روايات

رواية الماسة المكسورة الفصل التاسع والستون 69 بقلم ليلة عادل

رواية الماسة المكسورة الفصل التاسع والستون 69 بقلم ليلة عادل

رواية الماسة المكسورة الجزء التاسع والستون

رواية الماسة المكسورة البارت التاسع والستون

رواية الماسة المكسورة الحلقة التاسعة والستون

 [بعنوان: صرخات من الأعماق]
أمام البوابة، أشار لها الحارس أن تتوقف حين شاهدها هى من تقود. فتحت نافذة السيارة.
نظرت له والنار تشتعل في عينيها بأمر:
افتح البوابة.
الحارس بهدوء متعنت:
مش هينفع ياهانم لازم نستأذن سليم بيه.
ماسة وهي تحاول لجم جماح غضبها:
افتح البوابة… أحسن لك.
الحارس بتريث:
اسف يا هانم… دي أوامره. هنكلمه حالًا.
ماسة هزت راسها بإيجاب غاضب: كدة طيب
نظرت حولها، ثم إلى البوابة، ثم إلى الحارس… شرارة ما لمعت في عقلها جزت علي اسنانها قلبت عينها التي غامت بسواد خطر، رابطت حزام الامان.
أدارت المحرك فجأة بقوة، عادت إلى الخلف بمسافة، توقفت وعيناها ثابتتان على البوابة.
نظرت للحراس، وكأنها تخبرهم دون كلمات: أأنا مش هتراجع.
بثبات قاتل، مدّت يدها نحو عصا الفتيس، حرّكتها بحسم، ثم اندفعت بالسيارة إلى الأمام، ضاغطة على دواسة البنزين بكل قوتها.
اندفعت السيارة كالسهم. أحد الحراس كان يهمّ بإخراج الهاتف ليتصل بسليم، لكنه تجمد وهو يرى واحدًا من زملائه يُطاح به يمينًا، وآخر يُدهس أرضًا، بينما ارتطم الثالث بالحديد.
ثم اصطدمت السيارة بالبوابة بعنف!
صرخ الحديد، تشقق الزجاج الأمامي، وانخلع غطاء الموتور جزئيًا.
توقفت السيارة، والأنفاس مختنقة، الأصوات، متداخلة حدث هرج ومرج عند البوابه.
بينما ماسة صدرها كان يعلو ويهبط بجنون، الحراس يصرخون، أحدهم يركض نحو الهاتف الداخلي، والآخر يحاول الاقتراب …
لتوقيفها فهم لا يستطيعون توقيفها بالسلاح.
لم تعطيهم ماسة أي فرصة فجأة، تنفّست بعمق، وأعادت عصا الفتيس إلى الخلف مجددا
توقفت للحظة المقدمة محطّمة، الزجاج على وشك الانفجار، لكن ماسة لم تتراجع.
أمسكت بالدركسيون بقوة، ضغطت على البنزين بأقصى طاقتها.
انحنت، رأسها إلى أسفل، لتحتمي من الزجاج إذا تطاير…. وانطلقت.
صوت مقدمة السيارة يصطدم بالبوابة ملأ الأرجاء، شرار يتطاير، دخان كثيف.
وأخيرًا، انفتحت ضلفة البوابة، والسيارة، عبرت، وخرجت، عدلت ماسة من جلستها أخذت، تتنفس بصعوبة، نظرت للخلف، تحاول أن تهدأ، لكن جسدها مازال يرتجف واكملت قيادة.
وعلى الجهة الأخرى
كان هناك هرجٌ ومرجٌ شديدان. بدأ الحراس ينهضون عن الأرض، يحدّقون في بعضهم البعض بدهشة وذهول، مما حدث كان أسرع من أن يُستوعب، كل شيء حدث في ثوانٍ خاطفة، وفي تلك اللحظة تحديدًا، اندفع عشري نحوهم مسرعًا.
عشري بصوت مصدوم: إيه اللي حصل؟!
عثمان وهو ما زال مذهولًا: ماسة هانم خدت العربية وجريت بيها.
تجمّد وجه عشري للحظة، ثم صرخ فيهم:
عملت إيه؟! وإنتوا واقفين تتفرجوا؟! فين العربيات؟!
كانت هناك سيارات بالقرب. ركض عشري نحو إحداها، صعد بسرعة، وبدأ يقودها وهو يصيح:
بلغ مكي بسرعة، دي مصيبة!
انطلقت السيارة كالسهم، وخلفها لحقت سيارتان أخريان تقلّان عددًا من الحراس، في مطاردة خلف ماسة.
على اتجاه آخر عند ماسة
أكملت ماسة قيادة السيارة بعشوائية، يدها على المقود، والأخرى تبحث عن هاتفها حين وجدته قامت بالاتصال بسلوى
ماسة بتوتر وهي تقود: سلوى… سلوى، اسم المستشفى إيه؟ فين؟ بابا عامل إيه دلوقتي؟
سلوى بصوت مبحوح: مستشفى السلام الدولي… بابا كويس الحمد لله متقلقيش.
ماسة: طب أنا جاية.
أنهت المكالمة ولقت بالهاتف جانبها..
بينما نظرت سلوى لهاتفها في ذهول وهي تقول: ماسة جاية؟ إزاي؟ وسليم ؟!!
لكنها لم تعط الأمر اهتمامًا، واتجهت نحو الغرفة.
أما ماسة… أغلقت الخط، ويدها ترتجف على المقود، وحاولت تركز عينيها على طريق، لكن كان عليها غشاوة من الدموع. أخذت تتلفت حولها، لا تدري أين تذهب. لا تعرف الطريق، لا تستطيع الذهاب وحدها لأي مكان.
بعد لحظات تذكرت كلمات كارمن: آخر الشارع ده فيه موقف.
سارت باتجاهه، وعندما وصلت، أوقفت السيارة بجانب الطريق، حملت حقيبتها، هبطت وهي تركض.
خبطت على زجاج إحدى سيارات الأجرة:
ماسة بتوتر: لو سمحت، عايزة أروح مستشفى السلام… بسرعة!
السائق بطيبة: اركبي يا بنتي.
صعدت، وأسندت رأسها على النافذة الدموع تنهمر بلا توقف بصمت يقطع القلب، تحاول تهدئة نفسها، أن تستوعب. كل ما عرفته، وما سمعته، وما يحدث… كان أكبر من قدرتها على الاستيعاب.
على اتجاه آخر من القصر.
دخلت سيارة سليم وخلفه الحرس بسيارة أخرى.
كان مكي خلف المقود، وعيناه تتابعان بقلق مايحدث أمامه، فقد لمح الفوضى… والبوابة المكسورة.
ما إن توقفت السيارات حتى ترجل الجميع، سليم كان أولهم، يقف وسط المكان والسلاح بيده، كأنما يستشعر خطرًا كبيرًا. الحراس اتخذوا مواقعهم، وعيونهم تمسح المكان.
حين لمحهم عثمان، أسرع نحوهم، يلوّح بكفه:
مافيش حاجة يا باشا، كله تمام.
نظر سليم من حوله وعيناه لا تستوعبان: ايه ده؟ ايه اللي حصل؟
تردد صوت عثمان، متلعثمًا: ماسة هانم خرجت.
توقف الزمن للحظة عند سليم، قبل أن يصيح:
مشيت؟ يعني ايه خرجت؟ وانتو كنتم فين؟
عثمان وهو يبتلع ريقه: هي جت، وطلبت تطلع، طبعًا رفضنا، كانت راكبة عربية صافيناز هانم، وكنت لسه هكلمك. بس… لقيناها رجعت بااعربيه شويه، وفجأة جت بسرعة مهولة وضربت البوابة بالعربية وخرجت.
نظر مكي مصدومًا: ماسة!!
أدار سليم وجهه نحو البوابة المهشّمة، وعيناه تحملان ذهولًا: يعني إنت عايز تفهمني إنها عملت كده؟
عثمان مؤكدا: أيوه يا باشا، البوابة كانت مفتوحة شوية… علشان صافيناز هانم كانت نازلة تخرج. وفجأة لقينا ماسة هانم هي اللي سايقة..صبحي جري عليها، حاول يوقفها، وقالها تستنى نكلم حضرتك… بس مادتناش فرصة. كانت عصبية جدًا، وبتتنفس بسرعة كأنها بتجري من حاجة.فجأة لقيناها بترجع بالعربية وجريت بسرعة، وضربت الباب مرتين.
علشان البوابة كانت مفتوحة، زي ما قلت، سهل عليها تخلع الباب وتخرج، بس هي بخير… عشري طلع وراها بسرعة ومعاه الرجالة، وأنا… أنا فضلت مستنيك، وطبعاً زي ماحضرتك مدي أوامر مستحيل نوقفها بالسلاح.
وقف سليم مكانه، كأن الهواء تنزع من صدره. كيف تفعلها؟ ماسة؟ ماسة تفعل ذلك؟! ماسة الرقيقة البريئة؟!
نظر إلى البوابة بتعجب ثم استدار، عاد راكضًا نحو السيارة مع مكي، وانطلقا بأقصى سرعة.
أخرج سليم هاتفه يحاول الاتصال بها. لا رد.
سليم بغضب: مابتردش… يعني ايه اللي حصل؟ معقول تخرج كده؟
ثم نظر لمكي متسائلا: تفتكر حصل حاجة عند أهلها؟ عشان كده خرجت بالطريقة دي؟!
سليم صرخ به: كلم سلوى بسرعة.
رفع مكي الهاتف، واتصل بهدوء: ايه يا سلوى، عاملة ايه؟
جاءه صوتها من الطرف الآخر، باكيًا ومختنقًا:
مش كويسة خالص… بابا عمل حادثة… عربية خبطته النهاردة
فتح مكي مكبر الصوت: حادثة؟ حادثة ايه؟
سلوى: معرفش يا مكي، إحنا في مستشفى السلام، وماسة قالت إنها جاية.
مكي: طب أنا وسليم جايين اغلق الخط.
سليم ضرب بيده على التبلو: طب ليه ما قالتش؟ ما أنا أكيد كنت هخليها تطلع.
هحاول مكي تهدئته: مش مهم دلوقتي يا سليم، المهم نفهم إيه اللي بيحصل.
سليم بصوت مرتعش من التوتر: كلم.. عشري.
فتح مكي الخط ووضع الهاتف على المكبر رد عشري،
سليم سأله فورًا: عشري، لقيت ماسة؟
عشري: أيوه يا ملك، قدامي… ركبت تاكسي، سابت العربية على جنب، وأنا ماشي وراها.
سليم باطمئنان: تمام، خد بالك منها كويس، محدش يقربلها، فاهم؟
عشري: أمرك يا ملك.
نظر مكي إلى سليم، وملامحه مذهولة: أنا مش مصدق إن ماسة تعمل كده.
ضغط سليم على أسنانه وهو يقول: أمال أنا أعمل ايه؟ سوق بسرعة، يلا بسرعة.
💞_____________بقلمي_ليلةعادل 。⁠◕⁠‿⁠◕⁠。
المشفى الرابعة مساء
وصلت ماسة إلى باب المشفى وقلبها يكاد يقفز من بين ضلوعها. فتحت حقيبة يدها المرتجفة وأخرجت المال بسرعة، مدّته للسائق وهي تلهث.
السائق: دول كتير يا أستاذة! ياا أستاذة!
لكنها لم تستمع. ركضت نحو الداخل، وكأن الحياة تهرب منها.
توجهت إلى قسم الاستقبال، وعيناها تلمعان بالذعر، تتلفت في جميع الاتجاهات، كأنها تبحث عن طوق نجاة في بحر من القلق.
ماسة بتلعثم، وأنفاسها متلاحقة، ودموعها تنهمر حتى كادت تحجب الرؤية:
لو سمحتي… فـ فـ فيه راجل… جه منو ش ش شوية… في حادثة عربية… فين؟
نظرت الموظفة إليها ببرود، وأشارت برأسها:
شوفي الطوارئ يا آنسة.
ركضت ماسة نحو قسم الطوارئ، تتعثر في خطواتها المرتجفة. وبينما كانت تهم بالدخول، اختل توازنها وكادت تسقط، فتشبثت بكتف ممرضة كانت تمرّ.
ماسة بتلعثم: لو سمحتي… الطوارئ فين؟
أشارت الممرضة بيدها نحو اليسار: من هنا.
هرولت ماسة في الاتجاه الذي أشارت إليه، ودموعها تسابق خطواتها المرتجفة، كأن كل دمعة كانت تحمل معها نبض قلبها المذعور.
وصلت إلى غرفة الطوارئ… توقفت في العتبة، عيناها علقتا بالمشهد أمامها.
عائلتها بأكملها واقفة، وجوههم مصدومة، وصمت ثقيل يخيم على الجو. وفي وسط الغرفة، على السرير الأبيض، كان والدها مجاهد ممددًا، وساقه ملفوفة بالجبس.
تجمدت في مكانها، ثم هرولت نحوه فجأة، كأن الزمن دفعها دفعًا:
ماسة برعب شديد: بابا… بابا أنا هنا… سامحني… أنا السبب…
ارتمت فوقه، صدرها يهتز من شدة البكاء، لم تكن تبكي فقط خوفًا، بل ذنبًا حارقًا يمزقها من الداخل.
ماسة ببكاء وجسمها يهتز: بابا! انت كويس؟ طمني، والله العظيم أنا آسفة… آسفة جدًا…
ضمّته، قبّلته، من رأسه، ثم وضعت قبلات على قدمه المجبسة، فهي تشعر أنها المتسببة في ذلك.
سعدية متعجبة: في إيه يا ماسة؟ مالك يا بنتي؟ أبوكي كويس الحمدالله.
مجاهد وهو يربّت على شعرها بحنان: حبيبتي، بسيطة والله… السواق ربنا يكرمه، خبطني بس جابني لحد هنا.
نظرت ماسة له تحاول أخذ أنفاسها: يعني… يعني إنت كويس؟ الدكتور قالك إيه؟
طمأنها عمار: كسر بسيط، ما تقلقيش.
نظرت لعمار بعينين دامعتين، ثم وقفت أمامه، تطلعت نحو لحيته القصيرة.
ماسة بغضب: إنت لازم تحلق دقنك دي فاهم.
تفاجأ عمار: في إيه يا ماسة؟
ماسة بصوت عالٍ: ما تسألنيش! اسمع الكلام من غير ما تسأل، هو ليه دايمًا بتسألوا؟ ليه مابتسمعوش الكلام وتنفذوه من غير سؤال؟ هتموتوا !!
سعدية باستهجان: مالك يا بنتي بتزعقي كده ليه؟ وجاية لوحدك من غير جوزك؟ وفين الحراس بتوعك؟
نظرت لها ماسة بوجه موجوع، كأنها تتخيل ما سيحدث مع سعدية من تهديدات رشدي. فجأة، ارتمت في أحضانها، تشبثت بها كأنها تخشى فقدانها.
ماسة ببكاء وصوت يخرج بصعوبة: خدي بالك من نفسك يا ماما… ما تخرجيش الفترة دي خالص، ماشي؟ وحياتي عندك.
سعدية بقلق وهي تحرك عينيها: ماسة، مالك؟ في إيه يا حبيبتي؟
حاولت ماسة أن تهدأ ابتعد قليلا وهى تمسك يدها: مافيش… أنا كويسة. بس خلي بالكوا من نفسكم.
نظرت إليهم جميعًا، وذلك الصوت بدأ يتردد في أذنيها… كلمات رشدي التي تتسلل إلى عقلها كأنها طعنات. “هغتصب أختك… أخوكي هعمله قضية إرهاب… هقتل أمك… أبوكي هحرق المحل بيه…
كأنها تشاهد كل ذلك يحدث الآن أمامها.
شدّت على أذنيها بيديها بقوة واغمضت عينيها بشدة أرادت أن تُخرس الأصوات، أن تطفئ المشاهد التي لا تُحتمل.
الجميع ينظر لها… لا أحد يفهم معاناتها.
اقتربت سلوى منها، وضعت يدها على كتفها بقلق:
مالك يا ماسة؟
نظرت لها ماسة، ثم انفجرت في بكاء بلا صوت، حضنتها، تشبثت بها وكأنها تنقذها من الغرق: مافيش حد هيقرب منك، والله لو هدفع حياتي تمن ده!
سلوى بقلق شديد وهي بين أحضان ماسة: في إيه يا ماسة مالك؟!
مجاهد بقلق: أيوه يا بنتي، إنتي مش طبيعية ليه؟!
ابتعدت ماسة وبدأت في مسح دموعها وتهدئة أنفاسها. حاولت التبرير بكذب: أنا… أنا خوفت على بابا أوي.. الخبر وجعلي قلبي..
قالتها وهي تجلس بجانب والدها وتضمه مجددًا، تبكي بصمت.
مجاهد محاولا بث الطمأنينة في قلبها الذي يرتجف هلعا عليهم: حبيبتي، بسيطة والله. الحمد لله.
وفجأة، دخل سليم ومعه مكي.
سليم ملامح القلق على وجهه:
مساء الخير… ألف سلامة عليك يا عمي.
مجاهد:
الله يسلمك يا ابني.
اهتزّ جسد ماسة حين سمعت صوته. كانت تلك المرة الأولى التي ترى فيها سليم بعد أن علمت حقيقته من رشدي. رفعت عينيها نحوه ببطء، لكنّها لم تره كما اعتادت أن تراه… كانت نظراتها غريبة، مليئة بالقهر والضعف، والغثيان ينهشها، ولم تنطق بحرف واحد.
مكي تسأل بهدوء:
إيه اللي حصل؟
مجاهد موضحا:
والله يا ابني كنت بصلي في الجامع، وأنا راجع خبطتني عربية… بس الراجل كتر خيره نزل وجابني لحد هنا، ودفع كل حاجة ومشي… كان مستعجل، مراته بتولد ورايح لها.
سعدية:
آه والله، الراجل شكله محترم جدًا… مارضيش يسيبنا، احنا اللي صممنا إنه يمشي.
ماسة بقلق:
يعني… يعني إنت مش حاسس بحاجة؟ قول متخبيش عليا
مجاهد بهدوء:
لا يا بنتي، بس وجع بسيط كده. العربية ماخبطتنيش جامد، يعني أنا اللي اتفزعت والوقعة هي اللي كسرت رجلي.
مكي:
والدكتور قال إيه؟
أجابته سلوى:
كسر بسيط، ٣أسابيع في الجبس وخلاص.
سليم:
الحمد لله بسيط.
دقّت سعدية النظر في ملامح وجه ماسة الشاحب، عينيها الحمراء، ارتجافها، وشحوبها كأنها سقطت في أعماق الجليد. كانت تضم جسدها بذراعيها المرتعشتين، تحاول أن تبقى صامدة، لكن كلمات رشدي تلتف حولها كأنها حبال من نار تحرقها بلا رحمة.
سعدية بقلق:
حد يجيب لأختكم كباية عصير، وشّها مصفّر ومش قادرة تاخد نفسها!
يوسف بسرعة:
هروح أنا.
خرج يوسف، بينما اقترب سليم الذي لم يقترب منها منذ دخوله. والآن فقط، رآها بوضوح… رأى ماسة في حالتها تلك. وضع يده على كتفها من أعلى، وسألها بصوت حنون:
سليم باهتمام:
عشقي… إنتِ كويسة؟
وفور لمسته، اهتز جسدها كأن صاعقًا مسّها. رفعت عينيها ببطء وقالت بصوت مرتجف:
ماسة وهي تهز رأسها بإيجاب مرتجف:
أمم… كويسة. خوفت بس على بابا. أنا كويسة، مافيش حاجة…
مدّ سليم يده ليمسح على شعرها وظهرها وهو يهمس:
طب أهدى… شكلك تعبانة أوي.
كانت لمساته، وصوته، وكل ما فيه يجعلها تشعر بالغثيان… وكأن معدتها تعتصر من الداخل، تحاول أن تسيطر على نفسها، لكن لمسته كانت كالنار على جلدها.
مجاهد وهو يربّت على يدها: هي ماسة كده طول عمرها… قلبها رهيف.
وفي تلك اللحظة، دخل رشدي ومعه فريدة.
فريدة بقلق:
إيه اللي حصل؟! انتوا كويسين؟
رشدي متعجبا بتصنع:
أنا قلقت أوي لما عرفت… افتكرت فيه حاجة في مصيبة، صوت البوابة وهي بتطير كان مخيف افتكرنا فيه هجوم ولما عرفنا اللي حصل اتصدمنا الصراحة،، بس تفهمنا الأسباب، بس واضح إن كله بخير الحمد لله.
نظرت له ماسة، وهو أيضًا نظر لها… نظرة خاصة، لا يراها غيرهما. كأن عينيه تقول: أنا هنا اوعى تنسى تحذيراتي.
عاد يوسف بكوب العصير، أعطها لماسة.
سعدية:
خدي من اخوكي انت شكلك هتقعي من طولك يلا اقعدي كده اشربيه.
هزت راسها بطاعه، وجلست تحتسي العصير
محاولة استيعاب الموقف. لم يتحدث سليم حتى الآن مع ماسة ولم يعلق على ما حدث.
لكن مكي بدأ الحديث مستغربا لم ينتظر
مكي بمزاح خفيف:
إيه بقى اللي عملتيه ده؟ إيه الأكشن ده؟
رد ماسة بجمود، وهي لا تنظر له فهي متأكدة أنه يشبه صديقه بالتمام والكمال:
ده أقل حاجة كنت ممكن أعملها… ولو حد كان وقفني، كنتوا هتلاقوا جثته مرمية عند البوابة!
نظر مكي لها بصدمة من إجابتها، وسليم لم يجد ردًا، فقط ظل يراقبها يرصد ردود أفعالها.
رشدي وهو يرمقهم بنظرة مستخفه:
فداكي ألف بوابة يا ستي.
ثم تابع بنبرة بتهديد مبطن:
إحنا قلنا في مصيبة كبيرة، حد مات ولا حاجة… بعض الشر يعني، بهزر بس.
تنهدت ماسة يبدو انها اخيرا بدات ان تهدا حتى لو قليلا قالت وهي تنظر لعائلتها: انتوا كلكم كويسين؟
سعدية بابتسامة:
كويسين يا بنتي، فيكي إيه؟ إنتي شايفة لنا حلم وحش ولا إيه؟ من ساعة ما جيتي وانتي عمالة كل شوية تسألي! انتم كويسين، انتم حلوين، آه يا أختي كويسين والله، احنا قدامك أهو… قرود!
سكتت ماسة قليلاً وكأنها تفكر دار في خاطرها فكرة لتبرر موقفها، ثم تنهدت وقالت بنبرة موجوعة:
بصراحة… أنا حلمت حلم وحش جدًا. حلمت إني في غابة، بنادي عليكم كلكم ومفيش حد بيرد. فضلت أدور عليكم، مالقتكوش، لا إنتي يا ماما، ولا بابا، ولا عمار، ولا يوسف، ولا سلوى… وفضلت طول الليل أدور لحد مالقيتكم، بس ساعتها شفتكوا متعلقين على الشجر، وحواليكوا تعابين وعقارب… ولما صحيت لقيت سلوى بتقولي الخبر، قلبي وقع، وجريت من غير ما أفكر.
سعدية وهى تضرب على صدرها:
يا ساتر يا رب! ايه الحلم الوحش ده… بس الحمد لله احنا بخير، ماتقلقيش، ربنا سترها.
ماسة تنفست بهدوء:
إن شاء الله دايمًا تكونوا بخير، ومش هيحصلكم حاجة… لا إنتي ولا بابا، ولا أي حد من إخواتي مهما حصل.
رفعت عينيها نحو رشدي الذي كان يراقبها… ابتسامة شريرة تلوح في عينيه. مدّ يده نحو عنقه بهدوء، وضعها على رقبته، وكأنه يخبرها ألا تنسي ما سيفعله بهم..
وضعت رأسها على قدم والدها وتحسست قدمه المكسورة، ودموعها تهبط بصمت.
تحدث سليم:
الدكتور قال لك هتخرج امتى؟
مجاهد:
بكرة إن شاء الله، والله أنا كنت عايز أخرج النهارده.
رشدي باهتمام كاذب:
لا، خليك يا مجاهد أحسن، لأحسن يكون عندك ارتجاج في المخ والا حاجة… آه، بعدين لازم نتأكد إن الراجل ده فعلًا خبطك بالغلط، ولا في حاجة تانية… ولا إنت شايف إيه يا سليم؟
سليم مؤيدا:
والله أول مرة تقول حاجة صح.
عمار متعجباً:
يعني إيه؟ أنا مش فاهم.
سليم وهو يشير بيده:
ماتقلقش، خلينا نطمن برده أفضل، أنا هسيب لكم الحراس… إنتي هتباتي طبعًا يا طنط مع عمي، صح؟
سعدية:
اها أنا هبات.
سليم:
طب خلينا نمشي احنا… ألف سلامة عليك،، يلا يا ماسة.
ماسة وهى تضم والدها وتضع راسها على قدمه: لا شويه هقعد شوية
هز سليم راسه بإيجاب بصمت.
بيننا قال رشدي وهو يتلفّت حوله وهو يرفع حاجبيه:
مدام كلكم بخير، يبقى نمشي؟ ولا إنتِ هتقعدي يا فري؟
أجابت فريدة بهدوء:
هاجي معاك… أنا بس اتخضيت خالص من الموقف.
ثم نظرت نحو مجاهد بتهذب:
ألف سلامة عليك يا مجاهد، إن شاء الله تقوم بالسلامة. عن إذنكم.
غادرا معًا، تاركَين خلفهما الصمت والفقير وحده.
ظلت ماسة جالسة بصمت، لا تنطق بكلمة، فقط قلبها يعتصر حزنًا وخوفًا. كانت عيناها شاردتين، كأنها تفتش في المجهول عن إجابة تريحها، لكن لا شيء يأتي.
أما سليم، فكان صامتًا هو الآخر. لا يوجّه إليها الحديث، لا يقترب منها، وكأن بينهما جدارًا شفافًا لا يُكسر. من حين إلى آخر، كان يتبادل كلمات قليلة مع عمار، يوسف، أو حتى مكي، يتفاعل مع باقي أفراد العائلة، لكن مع ماسة… لم يتحدث.
💞_____________بقلمي_ليلةعادل 。⁠◕⁠‿⁠◕⁠。
قصر الرواية السادسة مساءً
غرفة صافيناز وعماد.
خيم التوتر على الأجواء، ورائحة الدخان تملأ المكان.
جلست صافيناز على مقعد صغير، يدها تهتز وهي تمسك بسيجارتها المرتجفة، تحاول سحب أنفاس سريعة كأنها تطفئ النار المشتعلة بداخلها.
بينما فايزة تجلس على طرف الفراش، وجهها مرسوم عليه قلق دفين.
رشدي وعماد يقفان بالقرب من الباب، أعينهما متأهبة لأي كلمة قد تشعل المكان.
صافيناز برعب: أنا مرعوبة… ممكن تتكلم
رشدي بيقين: مستحيل.
رفعت صافيناز يدها المرتجفة إلى فمها مرة أخرى، تسحب نفسًا أطول هذه المرة، قبل أن تنطق بتساؤلها المرتجف:
ليه مستحيل؟ مش ممكن في لحظة اندفاع وغضب تقول كل حاجة؟ ووقتها سليم هيوقفنا جنب بعض وهيقتلنا، رصاصة في دماغ كل واحد فينا.
رمقها رشدي بنظرة حادة، قبل أن يجيب بقسوة:
قبل ما تفكر تقول… هتفتكر منظر أبوها وهو تحت عجل العربية.
سادت لحظة صمت ثقيلة، قبل أن تقطعها فايزة بصوت ممزوج بالقلق، محاولة تأكيد ما قالته صافيناز: صافيناز بتقول كلام عاقل… ممكن في لحظة عصبية تتكلم ومتبقاش واعية على اللي بتعمله… وقتها سليم هيحرقنا.
تحرك عماد خطوة للأمام، يؤيد الرأي بنبرة قاطعة:
فعلا… لازم تفضل تحت تأثير الخوف دايمًا، لازم نحاصرها طول الوقت.
ارتفع رأس فايزة فجأة وكأن فكرة شيطانية خطرت لها، ثم همست بحذر: خوفها بأختها… هي بتحبها جدًا
وتشوف بعنيها ان كلامك مش مجرد تهديد لازم تفضل خايفة و مرعوبة.
ارتسمت ابتسامة خبيثة على شفتي رشدي، وهو يومئ برأسه موافقًا: هعمل كده فعلاً.
تساءلت صافيناز بتوتر: طب هما فين؟!
رشدي: سبتهم أنا وفريدة، هم لسه هناك.
عماد بتحذير وهو ينفخ دخان سجارته: بس خد بالك البنت دي مش سهلة، الحركة اللي هي عملتها بتاعة البوابة توضح انها قويه زي ما احنا كنا متخيلين.
ابتسم رشدي بثقة: بقول لكم ايه محدش ليه علاقة أنا عارف انا هعمل ايه؟! انتوا بس ما عليكوا إلا إنكم تنفذوا الطلبات اللي أنا هطلبها، دلوقتي مش مطلوب منكم أي حاجة.
هز الجميع رأسه بإيجاب.
في سيارة سليم السابعة مساءً
جلس سليم وماسة في المقعد الخلفي، بينما مكي بجانب السائق كالعادة، وسيارة الحراس خلفهم. وأثناء تحرك السيارة على الطريق، كانت ماسة تسند رأسها على ظهر الأريكة بالقرب من النافذة. وجهها شاحب، ملامحها باهتة كالجثة المحنطة بلا روح. عيناها مليئتان بالحزن العميق، وقلبها يشعر وكأنه سينفجر من الألم. دموعها تتساقط بصمت، دون أن تجرؤ على مسحها، كما لو أنها خافت من أن تمسح الألم الذي يسكن قلبها، كانت كالمريض الذي ينتظر خبر موته باستسلام تام وصمت تام.
كان سليم بجانبها، يلتفت إليها بين الحين والآخر، محاولًا كبح غضبه،انه اصبح لا يستطيع كتمان غضبه اكثر من ذلك، لكن الكلمات خرجت منه بنبرة حادة وقلقة:
أنا عايز أفهم أنتي عملتي كده ليه؟ لو كنتِ اتصلتي بيا بشكل طبيعي، كنت هخليكِ تروحي، ماكنتش همنعك. كنت هبعت معاكِ عشري وراوية. لكن اللي حصل ده مش طبيعي، تكسري البوابة بالعربية! أنا عايز أفهم، اللي عملتيه ده كان ليه؟ شفتِيه فين؟
لم ترد ماسة ما زالت، في عالم آخر… أكمل سليم بضيق:
بعد إذنك، ردي عليا، أنا بكلمك بقالي ساعة، لو سمحت ردي عليا.
ماسة بصعوبة شديدة، نطقت بكلمات ضعيفة، كأن صوتها قد اختفى في قلبها:
شفتها في فيلم…
ضرب سليم المقعد الأمامي بيده بغضب، ازداد صوته قسوة: يخرب بيت الأفلام اللي واخده منها كل معلوماتك! اللي حصل ده مش هيمر طبيعي، ومش هيشفع ليكي إن باباكي عمل حادثة. كان المفروض تكلميني وتعرفيني. لو كنت رفضت، كان ممكن تعملي اللي عملتيه، وأغفر وأعدي، اللي عملتيه ده كان ممكن يئذيكِ يا ماسة، الخبطة دي كان ممكن تسبب لكِ حاجة خطيرة، مش هتبطلي تهور؟ مش هتبطلي عصبية؟ في الوقت ده بالذات مش هينفع أقبل بأي تهور، قلت لك مش كل حاجة بنشوفها في الزفت ده ينفع نقلدها، بتفضلي تستفزيني، وتستفزيني وتقولي لي ليه بأعمل كده فيكي!
لكن ماسة لم تستمع لكلمات سليم ، كانت تستمع لصوت رشدي فقط، الذي يتملك منها الآن، ويتردد في ذهنها لا يتركها لحظة واحدة، تستمع لتهديداته لعائلتها…كلامه عن سليم، عن تجارة الأعضاء والسلا،ح وأنه قوا،د.
لم يحبها من البدايه وبرغم ان هي تحاول لا تصدق ما يقول لكن كانت الكلمات تاكل في راسها بلا رحمه
وأنها كانت تعيش في كذبة كبيرة، كأنها كانت تعيش حياة مزيفة، مع رجل مزيف، حب مزيف، حقائق أكبر من أن يستوعبها عقل.
قلبها بدأ يتجمد، كأنها غرقت في بحيرة من الثلج، والألم بدأ يشل أطرافها. شعرت وكأن كل ما حولها أصبح باردًا. كانت عينيها تغيب، وأنفاسها تتسارع دون أن تستطيع السيطرة عليها.
بدا الأمر وكأنها تحاول التنفس من خلال قناع ثقيل من الحزن. شعرت أن هناك يدًا قوية تقوم بخنقها، تحاول أخذ أنفاسها. حاولت التنفس لكن دون جدوى. فجأة…
كان سليم مازال يقول بغضب:
ردي عليا ماسه ما تسيبينيش كده.
بدأت تضرب على النافذة بيدها المرتجفة، تتنفس بصعوبة، وكأن الهواء نفسه قد اختفى صوتها خرج بصعوبة:
مش قادرة… مش قادرة أخد نفسي… وقف العربية!
ثم وفي لحظة لم تستطع التحكم بها، صرخت:
مش قادرة أتـنفس! وقف…! وقفها
صرخ سليم بخضة آمرة:
وقف العربية.
كانت تضرب على نافذة السيارة بيد مرتجفه التي بدأت تبطئ، لكنها لم تنتظر. فتحت الباب وهي لا تزال تتحرك، وهبطت منها قبل أن تتوقف تمامًا. في اللحظة نفسها، فقدت توازنها وسقطت أرضًا، لكن سرعان ما نهضت، واتجهت بخطوات سريعة نحو طريق الكورنيش.
سليم كان يحدق فيها بذهول تام، ثم اندفع خلفها بسرعة رغم أن خطواته كانت أبطأ قليلاً بسبب قدمه المصابة.
كانت تتحرك ماسة بصعوبة، تحاول أن تلتقط نفسًا واحدًا دون جدوى. اخذت تشد رقبة القميص، تحاول أن تتنفس، لكنها تفشل. أنفاسها مكتومة، كأن الهواء قد خانها، كأن صدرها قد انكمش.
قلبها يكاد ينفجر، عيناها غارقتان بالدموع، وصوت رشدي يتردد داخل رأسها كرنين مرعب يضغط على جمجمتها ويعصف بعقلها.
سليم كان يصرخ خلفها:
ماسة، اصبري! في إيه، اصبري!
لكنها لم تتوقف تتحرك أمامه، ودموعها تنهمر بغزارة، تريد أن تصرخ، أن تفرغ كل ما بداخلها، لكن صوتها اختفى، كأنها خرساء.
تعثرت وسقطت مجددًا على الأرض، جسدها لم يعد قادرًا على حملها. قلبها ينبض بصعوبة، وصدرها يعلو ويهبط بجنون. الألم في بطنها لا يُحتمل، والغثيان يعصف بها.
قاومت الشعور، حاولت، لكن فجأة بدأت تتقيأ دون أن يخرج شيء، مجرد ألم داخلي يمزقها.
وخزات شديدة تضرب قلبها، كأن خنجرًا مسمومًا يطعنها بلا رحمة. تمنّت الموت، تمنت أن ينتهي هذا العذاب، أن تصمت الأصوات التي تنهش عقلها.
بكت بحرقة، للمرة الأولى سمحت لنفسها أن تنهار، أن تبكي كما تبكي الأمهات حين يفقدن أعز ما يملكن.
اقترب سليم، جلسا على ركبتيه بجانبها، بينما الحراس أحاطوا بالمكان، والقلق يرتسم على ملامحه.
ماسة بصوت خافت ومذعور:
ماسة، مالك يا قلبي؟ فيكي إيه؟
لكنها لم تكن تسمعه. وضعت يديها على أذنيها، تضربهما وكأنها تحاول أن تطرد صوت رشدي من داخلها. جسدها يهتز، ودموعها لا تتوقف.
أمسك سليم بكتفيها، يحاول تهدئتها:
في إيه؟ اهدي… اهدي… مالك؟ بابا كويس؟ ليه كل ده؟ ماسة ردي عليا ماتحرقيش قلبي عليكي يا حبيبتي مالك بس.
كانت تهز رأسها بجنون، صرخت بصوت باكٍ متحشرج:
ما بيروحش… الصوت ما بيروحش… مش عايز يسكت… مش عايز يسكت!
سليم بذهول:
هو مين اللي ما بيروحش؟ مش فاهم، بالراحة… اهدي، فهميني!
ثم صاح بأحد الحراس:
حد يجيب مية بسرعة!
بينما كانت ماسة تقول بجسد يرتجف، وصوت متقطع وهي مازالت تضع يدها على أذنها تقول باضطراب وباتساع عينيها:
هو… هو… مش مش مش عايز يسكت… مش عايز يسكت… مش عايز يسكت خليه يسكت
ثم بانهيار تام، صوتها بالكاد يُسمع:
صوته جوه دماغي… مش عايز يروح… مش عايز يسكت…
سليم لا يفهم شيئًا، اكتفى بالمسح على كتفها بحنان، يحاول تهدئتها:
طب بالراحة، طيب، فهميني، مين اللي مش عايز يسكت؟ اهدي يا ماما… اهدي يا حبيبت قلبي.
رفعت رأسها ببطء، كأنها تراه للمرة الأولى، عيناها التقت بعينيه، ورأت فيهما الكذبة، الكذبة التي عاشت فيها سنوات. كانت تتأمله وكأنها أمام وحش، لا حبيب.
ابتعدت عنه فجأة كأن النار قد لسعته.
قالت بعينين تشتعلان:
متحطش إيدك عليّا… متحطش إيدك عليّا!
تراجعت بخوف ورفض:
متقربش مني… متقربش!
تجمد سليم في مكانه، وعيناه تدوران حولها:
في إيه يا ماسة؟ مالك فوقي؟ أنا سليم!
كانت تحدّق فيه للحظات، وجسدها لا يتوقف عن الارتعاش، وكأن أنفاسها لا تجد طريقها.
اقترب سليم بحذر، يهمس بصوته الذي امتلأ رجاءً:
ماسة، عشقي، اهدى… مفيش حاجة…أنا سليم حبيبك كراميل ايه فيكي ايه؟!
توقف الزمن، وكأن اللحظة تجمدت. بدأت تستعيد شيئًا من وعيها، مسحت وجهها بيديها المرتجفتين، وأطلقت زفيرًا باهتًا.
قالت بنبرة مصطنعة وهي تشير بيديها:
سليم أنا كويسة… أنا كويسة.
كان سليم لا يزال جالساً أمامها، مذهولًا، لا يفهم.
رفعت عينيها إليه، ثم سقطت في صمت. لا تستطيع إخباره بما عرفت، رغم أنها تريد، بشدة.
تريد أن تلعنه، أن تصرخ في وجهه وتقول:
أنا عرفت كل حاجة عن حقيقتك القذرة.
لكن الحبل الناري الذي يلفه رشدي حول عنقها، كان أقوى من صوتها، أقوى من حريتها.
اقترب سليم ووضع يديه على كتفيها مرة أخرى، يسألها بنبرة قلق:
في إيه يا ماسة؟ مالك ايه اللي حصل متوجعيش قلبي عليكي، ايه يا حبيبتي مالك؟!
ابتعدت ماسة جسدها عنه بشمئزاز وهمست:
أنا عايزة أروح… خلينا نمشي.
نهضت فجأة وتركته، وابتعدت حتى وصلت إلى السيارة، دخلت فيها وفتحت النافذة، بينما سليم توقف مكانه، ينظر إليها مستغربًا. مكي اقترب منه، وقال:
مكي متعجباً:
هي مالها؟
سليم مندهشا وهو ينظر لإثارة:
مش عارف.
مكي:
إنتم متخانقين؟؟
سليم هز راسه بلا بتعجب:
لا خالص.
ضيق مكي عينه قال مستغرباً:
كل ده عشان باباها،
زفر سليم باختناق:
معرفش بس هي أول مرة تتعرض لموقف زي ده. بس المفروض إنها شافته كويس..
تنهد بضجر وقال:
خلينا نروح، وبعدين نشوف السبب، هتكلم معاها لما تبقى كويسه..
وبالفعل تحركا صعد سليم السيارة وجلس بجانب ماسة لا يتفوه بكلمة، وظلت هي طول الطريق في صمت ورعب خانق كان يسترق النظر لها من حين لا.
في قصر الراوي، الثامنة مساءً
وصلت ماسة وسليم إلى القصر، في الهول، كان يجلس عزت مع فايزة وفريدة، وأعينهم سرعان ما التقطت دخولهما معًا.
بصوت عالٍ، نادى عزت:
سليم!
توقف سليم في منتصف الصالون، بينما كانت ماسة تقف بجانبه، نظرت إليه بعينين حزنتين، وقالت بصوت خافت كأن الكلمات تؤلمها:
أنا هستناك فوق.
تحركت ماسة على الدرج بهدوء، ولكن عيون عزت بقيت مشدودة نحوها كالسهم.
وبتعجب وجه عزت حديثه لسليم:
إيه اللي مراتك عملته ده؟! إيه اللي حصل؟
سليم تنهد بضيق وقال ببرود:
مش فريدة قالتلكم؟
عزت بضجر:
عايزين نفهم… إنت شايف اللي ماسة عملته ده عادي؟! وبعدين طول ما انتم عايشين في القصر ده، لازم أفهم كل حاجة بتحصل. مادام الموضوع وصل للمرحلة دي، أنا شفت البوابة!
رد سليم وهو ينظر له بنظرة جامدة:
هو يعني إنت زعلان على البوابة؟ بسيطة… أخُصم تصليحها من مصروفي.
صعد الدرج دون أن يتفوه بكلمة.
زفر عزت بضجر، نظر لفريدة باستنكار:
ينفع اللي أخوكي بيعمله ده؟!
فريدة حاولت التبرير وقالت بهدوء:
معلش يا بابي… يمكن هو مضايق عشان ماسة، وأكيد مش مستوعب اللي حصل… نستناه يهدى شوية.
تدخلت فايزة بخبث:
بس إللي عملته مش طبيعي بجد!
فريدة، بتنهيدة حائرة: بصراحة… أنا كمان مش عارفة عملت كده ليه؟! حتى لو سليم كان حابسها، مش مبرر إنها تاخد عربيتها وتضرب البوابة!
هزت فايزة رأسها وقالت بسخط: واضح إنهم متخانقين ومضغوطين، بس ما تطلعش جنانها علينا برضه!
رفع عزت يده بحزم لينهي النقاش:
خلاص… مش عايزين نتكلم في الموضوع ده تاني.
في اتجاه آخر جناح سليم وماسة
دخلت ماسة الغرفة وجلست على الفراش، تحاول أن تهديء من وجع قلبها الذي يكاد يقضي عليها. دموعها تنهمر بلا توقف، شعرت بصداعٍ شديد وكأن هناك مطرقة تدق رأسها. كان جسدها يهتز من الألم، وكانت منحنيّة برأسها وظهرها قليلًا إلى الأرض. ما تشعر به صعب أن يوصف.
بعد قليل، دخل سليم. أغلق الباب خلفه، واقترب منها ثم جلس أمامها جلسة القرفصاء، محاولًا أن يهدئ من روعها.
مسح على قدميها بحنان، وقال بابتسامة صغيرة:
ها يا عشقي، أحسن دلوقتي؟ قادرة تاخدي نفسك والا لسه تعبانة؟ والا أجيب لك دكتور أفضل.
لكنها لم ترد. دموعها تنهمر بصمت يعصف بها، أخرج سليم نفسًا عميقًا، ثم قال باهتمام مستفسرا:
مالك بس؟ فهميني، إيه اللي حصل؟
صمت للحظة ثم قال وهو يركز النظر بها باعتذار موضحاً بحب:
أنا آسف، أنا عارف إني زعقت لك جامد في العربية، بس خوفي عليكي بيتلف أعصابي بيخليني أفقد السيطرة، مش عارف احط كنترول على ردود أفعالي.. بعدين يا حبيبة قلبي، بابا هيبقى كويس، مفيش داعي لكل الزعل ده، ولا للطريقة اللي انتي مشيتِ بيها دي … قوليلي إزاي جالك الخبر؟
رفعت ماسة عينيها ببطء. نظرت له، مررت عينيها عليه للحظة فجأة شعرت بالغثيان،
فأصبحت كلما وقعت عينيها عليه تراه بعين غير التي كانت تراه بها من قبل، تراه تاجر الأعضاء وسلا،ح المجرم المنحط الذي يتاجر بالفتيات.
وضعت يديها على فمها، محاولةً أن تبتعد عن هذا الشعور، اهتز جسدها المرتجف من الرهبة أصبحت تخشاه بشدة، ولا تستطع تحمل نظراته المتأملة.
كان يركز سليم النظر في ملامحها، ينتظر منها إجابة، مدّ يده ووضعها على خدها بحنان ورقة، وقال:
مالك يا ماستي الحلوة؟ فهميني، طيب
أبعدت ماسة وجهها عنه وتوقفت وتحركت خطوات قليلة وقالت وهي تعطي له ظهرها:
أنا مش عايزة أتكلّم، أنا تعبانة ومش عايزة أتكلم.
توقف سليم مكانه، ينظر إليها بدهشة. قال لها بحكمة:
الموضوع مش بالقتامة دي، أنا متفهم مشاعرك والحادثة، بس إنتي شفتي بعينك، باباكي كويس جدًا، الكسر بسيط، ليه كل ده؟!
فجأة تردد في ذهنها حديث رشدي مرة أخرى وهو يقول لها: لازم تنكدي عليه وتطلقي منه وتمشي.
شعرت ماسة بألمٍ عميق ينهش صدرها. لم يكن ماتعيشه الآن مجرد مسرحية أو مشهد تمثيلي، بل واقعٌ مؤلم يتجسد في هيئة خذلانٍ مرير. ما عرفته غيّر كل شيء، ومع ذلك.
كان عليها أن تؤدي دورها حتى النهاية، أن تتقمص القوة لتحمي من تُحبهم.
أما سليم، فكان مذهولًا من تصرفاتها. شيءٌ ما بداخلها تغيّر، وكان واثقًا أنها تخفي عنه أمرًا كبيرًا.
فجأة، استدارت بجسدها نحوه وقالت بضيق:
هو إيه اللي جابك؟ مش إحنا متفقين نبعد شوية؟
سليم بهدوء وحنان:
أنا جاي أطمن عليكي.
تحركت ماسة خطواتٍ، ثم وقفت عند الفراش، أعطته ظهرها وقالت بجفاء:
واطمّنت؟ اتفضل بقى، ماتجيش هنا تاني.
ظل سليم ينظر إليها بصمتٍ لحظة، مصدومًا من نبرتها، ثم قال باعتراض:
لا، هاجي طول ما إنتي تعبانة. وطول ما عندك مشكلة، لازم أكون موجود. ما ينفعش أسيبك كده.
التفتت ماسة ونظرت له بغضب:
لا سيبني كده! أنا ماطلبتش منك تيجي. ولا هشوفك راجل مش مهتم، مش فارق معايا أصلًا.
سليم باستغراب:
هو في إيه؟ بتكلّمينِي كده ليه؟ وبعدين… ثواني! تعالي هنا… مش إحنا اتصالحنا؟
عادت ماسة بشعرها إلى الخلف، وقالت بارتباك:
لا، ما اتصالحناش. أنا كنت هقولك… كنت هقولك يا سليم إني لسه زعلانة… ولسه محتاجه أهدى، وإنّي ضعفت، وإن اللي حصل بينا والكلام اللي قولته… كانت لحظة ضعف. مش أكتر…
امبارح قضيت اليوم كله مستنياك، عشان أقولك تنسى اللي حصل… بس لما جيت متأخر، حسيتك متضايق وتعبان قولت أقول لك النهارده، أديني أهو بقول لك انسى اللي حصل ما بينا، احنا زي ما إحنا على الاتفاق.
اتسعت عينا سليم بصدمه مستنكرًا، وهو يشدد على الكلمة:
لحظة ضعف؟! كل اللي حصل بينا ده لحظة ضعف؟! كلامنا، ونظرتنا لبعض، والوعود، ولحظات العشق الصادقة، وتحضيرك لمشروبي المفضل… كل ده كان لحظة ضعف؟
ماسة بتردد وصوت متهز تحاول أن تبقى ثابتة:
أنا بعملك مشروبك المفضل كل يوم، حتى وأنا عندي اكتئاب ومتضايقة منك، كنت بعمله. إيه الجديد؟
سليم وهو لا يصدق قال بهدوء:
المشكلة مش في المشروب يا ماسة…أنا بسأل معنى كل اللي حصل ما بينا ايه؟! ازاي تشوفيه مجرد لحظة ضعف.
ماسة بثباتٍ متماسك قالت بتفسير:
لأنها ببساطة كانت لحظة ضعف، ولما صحيت… تاني يوم، قعدت مع نفسي وفكرت، لقيت إن ماكانش ينفع أعمل كده، وماكانش ينفع يحصل بيني وبينك اللي حصل.
بدأ صوتها يهتز وكأنها تعلن بشكل غير مباشر عن مأساتها، لكنها استغلت ذلك الموقف لتعبر عن وجعها، حتى وإن لم يكن هو السبب المباشر لمشكلتها كما نعلم.:
أنا تعبانة… مابقتش قادرة. كل شوية خناقات، مشاكل، وأنت مش بتتغير. كل مرة تقول لي ماتخافيش، هتغير، بس مابتتغيرش، كلها وعود كدابة… أنت كداب، كداب يا سليم.
سليم بصدمة قال بنبرة مكتومة:
أنا كداب يا ماسة.
بدأ صوتها يعلو، ويبدو أنها بدأت تفقد توازنها وكأنها تريد أن تفرغ ما في داخلها من إوجاع وخذلان منه تابعت وكأنها لم تستمع له:
سليم الراوي أوامره لازم تتنفذ، مفيش تفكير. شوف أسلوبك في العربية، وأنت بتقول لي: هوريكي… مش هعدي اللي عملتيه… أنت مستبد، بتتعامل معايا كأنك شاريّني.ولوغلطت لازم أتعاقب علشان ضايقتك. ماينفعش أضايقك، ماينفعش أقول لأ، أو ماعملش اللي أنت عايزه… بعدين ترجع تعتذر ومفروض أسامح…
بدا صوتها يعلو بانهيار:
بقولك، اللي حصل بينا ده تنساه… لازم تفهم ده. ولازم تحترم القرار اللي أخدناه… كفاية ضغط… أنت عمال تضغط عليا بحبك… بطريقتك وعواطفك دي.. أنا عايزة أمشي… سبني أمشي بجد، زهقت.
شعر سليم بألم من حديثها قاطَعها بحدّة ببحه رجولية:
ماسة من غير تجريح! من فضلك.
تابع وقال متعجبا:
كان المفروض أكون عامل إزاي لما أشوف منظر البوابة…ولما تخرجي لوحدك…أكون بارد وهادي..كمان مابترديش عليا… أنا حقيقي خوفت عليكي..
تابع بلهجة رجولية مليئة بالشدة والحسم:
وأنا آسف جداً يا ماسة، استحالة إني أغير رد فعلي لما يحصل منك موقف زي ده تاني، لازم تفهمي أن تهورك له ثمن …
أكمل مستغربًا بنبرة حادة بها شيء من الوجع:
بعدين، اللي حصل بينا ما كانش ضعف، ولا مشاعر تقيلة. ده كان حب وشوق… شوق قلبين لبعض، مش جسدين لبعض. مستحيل مهما قولتي أصدق غير اللي حسيته وقتها، إنتي بتكدبي… بتكدبي يا ماسة.
تابع، وهو يشير بيده بعدم اقتناع ودهشة متسائلا:
إنتِ فيكِ حاجة… طريقتك في الخوف على والدك والهستيريا دي مش داخلة دماغي، في إيه يا ماسة؟ قوليلي، ريحي قلبي.
أعطته ظهرها، ثم قالت بهروب، فهي أصبحت لا تستطيع التمثيل أكثر أو المواجهة، فدموعها على وشك الهبوط، لكنها تماسكت:
أنا تعبانة ياسليم… وعايزة أرتاح. أنا هنام لو سمحت سبني.
توجهت إلى الفراش، ارتمت عليه، وضعت الوسادة على رأسها… لعلها تهدأ، أو تموت وترتاح. تمنت من قلبها أن تنتهي هذه اللحظة البائسة للأبد.
تقدّم منها سليم بخطوات ثقيلة، توقف عند فراش ونظراته مشتعلة بالغضب والخذلان، ثم قال بصوت خافت يكتم الانفجار:
ماسة… إحنا لازم نتكلم.
تسطحت على جانبها، ولم تفتح عينيها. جاء صوتها ضعيفًا، ممزوجًا بالتعب والانكسار:
بعدين بقولك… تعبانة، تعبانة أوي… ارحمني. كفاية ضغط بقى، سبني لوحدي.
تنهد سليم، وقد فاض به الكيل، مسح وجهه، وقال بنبرة حاسمة مملوءة بالضيق والاختناق والمرارة:
ماشي يا ماسة…أنا هسيبك، ومش هضغط عليكي.
بس لازم تفهمي إني زهقت.
زهقت وتعبت من طريقتك اللي مش فاهمها.
أنا مش قادر أتحمل تقلباتك دي أكتر من كده.
شوية قريبة وشوية بعيدة، شوية عايزاني وشوية مش طايقاني… ومن غير سبب، ويا ريت عندك سبب، بس مفيش.
وبعينين ترقرقتا بدموع الألم:
أنا مش لعبة في إيدك… مشاعري مش مجال لتجاربك.ولا هفضل تحت مزاجك أكتر من كده.
تابع، ونبرة صوته ترتعش بشجن مكتوم:
أنا اللي بترجاكي دلوقتي… كفاية ضغط.
ما تحاوليش تخليني أطلع الشخصية اللي أنا موتها من زمان
صدقيني، لو مشينا في الطريق ده، النهاية هتكون مؤلمة جدًا، وأنا مش عايز كده.ده مش تهديد… ده رجاء…رجاء من واحد بيحبك، وخايف يوصل لمرحلة ميعرفش فيها يسيطر على نفسه.
أنا مش عارف هقدر أتحكم في غضبي لحد إمتى.
بس الحاجة الوحيدة اللي مستحيل أقدر أسامحك عليها…هي إنك تلعبي بمشاعري. تلعبي بقلبي… وبعشقي ليكي.
مرّت لحظة صمت خرساء، ثم جاء صوتها هادئًا كالموت:
تصبّح على خير يا سليم.
ظل سليم واقفًا مكانه، يتنفس بصعوبة، غاضبًا، حزينًا… كأن صدره لا يتسع لكل ما يشعر به.
لم يفهم شيئًا، لم يعد قادرًا على الفهم… عضّ على أسنانه بقوة، ويداه تقبضان الهواء، لكنه لم يتفوه بكلمة.
استدار وغادر الغرفة، بصمت ثقيل، وظهره يحمل وجعه كله…
تاركًا خلفه رائحته، وصوته، وحبّه المكسور.
ما إن أُغلق الباب، حتى فتحت ماسة عينيها.
جلست على الفراش ببطء، يداها ترتجفان، وصدرها يعلو ويهبط بعنف.
انفجرت في البكاء، تبكي على حالها وحاله، على ما يعيشان من ضعف وانكسار، تتساءل:
ماذا تفعل؟ ما الذي أوصلهم إلى هذا؟
كلماته كانت أشبه بطعنات…
كانت تحلم بشيء آخر بعد تلك الليلة.
كانت تظن أن بداية جديدة ستولد بينهما.
لكن القدر كان له رأي اخر..
كان صوت رشدي ما زال يلاحقها…
تهديداته لا تفارقها، تنهش عقلها كالدود في جسد ميت.
كل جملة قالها، كل ابتسامة خبيثة، كل كلمة…
تعود لتطرق رأسها كالمطرقة.
لم يكن قلبها قادرا على الابتعاد عن سليم ، بل كان هدفها حماية عائلتها…
لكنها تنكسر في صمت، وتنهار في عزلة لا يراها أحد.
لم يكن وجه رشدي هو ما يُرهقها… بل صوته.
ذاك الهمس المسموم الذي لطالما تسرّب إلى أذنيها كالأفعى، يلدغ عقلها، ويشدّ على قلبها كأنّه قيد لا يُفك.
“خليكي فاكرة… ما حدش هيقدر يحميكي مني، ولا يحمي أهلك.
ولو نطقتي بكلمة لسليم أو فتحتي بقك… ساعتها، أهلك هما اللي هيتفوتوا، مش حد تاني.
تتردد كلماته في رأسها كأنها تعويذة شيطانية لا تنكسر.
كل جملة قالها كانت تُغرز في جلدها كشوك لا يُنتزع.
لم تكن تبكي حينها، لم تكن تقوى حتى على الصراخ.
كانت كمن يُخيط فمه بالخوف، ويُكمّم صوته بالذنب.
كلما اقترب منها سليم، شعرت أن الدنيا تضيق… لا لأنها لا تريده، هي تعشقه، ولكنها تخاف…. تخاف أن تبوح، فيدفع ثمنها من تحبهم.
رشدي ذلك الحقير الذي خلا قلبه من الإنسانية لم يترك فيها أثرًا يُرى، لكنه ترك فيها كهوفًا من الظلام…يسكنها ويكتم أنفاسها…
وكلما أغلقت عينيها لتنام، عاد من جديد. لا ليؤذيها، بل ليذكّرها:
أنا لسه هنا… ماخلصتش.
أخذت دموعها تنهال، تنهال بلا توقف، وهي تهتز بجسدها للأمام وللخلف، كطفل صغير يبحث عن أمانٍ ضاع منه للأبد.
جسدها يرتجف كأن برودة العالم تسكن عظامها.
ثم فجأة، أمسكَت بالوسادة، دفنت وجهها فيها، وصرخت…
صرخت بكل ما أوتيت من وجع، بكل ما خنقته في قلبها ..
وكل “ااااااه” تخرج منها، كانت تمزّق شيئًا داخلها،
كأن نياط قلبها قدام انتزع مع كل شهقة
لم تكن صرخة واحدة…
بل صرخات، صامتة أحيانًا، مسموعة أحيانًا،
لكن كلها كانت تقول شيئًا واحدًا:
كفاية.
💞________________بقلمي_ليلةعادل ⁦◉⁠‿⁠◉⁩
في اتجاه آخر في الحديقة القصر.
كان سليم متوقفًا أمام مسبح الحديقة العلوية، يدخن سيجارته، ويبدو عليه الضيق الشديد والحيرة. بينما كان مكي يقف بجانبه، يتفقد سيارته.
مكي متعجبًا: أنا مستغرب من ردود أفعالها الفترة دي، مبالغ فيها أوي.
تنهد سليم بتعب وحيرة:
معرفش مالها، ولحد إمتى هتفضل كده؟
مكي بهدوء:
طب ماتتكلم معاها، حاول تفهم مالها، حاول تحتويها.
أخذ سليم آخر نفس في سيجارته وألقاها، ثم نظر إلى مكي وقال بضجر:
اتكلمت معاها، ما بطلتش كلام معاها، بس هي عنيدة، مش عايزة تسمع.
مكي بتردد:
طب بقولك إيه؟ ما تسيبها تمشي زي ما هي عايزة، يمكن تهدى.
سليم بقوة ورفض:
لا، مش هسيبها تمشي، يا مكي. أنا مش مقتنع… كمان دلوقتي، بعد اللي حصل والموضوع بتاع امبارح، استحالة. لو كان في أمل 1% إنّي أوافق، دلوقت بقى استحالة، شايف المصايب اللي إحنا فيها.
مكي وهو يهز رأسه بإيجاب بصمت، فهو يعلم أن سليم محق.
استرسل سليم متسائلًا:
طيب، الحادثة بتاعة مجاهد، مافيهاش حاجة مش طبيعية. حقيقي الموضوع قضاء وقدر؟
مكي، وهو يزم شفتيه، هز رأسه موضحًا:
أنا دورت فعلاً. إللي خبط عم مجاهد بالعربية كان دكتور ساكن في المكان، جاله تليفون إن مراته تعبانة جدًا، نزل بسرعة خد عربيته وكان ماشي بسرعة، حاول يفرمل ويتفادى مجاهد، بس للأسف خبطه، وفعلًا وداه المستشفى، وفضل مع عم مجاهد ومارضيش يمشي غير لما سعدية والشباب أصروا يمشوه بعد ما طمّنوه إن إصابته بسيطة، ودفع لهم كل التكاليف.
نظر سليم له وتساءل:
وأنت أخذت الكلام ده على إنه حقيقي؟
مكي موضحًا وهو يهز رأسه بلا:
طبعًا ما أخدتش كلامه ده سكة. دورت وراه وطلعت مراته فعلاً حامل، وعند أمها كانت تعبانه جدًا. راحت للدكتور، بس ما كانتش ولادة تعب في التاسع يعني فاضل لها كم يوم وتولد، ،يعني الموضوع فعلاً قضاء وقدر.
مسح سليم وجهه مجددًا وزفر باختناق:
مش فاهم، إيه اللي بيحصلنا؟ مش فاهم في إيه؟! ده لسه كنت هفتحها أننا عايزين نسافر.
مكي بهدوء:
سيبها النهارده، يمكن عشان أول مرة تتعرض لموقف زي ده، وهي أصلاً الفترة دي أعصابها تعبانة، مش متحملة. فالموضوع ضغطها بزيادة، واتصرفت التصرفات دي.
سليم بقلق:
الشهر الجاي هيبقى لي تسع سنين بالضبط متجوز ماسة. التصرفات دي جديدة عليها؟ آه، حساسة وأه بتخاف، بس مش كده.
صمت مكي قليلًا، وكان يتمنى أن يخبره بأنها حاولت الهروب، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة. وقرر، ان يحتفظ بالسر.
مكي بعقلانية:
زي ما قلت لك، سيبها تهدى يومين كده، وبعدين كلمها. ممكن تخلي أهلها ييجوا يقعدوا هنا اليومين دول؟
سليم بحسم:
ماشي، بس إحنا لازم ندور تاني ورا الواد ده. انت قلت اسمه إيه؟
مكي:
اسمه علي.
سليم بضيق:
الواد ده كان هيقول، وقبل ما يقول اتضرب بالرصاص. أنا كنت متراقب، وهو كمان كان متراقب، قال لي: هقول لك كل حاجة، بس ملحقش. إنت سألت مراته؟
مكي مفسرًا:
ماتعرفش عنه حاجة، ده عيل غلبان زي ما قلتلك، سواق توك توك. ولما قعدت مع صاحبه قال لي إن في حد قصده في موضوع إنه يراقبك، وإداله مبلغ حلو، وفعلاً خد عشرين ألف. موضوع السوابق ده حاجات طبيعية يعني، حشيش، خناقة، ما لهوش علاقة بشغل المافيا والعصابات. يعني هم مختارينه من وسط 90 مليون عشان لما ندور وراه ما نوصلش لأي حاجة. كانوا ماشيين وراه يعني، أكيد الاتفاق كان أنه هيرقبك بس، لما الواد لاحظ أنك هتموته، قال لنفسه: لا، إحنا لحد هنا وما اتفقناش. وكان هيعترفلك بكل حاجة، وساعتها أخد الرصاصة. ده التحليل الوحيد.
سليم وهو ينظر بحزم:
خليك ورا إريك، أنا متأكد زي ما أنا متأكد إنك واقف قدامي إن هو هيطلع اللي ورا الحادثة. كل اللي بيحصل لنا ده شغل مافيا. بس في حد بيساعدهم من هنا، وحد قريب كمان، بس يا ترى مين؟ عايزك تفتح عينك على أخواتي.
مكي بجدية:
بقول لك ايه يا سليم، ما نخلص على إريك وتيمو. نقطع الفرامل، حادثة طبيعية بتحصل كل يوم.
سليم بحزن:
يا ريت كنت أقدر أعمل كده، كنت عملت وماترددتش لحظة بعد ما طلعت من المستشفى بيوم واحد بس. أنا خايف على ماسة وأهلها، لأني مش متأكد، وأكيد هو مسنود من أكتر من حد على الترابيزه. باولو أولهم. لأن هي مقفولة بالمقاس. أنا بس أمسك دليل أو أتأكد، وساعتها هعرف أزاي أتعامل. فخلينا نفتح عينينا أكتر.
أضاف سليم وهو يتجه للمغادرة:
أنا هطلع أشوف ماسة، أطمن عليها. كلم سلوى، اسألها لو في حاجة مضايقاها الفترة دي، وعرفها اللي حصل. شوف كده هتقول لك إيه. خلي الكلام قدامك عشان تراقب عينيها ونظراتها، لأن التليفون مش بيوضح كل حاجة.
مكي يحاول ان يطمئنه:
ما تقلقش، هو ده اللي أنا كنت ناوي أعمله، يعني كنت عايزه اعدي النهارده عشان هي دلوقتي تعبانه انا هروح بس اطمن عليها كده. بس بكرة على طول هروح أجيب عمي مجاهد، وهتكلم معاها.
مسح سليم وجهه، ثم تنهد بعمق، قائلاً:
طيب، روح إنت، أنا هقف هنا شوية، مش عايز أطلع فوق، مش قادرة أتحمل.
نظر مكي إليه، وهو يربت على كتفه، وقال:
روق، كده.
ثم تحرك مبتعدًا….بينما كان مكي يبتعد، ظل سليم واقفًا في الحديقة، غارقًا في أفكاره، يشعر بألم يتلف أعصابه ظل يتذكر تلك الليلة وكأنها تحدث الآن. كانت كلماتهما وقتها، والوعود التي تبادلاها، ولمساتها واحساسها، لا يمكن أن تكون خاطئة أو لحظة ضعف كما ادعت.
لكن شيئ ما كان غريبًا. لماذا تغيرت الأمور بهذه السرعة؟ ماذا حدث؟ منذ يومين كانت الأمور على ما يرام، وتعاهدا أنهما سينسيان كل شيء ويبدآن من جديد.
حتى بعد ليلة أمس، عندما عاد، كانت ماسة حنونة. إذا كان صادقًا لماذا لم تتحدث معه الليلة الماضية؟
لكن شيئ ما تغير اليوم بعد حادثة والدها. هذا التغير كان غير طبيعي.
“ما الذي حدث؟” تساءل سليم في نفسه، “لماذا هي بعيدة الآن، رغم أنها كانت ليلة أمس قريبة؟
إلى متى ستظل الحياة بيننا هكذا؟ في لحظة تكون قريبة، وفي لحظة أخرى بعيدة، أوقات عنيدة وأخرى حنونة؟
كان قلبه يعتصر ألمًا، وكلما فكر في حالتها، ازداد شعوره بالضياع. بدا له أن كل شيء كان على ما يرام، ولكنهم عادوا لنقطة الصفر مجددًا.
لماذا؟ ما الذي حدث؟ لماذا أصبحت هكذا؟”
اخذ يتحرك في الحديقة بخطوات بطئيه مثقله بالوجع والحيرة، محاطًا بألمه وأفكاره التي تزداد تعقيدًا. كان يشعر بشيء غير صحيح، وكأن هناك خيطًا خفيًا يفصل بينهما، خيطًا لا يستطيع فهمه، لكنه يشعر بوجوده بقوة.
كانت أوجاعه تخرج من عينيه وكأنها تصرخ، لا يعلم لماذا حياته التي كانت جنة على الأرض تحولت إلى نيران تأكله بهذا الشكل.
فكر أيضاً أنه ربما هو أعطي لردود أفعالها حجمًا أكبر من حقيقتها. ربما ما تشعر به ماسة من وجع بعد حادث والدها وتلك الهيستيريا شيء طبيعي، فهذا والدها، وهي قريبة منه وتحبه. عكس سليم، الذي تبقى مشاعره بعيدة عن عائلته.
تذكر أنه لو حدث شيئًا لفريدة وياسين، من الممكن أنه سيشهد نفس الغضب، لكنه عاد ورفض بكل قوة، وقال:
لا، أنا متأكد أن هناك شيئًا آخر جعلها هكذا. شيء ما حدث، أنا أعرفها جيدًا. تلك هي ماسة.
لكن السؤال الذي لم يفارق ذهنه كان:
لم يرحل من باله؟ إلى متى سيظل هكذا؟ فهو ظن أنه قد استعادها، ولكن الآن كل شيء أصبح سرابًا. ظل يفكر، وأفكاره تأكله وتؤلمه، يشعر وكأنه تائه في فضاء لا بداية له ولا نهاية.
في جناح سليم وماسة.
جلست ماسة على الأرجوحة، وجهها شاحب يكسوه الحزن، تمامًا كما تركها سليم. تناولت هاتفها وتواصلت مع سلوى للاطمئنان على عائلتها، ثم اتصلت بوالدتها التي ما زالت في المستشفى. بعد المكالمة، خيم عليها الصمت، كانت غارقة في التفكير، تائهة لا تعرف أي طريق تسلك، يملؤها الخوف من مواجهة سليم، وتخنقها تهديدات رشدي التي لم تكن مجرد كلمات، بل أفعال واقعية. كانت عيناها تتأمل الفراغ وعقلها يتكلم وكأنها تتحدث إلى نفسها، تتحدث عن الألم الذي يسكن داخلها والعذاب الذي يحيط بها.
كأنها تقول:
قلبي مش قادر يتكلم، نفسي مش قادر يطلع، صوتي مخنوق جوايا ومش طالع.
أنا كويسة؟ معرفش، أنا بعيط؟ مش أكيد.
أنا ضايعة؟ ما أعتقدش…أنا ميتة؟ غالبًا.
فهي وقعت بين نارين، وفي قلبها حزن وألم عميقين بعد كل ما عرفته عن سليم.
وأثناء شرودها، وهي تحدق في الفراغ بعينين زائغتين، تراءت لها صورة شقيقتها، كأنها انبثقت من العدم، مجسّدة أمامها بكل ملامحها ودموعها.
رأت مخزنًا مظلمًا… والجدران تأنّ بصمت.
رجل يمسك بسلوى من ذراعيها، يثبتها بعنف وهي تقاوم، تحاول الصراخ، لكن صوتها يخرج مبحوحًا، مهزومًا.
آخر يقترب، وجهه مغطى، لكنه لا يخفي شهوته البشعة.
يمزق ثيابها قطعة قطعة، وسط صرخاتها التي اخترقت ضلوعها هي قبل أن تملأ الفراغ.
ثم… ظهر وجه رشدي.
يضحك، ضحكة باردة، جافة، تليق بالشيطان.
يمد يده إلى حزام بنطاله، يفكّه ببطء وكأنّه يستمتع بكل لحظة.
يتقدّم نحو سلوى بخطى ثابتة، والشر يتطاير من عينيه.
شهقت… لكنها لم تسمع صوتها. تراجعت… لكنها لم تتحرك… أرادت أن تصرخ: “كفاية!”، لكن الحروف تعلّقت في حلقها، تختنق بها.
لا تعرف… هل ما تراه حقيقة؟
أم أن عقلها بدأ ينهار، يرسم لها كوابيس من وحي الألم؟
قفزت ماسة من على الأرجوحة، وصفعت وجهها محاولةً أن تطرد هذه الصور المؤلمة، تهمس بجنون ورفض، بنبرة مختنقة بدموع:
لالا مش هيحصل، مهما حصل، مش هسمح إنه يحصل، مستحيل، مستحيل.
انفجرت باكية بحرقة، ثم أمسكت هاتفها بسرعة واتصلت بسلوى:
ماسة بلهفه:
انتي كويسة؟
جاءها صوت سلوى من الحديقة الفيلا، كانت جالسة بجوار مكي بهدوء:
ايوه يا ماسة، أنا كويسة، ما تقلقيش، أنا قاعدة في الجنينة، ومكي معايا.
ماسة، متعجبة:
مكي !! مكي عندك؟ بيعمل إيه؟ وجه امتى؟!
سلوى تنهدت بهدوء: لسه جاي يطمن علينا، يابنتي ركزي، ما إحنا روحنا من عند بابا، أنا وعمار ويوسف، ماما بس اللي فضلت معاه.
ماسة بنبرة متألمة:
طب خدي بالك من نفسك. سلام.
أغلقت الهاتف، وانهارت في بكاء جديد، ثم بدأت تحدث نفسها بصوت متقطع ممزوج بالبكاء:
يا رب، يا رب، أعمل إيه؟ أنا مش عارفة أعمل إيه، هو اليوم ده ما بيخلصش ليه؟ ليه طويل كده؟ أنا تعبانة اوي، حاسة إن روحي بتتحرق، عايزة أتكلم، عايزة أصرخ، مش قادرة يا رب، يا رب…
ثم همست بقرار مرتجف:
أنا لازم أكلم سليم، أنا لازم أقول له، لازم أطلب الطلاق وامشي، أنا مش هفضل كده، لازم أنهي العذاب ده، لازم أقول إني عرفت..
لكنها صمتت، تحدثت مع نفسها باضطراب:
بس، لو قلت له إني عرفت، رشدي هيقتل بابا وماما وإخواتي، هم اللي هيدفعوا التمن مش أنا.
تابعت بقهر وهي تتحدث بين أسنانها: بس أنا لا يمكن أعيش معاه دقيقة واحدة بعد اللي عرفته، طب أقنعه إزاي بعد اللي حصل بينا، هيوافق إزاي ويقتنع؟ مش هيقتنع، سليم ذكي هيفهم من التغيرات ان فيّ حاجة؟! هعمل إيه؟ هعمل إيه؟! يا رب، أعمل إيه؟ طيب ساعدني يا رب، ساعدني احميهم، أنا مش عايزة أي حاجة غير كده، لو أنا اللي هدفع الثمن أنا أموت بس هما لا، يارب متسبنيش.
بكت بحرقة وضعف، نظرت في المرآة باستغراب، وتساءلت في نفسها:
هو سليم بجد كده؟ استحالة، استحالة.”ط
وفجأة، لمعت في ذاكرتها جملة قديمة قالتها لها العرّافة ذات يوم:
حياتكم كلها هتبقى دم وموت حواليك عقارب وأفاعي وعشقك هيبقى فيه هلاك يا صغيرتي.
مسحت وجهها ورقبتها، وهمست برفض:
لا، لا يا ماسة، دول ناس كذّابة.
لكن صوتها عاد يرتجف وهي تبكي:
بس.. هي شافت حياتي، كل حاجة قالتها تقريبًا حصلت، حذرتني منه، وأنا ما خدتش بالي. قالت لي: خلي بالك، عشقك ليه وعشقه ليكي، هيبقى فيه هلاككم.
فجأة، ضربت أصوات في عقلها تتلاطم في رأسها بقسوة، كأن هناك معركة داخلية بلا رحمة:
رشدي كذاب؟ لا، رشدي صادق ..
رشدي ما بيكدبش، كلهم قالوا إنه ما بيكدبش حتى سليم…
ثم اتسعت عيناها وهي تقول بوجع ودموع:
كل حاجة حصلت… كل حاجة شفتها بعيني. أنا الغبية، أنا اللي حبيته أنا اللي وثقت فيه. كنت بصدق كل كلمة بيقولها، كل حرف. الحادثة اللي حصلتلي وخسرت فيها بنتي. كل حاجة كانت بتقول إنه السبب، بس أنا… أنا اللي صدقت قلبي، صدقت سليم، كنت باثق فيه وباثق في وعوده، وهو كداب، مخادع، ضحك عليا، عرف يضحك عليا، عرف يخلي قلبي يصدقه، قلبي اللي كرهه، قلبي اللي دايمًا بيديله فرص.
ثم صمتت، وكأنها تتعلق بأي بصيص أمل:
بس سليم ممكن يكون تاب؟
ممكن يكون بعد عن كل حاجة، ورشدي بيحاول يوهمني..
بس سليم اتغير في حاجات كتير عشاني، يمكن دي حاجات من ضمن الحاجات اللي اتغير عشاني فيها وبعد عنها. هو قال لي: أنا بقيت واحد تاني عشانك.”
مسحت دموعها:
أكيد، أكيد كان كده، وتاب. سليم مستحيل يكون كده، مستحيل يكون بيتاجر في البنات. هيتاجر في البنات إزاي وهو أنقذني قبل كده من رشدي؟؟
بس أنا شفت الفيديوهات، يمكن تكون فيديوهات قديمة من الماضي…
وفجأة، صرخ صوت عقلها:
أصحي، فوقي يا ماسة، حتى لو تاب، مش هينفع تعيشي معاه، لأن لو استنيتي أهلك هيدفعوا التمن. كل اللي لازم تفكري فيه دلوقتي، تمشي من هنا وبس، هيبقى ده هدفك، مافيش هدف تاني. لما تمشي من هنا، ساعتها ابقي فكري: سليم ظالم والا مظلوم؟
دلوقتي بس فكري في أهلك. زي ما رشدي قال..
رشدي وأهله ماكانش فارق معاهم تعرفي الحقيقة والا ماتعرفيهاش، تصدقيها أو ما تصدقيهاش. هما كلهم عايزينك تمشي من هنا، وإلا أهلك هيموتوا، رشدي قال لك الحقيقة عشان تبقى دافع ليكي. أنت لازم تمشي من هنا، لازم تعملي المستحيل عشان تمشي من هنا.
ثم، وكأن صوتًا آخر بداخلها انفجر، شعرت بطنين في رأسها، كأن الجن يهمس في أذنها اضطربت وهي تضع يديها على أذنيها، وكانت الكلمات نفسها تتكرر:
هعمل حفلة اغتصاب لأختك، هحرق أبوكي، هقتل عمار، هقتل يوسف، هقتل أمك.
ضغطت على رقبتها بعنف، واهتز جسدها، وضغطت على أسنانها بشدة.
كانت تريد أن تصرخ، لكن لم تستطع. لم تستطع لأن سليم في الأسفل، قد يسمعها، وحينها لن تستطيع الهرب من أسئلته، قد تنهار… وتتكلم.
وضعت يدها على فمها، كتمت صرختها في داخلها.. سقطت على الأرض بانهيار، وبدأت تبكي… وتبكي… وتبكي.
في فيلا عائلة ماسة الثامنة مساءً
الحديقة
جلست سلوى مع مكي، وبعد لحظات من إنهاء مكالمتها مع ماسة، قالت له:
سلوى متعجبه: بقت كل شوية تكلمني، كل ربع ساعة تقريبًا بتكلمني. بص، هتكلمني تاني والله، هتشوف.
مكي بقلق: هي ماسة كويسة؟
سلوى، وهي تهز رأسها:
آه، ماسة كويسة، هي بس الفترة دي… حواراتها مع سليم، لكن مافيش حاجة يعني. ليه بتسأل؟
كان مكي يريد أن يخبرها بما حدث صباح اليوم، بكسر البوابة ومحاولتها السابقة للهرب، لكنه تراجع، لا يريد أن يزيد ضغطها، خصوصًا بعد حادثة والدها.
مكي، تسأل بخبث:
عادي يعني؟ أصل النهاردة وهي في المستشفى… كان شكلها مش طبيعي.
سلوى بتأييد:
فعلاً، ما كانش طبيعي خالص. كل شوية تقول لنا: أنتم كويسين؟ أنتم حلوين؟ هي ماسة كده أصلًا، قلبها رهيف، خصوصًا بعد حادثة بنتها.
مكي محاولًا أن يفهم أكثر:
هو أنتم أول مرة تتعرضوا لحادثة زي دي يا سلوى؟ أو حتى حاجة مشابهة؟
سلوى بنبرة مختنقة:
الحمد لله، عمرنا ما حصل لحد فينا حوادث ولا الكلام ده. ده هي مرة كده زمان، عمار إيده اتكسرت من الكورة. يعني إحنا عمرنا ما مرينا بحاجة زي كده. الكوارث بالنسبة لنا كانت خناقات لورين ومنصور بس.
مكي باهتمام:
تمام، طب إنتِ عاملة إيه دلوقتي؟ قولي لي، طمنيني.
سلوى بلطف:
والله، الحمد لله، أول ما الخبر جالي، قلبي كان هيقف. أصلك ما تعرفش إحنا بنحب بابا إزاي. بابا طيب أوي، عارف ساعات تحسه شديد، بس بنعرف نتفاهم. أما ماما الصراحة، هي شديدة لكن أبويا… طيب.
مكي بابتسامة محبة أمسك يدها بدعم:
ربنا يخليه لكم يا رب.. ما تقلقيش، الكسر بسيط، وأنا كلمت الدكتور، ومافيش حاجة.
سلوى بقلق:
هو أنتم كنتم شاكين إن الحادثة دي مقصودة بجد؟
مكي بتوضيح:
كنا شاكين، لأن من ساعة الحادثة اللي حصلت لماسة وسليم إنتِ عارفة إن بقى عندنا هواجس من أي حاجة بتحصل، حتى لو بمبه اتحدفت، لازم نسأل ونحذر مش عشان في حاجة، بس… وقاية والا إنتي شايفة إيه؟
سلوى بتأييد:
إنت عندك حق الحمد لله، الحمد لله إنها جت على كده
مكي تنهد بهدوء:
طب أنا هقوم، أنا بس حبيت أجي أطمن عليك كده وأشوفك عاملة إيه وإن شاء الله بكرة هاجي لك على الظهر كده، عشان نجيب عمي مجاهد مت المستشفى.
سلوى هزت رأسها بإيجاب:
ماشي
تحرك مكي اخذت سلوى واخذت سلوى تنظر لاثاره بابتسامه ثم جلست مره اخرى تضع اليها على خدها
💞_______بقلمي_ليلةعادل________💞
إحدى الشقق المجهولة، الثامنة مساءً.
الرسيبشن
نرى رجل في منتصف الأربعينات يجلس بثبات على مقعد، يرتدي بدلة سوداء، وعيناه بالكاد ترمشان.
أمامه شاب في أوائل الثلاثينات، وجهه شاحب، وأصابعه ترتعش وهو يحتضن حقيبة جلدية صغيرة فوق ركبتيه.
مد الرجل يده ببطء، وضع حقيبة صغيرة على الطاولة بينهما، ثم قال بنبرة ثابتة:
اللي عملته ده الصح. الفلوس أهي. عايزك بقى تستمر على نفس الإجابات، كل مرة… نفس الكلام اللي قلته. مش عايز كلمة زيادة ولا كلمة أقل. فاهمني؟
تردد الشاب، مد يده نحو الحقيبة، ثم توقف فجأة. رفع نظره إليه بقلق:
مش هتقولي اشمعنى اخترتوني أنا يعني؟
ابتسم الرجل، أخرج سيجارة، أشعلها ونفث الدخان بهدوء مريب:
انت تقبض بس، ونصيحة مني… انت ماشفتنيش. لو شوفتني تاني…إنت ومراتك والنونو اللي جاي… هتعيشوا نفس أجواء الحادثة، بس المرة دي العربية هتتقلب بيكم. فاهم؟
أومأ الشاب برأسه، تمتم بصوت بالكاد يُسمع بخوف:
إنت وعدتني تشغلني في مستشفى الحياة…
نهض الرجل، واتجه نحو الباب:
مش هينفع دلوقتي… اصبر.
خرج بهدوء، أغلق الباب خلفه بصوت خافت يحمل بين طياته وعيدًا دفينًا.
ومن هنا… يتضح أن الشاب الذي جلس أمامه هو نفسه الطبيب الذي دهس مجاهد.
فلاش باك، قبل عدة أيام
في إحدى العيادات.
الطبيب يجلس خلف مكتبه، يرتدي معطفه الأبيض.
الرجل نفسه يجلس أمامه، متكئًا، وجهه جامد لا يعكس شيئًا.
الطبيب بنبرة مهنية:
بتشتكي من إيه يا فندم؟
الرجل وكأنه يوزّع أحلامًا سامة:
قولي… لو حد اداك مليون جنيه، ممكن تعمله إيه؟
ظهرت الحيرة على وجه الطبيب:
مش فاهم حضرتك تقصد إيه…
الرجل بهدوء قاتل:
كل اللي محتاجينه إن المدام، وهي عند مامتها، ييجي لها مغص… تتصل بيك تقول لك: حاتومي، الحقني، شكلي بولد! إنت من كتر التوتر، تاخد عربيتك وتنزل، تخبط راجل كبير بالعربية. بس خبطة خفيفة. ومقابل ده… تاخد مليون جنيه.
الطبيب بحدة:
ايه اللي حضرتك بتقوله ده؟!
قاطعه الرجل، وأخرج مسدسًا من جيبه، يتلاعب به بين يديه وكأنه قطعة ديكور مملة:
بقول لك… هتاخد مليون جنيه مقابل اللي قولته.
ابتلع الطبيب ريقه، يحاول التماسك، عينيه على المسدس:
ولو رفضت؟
اقترب الرجل قليلاً، ابتسم ابتسامة ضيقة:
لو رفضت عرضي؟ العيادة الجميلة دي هتتحرق.
والمدام، وهي بتولد؟ تفارق الحياة.
كلها حوادث قَدَرية.
الطبيب مترددًا:
ومين الراجل ده؟ واشمعنى أنا؟
رد عليه ببرود:
مين الراجل؟ هتعرف وقتها.
واشمعنى انت؟ يعني إنت الملائم… مش أكتر.
يا دكتور، ها، موافق؟
تنفس الطبيب بعمق، صمت للحظات، ثم قال:
موافق.
نظر إليه الرجل بتهديد صريح:
كده كده إنت كنت هتوافق.
بس حابب أقولك على حاجة… أنت لا شفت ولا سمعت ولا حصل حاجة، لأنك لو عملت غير كده، مش هتلحق حتى تندم.ومش أنت اللي هتدفع التمن… اللي حواليك، ست الحبايب، مدام هناء، هي والنونو… مش ولد، مظبوط؟
ارتبك الطبيب:
هو أنت عرفت كل المعلومات دي منين؟
نهض الرجل، أطلق ضحكة قصيرة مخيفة:
انت هنا تنفذ، ما تسألش.
احنا مش محتاجين غير تنفيذ المطلوب. واللي حصل ده… كأنه حلم وعدّى.
رمى له ظرفًا صغيرًا على المكتب:
اعتبره عربون… فيه خمسين ألف جنيه.
هكلمك وأفهمك التفاصيل كلها، اليوم، الساعة، كل حاجة.
بس خلي مراتك هي اللي تتصل وتقولك: أنا بولد.
متكلمهاش في التليفون خلي الكلام يكون بينك وبين بعض يكون بينكم وبين بعض تروح لها عند امها وتفهمها..
أومأ الطبيب:
تمام.
غادر الرجل، تاركًا خلفه صمتًا مشحونًا، وطبيبًا جالسًا لا يحرك ساكنًا، ينظر إلى الأرض.
=== العودة إلى الحاضر ===
أخذ الطبيب نفسًا عميقًا، فتح الحقيبة، نظر للمبلغ.
ابتسم ابتسامة شاحبة، تمتم لنفسه:
أنا مش عارف إنت مين ولا أنتم مين… بس يلا، مش مهم. والمليون بقوا معايا.
سيارة الرجل
جلس في المقعد الأمامي، وأجرى اتصالًا سريعًا.
صوت رشدي جاءه من الغرفة الأخرى:
إيه؟ عملت إيه؟وأديته الفلوس؟
الرجل:
كله تمام يا باشا، ما تقلقش.
أنهى المكالمة، ثم التفت إلى عماد، الجالس بجواره.
رشدي مع شعور بالراحة:
خلاص، الدكتور خد الفلوس.
تبسم بإعجاب وهو يقول:
بس حلوة الفكرة، سواق توك توك ملوش أي سوابق، عادي. والتاني دكتور ومراته على وش ولادة… خطة ماتخرش الميه. يخرب بيت عقلك يا عماد. بس إنت عرفتهم منين؟ جبتهم إزاي؟
عماد بابتسامة ثقة، وهو يحرك يده في الهواء بحركة خفيفة:
تحريات يا برنس، وإنت برضه دماغك سم، يا رشدي. بس طلعت معاك فيديوهات ما كنتش أتخيل إنك تمسكها على سليم.
رشدي وهو يجلس بارتياح على المقعد:
والله يا عماد، أنا اللي مش مصدق إنك إنت اللي ماسك على سليم… الفيديو بتاع الصياد.
عماد بمكر، عينيه تتسعان قليلاً:
قولت أكشف ورقي، زي ما أنت كشفت ورقك.
رشدي بسخرية، وهو يرفع حاجبيه:
بس أوعى تكون فاكر إن هو مش ماسك علينا فيديوهات، لأااا، ده تلاقيه ماسك علينا كل حاجة، عارف مقاس هدومنا الداخلية كمان.
ضحك عماد ضحكة خفيفة، يرفع يده ويهز رأسه: دي حاجة أكيدة… بس إزاي سليم، برغم قوته، ماعرفش يوصل للي عمل الحادثة؟”
رشدي وهو يرمق عماد بنظرة عميقة:
طبيعي ده إحنا هنا عندنا مفاتيح حاجات كتير ومش عارفين نوصل لها. عارف، أنا شاكك في بتوع بره. ممكن يكون اللي اسمه إيريك ده… اللي سليم قتل أبوه.
عماد مؤيدًا، وهو يفكر قليلاً:
مش مستبعد، بس عزت باشا سافر… وكلم باولو.”ط
رشدي، وهو يدخل سيجارته في فمه بذكاء ويشعلها:
والله، هتلاقيه باولو هو و اللي ورا… بقول لك إيه، فكك… نخلص من اللي في إيدينا الأول، وبعدين نخش في مشكلة الحادثة. لازم نتخلص من ماسة، وناخد الرضا من فايزة… وبعدين نشوف هنعمل إيه.
أومأ عماد برأسه، عيناه تلمعان:
ماشي.
رشدي بحزن خبيث، وهو يعقد يديه أمامه:
مع إنها صعبت عليا.
عماد مذهولًا، وهو يفتح عينيه بدهشة:
صعبانه عليك؟
رشدي بتأكيد، وهو يضرب الطاولة بإصبعه:
أها والله، ما أنا إنسان والبت غلبانة وناعمة. بس أعمل إيه… مصلحتي ثم مصلحتي فوق كل شيء..
عماد بتنبيه، وهو يشير بإصبعه:
بس إنت لازم تضغط عليها أكتر من كدة لأنها ممكن تقول لسليم.
رشدي بابتسامة، وهو يلتفت نحو عماد قال بشر:
ده أنا هسويها على نار هادية ماتقلقش.
_________💞بقلمي_ليلة عادل💞 __________
جناح عزت وفايزة العاشرة مساءً.
جلست فايزة أمام مرآتها، تزيل آثار المساحيق عن وجهها بحركات بطيئة، كأنها تمسح همًّا ثقيلاً لا مجرد طلاء. يدها الأخرى كانت تفك خصلات شعرها بعناية، تتأمل انعكاسها بامتعاض..
خلفها يجلس عزت على طرف الفراش، يرتدي بيجامة من الساتان، كأن جسده يستعد للنوم بينما روحه لا تزال في ساحة قتال.
فايزة وهي تحدّق في المرآة بصوت خافت:
قل لي يا عزت… إيه رأيك في اللي ماسة عملته النهارده؟ أنا مش فاهمة حاجة.
رفع عزت حاجبيه مستغربًا، وردّ وهو يحاول جمع شتات أفكاره:
حقيقي غريب، أنا لسه تحت تأثير الصدمة… بس قوليلي، إيه اللي حصل بالضبط؟
استدارت فايزة برأسها إليه، صوتها هادئ لكن قلقها يفيض من عينيها:
ولا حاجة! كنا قاعدين في الصالون،أنا ورشدي وصافي بنشرب شاي وبيتكلموا معايا عشان أقنعك بمشاريعهم. فجأة سمعنا صوت تكسير عند البوابة! اتخضينا، أنا قلت في هجوم. كلنا جِرينا، حتى الجاردات… ولما وصلنا؟ شاكر قال إن دي ماسة هانم، كسرت البوابة بعربية صافيناز!
هز عزت رأسه غير مصدّق:
أنا برضه مش قادر أفهم. البنت دي طول عمرها رقيقة وبسيطة، الحكاية دي مش طالعة منها خالص… وبعدين، بباها اتخبط بعربية؟ وده مش مستاهل كل اللي عملته !
ارتفع صوت فايزة قليلًا، نبرة قلقة تتسلل إلى حديثها بخبث:
بالضبط! في حاجة مش مفهومة. تصرفها مش طبيعي، وبيخليني مش مرتاحة. إنت لازم تتكلم مع سليم. هو بيتقبل منك الكلام لكن انا مستحيل يقول لي معلومة واحدة، ما شاء الله علاقتكم هايلة.
ابتسم عزت بتعجب خفيف:
انتي بتحسديني.
نظرت فايزة إليه نظرة ضيق:
الفاظك بقت بلدي اوي ياعزت، أنا مستغربت ليه بيتعامل معايا بالطريقة دي؟ حتى لو أنا ما كنتش قريبة منه وهو صغير، كنت بعامل الكل كده. بس هو الوحيد ليه طلع بيكرهني..
تنهد عزت وقال بعقلانية
هو ما بيكرهكيش، بس زعلان… وبعدين، أوعي تكوني مبسوطة بقرب صافيناز ورشدي… الاتنين دول مصلحتهم في قربك. إنما ياسين وفريدة؟ أوقات بحس إنهم مش ولادنا أصلًا!
ضحكت فايزة وهي تطأطئ رأسها، ثم رفعت عينيها وسألت: هو أنت كنت فين أصلًا؟
أجابها عزت بصوت متوتر:
قلت لك، كنت في شغل في بورسعيد… وماحبيتش أرجع.
صمتت فايزة للحظة ثم قالت:
طيب…هتعمل إيه في مشاريع صافي ورشدي؟
ردّ عزت بجدية:
قلت لهم يشتغلوا عليها، عايز أشوف دراسة وافية. وبعدين أعرضها على سليم… دلوقتي لو عرضتها؟ هيحدفها في وشهم!
تقدمت نحوه بخطوات غاضبة، وكلمات تنضح بالسخرية
هيحدفها؟ ده أنا متأكدة إنه هيوافق! سليم بقى متذبذب، مش مركز… وده مضايقني. وكل ده ليه؟ عشان البنت الفلاحة زعلانة شوية.
علت نبرة صوت عزت، وقد بدأ الغضب يتسرب إلى ملامحه
بصي، ما تتكلميش معايا في الموضوع ده! الموضوع ده معصبني جدًا… مش قادر أصدق! سليم؟ القوي، العاقل، المنظم؟ بقى كده بسبب الحب!
جلست فايزة امامه، نظراتها تضيق بتصميم عنيد:
وعشان كده، لازم نتخلص من البنت دي. ماسة هتضيع سليم. بقت طماعة وأنانية… برغم كل حاجة بيعملها معاها، مش عاجبها! يعني في الأول كنا متفاهمين أسباب غضبها واكتئابها… بس دلوقتي؟! دخلت الجامعة وخرجت ولسه مش عاجبها!
عزت بتردد:
يمكن سليم مضايقها…
قاطعته فايزة بصوت مرتفع ونبرة عنيفة:
أنا مش هقول لك ابني يعمل اللي هو عايزه، حتى لو هيحطها تحت رجله، ما تقولش غير شكرا! بنت الفلاحين دي الجربوعة! المشكلة إنه بيحبها. شايف لو حد مننا بس قال لها مساء الخير بطريقة مش عاجباها؟ بيعمل فينا إيه؟! ده بيتمنى رضاها… مش عارفة على إيه! وهي؟ طماعة، مدلعة، وما بتستاهلش..
ساد الصمت، قبل أن يقطعه عزت بإحباط ثقيل:
طب والحل؟ أنا فعلاً متضايق… سليم امبارح كان مركز، النهاردة تائه. وبعد اللي حصل أكيد مش هيكون فايق خالص. والسوق اليومين دول فيه منافسين كتير… مش هقبل إنه يبقى قوي يوم، وضعيف عشرة. الحب لما يبقى بالشكل ده ويضعف كده، لازم ينتهى… للأسف، سليم وقع في حفرة العشق الملعون.
أومأت فايزة برأسها ببطء، وتحدثت بعقلانية باردة:
بص… إنت لازم تتكلم معاه وتفوقه. لازم يفكر في مستقبله في هدفه، في اللي بناه بإيده. مينفعش يضيع كل ده عشان واحدة! سليم كان عايز يبقى مكانك، وكان بيشتغل في أمريكا ليل ونهار عشان يكبر… كل ده راح؟ عشان ماسة؟ رجعه لعقله وفكره وقوله إن الحب اللي ما بيكبرش الواحد ولا يقويه، يتدفن تحت التراب أحسن.
استعاد عزت صلابته، وقال بنبرة حاسمة:
أكيد هكلمه. مش هسيب ابني يغرق في الوهم ده! الست اللي ما تستاهلش الحب تترمي. وماسة لو فضلت في العند ده، سليم لازم يتخلص منها… وتبقى مجرد صفحة في حياته، وتتقطع ويدوس عليها ويكمل.
ابتسمت فايزة ابتسامة ماكرة مشوبة بالخبث والتحريض:
أيوه يا عزت، ورّيني بقى هتعمل ايه؟ قوتك راحت فين؟ بقالها زمان واخدة أجازة.
ردّ عزت بصوت خفيض:
كنت عايز أرتاح… وأشوف ولادي وهم بيكبروا ويبنوا الإمبراطورية دي… لسه الأمل موجود، بس خايف عليه. البنت دي مأثرة عليه أوي… وأنا مش هسمح لحد يأثر على ابني بالشكل ده.
فايزة بحدة
خد بالك… سليم لما بيحس إن اللي قدامه مايستاهلش حبه؟ بيتحول. وبيكون بشع… وهي بعندها بتقرب من الحافة. ولو استمرت، هيقلب عليها! ووقتها؟ هيقطعها ويرميها في الزريبة اللي خرجت منها.
ضحك عزت بمرارة:
وطبعًا انتي بتتمني من قلبك تفضل زي ماهي…عنيدة بترد عليه، مش مريحاه، بتجرحه، ويا سلام لو زودت وقلة أدبها! ساعتها سليم يتعصب أكتر، ويتضايق أكتر، وساعتها؟ تكرهه فيها بإيديها… ووقتها يتحقق المراد،اللي وانك تتخلصي من ماسة. بس لازم تفهمي، لحد ما نوصل للخطوة دي؟ ممكن نخسر كم مشروع.
فايزة بجبروت لا يتزحزح:
هقولك على حاجة… لو ده المقابل إني أسترجع ابني، وأمشي البنت دي من القصر هو التمن أنا موافقة..
اعتدل عزت في جلسته، ثم تمدد على الفراش، وصوته يأتيه من عمق يأسه
أنا هنام دلوقتي… عندي اجتماع الساعة تسعة الصبح، ولازم تحضروه..
جناح سليم وماسة الثانية عشر صباحاً.
كانت ماسة تجلس على الأرض، عيونها مملوءة بالدموع، وكل دمعة كانت تهبط وكأنها تحمل جزءًا من قلبها المكسور. حاولت جاهدة أن تسيطر على نفسها، لكن مشاعر الألم كانت تفتك بها، وكأن روحها تنهار تدريجيًا. كل لحظة مرت، وكل كلمة قالها رشدي، كانت تلاحقها وتذكرها بكل ما عانته في صمت كانت تتذكر كل شيء حدث بينها وبين سليم كل الذكريات الجميله والوعود بابتسامه وتاره دمعه تاره بالم.
عقلها كان في حالة من التشوش. من جهة، كانت تتمنى أن تفضفض وتتكلم مع سليم، لكن هناك شيء أكبر يمنعها. رشدي… هو التهديد الذي يلاحقها في كل لحظة. إذا اكتشف سليم الحقيقة، إذا أخبرته بما عرفت، فإن كل شيء سيكون في خطر. عائلتها، حياتها، كل شيء ستفقده. إذا قامت بالكشف عن السر، ستكون العواقب كارثية.
حتى عائلتها، تريد ان تخبرهم لكي يحافظوا على حياتهم من شرور رشدي وتلك العائلة التي تشبه الافاعي….
كيف يمكنها أن تخبرهم؟ كيف يمكنها أن تضعهم في مواجهة هذه الحقيقة الصادمة؟ كانت تعلم أنهم لن يتحملوا ذلك، ولذلك قررت أن تبقى صامتة، رغم الألم الذي يعتصر قلبها. كانت تحاول إقناع نفسها بأنها لا بد أن تسكت، لا يجب أن تظهر ضعيفة.
لكن داخلها، كانت تتمنى لو أنها تستطيع مواجهة الحقيقة، لو كانت تستطيع أن تحكي كل شيء، ولو كان بمقدورها تحطيم تلك الجدران التي بنوها حولها. لكنها كانت تدرك أن كل كلمة، كل اعتراف، قد يكون بمثابة القشة التي تكسر ظهر البعير.
وفجأة، جاء الصوت. خبط على الباب.
كان الخبط قويًا، وكأن هناك شيئًا يوشك على الانفجار.. نظرت باستغراب ثم نهضت لتفتح. وعندما فتحت الباب، فوجئت بوجود رشدي يقف أمامها مبتسمًا بابتسامة خبيثة.
رشدي:
مسموسة الحلوة، ولا بيقولوا لك إيه؟
نظرت له ماسة بدهشة، ثم أجابت بصوت منخفض مليء بالاستفهام: رشدي، إنت عايز إيه؟
ابتسم رشدي بابتسامة غامضة، وقال:
لا لا لا… النبرة دي ماتكلمنيش بيها.
زغدها بإيده ودخل الغرفة، متوقفًا في منتصفها. نظرت له ماسة بعينين مليئتين بالدهشة.
ماسة بصدمة:
إنت اتجننت؟! اطلع بره!
التفت رشدي إليها وقال:
بالراحة يا ماسة، كده… اقفلي الباب عشان نقدر نتكلم شوية.
جزت ماسة على أسنانها وأشارت بيدها بحسم:
اطلع بره، يا رشدي! اطلع بره، سليم ممكن ييجي في أي وقت.
لكن رشدي اقترب منها بنظرة باردة، ثم أغلق الباب بالمفتاح في يده.
ماسة نظرت له بقوة:
اللي انت عملته ده ممكن يخلي سليم يقتلك، ممكن أصرخ وأقول إنك بتتحرش بيا، وساعتها انت عارف هيعمل فيك إيه.
رشدي بابتسامة باردة تهديدية:
مش مهم، مش هموت لوحدي. أهلك كلهم هيموتوا ورايا، عشان أنت مش فاهمة، أنا لو حصل لي حاجة، هما كمان هيموتوا.
ماسة بغضب:
إنت إنسان خسيس وحقير، مجرم منحط ووس،خ.
نظر رشدي في عينيها بقوة:
بلاش قلة أدب، عشان أنا كمان قليل الأدب وأيدي طويلة أوي، لمي لسانك وركزي.
أخرج من جيبه هاتفًا وقال وهو يمد يده:
التليفون ده هكلمك عليه عشان يكون في تواصل بينا، وأبلغك بكل جديد… واسمعي بقى يا حلوة، اللي أنا عايز أقوله كويس ..
الأيام دي هتزيدي النكد على سليم، هتطلبي منه أي حاجة، حتى لو طلبتي الطلاق، عشان يوم ما أهربك من هنا، يبقى جاهز.
ابتسم رشدي ابتسامة شيطانية وهو يمرر عينيه عليها بانبهار:
على فكرة، اللي عملتيه النهاردة بجد، أنا كرشدي اندهشت. طلعت مبهره يا ماسة، ما طلعتيش سهلة زي ما كانوا يتخيلوا. أنا لازم أعمل لك حساب، يعني لو ما كانش عندك نقطة ضعف، كان زمانك دلوقتي مغرقانة مع سليم.
أضاف بنظرة شرسة تهديدية:
بس اوعي تنسي أهلك في إيدي، مكالمة تليفون تنهي كل حاجة. إخواتك دلوقتي في الفيلا، صدقيني، لو دوسّت على تليفوني ده دلوقتي، الفيلا كلها هتولع. أو تحبي نعمل اختبار صغير؟ نعمل حريق صغير في المطبخ..
استني، شكلك مش مصدقة إني أقدر أعمل ده.
كاد أن يقوم بالاتصال، فأمسكت ماسة يده ببكاء وتوسلت:
رشدي، من فضلك، ما تئذيش حد من أهلي.
رشدي بهدوء:
طول ما أنتِ ماشية صح، وبتسمعي الكلام، ومفيش مشاكل، مستحيل أقرب لأهلك. لكن لو قلتي عقلك، هيبقى مقبرة للعيلة ملجئهم.
مد يد باالمفتاح وهو يهز وعينه عليها
شدت ماسة المفتاح منه بنظرة كلها كره، ثم ابتلعت تلك الغصة الثقيلة في قلبها، وتوجهت نحو الباب. وقبل أن تضع المفتاح في القفل، انتبهت لفتح الباب من الخارج. اتسعت عيناها بصدمة.
طرقت الباب من الخارج، وصوت سليم يملأ الجو.
سليم بتعجب:
ماسة قافلة عليكي بالمفتاح ليه؟ افتحي.
اتسعت عينا ماسة، بينما رشدي ابتسم بخبث.
يبدو أنه يخطط لشيء…..

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية الماسة المكسورة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى