها.
ثم نظر إلى الأرض، وتنهد بمرارة: بس بعيدًا عن كل ده، أنا مش هعمل حرام تاني.
زفر بإختناق بتعب ومرارة بعينين أغرورقت بدموع:
ساعات بحس إن كل إللي حصل لينا بسبب الماضي،
رغم إني تبت، يمكن ربنا ماقبلش توبتي، عشان كده.د، خسرني بنتي، وعلاقتي بماسة باظت، وأنا نفسي بقيت عايش على الحافة.
مكي قال بصوت مكسور: أنا كمان ساعات بقول كده، إحنا أذينا ناس كتير، حتى لو في جزء منهم دفاع عن النفس، بس ده مايمنعش إن إحنا عملنا حاجات كتير غلط وحرام،ممكن كل ده عقاب.
سليم بصوت موجوع: طب وحلها؟ هتخلص إمتى؟ أنا تعبت يا مكي.
مكي همس وهو يزم وجهه بحزن: مش عارف.
سليم شد على العصا، ثم قال بإصرار: ولا أنا، بس واثق في ربنا، إن إللي حصل مالوش دعوة بالماضي، يمكن اختبار،اختبار صعب، بيشوفني هكمل ولا هرجع، وأنا مستحيل أرجع، عشان كده
تقدم خطوة من مكي وأمسك ذراعه بدعم: أوعى ترجع يا صاحبي، إحنا الأتنين لازم نقوي بعض ماينفعش نرجع مهما حصل.
هزّ مكي رأسه موافقًا، بصمت.
في الخارج، كانت ماسة لا تزال واقفة، عينها معلقة بالأرض، وأذنها تسمع كل كلمة، دمعة وحيدة انسابت على خدها، ليس لأنها شكت في إخلاصه، فهي لم تصدق يومًا أنه قد يخون، بل كانت متأكدة أن الخيانة لا تشبهه، ولا يعرف طريقها إلى قلبه.
لكن شيء في حديثه عن “الماضي”…ترك غصة مريرة في قلبها.
فذلك اعتراف من سليم غير مباشر، أن حديث رشدي صحيحاً. فقد سلك طريقًا مظلمًا يومًا،تبسمت بصمت، وصعدت إلى غرفتها.
مرت أشهر، حتى اكتمل عام كامل منذ هروب ماسة الأخير وحبس سليم لها، الحياة كما هي، ساكنة لا يتخللها تغيير، ولكن بعد هذه المدة الطويلة، وفي يومٍ لم يكن في الحسبان، حدث ما لم يكن متوقعًا.
انقلبت الموازين ولم تتغير حياة ماسة وسليم فقط…
بل تغيّرت حيوات أخرى، وحكايات ظن الجميع أنها انتهت، لكنها في الحقيقة لم تبدأ بعد.
الارزوما العوامة التي يفضلها سليم بطرازها النوبي الأصيل، الحادية عشر صباحاً
كانت الأجواء هادئة، وصوت الماء يلامس العوامة برفق. جلس سليم في الشرفة يحدق في النيل بشرود، وجهه حزين وعيناه غارقتان في أفكاره. مرت أمامه ذكريات الخلافات مع ماسة، وهروبها، وتحول حبها الكبير إلى كره. لم يفهم كيف وصلوا إلى هذا الحد، وكل شيء بدا مؤلمًا وضبابيًا.
على الجانب الآخر، دخلت لورجينا إلى المكان بصحبة رجل طويل، ذو ملامح وسيمة، ألقت التحية على العاملين بالمكان، وهي تتجول بثقة، فهذه العوامة كانت واحدة من أماكنها المفضلة. جلست مع رفيقها، وتبادلت معه الحديث، لكن وسط ضحكاتها، التقطت عيناها صورة مألوفة… سليم. الذي يجلس هناك بنفس الوضعية التي حفظتها عنه حين يكون غارقًا في أفكاره. لم تره هكذا منذ سنوات.
شعرت بانقباض في صدرها. نظرت إلى رفيقها وقالت بابتسامة خفيفة: حبيبي، لحظة وراجعة لك، هسلّم على صديق.
هزّ الشاب رأسه متفهمًا، فنهضت وسارت نحو سليم. توقفت عند السور، أخذت نفسًا عميقًا، ثم أسندت يدها عليه، وهي تلقي نظرة خاطفة عليه.
لورجينا بنبرة هادئة: عامل إيه؟
سليم دون أن يلتفت إليها، وعيناه لا تزالان على المياه: كويس.
لورجينا نظرت إليه مطوّلًا، ثم مالت قليلًا نحوه وهي تسأل بشك: متأكد إنك كويس؟
رفع سليم عينيه إليها، نظر للحظات ثم عاد بشروده. كان واضحًا أنه غارق في دوامة من الأفكار.
أسندت ظهرها إلى السور، والنيل خلفها، وقالت بهدوء ممزوج بقلق: مالك؟ أول مرة أشوفك مهموم كده.
سليم بصوت منخفض: متشغليش بالك.
لورجينا ابتسمت ابتسامة خفيفة:مش شاغلة بالي، بس بسأل عشان العِشرة والذكريات، مهما حصل كنت في يوم حبيبي مالك؟
ظل سليم صامتًا للحظات، ثم زفر نفسًا عميقًا مثقلًا بالألم. أشار برأسه نحو مركب قديمة بعيدة وسط النيل، يغلب عليها الصدأ، بلا شراع، لكن صاحبها ما زال يجدف بها بعزم رغم كل شيء.
سليم بصوت هادئ يحمل وجعًا دفينًا: شايفة المركب اللي هناك دي؟
نظرت لورجينا حيث يشير، ثم عقدت حاجبيها بتساؤل: مالها؟
سليم بابتسامة باهتة حزينة: أنا زيها، مركب من غير شراع مكسورة بس لسه بحاول أقاوم وأحارب عشان أفضل موجود وسط كل المراكب القوية دي.
لورجينا ظلت تنظر إليه بصمت، ثم تمتمت بعد لحظات قالت مستفسرة: مش فاهمة حاجة.
سليم استدار نحوها أخيرًا، نظر إليها بعينين يملؤهما الحزن والخذلان، ثم قال بصوت منخفض لكن حاد:
ليه مش عايزة تسامحيني؟ على حاجة عملتها من غير قصد؟ على حاجات حصلت رغم إننا كنا متفقين عليها زمان؟
لورجينا رمقته بنظرة طويلة، ثم زفرت قائلة: سليم، أنا سامحتك من زمان.
نهض سليم توقف امامها وهو يهز راسه بشك: معتقدش، ولو حصل مش من قلبك.
لورجينا ابتسمت، لكنها كانت ابتسامة محملة بالكثير من الذكريات والألم: لا من قلبي، اللي بيحب بجد بيسامح يا سليم، انت فعلًا أذيتني، بس أنا اللي قبلت الأذى ده، أنا قبلت كل شروطك زمان فقبل ما تأذيني، أنا اللي أذيت نفسي.
سليم أغمض عينيه للحظة، وكأنه يهرب من الحقيقة، ثم قال بنصف ابتسامة وجع: أمنيتك اتحققت، حياتي أنا وماسة اتدمرت، عشت تشوفي وجعي يا جيجي.
لورجينا رفعت حاجبيها بدهشة، ثم هزت رأسها بالنفي وهي تقول بإصرار: سليم، صدقني أنا سامحتك، من قلبي والله، وبحب دلوقتي، وهتجوز خلاص، نسيت كل حاجة، يمكن زمان كان جوايا ألم، وكان عندي أمنية أنك تعيش وجعي، بس مع الوقت كل حاجة انتهت الذنب ده مش ذنبي يا سليم،
سليم ابتسم ابتسامه مريرة وهو يهز رأسه: هتتجوزي بجد؟
لورجينا نظرت نحو الرجل الذي كان ينتظرها، ثم ابتسمت وقالت بهدوء: شاب كويس جدًا. اتعرفنا من فترة وحبينا بعض حقيقي كان عوض عن كل اللي فات.
سليم ابتسم أخيرًا، هذه المرة ابتسامة حقيقية، وقال بصوت صادق: مبروك، صدقيني، من قلبي فرحتلك.
لورجينا نظرت إليه بحنان، ثم قالت بنبرة دافئة: وأنا من قلبي بتمنالك ترجع لحياتك مع ماسّة، شوف إيه اللي مزعلها وراجع نفسك فيه اتنازل شوية، حتى لو مش غلطان، مادام بتحبها.
سليم نظر بعيدًا وقال بمرارة: مش عايزة كرهتني.
لورجينا هزت رأسها بثقة: مستحيل يا سليم، حبكم لبعض كبير، يمكن هي غاضبانه منك، بس اتمسك أنت بيها، واتكلم معاها والمشكلة هتتحل.
ظل سليم صامتًا، عيناه تائهتان في النيل، كأنه يبحث عن إجابة بين أمواجه المتلاطمة.
سليم بألم: عايزه تمشى وتسبني.
لورجينا بحكمه: عايزة تمشي؟ خليها تمشي أحيانًا البعد بيبين لنا إننا كنا غلطانين في قراراتنا، لو مشيت، وهي بتحبك، أكيد هتندم وترجعلك ندمانة وقتها، متترددش، خليك مستنيها المهم أنك تكون متاكد أنها لسة بتحبك.
سليم بوجع خنق صوته ممزوج بحيرة: بتحبنى بس مش هترجع، لان في حاجة مخليها مصرة تمشي اكبر من اللى حصل عشان كدة خايف اسبها تمشي ومترجعش.
لورجينا بإصرار: مهما حصل لو بتحبك صدقني هترجع بطل تخاف، وبسبب خوفك تاذيها
وانت مش واخد بالك.
وضعت يدها برفق على كتفه، ثم همست بصوت خافت: احتمال تكون دي آخر مرة نتقابل بينا، هسافر قريب، مش هرجع تاني، من قلبي بقولك، ربنا يسعدك يا سليم وتلاقي الشراع والمرسى لمركبتك.
استدارت، خطت بضع خطوات، قبل أن تلتفت وتنظر إليه للمرة الأخيرة: خد بالك من نفسك، يا سليم.
سليم بابتسامة حزينه: وانتي كمان خدي بالك من نفسك، مبروك على الجواز.
لورجينا بإبتسامة أمل: هعزمك انت وماسة هستناكم تيجوا سوا.
ابتسمت له بحنين، ثم مضت، تاركة خلفها رجلًا وقف وسط النيل كالمركب المكسور، يتشبث بالمياه رغم العاصفة.
قصر الراوي الثالثه مساءً
ممر الغرف
خرج رشدي من غرفته بدا عليه شيء من الوعي، كأن غيمة الغياب التي ظلت تعتم ملامحه قد انقشعت أخيرًا، خطواته كانت ثابتة وهو يسير في الممر الطويل، حتى ألتقت عيناه بعيني صافيناز.
ابتسم، وفتح ذراعيه بسخرية ناعمة، وهو يهتف بصوت خافت: أختي الحربوقة عاملة إيه يا حرباية؟! أخبار الحربئات إيه الفترة دي؟
توقفت صافيناز مكانها، رفعت حاجبيها بتعجرف ارستقراطي، وردّت من طرف أنفها: بخير يا أخويا، العقرب هتبطل إمتى السوقية؟
ضحك رشدي، ضحكة خفيفة حملت تهكمًا أكثر من المرح: ولما تبطلي إنتي تتكلمي بمناخيرك قوليلي
بقالنا كتير مش سامعين حسك من ساعة ما البت طارت، إنتي وجوزك التعبان اختفيتوا.
نظرت له ببرود، ورفعت كتفها بإستخفاف: بتطمن عليا إيه؟ بتحبني؟
أقترب منها قليلًا، وانحنى برأسه: لا بحبك إيه
هو إنتي تتحبي؟، أنا برخم عليكي
إنتي حرباية، وإللي يحب حرباية يبقى حمار
إنتي واحدة مابتحبيش غير نفسك، وشريرة بصي أنا، بشري ده، عمري مافكرت أقتل حد فيكم، يمكن سليم فكرت، ونفذت كمان، بس ماتنسيش أنا إللي كلمت الإسعاف وقتها، أنا إللي أنقذته هو ومراته، ماهانش عليا أسيبه يموت، يعني لسة عندي حتة بني آدم، إنما إنتي، لو يوم قعدتي على الكرسي، هاتقتلينا كلنا وأنا أول واحد علشان أنا عارف أسرارك القذرة.
توقف لحظة، ثم أردف بنبرة أكثر انخفاضًا، وأشد حدة: أنا معايا إللي ينجيني، إبعدي عني إنتي وجوزك
ضيّقت صافيناز عينيها، قالت ببرود:
أنا بس أقعد على الكرسي وصدقني مش هفكر مرتين وأنا بقتلك، مش أنا بس إللي بكرهك إحنا كلنا بلا استثناء، حتى فايزة شايفاك بالمنظر ده وما فكرتش تتحرك، حتى الباشا، اوعى تفهمني إن الباشا مايعرفش إنك بقيت مدمن، يا ابني الحيطان نفسها عرفت، عمرك شوفت أم وأب يشوفوا ابنهم بيدمر ط ومايتحركوش؟
رشدي، وهو يلوح بيده ساخراً: المفروض دلوقتي أتهز وأزعل وأقول: الناس كلها بتكرهني ولا أندهش يعني؟.وبعدين يا شيخة، بابا وماما مين؟ تفي من بوقك عيب الكلام ده
ضحكت رشدي : باي باي يا حربوقة.
همست بصوت منخفض وهي تبتعد: عيل غبي.
وفي الزاوية، خلف الباب، كان عماد واقفًا. كل شيء سمعه.
وما إن أغلقت صافيناز الباب خلفها، حتى استدار نحوها بنظرة متحفزة.
عماد بضجر: مش حلو إللي إنتي بتعمليه مع رشدي ده، كل ما يشوفني يرمي كلام عبيط
وأنا بكبّر دماغي، مش رشدي ده إللي تاخدي على كلامه؟!
صافيناز لم تلتفت، ردت ببرود:
هو أنا قلت له حاجة؟ وبعدين أنا المفروض أخاف من رشدي؟
أقترب منها خطوة، وحدق في وجهها بتحذير خافت:
أيوه، تخافي، رشدي دلوقتي مدمن ولو فلت إحنا نروح في داهية ده عدو غبي.
ضحكت بسخرية: يعني فاكر إنه لما أتعامل معاه بلطافة هيصدق؟
عماد، وهو يهز رأسه بهدوء: لأ، مش هيصدق
بس لو اتحديتيه، وقلتي له بكرهك، وسخنتي الدنيا
وقتها ممكن يقتلنا كلنا فعلاً.
خفضت عماد صوته، وكأنها تهمس بسر: بعدين الجملة اللي قالها، أنا معايا إللي ينجيني، قصده إيه؟ أول مرة يقولها بالشكل ده.
جلست على المقعد، وهزت رأسها بإستنكار: أكيد يقصد إللي ماسكه علينا، الحاجات إللي حصلت وقت اتفاقنا على ماسة، ومتنساش إن إحنا كمان معانا الفيديو ،بالصوت والصورة إنت ناسي إنك كنت زارع كاميرات في أوضة ياسين وقتها؟
جلس عماد إلى جوارها، صوته منخفض لكنه حاد:
بس بلاش دلوقتي نفتح على نفسنا أبواب تانية
بعد إللي عمله إريك، أنا مش مستعد أخسر ولادي
خلينا نهدى شوية.
ابتسمت صافيناز بخفّة، وهي تنهض من مكانها:
طب أنا قايمة ياقلبي هقابل سارة، هودي الأولاد الملاهي.
عماد أومأ برأسه:طيب
أحد المطاعم على النيل، الخامسة مساءً
دخل رشدي بخطوات ثابتة، وعيناه تحملان برودة لا تخف، جلس بصمت. تناول قائمة الطعام من يد الجرسون دون أن ينظر، ثم رفع عينيه ببطء نحو الشاب الواقف.
رشدي بنبرة هادئة لكنها تحمل أمرًا واضحًا: هات إللي مشغلك
تردّد الجرسون قليلًا، بدا عليه التوتر: أفندم؟
رفع رشدي حاجبه: أخلص.
هز الجرسون رأسه بخوف، ثم استدار متجهًا إلى الداخل، دقائق مرت، ثم خرج مجددًا، وبرفقته مجاهد، لم يلاحظ من يجلس بالطاولة، لكن كلما اقترب كلما اتضحت الرؤية، فتوقف فجأة، وقد اتسعت عيناه بدهشة.
رشدي؟!
ابتسم رشدي ابتسامة جانبية باردة، وقال بنبرة فيها مكر هادئ: إيه ده؟ هو المطعم ده بتاعك؟ تصظق٦ ماكنتش أعرف مفاجأة
أقترب من مجاهد، وبحركة سريعة مد يده إلى جيب قميصه، سحب هاتفه، ثم أغلقه في هدوء تام، مجاهد نظر له بدهشة، لم يفهم مايحدث، لكن رشدي وضع إصبعه على شفتيه وقال بهمس خبيث: هششش أصل أخويا ديب أوي أكيد بيراقبني، لما يسألك هتقول له: صدفةوقعد يرخم عليا شويتين، اتفقنا؟
مجاهد تنفس ببطء، وصوته خرج متحفظًا: خير يا ابني؟ عايز مننا إيه؟
رفع رشدي حاجبيه بسخرية: إبنك؟ ماتنساش نفسك
أنا رشدي بيه، يمكن إنت ماتعرفنيش كويس
عشان دايمًا كنت بلارض، بس اسأل مراتك وبناتك: مين رشدي؟ لو سليم رفع التكاليف، ونسي حجمه
أنا مابنساش معلش، أصل أنا واخد الطبع ده من ماما.
تنهد مجاهد:خير يا رشدي باشا أفندم يا بيه؟!
ضحك رشدي ضحكة قصيرة، وأشار له أن يجلس مقابله:.آه كده فهمت صح خليني أقولك الكلمتين
وحدق فيه مطولًا. بدا كأن الزمن توقف للحظة: قولي لسة مش عارف توصل لبنتك؟
مجاهد، وصوته منخفض: أيوة
اعتدل رشدي في جلسته، وصوته غلفه تهديد خفي: يعني طول السنة إللي فاتت، عايز تفهمني، ان ماسة ماكلمتكوش؟ ماسرقتش تليفون من سليم؟ ماستعطفتش خدامة ولا حد؟ ماحاولتش تبعت إشارة؟
تردّد مجاهد، لم يعرف كيف يرد، لكن رشدي لم ينتظر الجواب: مش مهم، أنا متأكد إنها كلمتكم، والمرة الجاية لما تكلمكم، قول لها: رشدي هيطلقك من سليم
والمرة دي طلاق مش هروب، طلاق على المكشوف.
نظر له مجاهد بصدمة، لكن رشدي تابع: ماتخافش على نفسك،أنا عندي استعداد أسفركم بره
أديكم أسماء جديدة، حياة جديدة وفلوس كتير
قول لها بس كده.
تجمدت ملامح مجاهد، وتمتم بصوت مرتعش: وإنت ليه عايز تعمل كده مع بنتي؟
قهقه رشدي، ضحكة قصيرة، ثم رمقه بنظرة قاسية:
لأ، إنت هنا مابتسألش إنت هنا بتسمع أنا آللي أقول وأسأل سلوى؟ اسألها أنا ممكن أعمل إيه
صوته أنخفض لكن نبرته تحولت إلى تهديد واضح:
الموضوع إللي بينا مايتقالش لو سليم سألك، أنا متأكد إنه هايسألك، رشدي كان بيعمل إيه في المطعم
لو عرفت إنك هلفت في الكلام، إنت المسؤول
وأبسط حاجة أعملها؟، أرجعلك العربية إللي خبطتك قبل كده، بس المرة دي؟ مش كسر في الرجل
لا قراءة فاتحة
صمت رشدي للحظة، كأنه يستمتع بتأثير كلماته، ثم أضاف: حلو المطعم، ما رجعتهوش لسليم ليه؟
مش كنت ناوي تسيبه؟ زي ما ولادك سابوا الشغل؟
تنهد مجاهد، كأن الكلام يُثقل صدره:
سليم مارضيش، وما لقيتش شغل ورفض كمان نسيب الفيلا.
ضحك رشدي، وهو يهز رأسه: أخويا، جدع، مش عارف طلع جدع كدة لمين، أحيانًا بحس إنه مش أخونا والله
وقف، يرتب جاكيته بعناية، ونظر له نظرة أخيرة:
سلام يا مجاهد، فكر في كلامي ها؟
ثم استدار بهدوء، وخرج من المطعم لم ينظر خلفه، ولم يتوقف. مجاهد ظل مكانه، مشوشًا، ملامحه غارقة في الحيرة، الهواء من حوله أصبح ثقيلًا، وكأن كل ذرة فيه تطبق على صدره. نهض ببطء، دخل إلى الداخل دون كلمة.
في الخارج، كان رشدي قد استقل سيارته، أدار المحرك، وأنطلق
فيلا عائلة ماسة، الخامسة مساءً
اللفينج روم
نرى يوسف يتنقل بين تطبيقات هاتفه بلا اهتمام، بينما يتابع عمار وسلوى الفيلم. سعدية كانت تحتضن كوب الشاي.
حتى أنفتح باب الفيلا ودخل مجاهد، صوته اخترق السكون.
السلام عليكم
رفعت سعدية رأسها بسرعة، تستغرب: مجاهد؟ إيه إللي جابك بدري؟
رفع يده بإشارة يدعوها للجلوس، ونبرته بدت ثقيلة غارقة في شيء أكبر من الكلمات: أقعدي بس يا سعدية.
ثم نظر إلى عمار ويوسف، قائلاً بهدوء: كويس إن انت وأخوك هنا مش في الشغل.
سأل عمار بقلق واضح: خير يا أبويا؟ في حاجة؟
أجاب مجاهد بعد تنهيدة: رشدي كان عندي النهاردة
تغير وجه سلوى في لحظة، تجمدت ملامحها، وظهر الذعر على عينيها، كأن الاسم وحده أعاد لها كوابيس قديمة: عايز إيه؟!
جلس مجاهد بثقل، يحدق بالأرض وكأنها تخبئ له شيئًا: قال لي إنه ممكن يساعدني، علشان ماسة تسيب سليم وتتطلق منه، وقال لو وافقنا، هايسفرنا السنة دي، ويخفينا ويدينا فلوس.
أرتفع حاجبا عمار بدهشة حادة: ومن إمتى الخير ده كله؟!
قاطعته سعدية سريعًا بقلق: أستنى يا عمار، هو ليه يعمل كده؟!
أجاب مجاهد دون أن يرفع نظره: ماقالش بس طريقته كانت غريبة، قال لي لو سليم عرف إننا اتكلمنا، العربية إللي خبطتني قبل كده، هيخليها تخبطني تاني بس المرة دي تموتني.
شهقت سلوى، ووضعت يديها على فمها، جسدها ارتعش بعنف، ودموعها سالت دون إرادة المشهد، التهديد، الصوت… كل شيء عاد إليها من نقطة الصفر.
صرخت سعدية بنبرة تهكم وخوف: إيه؟! دول عصابة؟ عايزين مننا إيه تاني؟!
سأل مجاهد، وهو يحاول أن يبدو متماسكًا: البنت، بتكلمك كل قد إيه يا سعدية؟
أجابت بعد تردد: يعني كل شهر، شهرين كده مرة
ولما بتكلمني بتبقى محرجة عليا أكلمها على تليفون سحر.
مجاهد، وعيناه تمتلئان بالقلق: المرة الجاية لما تكلمك قولي لها على إللي حصل، وشوفي رأيها إيه
ثم مرر عينيه على وجوههم واحدًا تلو الآخر، بصوت ملؤه التحذير: وأسمعوا كلكم، أوعوا تقولوا لسليم حاجة، رشدي قال لي إنه هيسألنا ولازم نقول إن هو كان جايلي صدفة سامعين؟ أنا قلبي اتوغوش لما قالي العربية… قصده إيه؟
وضعت سعدية يدها أسفل ذقنها، وصوتها خرج مرتجفًا: يكونش هو إللي خبطك بالعربية يا مجاهد؟
يوسف بعدم تصديق: إزاي يعني يا أمي؟!
عمار، يحاول التفكير بصوت مرتفع: أيوه إزاي؟
وبعدين سليم سأل وعرف إن الحادثة كانت قضاء وقدر
سعدية بنبرة غارقة في الحيرة: أمال كلامه ده كان يقصد بيه إيه؟!
يوسف، وكأنه يربط الخيوط:يمكن يقصد إنه ممكن يخلّي بابا يحصل له حادثة تانية بس المرة دي يقصد يموته فعلًا
ساد صمت ثقيل، وكأن الغرفة كلها توقفت عن التنفس. ثم كسره عمار بصوت مرتفع متوتر:
طيبظهو عايز إيه؟ هايستفاد إيه لما ماسة تتطلق من سليم؟ وليه دلوقتي بالذات بيساعد؟
ط سعدية بنبرة خوف حقيقي، وقد علت ضربات قلبها: أنا مش مطمنة، بخاف من الواد ده، طول عمره بتاع مشاكل، وماسة كانت دايمًا تقول عليه كده
وإحنا سمعنا عنه حاجات كتير أيام ما كنا عند منصور تشيب.
نظرت إليهم جميعًا بحسم واضح:
بصوا، إحنا دلوقتي ندفن الكلام ده، نخفيه كأنه ماحصلش، ولما البنت تتكلم ساعتها نقرر نعمل إيه
أضاف مجاهد بنبرة حاسمة:
هو فعلاً قال لي كده، وكان واثق إنها بتكلمنا
كأنه يعرفها أكتر منّا.
سلوى لم تحتمل أكثر، كانت جالسة تستمع، وصدرها يضج بالنار قالت بصوت غاضب، وهي تكاد تختنق:
رشدي ده إنسان حقير، أحقر حد ممكن تعرفوه
ماسة كانت بتحكيلي عنه حاجات تقشعر، سليم ماييجيش حاجة جنبه، ماحدش يقربله، ولا يقف قدامه، لحد ما ماسة تتكلم بنفسها، وفعلاً مانقولش حاجة لسليم ده الأفضل
صمت الجميع وهما يتبادلون النظرات بتوتر
منطقة القلج، الخامسة مساءً
منطقة بسيطة، تشبه في تفاصيلها بعض قرى الريف. الحواري ضيقة، الغيطان والمباني قديمة لكنها مأهولة، تحمل علامات الزمن في شقوقها، وفي صوت الباعة المتناثرين هنا وهناك.
في أحد الشوارع الجانبية، توقفت سيارة رشدي. كانت مركونة جانب الحائط، وكأنها لا تريد لفت الأنظار. داخل السيارة، جلس رشدي صامتًا، عيناه تراقبان من خلف الزجاج، نظراته حادة قليلاً، لكنها هادئة فيها شيء يشبه التأمل، أو ربما الانتظار.
مرّت دقائق، حتى فُتح باب أحد البيوت القريبة.
بيت بسيط، بل أكثر من بسيط.
خرجت منه سيدة، تبدو في أواخر الخمسينات ملامحها متعبة، ملبدة بالسنين. ترتدي الأسود بالكامل، عباءة واسعة، وحجاب يلف رأسها، لا زينة، لا ملامح اصطناعية كل شيء فيها طبيعي، حقيقي، صادق.
ما إن وقعت عين رشدي عليها، حتى اتسعت ابتسامته، وخرج صوته خافتًا، فيه نغمة امتنان وانتصار: والله ماكنتش أتوقع، إنك تبقي طوق نجاتي
طوق نجاتي من سليم، ده أنا لو عيني فداكي أدهالك
ضحك ضحكة جانبية خفيفة، ثم فتح باب السيارة بهدوء، وترجل منها.
وقف بثبات، يداه في جيبيه، وعيناه لا زالتا تتابعان السيدة التي تمشي بخطوات هادئة لا تلتفت، وكأنها لا تشعر بوجوده.
في داخله، يعرف أنها هامة، مهمة أكثر من أي شخص قابله في الفترة الأخيرة، ربما تحمل الإجابة، وربما تملك الورقة الأخيرة لكن المؤكد أنها ليست مجرد امرأة عادية.
♥️________بقلمي_ليلةعادل_______♥️
الكيدز اريا الخامسة مساءً
نرى سارة تجلس إلى طاولة صغيرة مزينة بالمشروبات المثلجة والوجبات الخفيفة، بجوار صافيناز، التي أشعلت سيجارتها وأخرجت نفسًا طويلاً، بينما يركض أبناء صافيناز أمامهم في ساحة اللعب، تصحبهم المربيه التي تراقبهم.
صافيناز وهي تنفث دخانها: هو إيه يا بنتي؟ ماحدش عارف يشوفك. على طول مهاجرة؟ كل ماسأل عليك مسافرة!
ابتسمت سارة بخفة: هقعد أعمل إيه هنا؟ ماانتي عارفة أخويا أدهم في كندا، ومامي معاه دايمًا. حتى الولاد دخلتهم مدرسة هناك خلاص هقعد هنا أعمل إيه؟ بشوف شغلي وبسافر.
احتست القليل من العصير تسالت بخبث: قوليلي وصلتوا لفين في الحرب على عرش؟ بسمع إن سليم بقى الكل في الكل، المشاريع مسمعة في السوق جدًا!
صافيناز بضجر تحدثت من بين اسنانها: إحنا رجعنا للصفر تاني ولا كأننا ابتدينا!
وفجأة، جاء زين يركض ضاحكًا باتجاه صافيناز، لكنه تزحلق على بلاط الملاهي المبلل، وسقط بقوة على الأرض ارتطم رأسه بحافة خفيفة، وسال الدم بغزارة من جبينه.
صرخت سارة وصافيناز في وقت واحد، وركضتا نحوه بجنون، حملته المربيه مسرعه، وهو شبه مغمى عليه، وجهه شاحب، والدم يلطّخ تيشرته.
صافيناز شهقت وهي تتحسس رأسه: حبيبي!! إنت كويس؟!
ثم صرخت في وجه المربية: إنتي يا حيوانة!! كنتي فين؟!
لكن سارة جذبها من ذراعها وهي تقول بجدية: مش وقت الكلام ده يا صافي يلا خلينا نروح المستشفي.
صافيناز بغضب: لو حصلوا حاجه هموتك.
هرعتا معًا نحو السيارة، وسط فوضى وصراخ أطفال آخرين، بينما تحتضن صافيناز ابنها في ذعر، وسارة تمسك الهاتف وتتصل بأقرب مستشفى خاص لاستقبال الطفل فورًا.
في احد المستشفيات الخاصة السادسة مساءً
دخلت صافيناز وسارة إلى المستشفى مهرولتين، تحمل صافيناز الطفل بين ذراعيها، رأسه مائل للوراء ووجهه شاحب، بينما المربيه تتبعهم مرتبكة.
في قسم الطوارئ.
صافيناز بانفعال: فين الدكتور؟ بسرعة لو سمحتي!
الممرضة أشارت نحو الداخل: طيب دخلي بيه فورًا، والدكتورة هتشوفه حالًا. حضرتك (نظرت إلى صافيناز) تعالي تملي الاستمارة دي بسرعة.
صافيناز تنهدت بعصبية: سارة اكتبي انتي، أنا مش قادرة أكتب حاجة دلوقتي.
ربّتت سارة على يدها: هدي بالراحة، أنا هكتب.
جلست سارة على المكتب، فتحت الاستمارة، وبدأت في تدوين البيانات بعد أن أعطتها صافيناز البطاقة.
لكنها احتاجت لبعض المعلومات، فدخلت إلى الغرفة حيث يقف الطبيب يخيط الجرح، وسألت بصوت منخفض: بقولك إيه… فصيلة دم زين إيه؟
صافيناز، وهي واقفة بجانب السرير تمسك يد زين، ردت دون تفكير: Bنجتبف.
سارة توقفت للحظة، رمشت بعينيها هي تعرف جيدًا أن فصيلة دم صافيناز O نجتبف، وعماد Bبوزيتيف
حكت سارة في شعرها، كأنها تحاول تفتكر، ثم سألت بخبث هادئ: طب وانتي؟!
صافيناز ردت، وهي تنظر لطفلها بقلق: أنا Oنجتبف ما انتي عارفة!
تبسمت سارة بمكر: آه صح نسيت.
سكتت سارة، لكنها كانت تحلل الموقف في صمت، وجهها متماسك لكن عقلها لا يتوقف، سلمت الاستمارة لموظفة الاستقبال، ثم جلست بهدوء في الانتظار.
بعد قليل خرج الطبيب وقال بابتسامة مطمئنة:
ماتقلقوش، الجرح بسيط، بس احتاج 3غرز. هيروح البيت عادي، بس خلوه يرتاح شوية النهاردة، طبيعي يبقى دايخ.
صافيناز تنهدت: ميرسي.
نظرت الى المربيه وقالت لها بتهديد: انت حسابك معايا بعدين.
خرجوا من المستشفى، وسارة قادت السيارة بنفسها كي توصل صافيناز للقصر لكن عقلها لم يكن في الطريق، كان يدور حول فصيلة الدم.
في السيارة سارة، بعد ما هبطت صافيناز وودعتها أثناء عودت سارة لبيتها:
أخرجت هاتفها، واتصلت بالدكتور مدحت، صديق قديم لها: مدحت، إزيك؟ عايزة أسألك سؤال غريب كده
مدحت: قولي
سارة لو طفل فصيلته Bسالب، ينفع يبقى أبوه B موجب وأمه O سالب؟
مدحت: لا طبعًا، مستحيل.
سارة: طب يعني مفيش احتمال يطلع عامل وراثي من الجد أو الخال عم أو أي حد من العيلة؟
مدحت: لأ خالص، فصيلة الدم بتيجي من الأب والأم مباشرة لو مختلفة تمامًا يبقى مش ابنهم.
سارة تبسمت: طب ولو كده فعلاً؟ ده معناه إيه؟
ضحك مدخت، وقال: معناه إن الطفل ده مش ابنهم، جايباه من راجل تاني، ولبسته لجوزها، بتسألي ليه؟
سارة ضحكت بخفة: لأ مفيش هحكيلك بعدين. بس متأكدة من المعلومة؟
مدحت: أيوه متأكد 100٪.
تبسمت ابتسامه سعيده جدا وهي تقول: تمام اووي. ليك عندي سهرة جامدة، يلا سي يوو!
أنهت سارة المكالمة، وضحكت بصوت عالٍ، كأنها أمسكت بصيد ثمين: والله وقعتِ يا بنت الراوي.
همست لنفسها، وهي تشغل أغنية صاخبة من كاسيت السيارة، وراحت تغني معها بحماس لكن عقلها كان في مكانٍ آخر…
هل صافيناز خانت عماد؟ ولا جابت الأطفال دول منين؟
ضحكت مرة أخرى، نظرت في المرآة الأمامية، وقالت بثقة: ده إنتي هتتفرمي؟! بس استني عليا شوية! لما اجمع مستنداتي.
فيلا سليم وماسة السابعة مساء
غرفة ماسة
نرى ماسة تجلس على الأريكة، تشاهد التلفاز، مستمتعة بمشاهدة أحد الأفلام القديمة، وترتدي قميص نوم باللون الأبيض. بعد دقائق، فتح الباب، ودخل سليم وهو يرتدي بدلة أنيقة، يبدو أنه على استعداد للخروج توقف امامها بصمت.
زفرت ماسة بإختناق وقالت: بقولك إيه، أنا النهاردة مش عايزة أتخانق ولا عايزة أعمل مشاكل، سبني في حالي، عايزة أتفرج على الفيلم بسلام.
نظر لها سليم: أنا بس جاي أقولك إني خارج، واحتمال أتأخر.
ماسة وهي تقلب وجهها: وأنا مالي؟
سليم: قلت أفرحك، لأنك بتعيشين أسعد لحظات حياتك وأنا برة.
ماسة برخامة: ميرسي.
صمت سليم لوهلة ثم قال:تيجي معايا؟
ماسة وهي تعقد بين حاجبيها بتعجب: فين؟
سليم: الحفلة.
ماسة: إنت متشيك كدة عشان الحفلة؟
سليم: أممم.. (بأمل). تيجي؟
نظرت له للحظة بصمت وهي تفكر هل تذهب أم تبقى فهي تشعر بالزهق والملل لم ترى الشارع منذ عام فعندها خسرها الكثير، تبادلوا النظرات، ثم قالت: هاجي.
نظر لها سليم متعجبًا بشدة؛ فهي لأول مرة منذ عام تقريبًا توافق على الخروج معه.
سليم بدهشه: إنتي بجد موافقة تخرجي معايا، ولا بتهزري؟
توقفت ماسة هزت راسها بإيجاب: لا، قررت أروح، معاك اي مكان لما ربنا يهديك وتقولي تعالي معايا يا سجاني، مش هحرم نفسي من الخروج، أصل أنا طلعت عبيطة، مين بيحرم نفسه من فسحة حتى لو مع سجانه؟
سليم: إنتي قولتي تفضلي السجن ولا تبقي معايا في مكان.
ماسة ببرود غيرت رأيي.
سليم بتحذير: ماسة، لو بتفكري تهربي…
توقفت ماسة أمام سليم مبتسمة بإبتسامة ساخرة، ثم قالت بمقاطعة: متقلقش، مش ههرب، انا فعلاً زهقانة أوي، فاهتمصلح عليك في الخروج.
سليم نظر داخل عينيها بتهديد صريح: المهم خليكي فاكرة، لو حاولتي، هتندمي.
نظرت له ماسة بإزدراء وقالت: ماتبطل بقى النغمة دي، زهقت، إنت عارف كويس إن إللي مخليني متحملة الحياة دي هما أهلي، لإني بحميهم من جباروتك، ولولاهم، كان زماني مشيت من زمان.
نظر سليم داخل عينيها متسائلًا بنصف ابتسامة حزن: هو إنتي ليه فاكرة إني هأذي أهلك؟ لا، إنتي مش فاكرة؟ إنتي متأكدة؟ هو أنا عمري قولتلك إني هاأذي أهلك؟
ماسة: مش لازم تقولها بلسانك، كفاية إنك قولتها بعينك وبطريقة تهديدك دي.
قاطعها سليم: المشكلة إنك بتحاسبيني على خيالك المريض إللي صدقيته وبسببه دمرتي حياتنا.
ماسة بقوة نظرت داخل عينه: إنت إللي مريض مش أنا، تنكر إنك كنت تقصد إنك هتأذي أهلي؟ غير طبعًا إنك حرمتني منهم لما ماما جت هنا، وقلت لها: ‘إنسِي إن كان ليكي بنت اسمها ماسة. بدل ما أخليكي تنسيهم كلهم، بلاش ربي عيالك أحسن، بلاش اللون الأسود يبقى لونك المفضل. تنكر؟ تنكر إنك كل شوية تقولي هندمك وتقولي بلاش تخليني أعمل حاجات خيالك مايتصورهاش، وإنتي بس إللي هتندمي لو بنتسي مستحيل أنسى كلامك وتهديدك وحرماني من أهلي.
سليم نظر لها من أعلى لأسفل بوجع: إنتي غبية يا ماسة. لو كنت عايز أاذي أهلك كنت أذيتهم من زمان.
ماسة تنهد بضجر: والله، أنا المفروض أغامر بيهم؟ لونيتك صافية، ولو شوية، مش هتحرمني من أهلي سنة كاملة، بس إنت قلبك أسود، ماتحبش غير نفسك، ممكن تدوس على أي حد إلا كبريائك.
صمتت للحظة، فكما نعلم أنها منذ أشهر. وعدته أنها لن تنطق اسمه مجددًا. ثم قالت وهي تتك على كلمة: يا سجاني.
سليم تنهد بألم: مش بقولك غبية، مش فاهمة حاجة خلينا نمشي المهم إنك ماتنسيش بس، لإن المرة دي صدقيني هحققلك خيالك المريض.
ماسة رامقته من أعلى لاسفل باختناق: مش بقولك ماتعملش فيها مظلوم إنت شيطان ومريض، يلا أخرج برة، خليني ألبس.
تنهدت بتعب وهزت رأسها قالت: أوعى تفتح عليا باب أوضتي تاني من غير إذن.
نظر لها بضجر، ثم نظر لها بنظرة مرعبة، واقترب منها وقال: مافيش باب هيتقفل في وشي فاهمة بمزاجي،؟ ولا تحبي أعمل زي المرة إللي فاتت؟
نظر لها كي يذكرها بالمرة التي ضرب فيها الباب بالرصاص، وكل باب في الفيلا.
نظرت له بتحدٍ وقالت: أظن سمعت. يلا خليني ألبس.
خرج سليم، بدأت ماسة ترتدي فستانها بهدوء، تتحرك ببطء وكأنها تعيش لحظة خاصة مع نفسها. وضعت مساحيق التجميل بعناية، وكل لمسة كانت تضيف بريقًا لملامحها، وجمالها يزداد كلما أكملت استعدادها، بدت مثيرة وجذابة كما لم تكن منذ وقت طويل، فقد مر أكثر من عام ولم يرها سليم بهذه الهيئة وكأن الزمن اختار أن يجمّد اللحظة ليقدّمها له في أجمل صورة.
في الخارج، كان سليم ينتظرها في الردهة، يراقب الساعة، لكنه لم يكن مستعدًا لما سيراه.
انطلقت خطوات كعبها على الدرج كأنها نغمات موسيقى تعزف على أوتار قلبه. تسارعت أنفاسه وارتفعت حرارة جسده، فاستدار ببطء، ولم يحتج سوى لحظة واحدة ليغرق في عالمها.
هاهي أمامه، تقف ماسة بكل مفاتنها، أشبه بلوحة نُسجت بعناية لتوقظ جنونه. عيناه علقتا بها، فقد اشتاق لتلك الماسة التي عشقها بكل جوارحه،
لم تكن الفتاة التي تمردت عليه وأذقته ألمًا لا يوصف، بل المرأة التي سكنت قلبه… ورفض أن يتحرر منها، مهما ابتعد.
تسارعت نبضاته، وكل محاولاته لضبط نفسه تهاوت أمام ابتسامتها، تلك التي تراقصت بخفة على شفتيها. ابتسامة خفيفة ارتسمت على وجهه دون وعي، ففضحته.
كانت تقترب منه بخطى واثقة، نظراتها ثابتة تخترق قلبه بحدة وإغواء. تعرف جيدًا كيف تلهب أشواقه دون أن تبذل جهدًا، وكيف تربكه دون أن تلمسه وتشعل نيران الاشتياق في قلبه، لم يعد ثمة مجال للهروب… فقد تاه في حبها، واستسلم لضعفه أمامها.
ماسة توقفت أمامه: أنا جاهزة.
نظر إليها سليم بشوق يكسوه حزن ومرارة. ما أشد أن تكون له أن تكون ملكا له، ولا يملك الاقتراب منها كما يتمنى. كان قلبه ممزقًا بين ضعفٍ يجرّه إليها، وقسوةٍ يتستّر بها على حبٍ عميق لم يهدأ يومًا، ورغم كل شيء، لم يملك مقاومة تلك الرغبة التي لم يجد السكون إلا في ظلها.
أغمض عينيه للحظة، وكأنه يحاول الهروب من واقعه في خياله، رأى نفسه يحتضنها، يضمها بين ذراعيه، يهمس لها بكل الكلمات التي دفنها في قلبه طوال هذا العام، وقد عادت اللحظات الجميلة كما كانت في الماضي، لكن هذا الخيال كان عابرًا، سرعان ماختفى عندما فتح عينيه، حيث لم يعد قادرًا على الهروب من الحقيقة ليجدها واقفة أمامه.
بصوت منخفض: اتفضلي المهم ماتنسيش الوصاية
ماسة بإبتسامة ساخرة: هتفضل، تزلني بالخروج كتير؟! والله اطلع.
كان صوتها يحمل مزيجًا من التحدي واللامبالاة، لكنها كانت تعرف جيدًا تأثير كلماتها عليه.
سليم بنبرة صارمة: أنا اتكلمت يا ماسة.
تركته دون رد، وتوجهت إلى السيارة بخطوات واثقة. نظراته كانت تتبعها، يشعر كأنها تأخذ جزءًا من روحه معها مع كل خطوة.
في الخارج، كان السائق عشري ينتظر بجوار السيارة. نظر إليها باستغراب حين رآها، لكنه تلقى إشارة من سليم ليهدأ.صعدت ماسة إلى السيارة بخفة، فيما بقي سليم واقفًا للحظة، ينظر إلى السيارة وهي تبتعد.
أقنع نفسه أن الأمر لا يتعدّى خروجا عادياً، لكنها، كعادتها، تعرف كيف تترك أثرها في قلبه، حتى في أبسط اللحظات.
في السيارة، ساد صمت ثقيل، صمتٌ ممتلئ بالكلمات غير المنطوقة، والمشاعر المدفونة. قربها منه كان يبعث الطمأنينة، أنفاسها الحارة تتسلل إليه، وكأن الزمن توقف احترامًا لهذه اللحظة… لم تكن يومًا أقرب.
فتحت ماسة النافذة، ونظرت إلى الشارع بعينين حرتين، لأول مرة منذ عام. لا أسوار، لا حُرّاس… فقط مدينة تنبض بالحياة. تنفست بعمق، كأنها تستنشق الحرية من جديد.
ابتسمت، والهواء يعبث بخصلات شعرها، فتبعثرت رائحته في المكان، وارتجف قلبه. كم اشتاق لهذا العطر فابتسم، واضعًا يده على قلبه الذي ما زال أسير حبها.
تحدثت ماسة بنبرة مليئة بالحزن الممزوج بالحنين: أنا بقال لي كتير اوي ماشفتش الشارع. لأول مرة أشوفه، لأول مرة أشم هواء نقي، غير هواء الفيلا إللي بيخنقني، حاسة إني لأول مرة أتنفس بحرية. لأول مرة عيني تشوف حاجة غير أسوار سجنك، ووشوش غير وشوش سجانك، أقصد خنزيرك الأوفياء، كأني لأول مرة أدوق طعم الحياة،
(بمرارة تنهدت) اللحظة دي فكرتني، بأول يوم خرجت فيها من باب سراي منصور، نفس الإحساس، نفس السعادة، نفس الهوى، وعيني إللي كانت شبه عمياء، وأخيرا شفات، نفسي إللي كان مكتوم وأخيراً قدرت أخده.
ثم أضافت بقوة: مش هسمح لنفسي أتحرم من الجمال ده تاني، حتى لو الثمن هو إني أتحمل، وجودك جنبي بس، هأعيش وكأني مش شايفاك وأستمتع بكل لحظة.
كان سليم يصغي إلى كلماتها، وكل حرف منها يخترق قلبه كطعنة، لكنها رغم قسوتها، كانت تبعث فيه سكينة غريبة. وجودها قربه أنعش روحه، وصوتها أعاد له أحلامًا دفنها منذ زمن.
حاول التماسك، لكن قلبه كان يتشبث بكل لحظة معها، رغم الألم. فهذا القرب، وإن كان مؤلمًا، هو المتنفّس الوحيد له، اللحظة الوحيدة التي يسرقها من حرمانه ليشعر بها.
كان يقول في نفسه: “ما أجمل سمّكِ… يؤلمني، نعم، لكنه منكِ، ولأجلكِ… فحتى الألم حين يأتي من يديكِ، يصبح حلو المذاق، لا يُقاوَم.”
ماسة وهي تنظر من النافذة: بس أنا مستغربة.
سليم نظر لها بنبرة مكتومة: مستغربة إيه؟!
ماسة متعجبة: يعني أنك قولتلي تعالى نخرج حاسة إنك عامل فيا مقلب أو فيه حاجة أصل إنت ماتعملش كدة إلا وفي حاجة.
ارتسمت على شفتي سليم نصف إبتسامة حزينه قال بتوضيح؛:ولا مقلب ولا حاجة أنا حاولت كتير وإنتي بترفضي.
ماسة: بس ده كان من شهور كتير، بطلت أعدها وماكناش وصلنا لكدة.
سليم دون أن ينظر إليها: مش لازم كل حاجة ليها تفسير، اعتبريها مجرد ليلة عادية.
ماسة بنبرة ساخرة: ليلة عادية؟ معاك؟ ده شيء ماحصلش من سنين.
نظر إليها للحظة، ثم أعاد نظره للأمام.
سليم بنبرة حالمه: يمكن قررت أغير شوي. أعمل إللي إنتي طول الوقت بتتهميني إني مش عارف أعمله.
ماسة وهي تلتفت له بتحدٍ: زي إيه؟
سليم بصوت منخفض: أكون طبيعي.
ماسة معلقه: بس إنت مش طبيعي، ولا هتبقى طبيعي، إنت دايمًا شايف الدنيا معركة، وأنا جزء من الحرب.
سليم بنظرة لها: وإنتي مش شايفة إنك كنتي دايمًا بتخليني أحارب؟ والسبب في كل الحروب دي.
ألتقت نظراتهما للحظة، وكان في عينيهما خليط من الغضب والحنين.
ماسة بنبرة هادئة ممزوجة بمرارة: مظبوط حاربت عشان تحافظ عليا عشان تملكني وتحمينى جو حصنك ونسيت تحميني من نفسك طلعت أكبر عدو وتهديد ليا.
هز راسه بإيجاب بصمت موجع بدمعه حارة تجمعت داخل عينه لم تسقط على خده
صمت كلاهما، وكأنهما وصلا إلى نقطة يصعب تخطيها. السيارة استمرت في السير، بينما كان كل منهما غارقًا في أفكاره.
💞_______بقلمي_ليلةعادل________💞
في إحدى البواخر النيلية الفاخرة، التاسعه مساءً
وصلت ماسة وسليم إلى إحدى البواخر النيلية الكبيرة، كانت الموسيقى تتصاعد منها، تعج بالحياة والحركة، المعازيم يتوافدون، الأضواء تلمع، والمصورون يتنقلون بين الوجوه.
وما إن اقتربا من المدخل، حتى علقت ماسة يدها بذراع سليم من تلقاء نفسها؟! كان ذلك غريبًا على سليم، لكنه أحب هذا الشعور كثيرًا ارتسمت ابتسامة على شفتيه سعيدة.
دخلوا إلى القاعة الرئيسية، وبدأت الكاميرات تلتقط الصور، وتسابق الصحفيون والمراسلون ليحصلوا على كلمة من سليم.
اقتربت ماسة منه، وهمست في أذنه: هي دي حفلة إيه؟
ابتسم وهو يرد بهدوء: حفلة إعلان ترشحي لانتخابات مجلس الشعب.
نظرت له بدهشة طفولية، وقالت بخفة: أوووه لا لا، مبروك يا سجنجن! هتبقى مرعب وسلطة أكتر من كده.
سليم همس في أذنها بمزاح محبب: تفتكري إني محتاج؟
نظرت إليه ماسة بعينيها وقالت بمشاغبة:بصراحة إنت مرعب من غير أي شيء.
غمزت له، ارتفعت ضحكاتهما برقة، وهما ينظران إلى بعضهما، كأنهما يبحثان في وجهيهما عن السعادة التي اختفت، والحياة التي انتهت وسط ظلال الأوجاع، ظلّا هكذا، حتى قاطعهما أحد المذيعين.
أحد المذيعين قاطعهم: ليه قررت تترشح متأخر كدة يا سليم بيه؟
تنهد سليم واعتدل من توقفه بإبتسامة قال بكبرياء:
لإني شايف إن ده الوقت المناسب.
مذيعة أخرى وجهت سؤالها لماسة: من زمان، ماشفناش حضرتك مع سليم بيه هل، ده السبب؟
ماسة بإبتسامة خفيفة: أنا مابحبش السوشيال ميديا ولا الظهور.
ثم نظرت لسليم بطرف عينها، وقالت بنبرة لطيفة:
يلا يا حبيبي.
كانت كلمة “حبيبي” كالصاعقة، التقطتها أذنه، لكن عقله لم يستوعبها على الفور. مرّت عليه كدهشة دافئة، إذ لم يسمع تلك الكلمة منذ زمن، ورغم ثبات انفعاله كان قلبه يرقص فرحًا.
هز سليم رأسه بإبتسامه لا تفارق وجهه وعينه عليها، قال للمراسلين: أي حاجة عايزين تعرفوها، ممكن تاخدوها من مديرة أعمالي بعد إذنكم.
أبعدهم الحراس ومكي طبعا وسحب ماسة من يدها وتحرك للداخل.
وأثناء ذلك نظر لها بطرف عينه: ممثلة هايلة!
ماسة ضاحكة: تلميذتك!
ثم ظهر ياسين، وبجواره هبة وفريدة، وأصدقاء سليم، صافيناز، وبعض الوجوه المعروفة ولم يكن من العائلة أحد غيرهم.
اقتربت فريدة بدهشة: إيه ده! ماسة؟ بقالنا سنة ماشفناكيش!
ماسة بإبتسامة رقيقة: إزيك يا فريدة؟ عاملة إيه؟
فريدة: بخير ياحبيبتي.
اقتربت صافيناز، وضحكت بسخط: عاش من شافك يا ماسة!
نظرت لها ماسة بعينين ضيقتين، وأمالت رأسها قليلًا، وردت بنبرة لازعه: آهو عاش وشافني، ودايمًا هيشوفني.
تقدمت هبة بحماس: ميسو! وحشتيني جدًا!
لكن ما إن اقتربت لتعانقها، حتى ابتعدت ماسة قليلًا،
وسلمت عليها بطرف يدها، كأنها تحولت لواحدة من آل الراوي: آه، أهلا إزيك يا هبة.
هبة نظرت لها بدهشة: إنتي بتكلميني كده ليه؟!
ماسة رفعت عينيها متعجبة بنبرة: بكلمك إزاي؟
هبة بتوتر: مش عارفة حاسة إن فيه حاجة!
تبسمت ماسة: لا، مافيش حاجة دي تهيؤات.
رفعت عينيها نحو سليم، وقالت له: ماتيجي نقف عند النيل شوية؟ ولا حابب تكمل مع إخواتك؟
سليم وضع يده على ظهرها وقال بإبتسامة: يلا بينا.
وبالفعل تحركا و وقفا عند السور المطل على النيل
وقفت ماسة، وأخذت نفسًا عميقًا، شعرها يتطاير من حولها، والهواء ينعش قلبها المرهق.
قالت بصوت منخفض وهي تنظر أمامها: عارف إحساس الأعمى لما بيشوف لأول مرة؟ ده إحساسي دلوقتي.
نظر لها سليم بإستنكار وهو يسند يديه على السور وينظر أمامه: إنتِ إللي كنتِ عاملة في نفسك كدة ! أنا لساني تعب من كتر مابيتحايل عليكِ لحد مزهقت.
ماسة عضت شفتها، وقالت بنوع من الندم: أنا كنت غبية زي ماقولتلك وإحنا في البيت، بس مش هبقى غبية تاني، أي لحظة هتقول لي فيها نخرج، أنا هخرج، أنا إللي خسرت، إنت قلت لي هاتخسري، وأنا فعلًا خسرت، بس كسبت أهم حاجة: حماية حتى لو على حساب حياتي.
سكتت لحظة، ثم ابتسمت عدلت وقفتها في زاويته: بقولك إيه أنا مش عايزة أتكلم في أي حاجة وحشة، عايزة نتكلم في حاجات حلوة، بالله عليك، خلينا ناخد ساعتين أجازة من النكد! نضحك، وننبسط، حتى لو بالكذب.
نظرت له، مركّزة النظر في وجهه: عارف؟ أنا قرأت في كتاب إنك ممكن تقنع عقلك الباطن بحدث مش حقيقي، بس لو كررته كتير، عقلك هيصدق، المهم إنك تبقى عايز ده.
سليم، بنبرة حزينة أقرب للعتاب: زي ما إنتِ بتقولي، أنا بكرهك، بس إنتِ بتحبيني في الحقيقة.
ضحكت ماسة: إحنا اتفقنا على إيه؟
تبسّم سليم، وأخرج أنفاسًا متعبة،ثم قال بهدوء: ماشي بس أنا هعمل كده من قلبي، إنتِ بقى عايزة تعملي تمثيل؟ ولا مجرد فسحة؟ أنا قابلها.
هنا مدت ماسة يدها نحوه، وضربت كفها بكفه قائلة:
طب تعال ناخد لنا رقصة ككراميل وقطعة سكر.
هز سليم رأسه بإيجاب وصمت، أمسكت بيده وسحبته كالمغناطيس وقفا في المنتصف وبدءا بالرقص.
كانت تلك اللحظة من أصدق اللحظات التي جمعتهما منذ زمن؛ فلأول مرة يقفان هكذا، قريبين أكثر من أي وقتٍ مضى، يرقصان معًا، يضحكان وجهًا لوجه، وتتقابل نظراتهما دون حواجز أو أقنعة.
كل شيء في سليم كان يصرخ بالشوق، حتى تلك الدمعة الصغيرة التي تجمعت في عينيه، تقول كل مايشعر به بداخله.
وماسة أيضًا، كان قلبها يضج بالحنين. ترتسم على وجهها ابتسامة صادقة، نظراتها لم تكن تمثيلًا، بل شوقًا نقيًّا خالصًا، وكأنها تتمنى أن تعيش معه هذه اللحظة فقط، لحظة تُشبه الماضي، تجمع بين ماسة وسليم، أو بين قطعة السكر والكراميل.
عيونهما تعقت ببعضها بثبات، غرقا ببعضهما كأن الزمن توقف في سواد عيونهما، وكأن الرمش خيانة لما يشعران به، كل من حولهما اختفى، كل شيء تلاشى، ولم يتبق سوى طوفان من المشاعر يندفع من قلب ماسة بلا إذن.
لم تعد قادرة على الادعاء أكثر، رغم كل الوجع، لم تعرف يومًا كيف تكرهه، لكنها تعلمت كيف توهم نفسها بذلك، أحيانًا تصدق، وأحيانًا لا، لكن هذه الثواني تحديدًا، فضحتها أمام نفسها قبل أن تفضحها أمامه.
وفجأة، لم تشعر ماسة إلا وهي تقترب منه، تريح رأسها على كتفه، تضمّه بشوق أذاب فؤادها وهي تتمايل بين ذراعيه بينما سليم تشبث بها أكثر.
أخذا يرقصان، لا يعلمان كم مر من الوقت، دقائق؟ ساعات؟ أكثر من أغنية؟ كل مايدركانه أنهما يعيشان لحظة طال اشتياقهما لها حد الجنون.
ولم يعودا إلى وعيهما إلا على صوت ياسين وهو يقترب مازحا: إيه يا شباب؟ ماتعبتوش من الرقص؟ هتفضلوا ترقصوا للسنة الجاية ولا إيه؟
تنهد سليم وضحك قليلًا، ابتعدا عن بعضهما ببطي، وفي اللحظة نفسها، تابع ياسين: يلا بقى، عشان الكلمة بتاعتك لخطابك الانتخابي.
سليم سأل: هو الباشا مجاش ليه؟
ياسين: الباشا في أبو ظبي عشان مناقصة البترول الجديدة.
أومأ سليم برأسه بتذكر، وكأن كلمات ياسين أيقظته من غفوة لحظة نادرة، لحظة أنسته العالم بأسره.
ابتسم بخفة وقال بصوت منخفض، كمن يعترف لنفسه قبل غيره:آه مظبوط. نسيت.
ثم ألتفت إلى ماسة وقال بابتسامة هادئة: عشقي، خمس دقايق ورجعلك.
أومأت ماسة برأسها بصمت، توقفت عند الطاولة، لم تتحدث مع هبة، بل بدأت تتبادل أطراف الحديث مع فريدة، وياسين، وبعض الأصدقاء.
أما سليم، فكان يراقبها من بعيد، لم يفهم ما بها
هل أصبحت أكثر هدوءًا؟ أم نضجت فجأة؟ أم أن هناك أمرا آخر؟
لكنه كان سعيدًا. لم يشأ أن يسأل نفسه، بل فقط أن يهرب من كل الأسئلة، ويستمتع بما يحدث.
وبعد أن أنهى كلمته، عاد وإنضم إليهم.
بدأوا يتبادلون الأحاديث والضحكات، وكانت ماسة تتعامل معه بتودد غريب، كأنها عادت فجأة إلى ماسة القديمة تلك الحبيبة، قطعة السكر.
أما سليم، فبدأ يتجاوب معها بشكل طبيعي؛ ضحكات متبادلة، نظرات دافئة، وجو خفيف لم يكن يريد له أن ينتهي.
بينما ماسة تحاول أن تسرق لحظات من حياة قديمة… حياة فقدتها بيدها. سجنت نفسها داخل خوفها وعنادها، فدمّرت ذاتها وقلبه معها.
ربما ظلمت نفسها، وربما كانت محقة، لكن الأكيد أن كليهما كان موجوعًا… وكانا يستحقان فرصة.
وانتهت الحفلة، رغم أن قلبيهما لم يرغبا في نهايتها.
السيارة سليم الثانية عشر صباحاً
جلست ماسة تحدق من النافذة، تتابع الطريق وهي صامتة، كأنها تودع المكان لم تكن تريد الرحيل.
لاحظ سليم نظراتها، نظر لها من طرف عينه، ثم أبتسم إبتسامة خفيفة وقال بهدوء: تشربي حلبسة؟
نظرت له بسرعة، كأنها تفاجأت بالسؤال ردت بحماس وهي تهز راسها بموافقة: أشرب حلبسة؟!
ابتسم، وأشار للسائق أن يتوقف عند عربة حمص الشام على الطريق.
هبطا من السيارة، ومشيا معًا على الكورنيش، الهواء النيلي يعبث بشعرها، وصوت ضحكاتها يتلألأ كالأنغام
كانت ماسة تضحك، كأنها فتاة في الخامسة عشرة خفيفة القلب، كأن الحياة لم تمسسها قط، ضحكتها كانت حقيقية، عذبة، خالية من الحذر والتردد.
كان سليم ينظر لها بصمت، يراقب ضحكتها كأنه يراها لأول مرة أو ربما كان يخشى أن تكون الأخيرة.
عيناه لم تتركها، وقلبه يزداد تعلقًا بلحظة حلم، يخاف أن يصحو منها.
وبعد دقائق من المشي، توقفت ماسة، ونظرت للنيل، ثم قالت بصوت شبه هامس: إنت عارف بقالنا كام سنة مامشيناش على الكورنيش من غير حراس، ومن غير حد؟
سليم بهدوء: من قبل الحادثة.
هزه ماسة راسها بإيجاب وهي تمد وجهها بنوع من الحزن: مظبوط، عارف؟ أنا اكتشفت إن الحادثة دي كانت بداية دمار حياتنا..
صمتت للحظة تابعت: بس مش هي السبب لوحدها، بعدها كل حاجة حصلت.
لفت نظرها مكان صغير في الأسفل، على حافة النيل، كأنها بقعة خافية عن العالم.
أشارت إليه بسرعة، بعينين لامعتين، وسألت بحماس طفولي: ينفع ننزل نقعد هناك؟
نظر لها سليم بإبتسامة،وهو يهز راسه بالموافقة.
هبطا للأسفل، لم يكن هناك كراسي، فقط الأرض والنيل أمامهما، جلست ماسة على الأرض دون تفكير، رغم فستانها، ضحك سليم، ثم جلس بجوارها.
أغمضت ماسة عينيها، وأخذت نفسًا عميقًا.
ماسة بإبتسامة: فين الحمص؟
أشار سليم بيده، ثم نادى على أحد الحراس، طلب منه كوبين من الحمص، ثم عاد للصمت.
ماسة لم تكن تريد الحديث، فقط أن تعيش اللحظة.
وسليم أيضًا لم يفتح موضوعًا،خائف أن الكلمات تفسد اللحظة وبعد وقت.
وقعت عينا ماسة على رجل وامرأة مسنين، يبدوان في الثمانينات، يجلسان سويًا يشربان الحمص،وكانا يبدوان جميلين ورومانسيين ابتسمت، وامتلأت عيناها بالدموع.
قالت وهي تنظر لهما:فاكر؟ لما كنا في سويسرا تقريبًا؟ووعدنا بعض إننا هنفضل كده زي الاتنين دول؟
نظر سليم للزوجين ثم رد بصوت خافت بنبرة يخنقها الوجع:
الحياة ساعات بتجبرك تعيشي حاجات ماكنتش ناوياها، أنا ما اخترتش كل ده يحصل بس حاولت أصلح، إنتِ إللي كنتِ عنيدة، وأنا كمان غلطت،
ماعرفتش أحتوي عندك، كنا مشوهين كنا بنجرح بعض وإحنا مش واخدين بالنا لحد ما خسرنا حاجة وخسرنا نفسنا.
صمت للحظة ثم سألها بنبرة مكسورة: إنتِ مش زعلانة؟
أجابت ماسة، بعين دامعة: والله زعلانة، أوعى تفتكر إني مبسوطة، بأن الحياة إللي بقينا فيها كلها حزن ووجع وصمت، كنت بتمنى حياتنا تبقى أحسن من كده.
ثم أكملت بلهجة خفيفة: بس بقولك إيه! إحنا اتفقنا،
وحياة حور ماتفتحش أي كلام يوجع، ولا تسأل
انبسط باللحظة.
سليم فورًا بنبرة موجوعة: حاضر، هعملك إللي إنتِ عايزاه، ياماسة.
صمتا قليلًا، ثم طلبت ماسة منه يشغل أغنية تحبها،
شغل لها واحدة من أغاني حكيم، ضحكت احتست الحمص، وكانت اللحظة بسيطة لكنها دافئة.
سألته فجأة: قولي لسه بطنك بتوجعك؟! لسة تعبان؟
هز رأسه: لا، بقيت أحسن كتير، الدكتور إللي روحت له الفترة الأخيرة إداني دوا كويس.
ماسة بسؤال فضولي: طب هبقى أروح معاك؟ ده اسمه إيه؟ مصطفى؟
اومأ سليم متساءل بقلق: آه، لسه بتتعبي لما تاكلي حاجات تقيلة؟
أومأت: آه.
سليم بإبتسامة دافئة: خلاص، المرة الجاية نروح له سوا، أنا وإنتي.
ابتسمت ثم قالت بنعاس: طب يلا نمشي، أنا تعبت، وعايزة أنام.
سليم بهدوء: يلا.
فيلا سليم وماسة، الواحدة صباحًا
هبط سليم وماسة من السيارة بصمت هادئ.
رفعت ماسة نظرها إلى السماء، مدت كفها وكأنها تلمس الهواء، همست بصوت ناعم يعلوه تعب خفيف:
شكلها هتمطر، ريحتها بتندع.
ابتسم سليم وهو ينظر لها من طرف عينه، قال بنبرة محببة: تحبي نقعد شوية في الجنينة؟ أنا عارف إنك بتحبي المطر.
هزّت ماسة رأسها بهدوء، وضغطت بيديها على جانب راسها بتعب: لأ، محتاجة أنام.
تحركت ماسة إلى الداخل بخطوات بطيئة، تبعها سليم بتنهيدة ثقيلة، دخل المصعد وصعدا معًا إلى الطابق الثاني، حتى غرفة ماسة.
غرفة ماسة.
ما إن دخلت الغرفة، قالت ماسة بنبرة مرهقة:
أنا مش عارفة ليه حاسة إني مرهقة كدة.
نظر لها سليم بتفحص سريع، قال وهو يفك أزرار كم قميصه: شكلك سهرتي كتير إمبارح.
ردت عليه وهي تتجه إلى غرفة الملابس، صوتها متكاسل: أيوه، فعلاً نمت الساعة ٧ الصبح، كنت بتفرج على أفلام طول الليل ووفية صحتني الساعة 12:00 عشان تظبط الأوضة رغاية رغي اقسم بالله ده أنا كنت جنبها ملاك وأنا صغيرة.
ضحك سليم وهو يخلع ساعته وهو يقول: لو عايزاني أمشيها أمشيها.
ماسة وهي في الداخل: لا حرام خليها مسلية.
بدأ سليم يخلع جاكيت البدلة برتابة، ألقاه فوق الفراش، ثم فك الببيونة من عنقه ببطء، فتح أول أزرار قميصه.
بعد دقائق، خرجت ماسة من غرفة الملابس، ترتدي قميص النوم الأبيض الذي ارتدته في اول حلقة، ويغطيه روب ناعم بلون وردي باهت كانت تتثاءب وهي تسير بخطوات متثاقلة، كأن النوم يسحبها من بين يديه.
ماسة بدهشة وكسل: إنت لسه هنا؟!
سليم بثبات وهو متوقفا مكانه: أه هنا المفروض أكون فين؟!
ماسة وهي تشير إلى الباب برقة: يعني مش هترجع أوضتك؟
سليم بنفس النبرة الهادئة: لأ، هنام هنا النهاردة.
نظرت إليه بإستغراب لكنها لم تعلق وهي تسير ناحية المرآة، بدأت تزيل مكياجها بحركات ناعسة.
اقترب سليم منها بهدوء، وأحاط خصرها بذراعه من الخلف، بينما ارتفعت يده الأخرى لتستقر فوق صدرها غاص رأسه في عنقها، يستنشق عبيرها بشوق، وأنفاسه الدافئة تداعب بشرتها الرقيقة فور أن فعل ذلك، ارتجفت ماسة من المفاجأة، اجتاحت جسدها قشعريرة حادة كأن قطعة جليد ذابت في أحشائها، ودق قلبها بقوة لا تحتمل.
ضغطت على يده بلطف وهي تهمس بنبرة مهتزة:
سليم هو فيه إيه؟
وضع سليم قبلات خفيفة متقطعة على حنايا رقبتها فيما كانت أصابع يده تتحرك برقة فوق امعائها، يهمس بشوق موجوع:
وحشتيني… وحشتيني أوي أوي يا ماسة.
رفع يديه إلى وجهها، ووضع كفه على خدها، قربها منه برفق، طبع قبلة على شفتيها، قبلة امتزج فيها الحنين بالألم، والشوق الذي ظلّ ينهشه بصمت، أخذ يلتهم شفتيها، في اللحظات الأولى كانت ماسة غائبة عن الوعي تقريباً مع تلك القبلة الحارة وبدأت أن تتبادلها معه لكن دقائق وبدأت تستعيد وعيها بدات، تتراجع بلطف، وتضع يدها على صدره لتدفعه برقة.
ماسة صدرها يعلو ويهبط بشده: سليم، مش هينفع كده أرجوك.
لكن سليم، الذي لم يلمسها منذ أكثر من عام، لم يعد قادرًا على كبح اشتياق مزقه بصمت، فكان آخر لقاء جمع بينهما قبل حادثة والدها بيوم واحد، وبعدها أنقلب كل شيء، وسقطت حياتهما في هاوية من الألم والبرود والانفصال الصامت
الآن، لم يكن يسمع سوى صوت شوقه، الذي اجتاحه كعاصفة، وكأن كل لحظة حرِم فيها من دفئها انفجرت دفعة واحدة، تحرق صبره، وتغرقه في لهفة موجعة.
في الماضي لم يكن بينهما فرقة، كانت تلك اللحظات هي حياتهما، يصنعانها عن قصد، ويذوبان فيها عشقًا لم يكن حب جسد، بل عشق أرواح اتحاد لا يدرك معناه سواهما، يهربان إليه من ضجيج العالم، ويتنفسانه كما يتنفسان الحياة.
لم يستطع التوقف فما يعيشه الآن لم يكن رغبة جسد، بل شوقًا جارفًا؛ اشتياق لصوتها، لعطرها، لتفاصيلها كلها لذاك الحضن الذي طالما آواه من كل شيء.
اقترب منها من جديد، وفي عينيه شوق نازف لا يهدأ، ضمها إلى صدره بقوة، وكأنها وطن ضاع منه طويلًا، ثم دفعها بلطف نحو الحائط، حاصرها بين ذراعيه، واقترب حتى لامست أنفاسه وجهها.
قبل شفتيها قبلة مشتعلة، قبلة رجل يائس من الفقد، يحاول أن يذيب بها جليد الغربة الذي تراكم بينهما كجدارٍ عنيد.
كانت يداه تلامسانها برعشة خفيفة، كأنهما تبحثان عن ذاكرة منسية. أما ماسة، فترددت قلبها لم يكن باردًا، بل خائفًا، ممزقًا.
دفعته قليلًا من بطنه، وهمست باسمه:سليم
لكنه لم يبتعد، بل ظل يلتهم شفتيها بعشق يشتعل داخله، شوقٌ أحرق روحه، تململت بين ذراعيه ثم استسلمت، للحظة، للحضن، للدفء الذي طالما اشتاقت إليه.
همس سليم بصوت مكسور بالشوق، وعيناه تائهتان فيها: وحشتيني يا ماسة… وحشتيني أوي.
قبلته الأولى كانت ناعمة عاشقه لكنها سرعان ماتحولت إلى قبلات مشتعلة، تائهة على وجهها، عنقها، شفتيها وكأنه يستعيد شيئًا ضاع منه، أو يسرق لحظة من العمر قبل أن تهرب.
لكن عقل ماسة ظل يصرخ في الخلفية، خوف غامض كان جاثمًا على صدرها، لا تفسير له، فقط ثقل داخلي لا يزول، رغم دفء حضنه، ورعشة قلبها، عادت تقاوم تدفعه برفق، تحاول أن تشرح له بصمتها أن الوقت لم يحن بعد.
وفجأة، استطاعت أن تبتعد، أنفاسها متقطعة، وصدرها يعلو ويهبط بارتباك، وجهها شاحب. رفعت يدها لتعدل طرف الروب، وهمست بنبرة مهزوزة:
على فكرة، هو مش عشان خرجنا ورقصنا يبقى معناه إننا رجعنا لبعض، إحنا بس، كنا بنحاول نعيش لحظة هدوء، بس مش أكتر من كده.
تنهد سليم، واقترب منها من جديد، أحاط خصرها بذراعيه، وهمس: بس بطلي بقى، إنتِ بتحبيني؟
ثم قبّلها بجنون، لكنها ابتعدت ثانية، تنظر إليه وعيناها ترتجفان، وأجابت بنبرة صادقة مرتبكة: طب أصبر عليا أنا حاسة إن بعد إللي حصل النهاردة، في حاجة حلوة جاية، حاسة إني قربت أرجع بس محتاجة وقت، محتاجة أستوعب، أنا هجيلك بقلبي، وبروحي، مش بس بجسمي أوعدك، بس أصبر عليا.
اقترب منها سليم من جديد، أنفاسه متلاحقة، وعيناه لا تفارقان وجهها، لم يكن يحمل رغبة جسد بل رغبة شوق، قلبٌ تائه لا يحتمل المزيد من الانتظار ، وكأنه يقولها: أنا مش قادر أستنى أكتر.
مد ذراعه وسحبها عليها من خصرها حتى التصقت به، وجهه لامس وجهها، وهمس بصوت مشتاق:
بطلي عناد بالله عليكي كفاية بعد، أنا استنيت كتير، كتير أوي، مافيش صبر تاني، إنتِ إللي خلاص، كفاية،
سيبي نفسك يا ماسة إنتي عايزاني زي ما أنا عايزك.
مشتاقة لي زي ما أنا مشتاقلك بتحبيني زي ما أنا بحبك وبموت فيكي بطلي عند،
ضمّ وجهها بين كفيه، نظر إلى عينيها بشوق لا يرمش، وهمس: بحبك بحبك اوي.
ثم قبّلها من جديد، ولم تقاومه لكنها لم تبادله شيئًا، لم تكن باردة، لكنها غائبة، جسد بلا روح، دفء بلا حضور.
أعادها إلى الفراش، قادها برفق، لم تبد أي اعتراض، تركت نفسها بين يديه، وكأنها تستسلم لشيء لا تصدقه.
استلقت على ظهرها، فستلقى فوقها، غارقًا في قبلاته على مختلف جسدها وشفتيها، كأنه يحاول أن يسقي قلبه اليابس من نبعها، أن يملأ الفراغ بكلمات الشوق، بهمساته، بكل ماتبقى له منها لكنها لم تكن هنا
لم تستجب، لم تتفاعل رغم أن الشوق يسكنها، والحنين ينهشها، إلا أن داخلها شيء أقوى خوف لم يذب، وجع لم يلتئم، وخذلان مازال يصرخ في قلبها.
ومع مرور اللحظات، بدأ سليم يشعر بتلك الحقيقة المؤلمة. ذلك الفراغ تلك البرودة.
ابتعد سليم عنها قليلًا، أنفاسه ساخنة ونبرته حادة، قال بضجر خافت: هو إيه البرود ده؟
لم تجبه ماسة، فقط نظرت إليه، نظرة مختلطة بين الاعتذار والشوق، بعين دامعة وكلمة علقت في حلقها ولم تجد طريقها للخروج.
وفي لحظة هشاشة مفاجئة، لحظة اجتمعت فيها الخيبة مع الغضب والانهيار رفع سليم يده، وصفعها على وجهها، وفي تلك اللحظة توقف الزمن.
الصفعة لم تكن مجرد يد امتدت إلى وجهها، بل كانت كسكين قطع كل خيط رفيع ما يزال يربطها به.
تجمد كل شيء. الهواء انحبس في صدرها، نظراتها اتسعت، يدها ارتفعت لا إراديًا تمسك خدها المحترق من أثر الصفعة.
ظلت ماسة تحدق فيه، عيناها تتسعان في صدمة قاتلة، يدها لا تزال على خدها، وشفاها تتحرك دون صوت ثم خرج منها أنين مبحوح:
ماسة بنبرة مكتومة وصوت يخرج بصعوبة من الصدمة: إنت بتضربني يا سليم؟
وقف أمامها، ملامحه صلبة كالصخر، عيناه مظلمتان كليل، وصوته خرج مثقلاً بالغضب: أيوه، بضربك! لاني زهقت! زهقت من كل حاجة! سنة كاملة وانا بلملم نفسي عشانك وصابر! ببلع برودك، ببلع سكوتك وبحاول، بس واضح إني كنت بغلط، خلاص، خلاص!
انهمرت دموعها في صمت، نظرتها كانت مكسورة، لكن صوتها أرتفع فجأة، تكسوه مرارة وانكسار:
أنا قلتلك أصبر عليا، قلتلك مستنية أستوعب، بس إنت مش عايز تصبر! عايز تبوظ كل حاجة حلوة بينا، ليه عايز تشوف صورتك في عيني متشوهة أكتر من كده ليه بتتفنن تبقى وحش؟!
سليم بإنفجار بارد، كأن كل ما بداخله تحول إلى جليد مكسور:
تفتكري لسه يفرق معايا أكون شكلي إيه في عنيكي؟
صورة حلوة؟ صورة بشعة، أنا بقيت مش فارقلي حاجة أصلاً!
نظرت إليه بعين دامعة، صوتها كان مؤلمًا أكثر من الضربة نفسها:
وأنا قلتلك إني مش هامنعك، أنا مش رفضاك يا سليم,، قولتلك ده حقك، ولازم تاخده، إنت إللي رافض، ومحكم دماغك في شكل معين، شكل أنا مش قادرة أديهولك دلوقتي.
قاطعها بعنف، عينيه تشتعل: ليه؟! حد قالك إني كلب؟ ترميلي حتة عضم وأسكت؟!
أجابت وسط شهقاتها وبكاء مختنق جلست على ركبتها وضعت كفها على خده:
أنا ماقلتش كده! أنا مستحيل أقول عليك كلب يا سليم،! بقولك أصبر بس عليا إحنا قربنا ليه مش عايز تصبر مالك.
اقترب منها بخطوات متوترة، نظراته مضطربة، أنفاسه تخرج ثقيلة:
مش كلب صح، بس مريض صح؟ علشان كدة لسه رافضاني.
هزّت رأسها بيأس، تحاول أن تستنجد ببقايا عقله:
لا! حاول تسمعني أفهمني يا سليم، إنت لما بتقربلي، بخاف، وبشوف السكينة إللي إنت مخبيها ورا ضهرك مش ليا لأهلي..
تبسمت بأمل أمسكت يده:
بس النهاردة، والله كنت حاسة إني أخيرًا اتحررت شوية، وكنت مشتقالك،أصبر عليا شوية كمان، مش كتير، شوية بس، ممكن؟ وتعالى نام جنبي النهاردة نبتدي من النهاردة نحاول.
لكنه لم يعد يسمع، كأن صوته الداخلي طغى على كل شيء، اقترب منها وهو يصرخ، صوته غارق في قاع من العجز والغضب:
شويه؟! بقولك زهقت! زهقت من محاولاتي إني أبقى بني آدم طبيعي! من كل لحظة استوعبتك فيها!
أنا بقى هوريكي المريض إللي مش طبيعي بيعمل إيه!
بلا تفكير، نزع الحزام من خصره ببطئ، ووجهه صار مسخًا مشوهًا من الألم والغضب ينظر لها بعين غامت بسواد الخطر لا ترمش
تجمدت ماسة في مكانها، ثم ارتدت إلى الخلف بسرعة، جلست على طرف الفراش تحاول أن تبتعد بنظرها، بجسدها، بروحها لكنها لم تستطع الهرب منه.
بنبرة مكسورة، خرج صوتها بصعوبة يتوسل: سليم، سليم لا، بلاش، ماتتجننش، إنت ناوي تعمل إيه؟
نظر لها سليم وهو يمسك بالحزم …
استوووب ….. باقي الحلقة الاخيرة يوم السبت
توقعتكم سليم هيعمل ايه؟!

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية الماسة المكسورة)

‫5 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى