روايات

رواية أيهم وورد الفصل الثالث 3 بقلم وردة

رواية أيهم وورد الفصل الثالث 3 بقلم وردة

رواية أيهم وورد البارت الثالث

رواية أيهم وورد الجزء الثالث

أيهم وورد
أيهم وورد

رواية أيهم وورد الحلقة الثالثة

“بكرة أول يوم مدرسة لمين؟”
“ليونس الشطور!”
مرت الأيام والشهور، وتوالت السنوات حتى انقضت ثلاثة أعوام. قرر أيهم أن يغادر مدينته متجهًا إلى الإسكندرية، المدينة التي أحبها بشدة، حيث قضى أجمل أيام حياته في شهر العسل برفقة زوجته. أراد الابتعاد عن كل ما يذكره بها، حتى إنه لم يستطع مسامحة والدته بعد.
كاد أن يغرق في اكتئاب حاد، لكنه انتفض قبل أن يؤثر ذلك على ابنه ويفسد حالته النفسية أكثر. لم تكن تربية يونس سهلة عليه، فقد كان يذهب إلى عمله صباحًا، ولا يعرف أين يتركه. حتى جاءه اقتراح من أحد زملائه بأن يعمل من المنزل بعد الحصول على إذن من مديره. تحمس للفكرة كثيرًا، وحين عرض الأمر على مديره وشرح له وضعه، وافق على أن يعمل من المنزل مع الحضور فقط في الاجتماعات المهمة.
كان ما يهون عليه هو رؤية ابنه يكبر أمامه عامًا بعد عام. واليوم، لا تتسع الغرفة لفرحته، فالغد هو أول يوم دراسي ليونس.
“اصحى يا بابا، النهارده أول يوم مدرسة، اصحى!”
“الساعة كام؟”
“سبعة إلا تلت يا بابا!”
انتفض أيهم من فراشه بسرعة، فقد تأخر كثيرًا عن موعد الباص. حمل يونس بين ذراعيه وسط ضحكات الصغير، وأدخله الحمام، ثم أوقفه على الكرسي حتى يتمكن من الوصول إلى الحوض. أمسك الفرشاة وساعده في تنظيف أسنانه. بعد ذلك، حمله مجددًا وخلع عنه ملابسه، ثم ألبسه زي المدرسة بعناية.
اتجه إلى المطبخ، وأعد له السندويشات التي يحبها، ثم وضعها في صندوق الطعام داخل حقيبته الصغيرة. بعد أن ألبسه الحقيبة، حمله بين ذراعيه وركض مسرعًا إلى الخارج، حيث كان الباص على وشك المغادرة.
“إيه التأخير ده يا أستاذ؟”
سأله السائق مستنكرًا.
“معلش بقى!”
أجاب أيهم وهو يلتقط أنفاسه.
ثم نظر إلى يونس وقال مبتسمًا:
“البوسة بتاعة أول يوم!”
انحنى الصغير ليقبل وجنة والده، ثم احتضنه بقوة.
“أنا بحبك أوي يا بابا!”
“وأنا بموت فيك يا روح بابا! خلي بالك من نفسك يا يونس.”
هز يونس رأسه بحماس، ثم صعد إلى مقعده في الباص.
“ربنا يخليهولك يا أستاذ.”
قال السائق بود.
أمن أيهم على دعائه وهو يراقب الباص يبتعد، غير مصدق أن صغيره قد كبر وأصبح تلميذًا في المدرسة.
همس لنفسه بحزن:
“كُنتِ دلوقتي هتبقى مبسوطة بيه، ربنا يرحمكِ، يا روحي.”
….
“يا بنتي، أنا عملت كده علشانكِ!”
نهضت من مكانها بعينين تمتلئان بالدموع، تنظر إليه بحسرة، قبل أن تهتف بصوت مرتجف:
“علشاني؟! تحرمني من ابني ومن جوزي؟! تحرمني من أكتر اتنين بحبهم في الدنيا؟!”
ازدادت أنفاسها اضطرابًا، وواصلت بصوت يقطعه البكاء:
“ابني دلوقتي زمانه في أول يوم مدرسة، كل ما أشوف طفل بشوف ابني فيه! إزاي كده؟! إحنا معملناش حاجة غلط غير إننا حبينا بعض! تقوموا تحرمونا من بعض، إنت وأمي؟!”
في هذه اللحظة، دخلت والدتها،أشارت إليها بضعف، كأنها تريد التحدث، لكن الكلمات خذلتها.
“وأنتِ… سكتِ! لولا إني سمعتكم، كنتي ناوية تخبي عني!”
أكملت حديثها بألم، صوتها يخرج مرتعشًا، من بين الدموع:
“شايفة بنتك بتموت كل يوم مليون مرة وساكتة! قوليلي، أنا عملت إيه؟! كل اللي عملته إني حبيت! لما فوقت من الغيبوبة، كنت واثقة إنه هيكون موجود، وإنه راجع لبيتنا، لكن لقيته مش موجود! وإنتو… قلتولي إنه أخد مراته وسافر، وابني معاه!”
هوت على ركبتيها، كانت تبكي بحرقة، جسدها يرتجف من شدة الانفعال، لا تصدق كل ما تسمعه وكل ما تراه. لقد اشتاقت لعائلتها، لكنها لم تتخيل يومًا أن يكون ثمن ذلك… فقدان كل شيء.
….
“الله أكبر.”
كانت ساجدة، تهمس بالدعاء بصوت مرتعش، ودموعها تنهمر على سجادتها:
“يا رب… يا رب اجمعني بيهم على خير، ويسامحوني، يا رب… والله أنا مسمحاهم، بس هما يسامحوني، يا رب…”
أنهت صلاتها، ثم جلست في مكانها للحظات، وعقلها يدور في أفكار متشابكة. فجأة، خطرت لها فكرة: أن تسافر إلى الإسكندرية، لعلها تجد بعض السكينة، ولعل الذكريات تعيد إليها بعض الدفء الذي فقدته. لا تعلم لماذا لم تفكر في ذلك من قبل، وكأن عقلها كان مشغولًا بالحزن أكثر من أي شيء آخر.
نهضت من مكانها، واتجهت إلى الخارج، ثم قالت دون أن تنظر إلى والديها:
“أنا هسافر إسكندرية يومين… أغير جو، وده بعد إذنكم طبعًا.”
كادت والدتها أن تعترض، لكن والدها قاطعها بحب وهدوء:
“طبعًا يا حبيبتي، غيري جو.”
نظرت إليه زوجته بغضب، لكن نظرة واحدة منه كانت كافية لتجعلها تصمت، رغم أنها لم تكن راضية.
….
“يا بابا، أنا عاوز أروح الحديقة!”
نظر أيهم إلى ابنه الذي يتشبث بيده ويتطلع إليه بعينين تلمعان بالحماس، ثم قال برفق:
“بلاش النهارده يا يونس يا حبيبي، خليها يوم تاني.”
لكن الطفل لم يستسلم، اقترب أكثر، وهتف بتوسل:
“وحياتي عندك يا بابا!”
ضحك أيهم بخفة، وهز رأسه قائلاً:
“أنت عارف إني بحبك، صح؟”
هز يونس رأسه بحماس، ليكمل والده بابتسامة ماكرة:
“وأنت عارف برضو إني مش برفضلك طلب، صح؟”
أومأ يونس بسرعة، فتنهد أيهم وكأن الأمر صعب عليه، ثم قال وهو يعبث بشعر ابنه:
“يبقى أكيد هنروح الحديقة، علشان خاطر عيون يونس، وحلاوة يونس!”
قفز الطفل من الفرح، ثم اندفع ليعانق والده قائلاً بحب:
“أنا بحبك أوي يا بابا!”
ضمه أيهم بقوة وهمس له بحنان:
“وأنا بموت فيك يا عيوني.”
….
“مش هتيجي بقى يا بنتي؟ قلبي قلقان عليكِ، ده انتي بقالك أسبوعين هناك!”
كان صوت والدتها يملأ المكان عبر الهاتف، محملًا بالاشتياق والقلق، لكنها لم تكن مستعدة بعد للعودة، فتنهدت ورد وردّت بصوت هادئ:
“حابة الجو هنا يا ماما، ومش عاوزة أنزل… حد يسيب الجنة دي ويرجع للكآبة؟ سيبيني لحد ما أرتاح، يا ماما.”
صمتت والدتها قليلًا، قبل أن تهمس بندم:
“متزعليش مني يا بنتي…”
أغلقت ورد عينيها، تحاول أن تمنع دموعها، ثم أجابت باستسلام:
“ربك يحلها ساعتها، يا ماما… هقفل دلوقتي، إيلول بتنده عليا.”
أغلقت الهاتف وهي تتنفس بعمق، لكن ما إن رفعت رأسها حتى وجدت صديقتها إيلول تقف عند باب الغرفة، تنظر إليها بحزن. اقتربت منها، واحتضنتها بحنان وهي تهمس:
“إن شاء الله خير، يا ورد… حاولي تسامحي، حاولي.”
لكن ورد أغلقت عينيها بألم، وارتعش صوتها وهي ترد:
“مش قادرة، يا إيلول… مش قادرة! حاسة إن روحي هتطلع، عيلتي مفتقداها أوي، والسبب يكونوا أهلك! حتى هو… حتى هو مش عارف أنا عايشة ولا لأ، مش عارف إني هنا، مش عارف إني مستنيا، وإني لسه عايشة على الذكرى!”
كانت تبكي في نهاية حديثها، دموعها جفّت من كثرة البكاء، وكأنها لم تعد تملك سوى ألم متجدد. مرت ثلاث سنوات، وعشرة شهور، وخمسة أسابيع، واثنتا عشرة ساعة وخمسه وأربعون دقيقه … ولم ترَ أحدًا منهم.
تنهدت إيلول، قبل أن تمسح دموع صديقتها برفق، ثم قالت بنبرة أكثر دفئًا:
“تعالي، إيلاف عاوزة تروح الحديقة، ومش راضية تروح لوحدها… لازم ورد تكون معاها.”
هزت ورد رأسها، وقالت بصوت متعب:
“مش هقدر والله، يا إيلول… مش قادرة.”
لكن صديقتها لم تستسلم، شدّت يدها بلطف وهي تقول بإصرار:
“يلا بقى، يا ستي! من ساعة ما جيتي، وإنتِ قاعدة جوه الأوضة، مبتخرجيش! أمال إيه فايدة تغيير الجو؟”
قبل أن ترد ورد، جاءها صوت طفولي محمّل بالبراءة:
“يلا يا ورد، علشان خاطري!”
التفتت نحو إيلاف، تلك الطفلة الصغيرة التي لم تتجاوز الثالثة بعد، تنظر إليها بعينيها الواسعتين المليئتين بالرجاء.
ابتسمت ورد وسط دموعها، وانحنت قليلًا لتقترب من طولها، ثم قبّلت وجنتها بحب، وقالت بلطف:
“علشان عيونك بس يا ست إيلاف… ما تجيبي بوسة بقى!”
ضحكت إيلاف بسعادة، قبل أن تطبع قبلة طفولية على خدّها.
….
“أهو جينا أهو يا عم يونس!”
“ماما!”
“ربنا يرحمها بقى.”
“ماما!”
صرخ الطفل بصوتٍ مرتجفٍ، يركض بجنونٍ نحوها، كأن الحياة تتوقف عند تلك الكلمة التي تمزقت من قلبه. كان جسده الصغير يرتجف، وعيناه تلمعان برجاءٍ لا يفهمه أحد سواه.
أيهم، الذي تبعه بخطواتٍ متلاحقة، لم يستطع استيعاب ما يحدث، لكنه شعر بقلبه يعتصر بقلقٍ غريب، كأن هذه اللحظة تحمل أكثر مما تبوح به. نظراته كانت متوترة، تتنقل بين الصغير والمرأة التي بدت وكأن الزمن توقف عندها.
أما هي، فما إن وصل ذلك النداء إلى مسامعها حتى ارتجف قلبها بين أضلاعها، شعرت وكأن صوتًا ما يناديها من أعماق ماضٍ مجهول، كأن شيئًا كان مفقودًا وعاد للحياة. لم تقوَ على منع نفسها من رفع رأسها، لم تستطع مقاومة ذلك الشعور الجارف الذي اجتاحها.
وعندما وقع بصرها على الطفل، شعرت بأن أنفاسها تعلّقت في صدرها، وكأن روحها كلها تجمّدت للحظة. كان يركض نحوها، ذراعاه الصغيرتان ممدودتان، وعيناه تغرقان في الدموع، كأنه كان يبحث عنها طيلة عمره. لم تفهم كيف ولماذا، لكنها شعرت أنها تريده أن يكون ابنها، أن يكون هو ذاك الجزء الضائع منها.
وفجأة، اندفع الصغير نحوها، ارتمى بين أحضانها بقوةٍ كأنما يخشى أن يفلت منها مرة أخرى. التصق بها بشدة، دفن وجهه في ركبتيها لشده صغر حجمه.
شعرت برجفةٍ تسري في كل خلية من جسدها، قلبها يكاد يخرج من صدرها من فرط النبضات التي تسارعت بجنون.
كل الأنظار كانت مصوبة نحوها، ولكنها لم ترَ أحدًا سواه. ولم تشعر سوى بحرارة جسده الصغير وهو يرتعش بين أحضانها. للحظة، شعرت أنها استردت شيئًا ثمينًا، شيئًا لم تكن تعلم أنه مفقود من الأساس.
ترددت، رفعت يديها المرتعشتين ببطء، ثم أبعدته عنها قليلًا، تبحث في ملامحه الصغيرة عن إجابة… عن يقينٍ يثبت لها أن هذه اللحظة حقيقية، وليست مجرد حلمٍ نسجه قلبها المشتاق.
خاف… خاف أن تكون مجرد وهم، خاف أن يكون قد أخطأ، أن يخذله قلبه الصغير، فامتلأت عيناه بالدموع وانفجر بالبكاء، لكنه لم يجرؤ على رفع عينيه إليها.
أما هي، فشعرت أن روحها تنتزع من مكانها، ركعت أمامه ببطء، تمسكت بذراعيه بقوة، وكأنها تخشى أن يتلاشى بين يديها، ثم همست بشفاه مرتعشة، بصوت خرج كأنه رجاء، كأنه دعاء طال انتظاره:
“أنتَ يونس؟”
لم يُجب، بل ازدادت دموعه، فهزّته برفق، كأنها تحاول أن توقظه من خوفه، من تردده، ورددت بصوت أكثر يأسًا:
“أنتَ يونس؟”
ببطء، رفع رأسه، التقت عيناه الغارقتان في الدموع بعينيها، وهزّ رأسه، اعترف بصمت، لكنه لم يجرؤ على قولها بصوت مسموع.
في تلك اللحظة، لم يعد هناك ما يمنعها، لم تعد هناك قوة في هذا العالم تستطيع أن تفصلها عنه مرة أخرى.
احتضنته بقوة، كأنها تريد أن تدمجه داخل روحها، تبكي بحرقة، تقبّل كل شبر في وجهه الصغير، تشدّه إلى صدرها وكأنها تحاول أن تعوّضه عن كل لحظة ضياع.
كان مشهدًا مؤثرًا، لدرجة أن من حولهم لم يتمالكوا أنفسهم، امتلأت العيون بالدموع دون أن يعرف أحد السبب، لكن ما كان واضحًا للجميع أن هذا اللقاء سيظل محفورًا في الذاكرة لسنوات طويلة.
“ورد!”
سمعت صوتًا نادى اسمها، اسمها الذي ظنت أنها لن تسمعه بهذه النبرة مجددًا. رفعت عينيها المغرورقتين بالدموع، لتراه يقف هناك، ملامحه مرهقة، لكنها تحمل شيئًا لم تره منذ زمن، شيئًا يشبه الأمان.
لم تفكر، لم تتردد، ركضت نحوه بقوة، كأنها تحاول اختراق المسافة التي تفصلها عنه. ارتمت داخل أحضانه بكل ضعفها، بكل خوفها، بكل الحب الذي لم تفقده يومًا.
لكن قدميها خانتاها، كأنها لم تعد تملك القوة لتقف، فسقطت معه على الأرض، لكنها لم تهتم، لم تشعر بشيء سوى دفء ذراعيه وهو يحتضنها، يحتضنها بقوة وكأنه يخشى أن تضيع منه مرة أخرى.
كان يبكي… وهي تبكي… لكن هذه المرة، كانت دموعهما تشبه الغيث بعد جفاف طويل.
عندما تعلَّقت زُليخة بيوسف حبًا، حرَمها الله منه، وحين تعلَّقت بالله إخلاصًا، وهبها الله يوسف.
وهكذا كانت ورد، حين تعلّقت بالله في الآونة الأخيرة، وهبها الله زوجها وابنها من جديد…

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أيهم وورد)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى