روايات

رواية إيبار الفصل السادس والعشرون 26 بقلم رانيا عمارة

رواية إيبار الفصل السادس والعشرون 26 بقلم رانيا عمارة

رواية إيبار الجزء السادس والعشرون

رواية إيبار البارت السادس والعشرون

إيبار
إيبار

رواية إيبار الحلقة السادسة والعشرون

المغامرة دائمًا تكمن داخل الرحلة وإن كانت عسيرة وبها مشاقّ ثقيلة. الرحلة بدأت دون مطلبٍ لحائزها، واتجهت في دروب حالكة لا يوغلها شعاع الأمل، فكأنّ العدو اختار بنفسه طريقة العذاب التي يعيشها مقيّدًا على يد ظالم، ليحيا بقية عمره تتوهّج فيه نيران الظلم.
الحياة لا تحوي فاسدين، بل الفاسدون هم من يحوونها بطغيانهم على بشرٍ سقف طموحاتهم الاستقرار، فلا أحد يطيق أن يعيش بقية عمره يحارب أطرافًا يجهلهم، فيضيع عمره رفيقًا لثعابين لاذعةٍ اعتبرهم يومًا ملائكةً بأجنحة ناصعة البياض.
بالفعل من تظنه موسى تكتشفه فرعون طاغيًا بفساده في الأرض، والابتسامة المصطنعة لم تكن دلالةً على الحب، فالمنافقون ماهرون في ارتداء أقنعة المحبة الزائفة، ليس كل محبٍّ حبيبًا، فلربما يكن شيطانًا لعينًا يحوي متجرًا متكاملًا من الوجوه المتنوعة.
الدود الذي تراقص على ثياب ريم وغمس في أعماقها، أليس بمريبٍ أن تجتمع الحشرات حول ثيابٍ طاهرةٍ مطوَّقةٍ بنظامٍ داخل خزانةٍ نظيفةٍ موصدةٍ بإحكام؟
من أين أتت؟ وكيف دخلت؟ ولماذا هنا دونًا عن أي موضعٍ آخر؟
استشعرت أسماء ظروفًا قاهرةً يعيشونها في منزلٍ ملآنٍ بتحرّكاتٍ مبهمةٍ ليلًا وأصواتٍ لا توغل إلى آذانهم إلا في الليل وتختفي عند غشيان الصباح، فَرَجَ صراخها البيت وهي تتراجع إلى الوراء، ما جعل ريم تولج إلى الحجرة في الحال بجسدٍ مرتجفٍ، ووالدتها تنظر وكأنها سقطت في حيرةٍ بلا منجاة.
استفسرت “ريم” برهبةٍ تنشعب على ملامحها الحائرة، متسائلةً:
_إيه الدود ده يا ماما؟ جه دولابي إزاي؟!
لم يقتصر الفاسد المتلاف على طرح الدود دون أن يكبكب العديد من المفاجآت المُدهشة، فوجوده في هذه الحياة منبعٌ حقيقيٌّ للمُبادهات الصاعقة. وبينما كانت “أسماء” تجرّ الباب الثاني من الخزانة لترى إن كانت الحشرات اللعينة قد انتشرت فيها برمّتها أم اقتصرت على موضعٍ دون غيره، لاحظت خطًّا من قافلة النمل متّجهًا بنظامٍ إلى علبة شبكة العروس ريم، فأعربت عن دهشتها قائلةً:
_نمل كمان؟ نمل؟ لا إله إلا الله، النمل والدود دول جُم منين بس؟!
اِنصدمت كلتاهما ممّا وجدتا داخل الخزانة التي تحوّلت إلى سردابٍ للنمل والحشرات، فكلّما اندسّت يداها داخل الخزانة اكتشفت حقائق كارثيّة تشيب لها الأبدان. وبينما تخرج من الحجرة لتحضر وعاءً بلاستيكيًّا من المرحاض، تابعت بصدمةٍ عاتية:
_إيه اللي بيحصل ده بس يارب؟ إيه اللي بيحصلنا؟ إيه المصايب دي؟!
أحضرت أسماء الوعاء البلاستيكي، وأفرغت داخله علبة الشبكة بأطراف أصابعها، مشمئزّةً من ملامستها بكفيها كاملين، ثم دخلت بهما إلى المرحاض وريم تتبعها بوصبٍ يسري في عظامها، حتى تركت الوعاء على مقعد المرحاض، وفتحت العلبة بأعصابٍ مجذوذة لتكتشف الكارثة!
مئاتٌ من النمل الأصفر داخل علبةٍ محصورة، من كثافته أخفى معالم ذهب العروس. كانت أسماء مضطرّةً لأن تفتح المياه على الرغم من حرمانية قتل النمل، إلا أنّها لم تُجدِ التصرف، واختارت أن تتخلّص منه بأيسر طريقة، وفي هذه الأثناء سألت “ريم”:
_إنتي هتموتيه يا ماما؟ حرجي عليه أحسن.
ردّت “أسماء” بخوفٍ وهي تفتح الصنبور لتتخلّص منه بسرعة:
_مينفعش يا ريم، ده بكميات كبيرة لو سرح علينا هيإذينا أذى جامد… روحي إنتي خدي الكروانة التانية ونضفي الدولاب قبل ما الدود يسرح في باقي الشقة!
خرجت ريم من المرحاض دخولًا إلى حجرتها حاملةً وعاءً آخر. هناك، داخل الحجرة، استخرجت القفازات من درج التسريحة لتحفظ أصابعها من ملامسة الحشرات الدنسة، وأفرغت جميع ثيابها من الخزانة تضعها بعشوائية في كنف الوعاء الواسع الذي اكتظّ بثيابها على شكلٍ هرمي، ثم دخلت المرحاض مجدّدًا تُفرغ ثيابها في أحضان مياة حوض الاستحمام، فكانت هي ووالدتها تتخلّصان من الحشرات بقدر ما استطاعتا.
انبجست المشاغل لهما من تحت الأرض، وزاغت أوقاتهما في تنظيف ما دنّسه المرضى ذوو الأعمال الشيطانية الشنيعة، حتى قضتا ساعاتٍ مريرة في التخلّص من الحشرات المتفشّية في الحجرة.
شارست الأعباء البدنية والنفسية كاهليهما، وجعلتهما في وضعٍ مُضنٍ، فتحوّلت الحياة من لوحةٍ مشرقةٍ بهدوئها إلى خوفٍ وإزعاج، فكانت الحشرات ذات تأثيرٍ معكّرٍ لصفوهما، ولا زالت الأسئلة تتردّد في أذهانهما بشأن ظهورها الغامض.
الغريب أنّ وصب ريم اختفى دون تدخّلاتٍ طبية، كذرّة ملحٍ ذابت في سفحٍ أدجن بالأشباح، عالمٌ تغيّرت الموازين لصالحه بأيادٍ متحكّمةٍ ذات تسلّطٍ عنيد، لكن الاندثار لا يعني دومًا نهاية المعركة، بل تأهّبًا لها في بدايةٍ جديدة.
لم تترك أسماء فردًا في العائلة إلا واستفسرت عن رأيه فيما أصابهم في دارهم، فكانت الإجابات متعدّدة، منهم من قال إنّ انجلاءها ربما نبع من القمامة، وآخر قال من المحتمل أنّها تسلّلت من الخارج عبر النافذة، لكن منى أكّدت أنّ هذا الحدث المريب ما هو إلا أمرٌ طبيعيٌّ حدث في دارهم هم الآخرون، ما يعني أنّ الخطر يتقاسمه الجميع بتساوٍ.
مرّت ثمانية ليالٍ بهدوءٍ دون ظواهر مستحدثة، وعلاقة ريم بعمرو تتقدّم نحو الأمام، يتغلّفها مودّةٌ وحبٌّ جليّ، السعادة تنير سبيلهما، والوداد يتعاظم كلّ ليلة.
داخل أحد المقاهي المزدانة بكراسٍ ملوّنةٍ قبالة البحر الأحمر، في أوّل ليلةٍ يخرج فيها الخطيبان سويًّا بعد حفل الخطبة، كانا يستريحان قبالة بعضهما على كراسي الطاولة، والساعة السادسة من المغرب، والشمس تسير بفرحٍ إلى موطنها بعدما أنارت الكون بنورها، فكأنّها قامت بدورها، ليبدأ دور القمر الذي بدأ يتجلّى بنوره الهادئ في السماء البرتقالية، فتتلاقى السحب مع القمر في عناقٍ دافئ، وأعداد الناس من حولهما بسيطةٌ لا تتعدّى خمسة أشخاص، كلٌّ منهمكٌ في مهامه، إذ على طاولةٍ بعيدةٍ يجلس رجلٌ أربعينيّ العمر قبالة الحاسوب، برفقة زوجته المحجّبة وطفلتهما البالغة اثنتي عشرة سنة، يرتشفون مشروباتٍ دافئة، والنادل يسير بصينيّته متجوّلًا بين الطاولات بانهماكٍ.
فيما كان عمرو وريم ينتظران مشروبهما، ويقضيان أوقاتهما الفارغة في تبادل الأحاديث برومانسيّةٍ زاهية.
عبّر “عمرو” عن سعادته بلقائه محبوبته، فمدّ يديه نحوها وقال بابتسامة:
_أول خروجة لينا سوا بعد الخطوبة… أخيرًا عمي وافق إننا نخرج لواحدنا؟ ده أنا ريقي نشف عشان يوافق.
ضحكت “ريم” بوجنتين تلونتا بحمرة الخجل، فأمالت رأسها لثوانٍ إلى الأسفل وعمرو لا يزال يحدّق فيها بغرام، ثم رفعت رأسها بشموخٍ مدلّل، وقالت:
_أيوه بس متتعودش على كده، لأنه؛ المرة الجاية مش هيوافق… لولا إنه واثق فينا مكنش سابنا نخرج.
قهقه “عمرو” مازحًا معها، متمنّيًا لو أنّهما ينطلقان إلى نزهاتٍ ممتعةٍ كلّ ليلة، قائلًا:
_يا ستي نخلينا وراه لحد ما يوافق، إنتي مش مُتخيلة أنا مبسوط إزاي واحنا سوا….
نظر حوله متابعًا الأجواء بشغف، واسترسل مصوّبًا عينيه نحوها بلطفٍ مستهام:
_بذمتك إيه رأيك في الكافية ده؟ مش حلو صح؟
حرّكت “ريم” رأسها فكأنّها تملأ عينيها بصورةٍ جماليةٍ حيّة، مناظر من صُنع الرحمن لا يماثلها أخّاذ، مظهرةً اتفاقها معه، وهي تنطق قائلةً:
_أه حلو أوي… بس إنت شكلك متعود تيجي هنا.
ردّ “عمرو” مؤكّدًا تفضيله لهذا المكان أكثر من أيّ مقهى آخر:
_فعلًا، باجي هنا دايمًا.
سألته “ريم” عن سبب وقوعه في غرامِ مكانٍ يجده ملاذًا لأوجاعه، فقالت بابتسامة:
_بتيجي مع مين بقى؟
تضاحك “عمرو”، فاتّكأ بظهره إلى الوراء متساندًا على الكرسي، ليحكي لها مدى حبّه لوطنٍ كلّما ضاقت به الحياة لجأ إليه، فقال وهو يجهّز ردًّا ينير الذهن قناعةً:
_والله مش بالضرورة مع حد، بس صاحب المكان بينه وبين والدي صداقة متينة، فكنت لما بزهق أو بتضايق من حاجة باجي أقعد هنا لواحدي، وساعات مع صحابي… بس أغلب الوقت لواحدي.
كأنّ حياتهما لم تتّسع للمزيد من مطارحاتٍ لطيفةٍ وكلماتٍ جَلَت من مُهَجِ المحبّين في تعابير صادقةٍ تفسّر الواقع الذي عاشه عمرو، انسدلت المشاكل على سكونهما، وإحدى النساء تظهر من بعيدٍ بكعبٍ عالٍ يرنّ صداه على أرضيّةٍ لامعةٍ مُصدِرةٍ لحنًا لافتًا، وثيابٍ بديعةٍ كببغاءٍ متساوق الألوان، وعنقها الذي ظهر بين الحجاب بيّن مدى حداثتها المُذنبة، حتى تقدّمت بالقرب من طاولة عمرو، وصافحته بحضنٍ ضمّت فيه الأشواق، فتغيّرت ابتسامة ريم إلى غضبٍ هادئٍ غير مستوعبةٍ ما يحدث أمامها من انفلات.
قالت المرأة المدعوّة “زيزي” بابتسامةٍ مشرقةٍ على شفتيها المتزيّنتين بالرُّوج الأحمر اللامع:
_عمرو، ليك واحشة والله… مشوفتكش بقالي كتير.
اِرتبك “عمرو” من ردّ فعل زيزي فكأنّه لم يتوقّع ردّ فعلها في وجود ريم التي لفظت أنفاسها بسخط، فنهض بتبجيلٍ وقال ببسمةِ مجاملةٍ لا أكثر:
_زيزي؟ أخبارك إيه؟ طمنيني.
ردّت “زيزي” ببشاشة، وأنغامُ الدلال كأنّها تسري بأحبالها الصوتيّة، قائلةً:
_أنا بخير الحمدلله… بقالي كتير أوي مشوفتكش، معقول خبر الخطوبة اللي على الفيس ده بجد؟
ضحك “عمرو” بخجل، باحثًا عن ردٍّ يشفي غليل ريم ولا يزيد من أعبائها النفسيّة:
_أه بجد، الحمدلله خطبت أجمل واحدة في الدنيا كلها….
وأشار إلى ريم بابتسامةٍ عظيمةٍ يكمن وراءها ارتباكٌ أعظم:
_ريم خطيبتي….
ثم أشار إلى زيزي وتابع بتعريفٍ:
_دي زيزي بنت عمة ماما، كانت مسافرة الإمارات ولسه راجعة من قريب، ومتجوزة ومعاها طفل.
لم تستطع “ريم” أن تكلّف كاهلها فوق المستطاع ولو بابتسامةٍ مزيفةٍ يكمن داخلها نيرانٌ متقدة، لكن رغم حفيظتها الواضحة دون كلمة، قالت بوجهٍ عابس:
_أه أهلًا.
ردّت “زيزي” بلطافةٍ مبالغٍ فيها، متعمّدةً إثارة الجدل بتصرّفاتٍ غير متّزنة، لتقول:
_أهلًا بيكي… عمرو ده سيد الرجالة، مش هتلاقي زيه أبدًا، أخلاق وأدب واحترام.
رفع “عمرو” كفّه على صدره متفاخرًا بمدحها الجليل له، وقال:
_ربنا يخليكي يا زيزي، كلك ذوق.
سبع دقائق مرّت على ريم وكأنّها أعوامٌ من الغضب اللافح، فلا تقوى على سماع المزيد من حواراتهما المستمرّة حول أخبار عمرو وعائلته، فنهضت ساخطةً وهي على بُنْت شَفَةٍ من الانهيار. كان النادل قد وصل بأكواب المشروبات الباردة المزيّنة بشرائح الليمون ونكهته السائغة، وفي تلك الأثناء المشحونة بالغضب رفعت حقيبتها على كتفها بعنف، ما لاحظ عمرو وزيزي تصرّفها المتهوّر، ذلك الذي أوضح ما يستتر في نجوتها، فخرجت من المكان بخطًى مسرعةٍ كأنّها تنقش لهيب الغيرة في خطواتها.
أمّا “عمرو”، الذي لاحظ تغيّرها المفاجئ، حمل هاتفه وأسقطه في جيب بنطاله الجينز بأصابع مرتجفة، واستخرج من الجيب الآخر محفظته، منتزعًا منها حساب المشروبات التي لم يتذوّقوها بعد، وقال بإحراجٍ يتسرّب من حروفه:
_أنا آسف يا زيزي، إن شاء الله أشوفك في ظروف أحسن من كده… سلمي على طنط وباقي العيلة!
ردّت “زيزي” باعتيادٍ وكأنّها اعتادت على الانغماس في مواقف كهذه:
_حاضر يوصل.
ترك مالًا بإفاضةٍ على الطاولة دون أن يعرف حتى ثمن المشروبات، فرغبته الوثيقة في أن يتبع ريم ويلحقها قبل الرحيل أسمى من شغفه بأحاديث زيزي التي هبطت عليهما قابضةً المشاكل في وعائها، تلك التي حدّقتهما بدهشةٍ مريعةٍ تتابع مشهدًا لعاشقٍ ولهانٍ يحاول ترقيع علاقةٍ تمزّقت على يدها.
تزايدت خطواته وهو يسير وراءها، يناديها بصوتٍ عالٍ وهي لا تزال في طريقها بعناد، فاضطرّ أن يوسّع خطاه ليصل إليها بإصرارٍ لا يلين، فيقول:
_مالك يا ريم اتضايقتي كده ليه لما هي جات وروحتي قايمة فجأة من غير ما حتى تقولي إنك ماشية؟
توقفت “ريم” عن السير، واستدارت نحوه بملامح صارمة، وتساءلت بحدة صوت:
_هي المشكلة إني مشيت من غير ما أقول إني ماشية ولا المشكلة في إنك سمحت لواحدة غريبة تاخدك بالأحضان في وجودي ولا كأنها عاملة اِعتبار ليا؟
تَصَوَّبَت الأنظار عليهما وهما يقفان قبالة المقهى يتعاتبان كأمواجٍ هائجةٍ تستجوب بعضها في شجارٍ عنيف.
نظر “عمرو” حوله بخجلٍ ليرى إن كان أحدهم يُلقي أذنيه وسط النزاع، ثم حرّك عينيه نحو ريم مجدّدًا، وقال بصوتٍ خافت:
_في إيه يا ريم؟ وطي صوتك شوية! الناس هتاخد بالها!
لامته “ريم” وهي غير مقتنعةٍ تمامًا بما حدث إزاءها، واستشعرت خيطًا من الإهانة لذاتها التي طالما سعت لتقديرها وتعزيز مقامها، فقالت بعينين محتدمتين:
_رد عليا وسيبك من الكلام الفاضي ده! يعني إيه تسلم عليك بالشكل ده وقدامي؟ هو أنا قليلة عشان تتصرف كده في وجودي؟
جذبها “عمرو” من يديها برفقٍ ليدخلا سويًّا إلى سيّارته، حيث الجوّ أكثر تهيئةً لمبادلة العتاب، فقال:
_تعالي بس نتكلم في العربية، متخليش الناس تتفرج علينا! العتاب مش هنا يا حبيبة قلبي، متهزيش صورتنا قصاد الناس الغريبة!
بعدما استقرّا في السيّارة بين زواياها الموصدة صدًّا لأيّ كلمةٍ قد تتسلّل إلى مسامع الآخرين، سعى “عمرو” إلى تهدئتها بكلماتٍ معسولةٍ تزيل عن روحها غضبها المشتعل، فاستدار قليلًا نحوها، وقال برزانةٍ:
_حقك تضايقي مش هقولك حاجة غير كده… بس في كذا سبب يخليكي تعذريني زي مانا عاذرك بالظبط….
وضعيّة جلوسها منحته طابعًا بعدم رغبتها في الحديث معه، إذ كانت تتطلّع من النافذة بسخطٍ وكفّها يلامس وجهها برجفة، فمدّ يده نحو وجهها وحرّكه نحوه ليسترسل في كلماته، مردفًا:
_بُصيلي يا ريم واديني فرصة أشرحلك الموضوع!
رمقته ريم بأنفاسٍ متقطّعةٍ، وبامتعاضٍ لا يعتزلها، ما منح “عمرو” الفرصة ليواصل بتنهيدةٍ عميقةٍ:
_أول حاجة احنا ملحقناش نقعد غير عشر دقايق بالكتير، وكنا جايين هنا نغير جو، ونحتفل بإنها أول مرة نخرج من بعد الخطوبة… تاني حاجة قريبتي دي متجوزة ومخلفة ومفيش بيني وبينها حاجة، هي من يومها وهي جريئة زيادة عن اللزوم، وعلفكرة أنا اتفاجأت زيي زيك بالظبط…..
فَاكَهَ “عمرو” وجنتيها بمزاحٍ، فباعدت يديه عن وجهها في الحال، والسخط يغلف أنفاسها، فتابع:
_ماشي يا ريم… تالت حاجة بقى أنا مليش علاقة بيها، دي واحدة كانت مسافرة مع جوزها من سنين ولسه راجعة من قريب وليها حياتها ونظامها… آخر حاجة هقولهالك بس بطريقتي….
مدّ أنامله إلى جهاز التسجيل، واختار من بين قائمته كلمات الأغنية المعبّرة عن مشاعره لها، وبدأ يردّد معها بابتسامةٍ، ملامسًا وجنتيها بهزلٍ:
_ياللي زعلان مني ومخاصمني، ومش عايز تاني تكلمني، واخد على خاطرك أوي مني يا حبيبي أنا آسف….
وصل إلى مقطعٍ أشعلَ الورود من هاويةِ قلبه المُغرم، وغنّى بصوتٍ عالٍ:
_ده إنت عمري وعمري مفيش بعده، ومسهر عيني كده في بعده، ومطول ليلي وأنا مواعده وعامل مش عارف.
باعدت “ريم” يديه عن وجنتيها، وشبكت ذراعيها في بعضهما بكبرياء، وقالت بحزنٍ مرسومٍ على جبينها:
_برضه مش هتأثر بالكلام ده، إنت بجد جرحتني…
ضحك “عمرو” في دهشةٍ فكأنّه اقترف جرمًا لا يُغتفر، وقال:
_بعد الشر عليكي من أي جرح، وهو أنا برضه أقدر أجرح القمر ده كله؟ ده أنا أبقى معنديش دم وحمار بديل وولا بفهم أي حاجة.
ضحكت “ريم” رغمًا عنها، فدائمًا ما بطريقته الحاذقة يكسب قلبها ويُرمّم جروحها وإن كانت بحجم الجبال، فقالت بخجلٍ:
_متقولش على نفسك كده!
عبس “عمرو” وجهه تمثيلًا، فكأنّ غمرة الحزن انتابته هو الآخر، قائلًا بمزاحٍ فكاهي:
_لا لا أنا هفضل حمار وبديل مش أي حمار ها! طول مانتي زعلانة مني، ومشيلاني ذنب حاجة أنا ماليش ذنب فيها.
هدأت “ريم” من ثورانها، فتنهدت، وقالت بشخصيّةٍ عفويّةٍ، ذاتِ قلبٍ صافٍ لا يشوبه كَدَرُ الأشرار:
_أنا بصراحة لسه متضايقة أوي بس هديك فرصة، والست دي لما تشوفها كأنك متعرفهاش!
قهقه “عمرو”، مطمئنًا روحها المضطربة بألفاظٍ ظريفةٍ تُظهر عمق روحه المرِحة، قائلًا:
_ده أنا أخلع عيني من مكانها ولا إني أشوفها مرة تانية يا باشا.
غمز بعينيه، فأشرقت “ريم” سرورًا، متفاخرةً باختيارها العظيم، قائلةً:
_بعد الشر عليك.
بصدفةٍ بحتةٍ، في جهةٍ مقابلةٍ للسيارة، هناك زاويةٌ مستورةٌ بين الأشجار، كان هشام برفقة أحد أصدقائه متّجهين لشراء ثيابٍ من أحد المتاجر التجارية. كانت لحظاتٌ قاطعةٌ للأنفاس، وعمرو دون قصدٍ تجاوز حدوده الشخصية حين قبّل يدي ريم بطريقته المعبّرة عن الاعتذار، فخانه أسلوبه ليصل إلى الآخرين بصورةٍ تحمل طابعًا دنيئًا.
وبينما خليل هشام يجاوره وهما يسيران فوق الرصيف، خاطبه:
_لا بس الأسعار هتدخل دماغك أوي، جرب إنت وسيبها عليا.
تاه هشام في التفاصيل الدقيقة، مُصبِّبًا كل تركيزه عليهما داخل السيارة وكأنّ صديقه مجرّد ظلٍّ يتبعه لا أكثر. وحينما وجده غارقًا في متابعة عمرو وريم، سأله:
_إنت معانا طيب ولا مع الناس التانية؟
ردّ “هشام” مستنكرًا انشغاله مع الآخرين، فقال:
_معاك أهو.
حتّى دخلا إلى المتجر التجاري، في الوقت الذي أدار فيه عمرو مُحرّك السيارة ليُكملا يومهما في مكانٍ آخر، فبرغم كلّ ظرفٍ، طالما النية حاضرة فلا بأس بالتنعّم بأسلوبٍ جديد. وبعدما سكن امتعاض ريم وغدا إلى بسمةٍ بشوشةٍ على شفتيها كما كانت في السابق، رمقها “عمرو” بفرحةِ انتصارٍ، متيقّنًا من قدراته الحاذقة في زرع البهجة في فؤادها الرقيق، قائلًا بغبطةٍ:
_أيوه كده، مش عايز حاجة أكتر من الابتسامة دي.
تقسو الحياة عليك حين تمنعك ممن أحببته، وتعلّقت روحك به قسرًا عن كل ظرف، تعلُّقًا شاسعًا بين أول ليلة وقعتَ فيها في الغرام، ويومك الحاضر وأنت وقيعة في سِكّير الهوى، لم ترغب ولم تختر، لكن القدر هو الذي أرغمك دون إرادةٍ منك، فُكُتب لك أن تكون أسيرًا لتولُّهه.
رمزي الذي قضى هذه المدة يموت بسكاكين قاهرة تغرز قلبه غرزًا، منع الطعام فاشحب وجهه، وهزل جسده، واهنًا بنحافةٍ قاسية، فالحزن أشد من مائة نظامٍ غذائي، يتآكل جسدك بالبُطء لكن نتائجه فورية.
أصبح جسدًا بلا روح، ليلًا نهارًا ناظرًا قبالته بشجن، شاكيًا للجدار كما لو كان بشرًا يُصغي لمشاكله.
مات الأمل ودُفن في حفرة غائرة من الإحباط، وردمت الأتربة عليه، وقد تاهت الحفرة عن الأنظار، لكن القلب لا يزال يشعر بوجودها في هذه البقعة، بل ويلتمسها دون دليل.
لِما لم تكتمل لصالحه؟ وإن عاش يراقبها ولو من بعيد كنسرٍ لاكَ فرائسه، عدا فريسة استثنائية أطفأت عنه شره، وإن كانت غرثته مشتدة، مستعدًا أن يلتهم نفسه ولا أن يُصيبها بضُرّ.
روحه تناديها كل ليلة، ويصرخ صامتًا، ليس ضعفًا، بل لأن الطغاة حرموه من أقل حقوقه — التعبير عن الرأي — فمهما صرخ لن يجد نفعًا ولا ضراء سوى إنهاك روحه أكثر فأكثر. استسلم لوضعه الحالي، لكن في نيته تخطيطٌ قاضٍ يفتك بكل من تعدّى عليه وعلى من كانوا في كنفه يومًا.
أما عن چيهان، فقد استعدت لخروجه ذلك اليوم، اعتقادًا منها أنه سيخرج في الليلة الخامسة عشرة كما أخبرها أفراد عائلته، وجرح ساقها الذي بدأ يلتئم، فالجروح مهما تداوت، يظل أثرها تاركًا علاماته. كانت متلهفة لرؤيته بعد غيابٍ طويل، تحسب الأيام والساعات والدقائق، حتى الثواني تعدّها على أصابعها، وقلبها يرتجف برجفة الشغف.
دخلت دار فهيم، وهناك تقابلت مع جميع أفراد الأسرة، من ضمنهم ناجي الذي مكث مع والديه وأخواته. انضمّت “چيهان” إليهم بخجل، ووجهت حديثها لغزالة، فقالت بصبابة تتجلى على ملامحها:
_الليل داخل ورمزي لسه مخرجش من السجن، أنا قلبي مش متطمن، هو في حاجة يا طنط؟
لم تجد “غزالة” ردًّا مناسبًا، وازداد الأمر سوءًا وهي ترى لهفتها لخروجه، إذ يتبقى عشرة أيام إضافية على خروجه، وكلما مرّ الوقت ازدادت معه الأشواق. وبينما هي جالسة على الأريكة بجوار غيداء، قالت بابتسامة:
_اجعدي يا چيهان وريحي بالك! والله ما أعرف كيف أچيبهالك.
تفشّى الذعر في فؤاد “چيهان” وهي تراهم ينظرون إلى بعضهم في صمت، بلغة عيونٍ صامتة توحي بسرٍّ أخفوه عنها طوال الفترة الماضية، فتقدّمت نحو غزالة وسألتها:
_اتكلمي يا طنط، متخوفينيش زيادة عن كده!
تنهدت “غزالة”، ونظرت إلى زوجها وأبنائها بتردد، ثم قالت بشجاعة ووضوح:
_رمزي لسه جدامه عشر أيام كمان، أصله شيخ البلد لما لجاه دماغه ناشفة وبيناطح فيه، زودله أيام زيادة عجاب. بس لا تخافي، هيطلع جريب ويفرح جلوبنا برچوعه!
اِرتجف جسد “چيهان” بحزن، وسقطت دموعها، مظهرةً عدم تحمّلها لغيابه الذي طال عن حدّه، فقالت بإصرار:
_أنا لازم أروحله في زيارة بأي شكل… رمزي اتأخر أوي أوي، أكيد إنتوا محتاجينه ومش قادرين تعيشوا في بُعده.
ردّ “فهيم” بنُصح، معترضًا على إيابها إلى هناك، في مكانٍ خطير، قد تفتح زيارتها أبوابًا من المجازاة الإضافية على رمزي دون قصد، تلك التي إنْ تعامل معها أحدهم بشكل لا يليق بمكانتها، سترتدّ على هيئة شجاراتٍ قاسية من قبل رمزي، والعائلة لا تتحمّل أخطاءً تُكرّر ما حدث في السابق، فقال:
_ما ينفع يا چيهان، خويك دماغه ناشفة وهنا الناس ما بتسترش ولسانهم حاد، وإذا جالك واحد كلمة زيادة، رمزي ما بيرضى ويجدر يسوي مشكلة چديدة تخليه يجعد عمره بالسچن… الأحسن تصبري وتتحملي، ربك يهونها.
انتحبت “چيهان”، وتحشرجت كلماتها، وهي تقول بعذابٍ لم تَطِقْه:
_يا عمو مش هقدر، غاب كتير أوي، دول خمستاشر يوم وهو عمره ما غاب كتير كده… أنا محتاجة أطمن عليه حتى.
تفوَّهت “غزالة” بابتسامة، تطمئنها بإطراقٍ شفيق، قائلة:
_يا غالية، خلاص هانت والله، اصبري شويّة والعشر أيام بتعدي.
حينما وجدت “چيهان” أنه لا جدوى من إطلاق سراحه، استدارت نحو الباب لتخرج، وقالت بصوتٍ مكسور:
_طيب أنا هطلع فوق شوية.
عرضت “غزالة” عليها البقاء بينهم حتى لا تشعر بآلام الوحدة، فقالت:
_خليكي معانا لا تزهقي ولا تخافي!
ردّت “چيهان” بعيونٍ مُرقرقة بالدموع، محاولة ربط جأشها:
_هطلع شوية بس، محتاجة أشم شوية هوا.
خرجت چيهان من الدار بخطى متعثرة، وبمجرد أن اختفت عن أنظارهم، التصقت بالجدار، وبسطت كفّها على فمها وهي ترتجف من هول البكاء. فقدت السيطرة على ثباتها والتظاهر بالقوة، فلا قوة دون يدٍ متينة تذودها بالصلابة.
عيناها تجولان في كل اتجاه، متخيلة لو أن يكون قبالها كالماضي. ليس هو من تجازى، بل هي التي أحست بضعف لم تقابله طيلة حياتها. أدركت قيمة الأمان الحقيقي في مجاورته، وليس البعاد كما ظنت.
حينما أحست بخروج غيداء، استقامت، وسرعان ما جفت دموعها في كمّ عباءتها، وتظاهرت بقوة مغشوشة لاحظها الجميع. وبينما “غيداء” لاحظت من مظهرها الشجي، سألتها باهتمام، فقالت:
_إنتي تبكي يا چيهان؟ ليه يعني؟ ما هو خلاص أيام وبيطلع ويرچعلنا بالسلامة.
عانقتها وربّتت على ظهرها بحنان أخوي، وبأسلوبٍ حصيف حاولت تغيير الأجواء إلى مزاح ينسف نزعة البكاء، قائلة بتذكّر:
_والله ما في حد المفروض يبكي غيري آني بعد الحركة اللي سويتيها فيني تاني يوم الوحدة الصحية، جلبي وجع في رچلي من كتر خوفي عليكي.
آبت “غيداء” بذاكرتها أيامًا للوراء، متذكرة الليلة التي اختفت فيها چيهان، وقد ترك غيابها خوفًا مريرًا من أن يكون أصابها مكروهًا.
وسط الوحدة الصحية، كانت غيداء تبحث بارتعاب عن چيهان في كل صوب، والناس تتجول من حولها متعجبين من وجهها المشع بالرعب الذريع، وتحركاتها الملفتة وكأنها شرطية تتحرى جريمة قتل. فوضعت يديها على صدرها، وهي تدور حول ذاتها كذبابة أهوجة، وتقول:
_يا رب… رمزي هياخد على خاطره منا وهيهد الدنيا لو صار لها شي، راحت فين؟ كانت معايا جبْل شوي.
حينما التفتت بجنون، التقت بچيهان التي خرجت من المرحاض متعثرة الخطوات، فسارعت نحوها بفزع، وقالت بعتابٍ غاضب:
_كده يا چيهان توچّعي جلبي عليكي؟ بجالي خمس دجايج أدور عليكي في الوحدة كلها، والله كنت هموت من الجّلج.
ردّت “چيهان” بصب يسرى في عروقها، مُجيبة:
_معلش أنا عارفة إني قلقتك، بس أنا كنت محتاجة أدخل الحمام وإنتي كنتي مشغولة مع صحباتك فمحبتش أشغلك.
ساندتها “غيداء” بغضب متوهّج، وصعدت معها على درج الوحدة الصحية بتمهّل، قائلة بتوبيخ رزين:
_لا يا چيهان بعد كده تعرفيني، والله جلبي كان بينكسر عشانك، بس الحمدلله إنك طيبة وبخير.
اِنكفأت غيداء من الماضي على ردّ “چيهان” في الوقت الحاضر، تلك التي قررت الصعود لأعلى، لأن مشاعرها تتعرّى شيئًا فشيئًا وإن تظاهرت بالعكس، قائلة:
_معلش يا غيداء أنا هطلع، بجد عايزة أكون لواحدي شوية.
تفوَّهت “غيداء” بموافقة، تاركةً لها حرية الاختيار دون ضغط، إذ قالت ببسمةٍ خفيفة:
_طيب يا چيهان على طول، من وين ما تحتاچي حاچة انزلي، آني دايمًا حاضرة في خدمتك.
أومأت چيهان برأسها بهدوء، وكأنها تشكرها في صمتٍ مطبق، حتى صعدت الشقة ودخلتها في أمان، بعدما حمى أهل المنزل الطابق الأخير ببابٍ حديدي مُصفَّح، وحتى السور، باتت الشِّكك الحديدية وقطع الزجاج المكسَّر مدفونة على حوافه، تدفع الثمن غاليًا لأي لصٍّ يتجرأ على الوَثب، فصار المنزل محفوظًا من هجمات شياطين الإنس. أما غيداء، فدخلت دارهم وهي تفكر في اللحظة المنتظرة التي سيخرج فيها رمزي، فتعود المياه إلى مجراها بفرحٍ خالص.
جلست چيهان على الأريكة، مستعبرةً بدموعٍ غزيرة، منبعها روحٌ انشطرت نصفين.
طال شُغورُ التلاقي بين روحَين موحَّدتي الغرامِ،
واستوطنَ مجثمَ الشجى دمعُ شجبي واستيائي،
في وحدتي فطِنتُ إلى من أهوى ويهواني،
فتمدّدتُ بليونةٍ، قسرًا عن كل ظرفٍ مُحال، ولم أكن يومًا من ذوي الحراشفِ والأنيابِ.
تَجلد ضميرها على ذنبٍ لم تقترفه، مستشعرةً الضياع يلاحقها، فتتمنّى لو أنها تُغمض عينيها وتفتحهما لتجده كابوسًا أليمًا قد تناهى.
تسرّبت الليالي كما لو أنها تستربع على ظهر نملةٍ متريّثة، وقد جاءت اللحظة التي انتظرها الجميع طويلًا، لحظة إطلاق السراح بعد خمسٍ وعشرين يومًا كانت بمنزلة خمسٍ وعشرين سنة، ومع تغيّر الأيام تغيّر رمزي، لكهدلٍ عليلٍ فقد رونقه في فراقها، تلاشت صحته، وانهزمت قوته، حتى وهو يسمع الغفير يبشّره بخروجه الليلة، لِمَ يُعتق؟ فيخرج إلى عالمٍ مظلم زادت كراهيته له؟ ولمن من الأساس؟ لكنه، بحزن، اتخذ قرارًا بأن يقتصّ لچيهان ويعيد الحقوق إلى أصحابها، وإن أضمرهم التراب.
خرج مع الغفير بخطى متألمة، بعدما انكسر عكازه، فلا سند من بعده. على الحياة سلامٌ على كل مَن تنفّس فيها، عدا هو، الذي رغب في جذب الموت نحوه بعد القِصاص. ثم وقف حيال الشيخ ضرغام، المتمكّث على كرسي الطاولة، يتناول الغداء بلا مبالاة لما اجترمه في حقه، ودون أن يرفع عينيه نحوه، خاطبه بهدوءٍ خَضِل، وهو يراه متحوّلًا من شابٍ قابضٍ على الحياة بارتياح، إلى رجلٍ عجوز أرهقته الأيام، حتى لحيته الطويلة شهدت معه تطوراتٍ قاسية نفسيًا من وراء القضبان.
قال الشيخ “ضرغام”، راغبًا في تأديب رمزي للمرة الأخيرة بكلماته القاسية:
_هتطلع دلوجت، بس جبل ما تخرج لازم تعرف زين إن هالبلد تمشي بعُرف ونظام شديد، ما هي سايبة زي ما تفتكر، هالمرة كانت جرصة ودن بسيطة، المرة الچاية بتقضي عمرك كله في سچن العمدة، اللي حولك ما لهم ذنب ينحرمو منك، بس إنت بتهورك اللي تحرمهم من وچودك وسطهم….
اِنتزع لحم الدجاجة والتهمه بمُتعة، وتابع:
_مشي چنب الحيط يحتار عدوك فيك، لا تخلي غرورك يكسّر ظهرك يا رمزي!
ثم أومأ برأسه للغفير بأن يُخرج رمزي إلى عالمه الحقيقي، الذي غاب عنه في لياليه الهالكة، لكن رمزي لم يُنصت لما قاله الشيخ ضرغام، فلا يزال تحت تأثير صدمة وفاة چيهان، ولم تكن فيه القوة التي تدفعه للجدال كالسابق.
تحرّك “الغفير” برمزي إلى الخارج، حتى رأى الحياة من حوله من جديد، ليُخبره الغفير بنُصحٍ أخير:
_ما أبغى أشوفك هِنِه مرة ثانية، الشيخ ضرغام عجابه شديد، والحمدلله ما سوّى فيك شي يزعلك.
الآن انطلق سراح رمزي، فرَمق الغفير بوجهٍ عابس، يحمل في مهجته شرورًا لافحة، هدوء ما قبل العاصفة؛ نيرانه ستحرق دولًا وبلادًا، حتى ثلوج الجبال ستذوب من لهيب سخطه.
تحرك على الطريق بآهاتٍ مسموعة، خانته سيقانه حين تعثّرت به وسقط على الأرض، كفّاه مغروزان وسط الرمال بحرارةٍ عنيفة، ونبضات قلبه ترتفع مسببةً ضجّةً روحية، فارتعد بدنه صعقًا بالأحزان، وكلما نهض ليواصل طريقه، سقط من هول الألم. صرخ صراخًا يتردّد في السماء، يقذف الرمال في كل صوب، وكأنه ينتقم من الطبيعة التي لم تتدخل بفيضانٍ ينقذه من اعتقاله.
أصبح ضريرًا، أصمّ، فلا يرى سواها في عينيه وإن غابت، ولا يسمع سوى صوتها الذي يتردّد في أذنيه. فنهض من جديد، يسير ببطءٍ عارم، والدموع تنهمر من عينيه، ناظرًا إلى السماء يُخاطبها بعتاب.
لكن فجأة، تغلغل نداء “ناجي” له من بعيد إلى مسمعيه، ذاك الذي كان يهرول وراءه، مناديًا بشوقٍ عارم:
_رمزي استنى! استنى يا ولد العمة، آني چاي لك!
وقف رمزي حانيًا رأسه للأسفل، بقهرٍ قتله حيًّا، حتى وصل “ناجي” إليه وعانقه باشتياق شديد، يضمه إلى صدره بقوة، ويقول بنبرة فرح:
_حمد الله على السلامة يا رمزي، وحشتني موت، أخيرًا هالمدة عدت على خير ورچعتلنا سالم؟
سيطر السكون على رمزي، ما لفت انتباه “ناجي” الذي اعتقد أن كارثةً حلت في دهاليز السجن، فأردف متسائلًا:
_مالك يا رمزي طافش ليه؟!
باعده عنه، ونظر في وجهه فاندهش من شحوب وجهه، وهزال بدنه ونحافته، وتابع بقلق:
_خاسس موت يا رمزي، والحزن غاطس في جلبك ليه كذا؟!
ربت على كتفه بشفقة، لكن “رمزي” الذي خرج عن صمته قال بصراخٍ عاتي، كاد أن يصنع عواصف شرسة من قهره:
_خلّك بعيد يا ناچي، فِلت يا ولد الخال! حج چيهان هرچعه جبل لا أرچع حجي بنفسي، اللي صار ده ما بخلي له مچال.
في بداية الأمر، اعتقد “ناجي” أن رمزي وصلته أخبار ما حدث منذ أسابيع، ولِقطع الشك باليقين، ولئلا يكون متضارب الأفكار، سأله بنبرة مترددة:
_حج چيهان؟ كيفها چيهان؟!
اِندهش “رمزي” من سؤاله، فكيف يتساءل بعد ما حدث لها على يد مصعب؟ ليتوجه إليه هو الآخر بعينين مشدوهتين، متسائلًا بصياح:
_أبوي جتلها… إنت ناوي تشتغلني؟ هتكذب علي؟ أبوي وصل الخبر لي في السچن، جتلني مليون مرة وآني عايش… لازم أرچع حجها من حباب عينيه، چيهان اتظلمت وسطنا وما كان لها ذنب يصير لها كل هالشي.
أدرك “ناجي” حينها مقصد رمزي الحقيقي، ما جعله يستنكر ما حدث، فكيف قتلها وهي حية ترزق بينهم؟ لا بدّ أن مصعب مارس عليه ألعابًا نفسية شنيعة، تتصدرها لعبة <الوهم القاتل> ، وقال:
_چيهان مين اللي اتجتلت؟ يا خوي حرام عليك! چيهان عايشة بينا وما صار لها شي من الكلام اللي تجولّه ده!
تغيرت معالم وجه “رمزي” للصدمة، كان متحيرًا ما بين أن يصدقه فيعتبر حديثه مصدر ثقة، أم أنه يخفي الحقيقة حتى لا يُقتل من هول الحسرة، فأعاد سؤاله:
_چيهان عايشة؟ چيهان ما ماتت؟ چيهان عايشة يا ناچي؟ طيبة؟ حد سوّا لها شي وآني مش داري؟
ابتسم “ناجي” مؤكدًا سلامتها، فقال بتثبيت:
_والله العظيم عايشة وجاعدة بينا وما فيها شي من الكلام اللي جولته!

يتبع…..

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية إيبار)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى