رواية أسد مشكى الفصل السادس عشر 16 بقلم رحمة نبيل
رواية أسد مشكى البارت السادس عشر
رواية أسد مشكى الجزء السادس عشر
رواية أسد مشكى الحلقة السادسة عشر
| حريق ذكريات |
قبل القراءة متنسوش تفاعل بالتصويت ورأيكم بعد القراءة .
صلوا على نبي الرحمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حركت عيونها بسرعة وتحفز صوب ذلك الجسد الذي اقتحم غرفتها، تطيل التحديق به دون فهم، جسد يتشح بالاسود وقد بدا من الهيئة الخارجية ذكوري، تنفست سلمى ببطء وهي تنهض بهدوء وكأنها تبدي له ردة فعل طبيعية، تظهر له أنها تأمن لوجود غريب داخل غرفتها وإن كان العكس يدور داخلها .
_ من أنت ؟! وماذا تفعل داخل غرفتي ؟؟
اطال الرجل _والذي لم يظهر من وجهه سوى عيون سوداء فقط_ النظر لها دون ردة فعل محددة وهي فقط مالت برأسها بريبة، بينما الأخير ينتظر فقط أن يقضي غرضه ويرحل من هنا كما كان يفعل لأيام، متعجبًا أنها مستيقظة اليوم على العكس المتوقع.
وكذلك يتعجب صمتها المريب، في حين أنه كان يستعد لصراخ ورعب جلي يصمته هو بحقنة اعشاب يحملها بين طيات ثيابه .
ومن بين أفكاره المتقاذفة حول غرابة تلك المرأة، فجأة ودون مقدمات وجد قدمها تصطدم بعنف مريع بعظام وجهه حتى شعر بها تتفتت تحت وقع ضربتها .
وكان الأمر مفاجئًا من جهة سلمى والتي بمجرد أن ابصرته ولم يتبادر بزهنها سوى نفس الحقير الذي جرح موزي وسرق معطفها .
ومن بعد الضربة الأولى، لم يشعر الرجل سوى بجسده يحتضن الجدار خلفه بقوة بعد لكمة أخرى، يشعر برأسه سيسقط عن جسده لشدة الارتطام الذي صابه منذ ثواني، يتنفس بصعوبة وقد شعر بالدماء تسير على وجهه، يرفض اخراج صرخة واحدة قد تفسد الخطة الخاصة بهم، ولم يكد يتنفس نفس اضافي حتى شعر بباقي عظام جسده يُطحن داخل الجدار وصوت خلفه يردد :
_ هل تظنني لطيفة يا هذا ؟؟
حاول الرجل إدارة رأسه لينظر لها وهو يتنفس بصعوبة، ليبصر وجهها القريب، ويقسم أنه لو كان في موقف آخر وبكامل صحته لأسمعها اشعارًا عن مدى اللطف الذي تظهر به .
فجأة أبصر بسمة مرعبة ترتسم على فمها وهي تردد بفحيح :
– نعم هذه هي نفسها النظرة التي كان يرمقني بها الجميع قبل أن يواري التراب أجسادهم .
ختمت جملتها تثني ذراعه بقوة حتى شعر أنها فصلته بالكامل، يعض شفتيه كاتمًا تأوهه بصعوبة، وصوتها ما يزال يصدح :
_ كان يمكنني أن احسن الظن بك بأنك اخطأت الغرفة على سبيل المثال، لكن اقتحامك لغرفة امرأة وتأملك الوقح لها، يلغي أي حسن نية قد أظنه بك، والآن بكل هدوء ستتحدث وتخبرني ما الذي تريده ؟؟
نظر لها الرجل بصمت حتى بدأت تصدق هي أنه أبكم، فمنذ دخل لم ينبث ببنت شفة أو حتى يخرج صرخة رغم كل ما تلقاه على يديها، ولم يكن منه سوى أن همس بصوت خافت :
_ نهايتك في هذا القصر جلالة الملكة .
ومن بعد تلك الكلمة وقبل أن تستفسر حتى عن مقصده، شعرت بوخزة قوية تبعها شعور غريب جعلها تنظر له بصدمة وهي تفتح فمها للتحدث، لكن دفعة منه منعت ذلك وهي تسقط ارضًا وقد شعرت بجسدها بالكامل يُشل وهي تراه يتحرك بصعوبة بسبب إصابات جسده يستخدم يد واحدة بسبب تلك التي كُسرت، يقترب منها بهدوء يميل عليها هامسًا :
_ لا تقلقي، حينما ننتهي من هذا القصر وصاحبه، ستكونين سيدة القصر كذلك، لكن لرجل آخر غير أرسلان…
ومن بعد تلك الكلمات لم تسمع شيء وقد شعرت بالظلام يتسيد المشهد أمامهما.
كل ذلك كان تحت أنظار موزي الذي لم يستطع التحرك وهو يصدر صوتًا مرتفعًا مزعجًا جعل ملامح الرجل تنكمش بضيق .
تحرك بصعوبة شديدة صوب المرحاض يلقي نظرة سريعة على موزي هامسًا بسخرية :
– يبدو أنني أخطأت حينما تركتك حيًا آخر مرة أيها القرد الحقير، اصمت وإلا قطعت لك لسانك .
ختم حديثه يقتحم المرحاض، يغتسل من دمائه، يهندم من ثيابه كي لا تظهر أثر المعركة التي خاضها منذ ثواني، ثم خرج يجذب جسد سلمى يلقي به على الفراش بصعوبة بالغة، ثم خلع عنها الحجاب يلقي الغطاء عليها وكأنها تنعم بنومة عميقة بعد سهرتهما، يلقي نظرة أخيرة عليها يهمس بصوت ساخر :
_ إلى لقاء آخر حبيبتي .
فتح جزء من الباب ينظر حوله يتأكد من وجود الحراس في الممرات بعدما دخل متخفيًا عن أعينهم، وحينما شعر أن الوقت مناسب ليشهدوا خروجه متسللًا من غرفته، خرج بسرعة يدعي التسلل وهو متأكد أنهم ابصروا خروجه من غرفة المرأة، يراقبون ما يحدث متسعي الأعين، قبل أن يركض خلفه أحدهم بسرعة مرعبة ليمسك به ويعلم سبب خروجه من غرفة المرأة التي لا يسمعون بها سوى صوت صراخ القرد .
ركض خلف الحارس في حين تقدم اخر من الغرفة بسرعة يقتحمها دون تفكير ظنًا أن سلمى بخطر، لكن تجمدت أقدامه حين دخل ليجدها تتوسط الفراش نائمة بكل استكانة وراحة، فخرج بسرعة محمر الوجه مصدوم يبتلع ريقه لا يفهم ما يحدث هنا، يبصر رفيقه العائد من نهاية الممر وهو يصيح بجنون :
– فقدت أثره، لم استطع إمساكه، ليستدعي أحدكم الملك ويخبره أن أحدهم اقتحم غرفة جلالة الملكة وربما آذاها و…
_ هي …..هي بخير، لم يؤذها .
هكذا قاطعه رفيقه الذي خرج منذ ثواني يردد بصوت جامد يخفي خلفه ملامح الشك والنفور مما يدور بعقله، يستعيذ من الشيطان أن يكون ممن يلقي الاتهامات.
_ هي … نائمة، لقد تفقدت الأمر، يبدو أن وجود الرجل بالداخل كان بعلمها و…هذه لم تكن المرة الأولى كما أرى.
نظر الجميع لبعضهم البعض دون معرفة ما يحدث ليقترح أحدهم بهدوء :
– لا حول ولا قوة إلا بالله، استغفروا الله ولا تخوضوا في شرف امرأة، نحن لم نر شيئًا ولم نسمع شيئًا سمعتم ؟؟ هذه امرأة ولا قِبل لنا بتحمل ذنب قذفها بالباطل، أحسنوا الظن، ولن يذكر أحدكم كلمة، أنا سأخبر الملك وهو سيتصرف ومن بعدها لن نفكر في الأمر حتى سمعتم ؟؟؟
هز الجميع رؤوسهم يتحرك كلٌ لمكانه وقد تلاشوا التحدث فيما يحدث مدركين عاقبة التحدث في أعراض النساء، تاركين الأمر لقائدهم والذي قرر أن يفضي بما حدث للملك، ومن ثم يتناسى الأمر .
نظر نظرة أخيرة صوب الغرفة وهو يتحرك بعيدًا بهدوء …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلماته تردد صداها مع صدى الموسيقى الصاخبة في الخلف لكن كل ذلك الصخب لم يلقي صداه لديها كما حدث مع ضربات قلبها والتي اشعرتها أنها ستصاب بالصمم، ابتلعت ريقها تنظر بعيدًا وكأنها تطمئن أن أحدهم لم يتبعها :
_ لا …لا يمكنني ذلك سمو الأمير، لا يمكنني الرحيل، ليس الآن على الاطلاق أنا ….
قاطعها نزار وهو يشعر باعصابه تحترق قلقًا على تلك العنيدة التي تركها وحدها خوفًا أن يمسها أحدهم بأي شيء خلال تواجدها وحدها .
_ آنسة نازين ا….
_ سيدة، أنا لست آنسة سمو الأمير أنا سيدة .
اتسعت أعين نزار وهو يبتلع ريقه بحرج لم يكن يعلم أنها متزوجة، وربما هي متزوجة أحد رجال هذا المكان، ويبدو أن تعجبه هذا وأفكاره ظهرت واضحة وهو ينظر لها بفضول كبير واستنكار إن كانت بالفعل مرتبطة بأحد رجال أنمار هنا لذا لا تستطيع الرحيل .
خرج صوتها حادًا محذرًا قويًا وهي تقرأ أفكاره بسهولة :
_ إياك أن تفكر بذلك حتى، زوجي أطهر وأنقى من ذلك المستنقع القذر، زوجتي رحمة الله عليه كان أكثر رجال الأرض نقاءً وشرفًا .
هز نزار رأسه وهو يبعد عيونه عنها معتذرًا :
– لم أقصد أي إهانة له صدقيني، رحمة الله عليه، لكن لا يمكننا تركك هنا، عاجلًا أو آجلًا سيعلمون أنك سبب هروبنا، لذا ستضررين، لنخرج من هنا ونخرجك .
نظرت له برفض :
_ ليس قبل أن أخرج بروح أنمار واقتص لعائلتي منه .
نظر لها بصدمة لتبتلع غصتها وهي تبعد عيونها صوب المكان أمامها تقول بصوت خافت :
_ لن اترك الرجل الذي قتلني وقتل عائلتي حي وأهرب، ليس بعد كل هذا .
_ لن يكون .
نظرت له بعدم فهم ليهتف بلهفة شديدة :
– صدقيني لن يكون حي حتى لتذكر عدد الذين آذاهم، سوف يرى العذاب الوانًا قبل حتى موته، اقسم أنه سيفعل، لكن فقط دعيني أطمئن واخرجك من هنا قبل أن تتلوثي بما …
_ اتلوث بماذا سمو الأمير ؟؟ أنا أصبحت القذارة بحد ذاتها .
اتسعت أعين نزار بصدمة من قوة كلماتها التي هزته:
– لستِ كذلك صدقيني، أنتِ امرأة قوية وطاهرة، لذا حافظي على ذلك ودعينا نخرجك من هنا وأقسم لكِ بالله أنني لن اذر أنمار يتمتع بحياته دون أن اقتص للجميع منه، لكِ ولــ …توبة، فقط دعيني اساعدك واخرجك من هنا يكفيكِ ذلًا كل يوم وتعريض نفسك للرجال لأجل انتقام سيأتيكِ وحتى أقدامك، ألا تريدين النوم بهدوء وبراحة دون الشعور بكل تلك القذارة تفوح من حولك!؟
نظرت له وقد بدأت دموعها تسقط دون شعور ومشاهد عديدة تمر أمام عيونها، صوت اولادها وهم يتضاحكون حولها، همسات زوجها وهو يتغزل بها بحنان، ومن ثم النقيض …صوت صرخات ابنائها وصوت صيحات زوجها، كل ذلك جعلها تنهار ارضًا تخفي وجهها بين كفيها تهمس بقهر :
– لا يمكنني، لا يمكنني التخلي عن انتقامي منهم بهذه السهولة، لا يمكنني تركه حيًا بهذه السهولة لا يمكنني …
نظر نزار حوله بسرعة يشعر أن الوقت يداهمه وإقناع هذه المرأة بالتخلي عن انتقام استمر معها شهور طوال كان اصعب من إقناع توبة بالتخلي عن عنادها، وحينما شعر أن الأمر لن ينجح بهذه الطريقة جلس القرفصاء أمامها ينظر لها ثواني هامسًا :
_ اعتذر منكِ، لكن صدقيني هذا لمصلحتك ولرغبتي في مساعدتك ورد جزء من خدماتك لي .
رفعت له نازين عيونها بعدم فهم، ولم تكد تتحدث، حتى وجدت كف نزار تمتد بسرعة كبيرة صوب رقبتها يضغط مطولًا على نقطة هناك وفي ثواني كان جسدها يتساقط بين ذراعيه ليحملها بسرعة وهو يتخذ نفس الطريق الذي سبق وأمنته هي .
ينظر لها بين أحضانه يهمس بصوت منخفض :
_ لا بأس كلٌ سينال قصاصه سيدة نازين ……
ــــــــــــــــــــــــــــــ
اتسعت حدقة الأعين وشعر المعتصم بالرعب وهو يراقب المنزل أمامه، صوت صرخات فاطمة في هذه اللحظة مع مظهر النيران التي تلتهم كل شيء أمامها جعل جسده ينتفض بقوة وهو يقفز عن الحصان دون تفكير يركض بجنون بين الطرقات يصرخ بصوت جهوري :
_ أحضروا دلاء المياه، احضروا المياه، أحضروا المياه.
كان يصرخ وهو يركض بجنون صوب المنزل وصوت صرخات فاطمة باسم والدتها خلفه جعله يكاد يجن وهو يرى السيدة ألطاف تخرج من منزلها مرتعبة على صوت الصرخات ويبدو أنها الآن فقط انتبهت على الحريق .
اتسعت عيونها برعب وهي تعود صوب المنزل توقظ زوجها بصرخات ملتاعة تأمره أن يساعدها في حمل المياه، ثم ركضت صوب المنازل المجاورة تطرق أبوابها بخوف وهي تبكي وتصرخ باسم فاطمة وقد نست أنها تقيم في هذا الوقت في القصر :
_ انجدونا أحضروا المياه وساعدونا لنطفئ الحريق، المنزل يحترق بالفتاة .
كانت تصرخ ليخرج على صوتها الجميع وما هي إلا ثواني حتى استوعب الجميع ما يحدث يركضون بسرعة كبيرة للمساعدة في اطفاءه وقد كان المعتصم في هذه اللحظة لا يستوعب ما يحدث وهو يقفز بين ألسنة اللهب يبحث بعيونه عن والدتها وقلبه ينبض بعنف ورعب أن تكون قد تضررت، يسمع صرخات فاطمة من الخارج وهي تصرخ بصوت يكاد ينقطع لشدة ضغطها على اوتار حنجرتها وقد بدأ الحريق يسحبها من ذكريات قديمة صوب أرض الواقع :
_ عائلتـــــي، انقذوهم، ابي وأخي بالداخل، الجميع بالداخل انقذوهم، ارجوكم، ارجوكم انقذوا امي ….انقذوا أمي هي وحدها بالداخل، لا تدعوها تحترق مثلهم .
وما كاد أحدهم يقف ليستوعب صرخاتها حتى ألقت نفسها داخل النيران وهي تصرخ باكية باسمها، هذه المرة لم تكتفي بالمشاهدة كما السابقة، بل قررت تحطيم اسوار رعبها وهي تلقي نفسها بين كوابيسها، وجمر ذكرياتها المحترقة الذي كان يختبأ أسفل ذكريات الزمان .
بينما في الداخل كان المعتصم يبحث بعيونه عن والدة فاطمة ليسمع فجأة صوت الأخيرة يصرخ بقهر :
_ أمي…. أمي أين أنتِ؟! لا تتركيني مثلهم، أمي لا تتركيني .
توقف قلب المعتصم ثواني يراقبها تتحرك بين النيران صوب إحدى الغرفة والتي كانت ألسنة النيران تخرج منها بشكل مرعب، ليركض لها يجذبها بجنون صوب أحضانه صارخًا :
_ فاطمة ما الذي تفعلينه، الغرفة محترقة بالكامل …
_ هذه …غرفتها، هذه غرفة أمي، كانت تستلقي بتعب على الفراش بسبب مرضها، كل هذا بسببي لأنني تركتها، دعني ارجوك اساعدها في الخروج دعني أخرجها من هناك قبل أن أفقدها كما الجميع معتصم .
كانت تتحدث بصراخ باكية وهي تحاول الفرار من أسر ذراعيه وهو يزيد من ضمها بجنون يوازي جنونها وصوت صرخاتها يعلو، ورفضه لتركها يزداد :
_ لن ادعك، ليحترق جسدي وتذوب عظامي، ولن أفلتك فاطمة، لا تفعلي بي هذا، أنا ارجوكِ لا تتركيني وحدي مجددًا .
سقطت دموع فاطمة وهي تنهار صارخة باسم والدتها وهو يسحبها بالقوة صوب الخارج وهي تصرخ به بجنون :
– لا اتركني، لن ادع أمي وحدها بالداخل، لن ادعها بالداخل، اتركني، اتركني، امـــــــــــــي…..
خرج بها واخيرًا لتلتقطها السيدة ألطاف بين أحضانها، تضمها بحنان ورعب وهي تبكي عليها وعلى حالها .
_ أمي بالداخل خالة ألطاف، أمي بالداخل ساعدوها، لقد احترقت مع المنزل .
بكت ألطاف أكثر وهي تزيد من ضمها تنظر صوب المنزل الذي كان على شفا جرف من الانهيار :
– ادعي لها بالرحمة عزيزي، ادعي لها بالرحمة ….
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ هيا زيان ما بها الهزيمة على يدي لا ادري، هل هي المرة الأولى لتغضب بهذا الشكل ؟!
ختم أرسلان كلماته وهو يدس سيفه داخل موضعه في جدار السيوف، ثم أعاد خصلاته للخلف يبتسم ببراءة شديدة لزيان الذي كان أمله الوحيد هو الحصول على كوب لبن دافئ والخلود لنومة هانئة على صوت مواء القطط التي يحتفظ بها في غرفته .
فرك خصلاته وهو يتحرك صوب كوب اللبن المسكين والذي تركه جانبًا حتى تجمد من البرد :
_ نعم لم تكن المرة الأولى، لكن على الاقل لا تأخذني على حين غرة للمحاربة، أنا رجل كنت اجهز عقلي وجسدي لأخذ راحة دافئة أسفل الغطاء، لافاجئه دون مقدمات ببرد الساحة وملمس السيوف وكمية الادرينالين التي اندفعت داخل أوردتي، هل تحسب أن هذا بسيط على مثل هذا الجسد .
أنهى حديثه يشير لجسده بحنق شديد، ثم نظر لكوب اللبن بحسرة :
– حتى كوب اللبن الذي منيت به نفسي برد ولم يعد صالحًا للشرب و……
ابتسم له أرسلان وهو يتابعه وقبل أن يكمل زيان كلماته وجدوا أحد الحراس يقترب منهم مبتسمًا بهدوء ونظراته توحي بأنه يكتم الكثير يتوقف أمام أرسلان :
_ مولاي، آسف لازعاجك في هذا المساء، لكن هناك ما يجب أن تعلمه .
ضيق أرسلان عيونه بتحفز في حين انسحب زيان بكل هدوء تاركًا لهم الساحة ليتحدثوا كما شاءوا، وهو تحرك صوب المطبخ مجددًا ليحصل على كوبه الدافئ مصرًا عليه إصرار منقطع النظير :
_ إذن استأذنكم أنا مولاي، سوف أذهب للحصول على كوب لبن دافئ لي .
بهذا ختم زيان وجوده في المكان بكلمات بسيطة هادئة، تاركًا أرسلان يقف أمام الجندي بترقب وفضول، يوليه كامل اهتمامه:
_ تفضل أخبرتني أنك تحتاجني لأمر هام ؟! هل كل شيء يسير معك على ما يرام ؟!
ابتسم له الجندي بسمة احترام وتقدير يعلن في قرارة نفسه أنه اتخذ القرار الصحيح باسكات الجميع والمجئ بنفسه للتحدث إلى الملك :
– كل شيء بخير مولاي اشكرك، لكن الأمر ليس متعلقًا بي، بل هو متعلق بشخص آخر.
ضيق أرسلان ما بين حاجبيه ينتطر أن يكمل الرجل باقي كلماته لتصيبه الصدمة حين سمعه يكمل بحذر وكأنه يحاول انتقاء كلماته، كما لو كان يسير على الشوك :
_ الأمر متعلق بجلالة الملكة مولاي .
انتفض صدر أرسلان بقوة وقد تحفزت كل خلية داخل جسده وهو يضيق عيونه بشراسة هاتفًا :
_ ما بها جلالة الملكة ؟!
ابتلع الرجل ريقه وهو يرى تحفز ملامح أرسلان الخطيرة وكأنه بنطقه اسمها دخل بأقدامه لكهف ظلامه يخطو على جمر أسفله، توحشت ملامح أرسلان أكثر وأكثر حتى شعر الرجل بتردد وفكر لثواني بالتراجع، لكن تلك الملامح الخطيرة التي علت وجهه أوقفته عن الأمر وهو يهتف بصوت مخيف :
_ تحدث ما بها جلالة الملكة ؟؟ هل تعرض لها أحدهم ؟!
كان يتحدث وكأنه يتجهز لاستلال سيفه والهجوم على أيًا كان من عبر جوارها ولم يغض طرفه، ليشعر الجندي بأنه أخطأ في المجئ هنا، لكن حتى اختيار التراجع لم يعد متاحًا الآن.
تراجع خطوات وكأنه يحتمي بالمسافة بينهما، بينما عيون أرسلان تراقب تراجعه بريبة يعلم أن هناك ما حدث ولن يعجبه بأي شكل من الأشكال :
_ تحدث قبل أن ينفذ صبري يا بني.
_ هو مولاي …ما حدث أنه منذ دقائق أبصرنا جسد يتسحب خارج جناح الملكة بشكل مريب وكأنه يتجنب أن يبصره احدهم، لحقنا به لكنه تبخر، كان ….رجلًا يرتدي معطفًا من اللون الازرق وقد خرج من غرفتها دون حتى أن يصدر أي صوت لها .
شعر أرسلان بقلبه يكاد يتوقف في هذه اللحظة وهو يسمع ما يحدث من فم الجندي والذي أخذ يكمل له ما حدث ويصف له هيئة الرجل والتي كانت تتطابق بشكل مرعب مع الرجل الذي كان يعانق المرأة المرتدية لمعطفه داخل الحديقة منذ وقت ليس بالكبير .
ازدادت خفقاته وهو يسمع صوت الرجل يكمل :
– ظننا .. ظننا أنه أذاها أو ما شابه و….
_ ظننتم ؟!
هز الرجل رأسه بنعم ثم أكمل بعدما بلل شفتيه :
– دخل أحد الجنود للجناح بسرعة خوفًا أن يكون مكروهًا قد أصابها، لكنه وجدها….نائمة على فراشها براحة و..لا شيء غريب داخل الجناح .
اشتعلت أعين أرسلان وهو يلتقط الإشارات المخفية داخل حديثه يبتسم بسمة لا علاقة لها بما يحدث يشعر بالدماء تغلي داخل عروقه، يرفع عيونه للرجل نظرة شلته لثواني :
– ما قلته منذ ثواني، لن يخرج من بيننا سمعت ؟!
حرك الرجل رأسه يومأ بالإيجاب، ثم استأذن وتحرك مبتعدًا يكمل عمله، تاركًا أرسلان يقف على جمر مشتعل، وصوت أنفاسه هو ما يمكن سماعه في هذه اللحظة مع اصوات الريح .
تحرك خطوات قليلة قبل أن يتوقف ينظر حوله بجنون، يتمنى فقط أن نزار لم يرحل، أو أن المعتصم كان هنا ليخفف عنه ويوقف تلك الطواحين التي تدور بعقله، وبالحديث عن المعتصم اين هو وقد اختفى منذ وقت طويل ؟؟
تحرك في المكان يبحث عنه بعيونه وكأنه يرتجي لمحة من وجه رفيقه هنا، لكن وأثناء حركته أبصر حركة غريبة في المكان تبعها ظهور زيان وهو يحمل حقيبته يتحرك بسرعة كبيرة مع عدد من مساعديه وبعض الجنود صوب الخارج ليتوجه لهم بعدم فهم :
– زيان ما الذي حدث هنا ؟؟ إلى أين في هذا الوقت ؟؟
توقفت أقدام زيان ينظر صوب الملك ثواني قبل أن يهتف :
_ هناك حريق كبير في المدينة وهناك إصابات، تحرك بعض الجنود للمساعدة في إطفاءه وفكرت بالذهاب للمساعدة، خوفًا أن يكون هناك أية إصابات.
اتسعت عيون أرسلان وهو يشير بيده صوب أحد الجنود :
– احضر لي حصانًا يا بني .
تحرك بسرعة :
_ صبرًا يا زيان سوف آتي معك لتفقد الوضع .
ورغم أن الأمر كان لمسؤولية بحتة خوفًا من أرسلان أن يتكرر ما حدث قديمًا من مآسي، إلا أنه بالنسبة لعقل أرسلان كان وسيلة إلهاء كبيرة ورائعة…
تحرك بسرعة بمجرد أن أبصر الحصان الخاص به يشير لزيان أن يصعد لحصانه ويلحقه قائلًا بصوت آمر :
– ارشدني صوب الحريق زيان …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مرت ساعة، بل ويزيد عن ساعة منذ تركها نزار ورحل ليحضر المرأة، ولا تدري السبب حتى الآن لكن كلما تذكرت الوجع الكامن بعيون نازين وهي تتحدث معها، شعرت بانقباضة صدر قوية تهتف بها ألا تترك المرأة كبش فداء لحريتها، لا يمكنها أن تضع امرأة في موضعها فقط لتنجو بروحها .
نظرت حولها للظلام والذي وعلى عكس العادة لم يكن يخفيها بقدر قذارة شياطين الانس، ربما كان الظلام ارحم بها من نفوس بعض البشر، على الأقل هو يسترها عن أعينهم .
ضمت نفسها تهتف داخل صدرها بريبة :
– لا تخذلني نزار ارجوك .
وكأنه سمع ندائها إذ فجأة أبصرت جسد رجولي يقبل عليها، جسد نزار الذي تعرفت عليه من نظرة واحدة، لكن الغريب أنه كان وحده في هذه اللحظة، فتحت عيونها بعدم فهم ولم تكد تلومه على العودة وحده حتى تجمدت الحروف على طرف لسانها تبصره يحمل جسد أنثوي على ظهره، ولم تكن بحاجة للتخمين حول هوية هذه المرأة.
ورغم عنها ولسبب تأبى حتى التفكير به شحب وجهها وهي تراه يحملها بهذا الشكل الحريص وكأنه يخشى أن تُخدش المرأة، ابتلعت ريقها تحاول الحديث، لكن علقت الكلمات داخل حلقها .
وحينما وصل لها نزار تحدث بهدوء ولهفة :
_ أنتِ بخير صحيح ؟!
أبعدت عيونها عن جسد نازين بصعوبة تبتلع ريقها والذي كان علقمًا في هذه اللحظة، تنظر بعيدًا عنه صوب الطريق :
_ نعم أنا بخير .
نظرت مجددًا صوب جسد نازين بتسائل التقطه هو بسهولة :
– أبت المجئ فما ملكت من طريقة غير إجبارها، دعينا نخرجك من هنا .
هزت رأسها دون كلمة، وأي كلمات تمتلك هي حتى؟؟ لا شيء، فقط صمت ولا حق لها في الاعتراض على ما تبصره .
ولمَ الإعتراض من الأساس؟!
تحركت معه بهدوء شديد بعيدًا عن تلك المنطقة وهي تسير بصعوبة بين الحشائش التي كانت تملئ ذلك الجزء بشكل عشوائي، وهذا طبيعي فلا أحد يهتم بذلك هنا .
وبعقل امرأة قارنت بين وضعها المزري هذا ووضع نازين التي لم تكن مضطرة للسير بهذا الشكل المثير للشفقة لانه ببساطة يحملها و….
انتفضت انتفاضة غير محسوسة بسبب أفكارها تستغفر ربها وهي تحاول نفض كل ما يدور داخل عقلها، فقط يخرجها من هنا ولا تود أن تبصره مجددًا، نعم هذا ما تريده .
استمر سيرهم ساعة أو أكثر لم يشعر وقد تخدرت ذراعيه بسبب حمل المرأة على ظهره، وكل ثواني يتوقف لالتقاط أنفاسه، قبل أن يسمع صوتها يهتف :
_ إذن إلى أين سنذهب ؟!
نظر لها ثواني وهو شارد في ملامحها التي أبدع الخالق في رسمها وانعكس عليها ضوء القمر في تلك الليلة المظلمة، هز رأسه بهدوء يردد بصوت العقل الذي بدأ يعمل داخل رأسه.
_ أي مملكة، لكن أنا ارجح مشكى فهي الأقرب لنا من بين جميع الممالك ومن ثم آبى وابعدهم سفيد، إذن اعتقد أن مشكى هي الحل الامثل، ولا أظن أن الملك أرسلان قد يمانع على الإطلاق استضافتك سمو الأميرة .
وعلى عكس المتوقع لم ينبض قلبها نبضة خارج الايقاع حين سمعت اسمه الذي كانت تتلمسه سابقًا في جميع الأحاديث وكأنها تبحث عن أخباره بين الكلمات .
الآن تسمع اسمه واضحًا واحتمالية أن تحيا أسفل قصره لا تبهرها ولا تسعدها، بل كل ما كان يشغل فكرها في هذه اللحظة شيء واحد فقط عبرت عنه بكلمات مقتضبة دون أن تشعر :
_ وأنت ؟؟
رفع عيونه لها بصدمة من سؤالها الذي جعل قلبه يتراقص سعادة، هل تهتم بمصيره حقًا ؟؟ ابتسم بسمة صغيرة جعلتها تبتلع ريقها وهي تبعد عيونها عنه تحاول تبرير ما قالته كي لا تظهر بمظهر القلقة عليه أو المتلهفة لحياته :
_ أنا فقط …لا اريد أن…احمل ذنب تضررك بسبب مساعدتي أو ما شابه أنت تعلم ما اقصد، حتى أعدائي لا أقبل لهم الضرر بسببي.
نعم ها هي سمو الأميرة توبة تعود للساحة بعد غياب دقائق طويلة كادت تصيبه بالخوف عليها، تدعه يحلق في أعالي السماء، ثم وقبل أن يستوعب ما يحدث ترفع سهمها وتضربه مباشرة في جناحه مصيبة إياه بضربة قاتلة تسقطه ارضًا دون أن ينهض بعدها .
هز رأسه مبتسمًا :
_ آه نعم أعلم، ذات نخوة أنتِ.
_ إذن لم تخبرني، ما الذي ستفعله ؟! ستأتي معنا لمشكى ؟!
نظر لها ثواني، قبل أن تغيم عيونه يهز رأسه ببطء وهو يسمع صوت داخلي يهتف في رأسه بسخرية :
_ نعم أذهب لمشكى واشهد بنفسك معاناة شعبها بعد ما حدث لها بسببك .
لاحظت توبة شحوب وجهه ولم تفهم ما حدث له أو ربما ادعت عدم الفهم، تبعد عيونها عنه تبصر من بعيد عربة تلوح في الأفق، لتصمت وهي تتنهد بصوت منخفض .
_ هل تعتقدين أنه بعد كل ما يحدث، هل هناك من باب توبة قد يقبلني ويُفتح أمامي ؟؟
نظرت له ثواني وشعرت بحاجتها لتطمئنه رغم أنها هي نفسها من كانت تجلده بسياط لسانها طوال الوقت، لكن في هذا الوقت لم تستطع اخراج كلمة واحدة تلومه بها، رغم أنها هي وهو يعلمون جيدًا أن حتى وإن لم تتحدث فهذا لا ينفي ذنبه العالق برقبته .
_ هذه حقوق عباد، أعد الحقوق لأصحابها وربما حينها تُفتح لك جميع أبواب التوبة نزار وليس باب واحد .
ختمت حديثها تحث خطاها قبل وهو فقط توقف ينظر لها نظرة صغيرة يهتف بصوت خافت لا يبتغي أن يصل لها حتى :
_ لكنني من بين كل أبواب التوبة لا أبتغي غير بابك بابًا توبة …
زاد من سرعة أقدامه خلفها وهو يتمسك بنازين التي يبدو أن غيبوبتها ستطول، وصلوا صوب العربة يضع جسدها بهدوء في الصندوق الخلفي جوار توبة، وهو تحرك يجلس جوار السائق على المقعد الخارجي يتحدث بهدوء شديد وأعين غامضة :
_ إلى مشكى….
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حرك عيونه بين الجميع يبصر إنهيار فاطمة بين ذراعي ألطاف والجميع حوله يحاولون إطفاء الحريق، وهو عيونه فقط معلقة بها يسمعها تنادي والدتها بحرقة ورعب وقلق شديد .
تنفس نفسًا عميقًا يبعد عيونه صوب النيران، ثم قرر أن يقتحمها ويبحث داخل تلك الغرفة المحترقة، لربما نجت المرأة بنفسها في أحد الأركان رغم استحالة هذا الاحتمال، لكنه لم يكن ليكون قادرًا على النظر في عيون فاطمة إن لم يحاول حتى لأجلها.
ولم يكد يتحرك حتى سمع صرخة أحد الرجال الذين أمسكوا به بسرعة وكأنهم يخشون انتحاره داخل هذا الحريق .
_ إلى أين سيدي، لا يمكنك أن تلقي بنفسك بين النيران بهذه الطريقة، لن تخرج منها حيًا .
نظر لهم المعتصم يحاول جذب ذراعه من بين أيديهم بقوة حتى تحرر يهتف بقوة وهو ينطلق صوب المنزل :
_ دعوني سوف اذهب لأخرج والدتها، لربما تكون حية في الداخل تنتظر من يساعدها و…
وقبل إكمال جملته شعر بأقدامه تتجمد بالكامل وهو يسمع صوت الرجل يمسكه من يده يصرخ بعدم فهم والنيران بدأت تزداد وتهتاج على الجميع وكأنها تعلن تعاطفها مع تلك المسكينة التي تراقب المنزل بحسرة واعين دامعة ووجه صارخ بالوجع .
_ أي امرأة يا بني ؟؟ لا نساء بهذا المنزل، المنزل فارغ ..
نظر له المعتصم بعدم فهم يشير صوب المنزل وهو يهتف بصوت منخفض مشدوه وقد شحب وجهه دون معرفة السبب :
_ أم فاطمة بالداخل و…….
وكلمات كانت كسهم اخترق مسامع المعتصم :
_ لقد احترقت المرأة منذ شهور طويلة مع جميع أفراد العائلة ولم ينجو من الحريق سوى الفتاة .
شعر المعتصم في هذه اللحظة بقلبه يُعتصر وهو يحرك نظراته في المكان الذي بدأ يدور حوله وقد اوشك جسده على الانهيار من هول ما سمع منذ ثواني ولم يشعر سوى بجسد يلتقط جسده وصوت يعلمه تمام العلم يهتف بهلع :
_ المعتصم ما بك يا أخي ما بك ؟؟
لكن المعتصم كان فقط لا يبصر ولا يسمع سوى فاطمة التي كانت تبكي بين أحضان ألطاف تناجي والدتها، وصوتها وهي تخبره أن والدتها مريضة، والدتها أعدت لها الحلوى التي تحبها، والدتها تهتم بها، والدتها تضمها وقت النوم، والدتها قلقة عليها، والدتها ستحزن إن تأخرت.
والدتها …والدتها …والدتها …. وأين والدتها ؟!
أسفل ركام ورماد منزل لا يصلح حتى للعيش، كانت تحيا بين جدرانه وحدها ظنًا أنها تحيا بين أحضان والدتها، وحدها ؟؟
شعر المعتصم بجسده يرتخي بصدمة وقدمه لم تعد تحمله وهو يسقط ارضًا بقوة ليصرخ أرسلان برعب وهو يلتقطه بسرعة يضمه له بخوف :
_ لا إله إلا الله ، يا المعتصم ما بك، ماذا حدث لك ؟؟
رفع المعتصم عيونه صوب فاطمة يهتف بصوت مصدوم ودموعه تتجمع في عيونه دون أن يستطيع التماسك :
_ كانت كل ذلك الوقت …وحيدة في هذا المكان ؟! كانت وحيدة طوال الوقت ؟؟؟
لم يفهم أرسلان ما يحدث، يرفع عيونه يراقب جنوده والذين بدأوا يتداركون الوضع ويطفئون الحريق، يضم له المعتصم بخوف وهو يهتف له أن يتماسك دون أن يعلم حتى ما يحدث .
فجأة سمع صوت فاطمة جواره تبكي وهي تنادي والدتها ليهتف بصدمة ورعب :
_ والدتها ؟؟ والدتها بالداخل ؟!
نظر صوب الحراس بهلع وهو يصرخ :
_ هناك امرأة بالــ
_ لا .
توقفت كلمات أرسلان فجأة على صوت المعتصم الذي هتف بصوت منخفض ونبرة مذبوحة :
_ لا امرأة بالداخل لا احد هناك، لم يكن هناك أحد طوال الوقت عداها، كانت …كانت وحيدة طوال الوقت، كانت وحيدة طوال الوقت .
نظر له أرسلان ولم يفهم ما يحدث، ولم يدرك ما يدور حوله، لكن فجأة انتفض جسد المعتصم من بين يديه وهو يركض صوب فاطمة يهتف باسمها مرتعبًا يلتقط جسدها الذي انهار بين احضان ألطاف يضمها له بقوة ورعب لاغيًا كل تفكير عقلاني داخل رأسه، لا يهتم بالجميع يهتف برعب :
_ فاطمة، يا ويلي فاطمة، فاطمة .
وحينما لم تجب عليه، رفع عيونه مرتعبًا لأرسلان الذي لم يفهم ما يحدث، لكنه فقط قال بهدوء يحاول أن يساعد المعتصم :
_ خذها للقصر لنفحصها والجنود سيتولون الباقي هنا …
ومع هذه الكلمات انطلق يحملها صوب الحصان الخاص به، يضعها أمامه يمسكها بقوة، ثم تحرك بسرعة صوب القصر وارسلان يراقبه مبتعدًا، ثم عاد بنظراته صوب المنزل المحترق، يغمض عيونه بوجع يجلس أمامه وقد بدأ الجمع ينفض كلٌ لمنزله بعدم. طمئنهم هو على فاطمة وأنها الآن ستكون بأمان في قصره .
جلس هناك في أحد الأركان يراقب بقايا ديار محترق في وطن يعافر للنجاة، يراقب بأعين ضبابية وكأنه يرتجي نورًا لبلاد اشبعتها الحياة ظلامًا .
بدأ المكان يفرغ إلا منه وبعض الجنود الذي تأكدوا من أن كل شيء بخير يهتف زيان جواره :
_ يبدو أن ساكني المنزل نسوا إحدى المشاعل مشتعلة وهذا ما تسبب في الحريق .
هز أرسلان رأسه بهدوء ثم هتف بصوت خافت :
– اطمئن أن الجميع بخير، ومن ثم عودوا للقصر زيان .
_ وأنت مولاي ؟؟
رفع أرسلان عيونه صوب المكان حوله يبصر الدمار الذي يعم هذا الجزء مبتسمًا بحسرة :
_ دعني ارثي بلادي للحظات زيان .
_ مولاي لا ….
_ ارجوك زيان دعني وحدي الآن فقط .
نظر له زيان بتردد وشعر بالشفقة عليه، لكنه في النهاية احترم رغبته وتحرك مبتعدًا تاركًا أرسلان ينظر أمامه لما يحدث وهو يتنفس بشكل بطئ سرعان ما زاد وصوت والده يرن في أذنه تزامنًا مع صوت الصفعة التي تلقاها من كفه لتسقطه ارضًا يرتجف من الرعب ولم يكن قد أتم حتى التاسعة يتوسله الرحمة .
” ضعيف وستظل ضعيف، لا ترقى لأن تخلفني في عرشي أرسلان، اسميتك أرسلان وتمنيت لو أخذت من اسمك معناه، لكن أي أسد أنت وصفعة واحدة تسقطك ارضًا؟! تركت الفتى يهزمك ببساطة في المبارزة ؟!”
سقطت دمعة أرسلان يهتف بصوت مرتجف ضعيف :
” كان يفوقني طولــ”
” لا تبحث عن مبررات لضعفك وتختبأ خلفها، هذه حيلة الضعفاء، وابني ليس ضعيفًا سمعت ؟!”
هز رأسه بسرعة يمنع دموعه من الهبوط، ليشعر بجذبة والده التي كادت تخلع ذراعه وهو يجره معه صوب الساحة يردد بقوة وتجبر :
” ستقضي ليلتك تتدرب عقابًا لك، حتى تدرك في المستقبل ما ينتظرك إن فكرت يومًا بالخسارة، الحرب لا تناسب الضعفاء والعرش لا يلائم الجبناء، البلاد لن تليق بملك غبي ضعيف سمعت ”
ختم حديثه يلقي بجسده وسط الساحة الباردة يشعر باحتكاك الأرضية بجسده، ثم ألقى له السيف يهتف بقوة وتجبر :
” لن تتحرك من هنا حتى الصباح، احمل سيفك وانهض لتتدرب، لن أقبل بولي عهد ضعيف جبان مثلك أرسلان ….”
غامت عيون أرسلان وهو ينظر لبقايا الدخان الذي خلفه حريق منزل فاطمة بأعين غامضة ومشاعر قوية وكلمات والده تتردد في أذنه مرات ومرات ” الحرب لا تناسب الضعفاء والعرش لا يلائم الجبناء، البلاد لن تليق بملك غبي ضعيف ”
تنفس بصوت مرتفع وهو ينهض يراقب مشكى بأعين قد بدأت تتلون بنظرات متوحشة، ينظر صوب السماء يبتسم سوداء، ثم تحرك صوب حصانه يردد بنبرة ممازحة في ظاهرها ساخرة في باطنها :
_ ها أنت يا ابي كنت قويًا متجبرًا، وانظر أين أنت ؟؟ بماذا أفادك تجبرك وأنت بين يديّ الله، بما نفعك ظلمك وقد كنت تأوي تحت سقف قصرك ثعابين تنتظر سقوطك لتبث سمها بأوردتك، لكنك كنت محظوظ إذ قبض الله روحك قبل تكوين سمهم، فلم يجدوا أمامهم سواي، لكن والله لأخلعن ناب كل من يفكر في الاقتراب مني ومن بلادي، وهذا الفرق بيننا أبي العزيز، هذا أنت وهذا أنا، ولدك الضعيف…….
ختم حديثه يتحرك صوب حصانه، ثم حركه بسرعة كبيرة صوب قصره يتنفس بصوت مرتفع يحاول أن يبعد عنه ذكرياته القديمة، ذكريات ربما يراها البعض سوداء، لكنه شاكرًا لسوادها فلولاه ما أدرك أنه يمتلك جانبًا ابيضًا لن يسمح بأي سواد أن يمسه …..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ تريدين تناول شيء ؟!
رفعت توبة عيونها صوب نزار الذي كام يمد يده بشطيرة من الفتحة التي تطل على الصندوق الخلفي، ولا تعلم من أين أحضرها، يعطيها بسمة واسعة جعلت ملامحها تتشنج بضيق وهي تبعد عيونها عنه دون أن تمنحه ردًا منها، ليرفع هو حاجبه بغيظ يكمل تناول شطيرته دون اهتمام :
_ لا عليكِ بعد قليل نصل مشكى وحينها بدل شطيرة تتناولين وليمة تليق باميرة سبز الوحيدة وابنة الملك بارق الأميرة توبة .
كان يردد آخر جملة بصوت شبه ساخر يحرك شفتيه حركات مستفزة وكأنه يبتغي جذبها لساحة القتال معه وقد مل صمتها الخانق هذا، وكان له ما يريد ويبتغي، إذ اعتدلت في جلستها تنظر له من تلك الفتحة الصغيرة تبتسم بسمة لم تكن بالسعيدة أبدًا :
_ أنت لا تطيب اوقاتك سوى بسماع كلمات سامة مني ؟؟ احاول أن ابتعد عن طريقك كي لا اظهر في قصتك بمظهر الشريرة، لكنك مصر على الزج بي داخل حكايتك .
رفع حاجبه يبتسم بسمة غريبة :
_ نعم احاول أن أضيف بعض المصائب لحياتي المملة عسى أن تزيد من حماسها .
ختم كلماته وهو ينظر أمامه يتناول شطيرته بتلذذ، بينما هي نظرت له بشر تهمس من تحت أسنانها، ترسم بسمة واسعة تبعد عيونها عنه تحدق بالطريق الذي يركض أسفل عجلات العربة :
_ تصفني بالمصائب، يا رجل ألا تستحي ؟؟ يا ويلي من الرجال الوقحين .
استدار لها نزار والطعام محشور في فمه وقد منعه من الرد عليها بكلمات لاذعة، بينما هي، نظرت صوب الطريق تتجاهل حتى النظر إليه ولو على سبيل الفضول لمعرفة ردة فعله تحرك طرف حجابها بتكبر :
_ إنسان يحيا حياته فقط ليتسبب بمصائب لغيره، يأتي ويصفني أنا أميرة سبز واذكى نساء الممالك بالمصيبة، عجبًا لوقاحة البعض.
ابتسم لها نزار وهو يطيل النظر بها، بينما هي تدعي انشغالها بمراقبة الطريق تأبى النظر له ومواجهة عيونه التي تعلم يقينًا أنها تنظر لها الآن، بينما هو اتسعت بسمته يهتف بصوت منخفض :
_ العفو سمو الأميرة، ذلة لسان لا تؤاخذيني بها، أنتِ لستِ بمصيبة بأي شكل من الأشكال، بل المصيبة هي أنا.
_ نعم هذا ما قلته أنا، لم تأت بجديد أنت.
أطلق نزار ضحكة مرتفعة، ينظر أمامه للطريق يترك جملتها الأخيرة دون رد من طرفه، وما هي إلا دقائق قضوها بالصمت حتى بدأ صوت صفيره يعلو بلحن مميز، جعل أعين توبة تتسع بقوة وهي تنظر له من خلال الفتحة التي تجاور مقعده .
صوت الصفير هذا والذي كان مربيها قديمًا يطلقه طوال الوقت أثناء اللعب معها والذي كان يعود للنشودة قديمة ابتكرها المهاجرين قديمًا قبل تكوين الممالك تعبر عن الشوق للوطن.
نظرت للفتحة وهي تحدق بوجه نزار الذي شرد في السماء أمامه، ثم أخذ يحرك فمه بكلمات شبه مسموعة، نفسها الانشودة القديمة
بدأ صوت نزار يرتفع شيئًا فشيء لتبعد هي عيونها عنه ببطء شديد وهي تحدق أمامها تستند بذقنها على ركبتها تحدق بالطريق أسفل العجلات شاردة تتساءل متى يحين اللقاء مع احبتها ووطنها .
ويبدو أن صوت انشودة نزار لم تخترق مسامع توبة فقط، بل كذلك اخترقت مسامع تلك التي كانت غارقة في نومة طويلة تسبح بين ذكريات شبه محترقة، احضان رقيقة طفولية وقبلات تحط على وجنتيها بشفاة صغيرة ناعمة حنونة ..
يد محبة تلتف حول خصرها وصوت هامس يردد داخل أذنها:
“ذات الحسن والجمال، اشتقت لمحياكِ نازين .”
سقطت دمعة من عيونها وهي تشعر ببرودة مفاجئة تضرب جسدها، فلا تدري أبرودة الجو كانت، أم برودة قلبها الذي شعر بانسحاب الدفء عنه حين انسحبت اليد التي كانت تعانقها منذ ثواني ؟
ابتسمت بسمة صغيرة وهي تهمس بكلمات غير مسموعة، تتلوى جانبًا تضم جسدها لجدار العربة، ترفض فتح عيونها وكأنها تأمل بالمزيد من اللحظات المسروقة مع عزيز القلب وصغارها .
أما عن توبة فقد شعرت بالحنين يشتعل داخل قلبها، تكاد تشعر بيد والدها تداعب خصلاتها بحنان شديد وهو يهمس لها بكلماته المحبة :
“ لا بأس صغيرتي كل شيء بخير فقط توكلي على الله وأرمي اثقالك عليّ، اتحملها لأجلك ابنتي ”
ازدادت الدموع بعيون توبة لتدفن رأسها داخل أقدامها وهي تحاول كبت اصوات بكائها :
_ ما لي سوى الله حسبي ووكيلي يا أبي، فاللهم خفف اثقالي فلا قبل لي بتحمل المزيد من الاوجاع .
كل ذلك كان تحت عيون نزار الذي كان يراقبها بجانب عيونه وهو يكمل انشودته وكأنها كانت سوطًا يجلد بها نفسه ويجلدهم معهم بذكرياتهم، كلٌ كان يمتلك وجعه وذكرياته التي احترقت وتحولت رماد، رماد إذا ما اقتربت منه نسمة هواء تطاير ليعمي الأعين…..
استمرت الرحلة ساعات حتى بدأ الليل يتجلي وبوادر شروق الشمس تعل عليهم تحمل معها امل في يوم جديد للجميع، وصوت الطيور حولهم بدأ يرتفع ليسمع الجميع صوت السائق والذي كان صامتًا طوال الرحلة يعلن بهدوء :
_ نحن الآن على حدود مشكى سنتعرض لتفتيش من رجال الحدود ومن ثم نعبر للمملكة .
رفعت توبة رأسها بسرعة بصدمة من تلك الكلمات تنظر صوب نزار بريبة من اكتشافه وتعرضه للأذية، ليرفع الاخير لثام يغطي نصف وجهه يهمس بصوت منخفض :
_ لا تقلقي لا يعلم الجميع ملامحي، فلستِ مشهورًا لهذه الدرجة .
أبعدت عيونها عنه تردد بعناد ورفض لكلماته التي أصابتها بالضيق من حيث لا تدري :
_ ومن أخبرك من الأساس أنني اقلق ؟؟ لا يهمني ما يصيبك
رفع حاجبه بسخرية يبصر أحد رجال الحدود يقتربون منهم وصوت الرجل يصدح بنبرة قوية :
– من أنتم ومن أي مملكة أتيتم ؟؟
نظر له السائق ولم يكد يتحدث حتى سمع صوت هادئ يصدر من جهة نزار يردد بجدية :
_ جئنا من سبز نطلب لقاء ملك مشكى لأجل أمر هام .
نظر له الرجل بعدم فهم ليهتف نزار دون مقدمات بكلمات أصابت توبة بالصدمة إذ ظنت أنه سيدخل المملكة ويتخفة عن أعين الجميع قدر الإمكان لا أن يبحث بنفسه عن الملك :
_ أخبره أن أميرة سبز تطلب لجوئًا في مملكته ……
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يجلس ارضًا لا يستطيع تحرك قدمه أو حتى رفع إصبعًا وكل ذرة منه عاجزة عن فهم ما يحدث حوله، حرك عيونه في المكان وقد كان الظلام ما يزال يغشى الأفق، فجأة ثبت عيونه على جسد فاطمة المتسطح على نفس الفراش تغرق بين طيات غطائها متخذة من الظلام غطاءً اضافيًا لها، غادرت المشفى منذ ساعات وعادت لها، لكن هذه المرة عادت لها محطمة أكثر من المرة السابقة، وليس هي فقط بل كذلك المعتصم الذي كان ما يزال يجلس أمامها يحدق بها بأعين متسعة مصدومة ممتلئة بالدموع التي تأبى النزول، لم يبكي يومًا من بعد وفاة والده، والآن جاءت فاطمة لتبكيه مجددًا، بعدما عاهد نفسه ألا يفعل .
نظر لها ثواني قبل أن تسقط دموعه واخيرًا تعلن انتصارًا ساحقًا على إرادته، وهو فقط يجلس أمام الفراش يراقبها جالسًا ارضًا وقد بدأت اصوات شهقاته تعلو دون شعور منه وكل ما مرت به يعود أمام عيونه لا يتخيل ما قد عاشته .
دفن وجهه بين يديه يحاول أن يتوقف عن البكاء ولم يشعر سوى بشخص يجذبه لأحضانه صوب الخارج يربت عليه بحنان وقوة :
_ لا افجع الله لك قلبًا يا المعتصم، ما الذي حدث لك ؟! لِمَ البكاء ؟؟ هل فاطمة بخير ؟؟
تحدث المعتصم بين أحضان أرسلان بصوت متقطع وكأنه لم يصدق أن أحزانه وجدت ملجئًا لها :
_ ليست …ليست بخير البتة، هي ليست بخير مولاي .
لم يفهم أرسلان ما يحدث، إلا أنه ربت على كتف المعتصم يجذبه للخارج بهدوء شديد، ثم تحرك به بعيدًا عن الجميع والاخير ما تزال روحه تجاور الصغيرة في نومها .
_ ما بك يا أخي؟؟ ما الذي حدث في ذلك الحريق هل تأذت فاطمة به ؟!
رفع المعتصم عيونه لأرسلان يهمس بصوت منخفض ونبرة مذبوحة :
_ كانت وحيدة …
لم يفهم أرسلان ما يقصد، يميل قليلًا عليه هامسًا بترقب، وقد شعر أن تلك النبرة الجريحة التي تصاحب كلمات المعتصم تخفي خلفها تلال من الصدمات والمصائب، نطق وهو يشعر أن ما حدث متعلق بحقيقة ما تسبب سابقًا بأنهيار سلمى، إذ يبدو أن كل من يقترب من دائرة فاطمة تبتلعه دائرة حزن ..
_ ما الذي تقصده بكانت وحيدة ؟؟ وضح لي ماحدث يا المعتصم رجاءً ؟!
نظر له المعتصم ثواني وهو يهمس بصوت خافت خرج منه بصعوبة :
_ عائلة فاطمة، هي …أخبرتني أنها تعيش مع والدتها ووالدها وشقيقها، ورغم ذلك لم تكن تذكر أي شيء عن والدها وشقيقها سوى أنهما ذهبا للصلاة، وفي إحدى المرات كانت تهزي بذكريات قديمة ذكرت خلالها أنهما احترقا .
هز أرسلان رأسه ببطء شديد وقد كان على علم بتلك النقطة التي ذكرها له المعتصم سابقًا حين طلب مساعدة سلمى، إلا أن ما اضافه المعتصم في هذه اللحظة جعل أعينه تتسع بصدمة كبيرة وهو يردد وقد بدأ صوته يرتجف :
_ كانت فقط تخبرني عن يومها مع والدتها وأنها تبيت بين أحضانها كل يوم وتعد لها الطعام وتعتني بها، و….
فجأة توقف يهتف من بين دموعها وهو ينظر في عيون أرسلان ملقيًا بما يحمل داخل صدره :
_ هي ….هي ميتة، والدتها ماتت بنفس الحريق الذي راح به والدها وشقيقها، كل ذلك الوقت كانت وحيدة في منزل أشبه بالقبور تبيت وتستيقظ وتحيا وحدها ظنًا أن والدتها تحيا معها، لقد كانت وحيدة طوال الوقت مولاي، كانت تسأنس بوهم صنعه لها عقلها عن والدتها .
ختم حديثه ينهار جوار أرسلان وقد تشقق صدره قهرًا على تلك الفكرة، فكرة أن يحيا انسان شهور طويلة في وهم الونس، بينما الوحدة تحلق فوق رأسه.
كل ذلك وارسلان يتابع ما يقص عليه المعتصم بوجه شاحب، أي وجع كُتب على شعبه ؟!
تنفس بصوت مرتفع وهو يصمت ولم يجد ما يتحدث به سوى أن ردد بصوت منخفض وهو يمسح وجهه :
_ إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون …….
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واخيرًا تجلى الليل ورحل الظلام عن السماء مفسحًا المجال لشمس النهار بمنح اشراقتها لكل ما يحيطها، تستقر باشعتها على وجه تلك النائمة التي مر عليها الليل دون أن تشعر بشيء، تجلس على الفراش وهي تنظر حولها تحاول تذكر ما حدث معها .
دارت عيونها في المكان مرة أخرى لتتثبت أخيرًا على موزي الذي كان ينام بارهاق وكأن صراخ الأمس اتعبه حتى خلد للنوم بعدما يأس من حضور أحدهم للمساعدة أو استيقاظ سلمى لمساعدة نفسها.
أخذ الأمر منها ثواني أو دقائق لا تدري، فالصداع الذي أصاب رأسها والغثيان الذي أصابها منذ الصباح جعلها لا تدرك ما حولها حتى ضرب الاستيعاب عقلها وتذكرت ما حدث البارحة .
نهضت بسرعة بصدمة عن الفراش تتفقد نفسها لتجد أنها ما تزال ترتدي إسدال الامس لكن بلا حجاب وهناك جزء سقط عن كتفها وحالتها كانت غريبة، تحركت بسرعة في المكان وكأنها تبحث عن شيء يثبت لها أن ذلك لم يكن أضغاث احلام.
حتى يأست وهي تشعر بالصداع يزداد خصوصًا حين ارتفعت الطرقات على باب الغرفة لتصرخ دون وعي بصوت ناقم:
_ من ؟!
صمت جاءها من الجهة الأخرى، صمت شبه طويل حتى ظنت أن صرختها أخافت من بالخارج، ولم تكد تتحرك صوب المرحاض لتتوضأ، حتى سمعت صوتًا يأتيها من الخارج :
_ هذا أنا أرسلان…
توقفت أقدامها وهي تنظر صوب الباب ثواني، ثم رفعت يدها تتحس خصلاتها بهدوء، تمسك غطاء الرأس تخفي خلفه شعرها، ثم ابتلعت ريقها تتحرك صوب الباب بتؤدة :
_ حــ….حسنًا ثواني فقط رجاءً.
هرولت صوب المرحاض تغسل وجهها بسرعة تبعد عنها آثار النعاس، ثم فتحت عيونها بقوة تحاول أن تجبر نفسها على الاستيقاظ، ثم خرجت بسرعة تمسك أول شيء قابلها تجفف به وجهها، ومن ثم تحركت صوب الباب تفتح بسرعة وهي تتنفس بصوت مرتفع تتحدث ببسمة حاولت رسمها بصعوبة رغم كل الآلام التي تطرق رأسها في هذه اللحظة .
_ صباح الخير .
رفع أرسلان عيونه لها ببطء ليشرد بها ثواني معدودة، ثم ابتسم بسمة صغيرة لم يكن يحضر لها، في الحقيقة هو لم يكن يحضر للمجئ إليها منذ الصباح بهذا الشكل، وبالنظر سريعًا لكل ما مر به معها، هو لم يحضر يوم لفعل شيء أمامها، بل كل شيء يخرج منه معها كان وليد اللحظة .
هذه المرأة كانت الشيء الوحيد في حياته الذي عجز عن دراسته، الشيء الوحيد الذي كان يخوضه عن جهل، هي وحملات التطهير التي كان يشنها على المنبوذين قديمًا، كانا الشيء الوحيد الذي لم يفكر به بتمهل وتركيز.
_ صباح الخير .
صمت ثواني وكأنه يفكر في كلمات يبرر بها وجوده منذ الصباح هنا، لديه الكثير يتحدث به معها، لكن في لحظات تناسى كل ذلك، وشعر لأول مرة في حياته برغبة عميقة في الهرب من شيء وهذا الشعور كان أكثر شعور مقيت مر عليه، ولأجل هذا انقلبت ملامحه وهو يقول بوجه حامد بعض الشيء يبعد عيونه عنها :
_ لقد حدث الكثير البارحة احتاج للتحدث به معك، لكن قبل كل ذلك جئت اطلب منكِ البقاء جوار فاطــ……
صمت فجأة حين أبصر ملامح وجهها المنكمشة وشحوب بشرتها المريب، رفع حاجبه بعدم فهم :
_ هل أنتِ مريضة أو ما شابه ؟؟
أما عنها ففجأة شعرت برغبة مفاجئة بالتقيء لتركض بسرعة بعيدًا عنه صوب المرحاض الخاص بها، تحت عيونه المفزوعة، يقف على باب غرفتها لا هو يستطيع اقتحام غرفتها ومعرفة ما يحدث معها، أو حتى الرحيل وتجاهل ما حدث .
ابتلع ريقه ينادي بصوت قلق دون إرادة منه :
_ آنستي ما بكِ ؟!
وصله صوت توجع من المرحاض وصوت أنفاسها التي بدأت تعلو بشكل غريب ليقبض على الباب بخوف يهتف :
_ سلمـــى ؟؟ أنتِ بخير ؟؟
ولم يصل له صوت من الداخل ليشتعل رعبه وهو ينظر حوله يبحث عمن يساعده من بين النساء هنا، فجأة ظهرت امرأة له من العدم تتحرك أمام عيونه وهي تحمل صينية مليئة بالطعام وكوب من الحليب لسلمى .
نظر لها بلهفة يردد بصوت مرتعب :
_ إذا سمحتي هل يمكنك الدخول والاطمئنان إذا ما كانت سلمى بخير !؟
نظرت له الفتاة بعدم فهم ليهتف وهو ينظر لغرفتها وكأنه ينتظر أن تطل عليه بخير :
_ فقط ساعديها رجاءً يبدو أنها تعاني من وعكة صحية منذ الصباح، اذهبي واطمئني إن كانت بخير، لقد دخلت المرحاض منذ دقائق ولم تخرج بعد .
نظرت له الفتاة ثواني وكأنها تحاول إدراك ما يقوله، ثم وحين استوعبت حديثه تحركت بسرعة داخل الغرفة تترك الطعام على أول طاولة قابلتها وهي تتحرك في الغرفة صوب المرحاض تردد بصوت شبه مسموع :
_ جلالة الملكة، أنتِ بخير ؟!
وحين لم يصدر صوت من المرحاض اقتربت منه بخطوات بطيئة تطرق الباب قبل أن تدفعه ببطء تردد بصوت خافت :
_ مولاتي، هل أنتِ بخير ؟؟
وفجأة اتسعت عيونها تتراجع للخلف مرتعبة قبل أن تطلق صرخة عالية وهي تهتف برعب من مشهد سقوط سلمى على أرضية المرحاض شاحبة الوجه تحاكي الموتى، لتكون صرختها هي القشة التي قسمت ظهر البعير وقد حركت أرسلان عن عتبات غرفتها يحطم كل الأعراف والتقاليد أسفل أقدام لهفته وقلقه وهو يدخل كالقذيقة مرتعبًا يسمع صوت الخادمة تردد :
_ يا ويلي، مولاتــــــــــي ……
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ أشعر أنك أخطأت بتحالفك مع ذلك الحقير أنمار سيدي، أنت تحط من شأنك بهذا الشكل بالتعاون مع ضعيف مثل ذلك الرجل .
تحركت عيون أصلان بهدوء حتى ثبتها على أحد رجاله ينظر له ثواني دون رد حتى شعر الرجل أنه لا يبصره من الأساس، لكن لحظات حتى سمع صوت أصلان يردد بهدوء وهو يحمل خنجره يحركه بين أصابعه :
_ أحيانًا تحتاج لمصاحبة الكلاب حتى تمهد لك طريق السير وحينما تصل لمحطتك يمكنك التخلص منها بطعنة أو ربما بعض السم سيكون كافيًا .
نظر له الرجل بصدمة من كلماته ليبتسم له أصلان، يشرد أمامه يفكر في القادم ويضع خطته، هو لن يرتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه الكثير من قبله وكان مصيرهم خسارة شنعاء أمام الممالك ومن بها .
_ أنت…هل يمكنني سؤالك شيء يثير فضولي ؟؟
رفع أصلان عيونه صوب الرجل ليتحدث الاخير مبتلعًا ريقه :
_ ما سبب انقلابك بهذا الشكل على المملكة بعدما كنت أكثر الرجال اخلاصًا للملك .
أبعد عنه أصلان عيونه ولم يتحدث بكلمة إلا بعد صمت ثواني، حين قال بضيق وهو يشير له صوب الباب :
_ دعني وحدي .
رمش الرجل لا يستوعب هذا الرد، لكن أصلان فقط تجاهله حتى خرج الاخير واخيرًا من المكان تاركًا أصلان يسرح في أفكاره وهو يبصر شيطانه يحتفل أمام عيونه بذلك الانتصار الذي حققه عليه ليبتسم بسمة صغيرة يتحدث وكأنه يوجه كلماته ثوب شياطينه :
– لا تفرح بهذا الشكل، فأنا لن اكون عونًا لك في آثامك، أنا فقط آخذ حقي من بين فك الحقير أنمار، حقي بسبز وحكمها، لكنني لم أساهم في خططه القذرة، فقط آخذ حقي ببلادي وحينها لا حاجة لي به وبمن معه، أما عن الملك بارق وباقي الملوك، فلا يعنيني ما يحدث لهم، لا فائدة لي بموتهم أو حياتهم، فقط أصل لما أريده ولا حاجة لي بأحد.
وبهذا أقنع أصلان نفسه أنه لم يبع روحه للآثام ولم يقع ضحية للشيطان، هو ما كان له أن يؤذي أحدهم هو فقط استغل فرصة إزاحة الجميع من طريقه ولم يتبق سوى الحقير أنمار فتعاهد معه حتى يصل لما يريد، العرش الذي ما كان له أن يبصره حتى بعد موت بارق……
هو كان من الذكاء الذي يجعله يضمن جانب الشعب حين دافع عنهم هو وبعض الرجال الصالحين والذين حتى هذه اللحظة لا يعلمون ما يفعل هو أو يعلمون حتى بالمعاهدة التي أبرمها مع أنمار، وفي نفس اللحظة يضمن جانب أنمار وشروره، كان يفكر بعقله بعيدًا عن أي مشاعر أو عواطف، يأمل أن يصل في النهاية لما يريد دون أن تُلوث يده بشيء .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما سعيت لتحقيقه سنوات طوال في حياتك، بل وحلمت به سنوات طويلة، هل يُعقل أن تمر بلحظة يُضحكك تذكره ؟!
هذه الممرات التي تؤدي لقاعة عرش مشكى، هؤلاء الجنود الذين يبعدون عيونهم عن طريقها متلاشين النظر فيها ولو من باب الفضول كما قضت القوانين في كامل الممالك، كل ذلك كان يومًا ما حلمها، أن تسير بهذه الممرات بين جنوده تتأبط يد والدها ليسلمها له كي يعلنها هو زوجة له وملكة لمشكى .
لكن لا والدها هنا ولا الحلم تحقق، ولا هي عادت ترغب بذلك الحلم حتى وأصبح مجرد صورة باهتة.
ربما لم تمحو اسم أرسلان بالكامل من قلبها، فكيف لحب سنوات الطفولة والمراهقة والشباب أن ينمحي بسهولة في اسابيع، لكن الشغف به وبما يخصه خفت شيئًا فشيء .
تحركت عيونها ببطء صوب نازين التي كانت تتحرك في الممرات بملامح جامدة ترتدي ثوب ساتر أحضره لها نزار من حيث لا تدري، وعلى ذكر نزار انقبض قلبها وهي تتذكر رحيله ببطء شديد حينما تأكد أن الحراس استلموها منه، وادعى أنه مرافق للسائق ورحل ببساطة تاركًا إياها هنا.
ولولا نضج غبي تدعيه وعدم إمكانية فعل ما تفكر به، لتمسكت به باكية تترجاه ألا يتركها هنا وحدها .
ما تزال تتذكر نظراته لها وهو يمنحها بسمة واسعة يميل نصف ميلة، ثم استقام ينظر لعيونها نظرة غريبة هامسًا :
_ لنا لقاء آخر عما قريب سمو الأميرة اعتني بنفسك، ولا تتسببي في مشاكل لنفسك بسبب لسانك.
صمت ثم نظر لها بعيدًا يبتسم بسمة سحرتها وللعجب ومن ثم نظر لها مرة أخرى:
_ حين تفتعلين المصائب ستجدينني أمامك اساعدك للخروج منها قبل أن تلقينني بكلماتك السامة .
ختم حديثه يمنحها غمزة صغيرة وبسمة حنونة، ثم همس لها بصوت وصل لها وهي تتحرك مع الجنود :
_ أتمنى أن أكون قد وفيت بنصف عهدي الاول، والنصف الثاني سيكون هديتك الأخيرة من نزار العاصي قبل رحيله الابدي سمو الأميرة .
ومن بعد هذه الكلمات تلاشى وجوده في المكان تاركًا إياها تنظر في أثره بصدمة كبيرة ورعب جلي، ماذا قصد برحيله الأبدي ؟!
أفاقت من شرودها حين وصلت للمبنى بقاعة العرش، ولم تكد تخطوه مع نازين التي التزمت الصمت منذ أفاقت بشكل مريب، حتى أبصرت بعيونها مشهد لم تتوقع أن تبصره يومًا في حياتها كلها .
أرسلان يحمل امرأة بين أحضانه شاحبة الوجه وهو يهرول بشكل مرعب وعيونه خائفة وكأنه يحمل حياته بين كفوفه، اتسعت عيونها تراقبه وهو يهمس بكلمات للمرأة، كلمات لم تصل لها .
راقبته حتى اختفى جسده في مبنى مجاور لمبنى القاعة وهي تلاحقه بعيونه مصدومة مما ترى، واتضح في النهاية أن هناك ما يمكن ارعاب أرسلان.
تحدثت وهي تنظر للطريق الذي سلكه أرسلان تهمس بصوت منخفض للحارس الذي يقودهم صوب القاعة مخفضًا رأسه ارضًا بهدوء واحترام :
_ من هذه المرأة مع الملك ؟؟
رفع الحارس رأسه ببطء قبل أن يخفضه مجددًا بسرعة كبيرة وهو يهتف بشيء عجاب لا تدري أهي الفترة التي غابتها، أم أن كل ذلك حصل قبلًا دون أن تدري.
_ هذه جلالة الملكة، زوجة الملك المستقبلية .
ابتسمت توبة بصدمة كبيرة ولم تشعر سوى بنفسها وهي تهز رأسها بهدوء تتحرك صوب القاعة دون كلمة واحدة وما يزال قلبها يعلن حدادًا في الداخل، تكره نفسها وتكره كل ذرة بها أحبت الرجل سابقًا، تستغفر الله وتستعيذ أن تخون دينها لأجل رجل دق له قلبها سابقًا، تدعو أن يوفقه الله في حياته وينزع بقايا عشق بائس من صدرها .
اصبحت لا تعلم ما تريده ولا تدري ما يريحها، لكن كل ما تدركه في هذه اللحظة أنها ومنذ هذه اللحظة تفتقد وجود شخص آخر لم تعتقد يومًا أن وجوده كان يعني لها الكثير .
_ تصحبك السلامة نزار ……
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ كيف حالك اليوم ؟؟ عسى أن تكون بخير .
ابتسم الشاب له وهو يتحدث بهدوء يراقب شقيقته التي تجلس جواره تراقب ما يحدث بوجه عابس كعادتها وقد غاب والدهم في هذه اللحظة :
_ افضل بكثير سيدي، اشكرك لمعروفك لا ادري ما كان سيحدث لي لو لم تساعدني .
ربت زيان على كتفه بهدوء مبتسمًا :
_ كله بفضل الله ثم جلالة الملك الذي أمر بالمرور على منازل الجميع للتأكد أن الجميع بخير وأنهم يتلقون الرعاية اللازمة، جلالة الملك يفعل ما بوسعه لمساعدة الجميع، عسى أن يقدر الجميع صنيعه .
ختم كلماته وهو ينظر صوبها تحديدًا وكأنه يقصدها هي بكلماته الأخيرة لتحتد ملامح دلارا وهي تنظر له بشر وتحذير أن يتحداها، لتنطلق ضحكة صغيرة من فم زيان وهو يبعد عيونه عن تلك المجنونة ينظر صوب شقيقها .
ثم ردد كلماته الأخيرة في الغرفة:
_ إن شاء الله هي ايام ويمكنك العودة للمنزل إن أردت.
_ بالطبع سيود العودة للمنزل افضل من البقاء هنا في هذا المكان .
ولم تكن تلك كلمات الشاب، بل كانت كلمات الساحرة الشريرة كما أسماها زيان في عقله حين ابصرها للمرة الأولى .
رفع عيونه لها يزفر بضيق هامسًا بصوت وصل لشقيقها:
_ يا الله كيف تتحملها يا بني ؟؟ حمدًا لله أنك ما تزال بقولك العقلية، فلا ينقصنا أن تصاب بأمراض نفسية إلى جانب امراضك الجسدية .
ضحك الشاب ضحكة مرتفعة جعلت أعين دلارا تضيق بريبة :
_ ما الذي قاله لك هذا الرجل ؟؟ يتحدث عني صحيح ؟!
رفع لها زيان عيونه يردد بصوت شبه ساخر :
_ الحياة لا تدور حولك سيدتي، والآن اعذروني عليّ الرحيل لإكمال عملي .
_ سيكون هذا افضل .
تنفس زيان بصوت مرتفع يزفر بضيق شديد وهو يرحل عن الغرفة، يتحرك صوب المبنى الفرعي للمشفى والذي كان مخصصًا للنساء بعيدًا عن غرف الرجال، يتوقف أمام غرفة فاطمة حيث يعسكر المعتصم رافضًا التحرك .
_ صباح الخير عزيزي، كيف حالك وحال صغيرتك .
ورغم حالة المعتصم التي كان يُرثى لها، إلا أنه ابتسم دون شعور حين نسب زيان فاطمة له، وقد أشعرته تلك الكلمة بسعادة كبيرة، يردد دون وعي :
_ صغيرتي ؟؟
بينما زيان يراقب ملامحه لا يدري في الحقيقة سبب ما يحدث فجأة اختفت الفتاة ليلًا ليعتقد أنها رحلت، ليعود لاحقًا يراها وقد عادت مجددًا للمشفى، لكن بحال اسوء والمعتصم كان أشبه بفاقدي الروح يجلس دون ردة فعل وبوجه شاحب .
_ أنت بخير يا المعتصم ؟! حالتك هذه تقلقني، تعال لافحصك يا رجل .
رفع المعتصم عيونه له يهمس بصوت منخفض وبسمة صغيرة :
_ لا تقلق أنا بخير .
عادت عيونه صوب الباب الذي تقبع خلفه فاطمة مستكينة لاغماءة غادرة إصابتها البارحة :
_ أنا بخير زيان، فقط …فقط اطمئن على فاطمة وسأكون بخير أكثر، لا تقلق أنا بخير …بخير إن شاء الله .
فجأة اقتحم أرسلان مشفى النساء وهو يحملها بين ذراعيه فاقدة للحياة مرتعبًا يهمس بصوت مرتعب :
_ زيان استدعي الطبيبة لتساعدها رجاءً .
ختم حديثه يتحرك صوب اول غرفة فارغة ابصرها، ليتعجب المعتصم وزيان ما يحدث، ولا أحد منهما يفهم ما يجري في المكان، حتى انتفض جسد زيان فجأة يتحرك صوب عيادة الطبيبة يطرق الباب وهو يهتف :
_ سيدتي الطبيبة هناك امرأة تحتاج مساعدتك هنا .
ختم حديثه ينحني بعيدًا عن الباب يتيح لها المرور دون أي شيء قد يعيق حركتها، وحينما أبصرها تخرج أشار لها على الغرفة التي تقبع بها سلمى والتي خرج منها أرسلان بمجرد أن وضعها على الفراش يتوقف جوار الباب بوجه يضاهي شحوب سلمى نفسها .
أبصر الطبيبة تقترب من المكان ليشير لها صوب الباب يهتف بتماسك لا يعلم من أين له به :
_ رجاءً ساعديها لا أعلم ما حدث كانت تتحدث معي بشكل طبيعي قبل أن تشحب بشرتها وتبدأ بالتقيأ بشكل غريب ثم بعدها سقطت دون حركة واحدة .
سمعت الطبيبة ما قال أرسلان لتتحرك سريعًا للغرفة تغلق الباب خلفها تاركة الاخير في الخارج يشعر بالرعب ليعترف لنفسه وفي لحظة خوف عليها أن المرأة في الداخل تعني له أكثر من مجرد وصية، هذه المرأة تعني له أكثر مما يتخيل .
أبصر المعتصم والذي انضم لهم منذ ثواني نظرات أرسلان لباب الغرفة والتي كانت أشبه بنظراته لباب غرفة فاطمة ليبتسم بسمة صغيرة وهو يتساءل بصوت فاقد لكل معاني الحياة وكأن روحه تركها هناك جوار فاطمة .
_ لا تقلق مولاي ستكون ابنة رائف بخير ربما لم تعتد بعد اجواء مشكى .
نظر له زيان دون فهم من تلك النبرة التي خرجت منه والتي لم يفهمها أرسلان لعدم انتباهه لما يحدث من الأساس، بينما المعتصم اكمل بقصد وهو ينظر لأرسلان :
_ أنت تعلم زيان أن الملك يحفظ جميل السيد رائف رحمة الله عليه، لذا يهتم لابنته تنفيذًا لوصية مرشد العالم الآخر، حفظًا لجميله فقط .
تحركت عيون أرسلان ببطء ليثبتها على وجه المعتصم بغضب ليبتسم الاخير بسمة صغيرة وكأنه يخبره أنه امسك به، وفجأة اخترق سؤال مجهول المصدر للأجواء بينهم :
_ ابنة رائف ؟؟ مرشد العالم الآخر ؟! أي رائف تقصد أنت ؟؟ أخي ؟؟؟؟؟؟
استدار الجميع بتعجب صوب ذلك الصوت ولم يكد أحدهم يتحدث بكلمة حتى فُتح الباب وخرجت من الطبيبة بملامح لا تفسر، ليتجاهل أرسلان ما يحدث وما يقال يتحرك صوب الطبيبة باهتمام :
_ كيف هي ؟؟ هل هي بخير ؟؟
رفعت الطبيبة عيونها لأرسلان ببطء وهي تهز رأسها بنعم، تتحدث بكلمات مقتضبة دست الرعب بكل مهارة داخل صدر أرسلان والذي أوقفها قبل التحرك خطوة واحدة يقف أمامها قاطعًا أي فكرة رحيل عن رأسها:
_ ما الذي حدث لها ؟؟ ما سبب تلك الأعراض التي أصابتها .
رفضت الطبيبة التحدث بكلمة وهي تبعد عيونها عن أرسلان تجيب بصوت خافت :
_ مجرد إرهاق و…
_ مجرد إرهاق ؟؟ وهل مجرد إرهاق هو ما يجعلك تخفين عيونك خوفًا من التحدث ؟؟
رفعت عيونها له لتبصر جحيمًا في نظراته وهو يهمس بصوت منخفض لم يصل لمن خلفه :
_ ما الذي حدث للمرأة التي تقبع خلفك في الغرفة ؟! هل تحاولين التغطية على من تسبب لها بالاذى ؟! هل هناك من اتفق معكِ على الأمر حضرة الطبيبة !!
اتسعت أعين الطبيبة بصدمة لتلك التهمة البشعة التي ألقاها أرسلان في وجهها، ولم تدري أنه قال ما قال فقط ليستفزها لقول الحقيقة التي تأبى الحديث بها .
راقب هو صدمتها لتتسع بسمة مرعبة يهمس لها وقد غطى جسده الضخم جسدها الصغير عن أعين الجميع في الخلف ومنهم ذلك الرجل الذي كان ما يزال يتجرع صدمة موت شقيقه ووجود ابنته في المملكة دون علمه ولم يكن ذلك الرجل سوى نفسه انورين والد دلارا والذي كان قد جاء ليستدعي زيان كي يعطي ولده جرعة الاعشاب المخدرة بعدما بدأ يتألم مجددًا ..
كل ذلك لم يكن يعني أرسلان بشيء سوى الاطمئنان على ر
تلك التي تقبع بالداخل :
_ ما الذي تخفينه عني أيتها الطبيبة ؟!
_ أنا لست …لست متأكدة من شيء لا يمكنني الجزم بما استنتجه من مجرد فحص مبدأي، ربما أخطأت و….
_ ما الذي تخفينه ؟؟
كان مصر بشكل جعلها تبعد عيونها عنه وهي تهمس بصوت منخفض لم يصل سوى له :
_ لا ادري، لكن التشخيص الظاهري يخبرني أنها…حامل .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هي كلمة قد تغير حاضر وتقلب مستقبلك ….
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أسد مشكى)