رواية أرض الوعثاء الفصل السابع 7 بقلم بسمة هلوان
رواية أرض الوعثاء الجزء السابع
رواية أرض الوعثاء البارت السابع

رواية أرض الوعثاء الحلقة السابعة
(7): ماذا فعلت؟؟
______________________
_______________________________
أبكي على نفسِي
وعلى ما فعلته الدنيا بِي وبقلبي
فلا أنا أنا ولا قلبِي قلبي
كأنّي تجردتُ منّي تمامًا
وأصبحت إنسانًا لا أعرفه.
_______________________________
الضوضاء التي كانت تضجّ بها الغرفة كفيلةٌ أن تقتل فيها شيئا وقد جعلتها لا تكاد تستوعب ما هي به، هي الآن ترتدي ملابس الخدم الأعلى المختصين بجناح الملك، وجالسةٌ في غرفة مليئة بالخادمات النساء اللواتي يثرثرن دون توقف، وكأنهن يختصرن كل العالم في كلماتهنّ اللاتي تتفوهن بها.
وصلت إلى مسامع «كافور» كلماتٌ خافتة من مجموعة على بُعد أمتار منها، كنّ يتحدثن عنها وعن موئلها الذي صارت إليه، كلماتٌ جعلتها تكاد تدمع دمًا وهنّ يتهامسن شماتةً فيها لا شفقة عليها، أي رحمةٍ تلك وأي تكريم يجعلها تخدم عدوًا لها؟
_أقسم أنني لن أفعل ذلك سوى لقتلك يا كبير الجانين.
نبست بتلك الكلمات بخفة كي لا يسمعها أحد وهي حاقدةٌ من كل قلبها على الملك «راجس» الذي يواري تحت طيات هدوئه خبثا لا يضاهيه مكر الشيطان!
انتبهت لأصوات الضوضاء التي صمتت فجأة ووقفت الفتيات العاملات في صفين وانحنوا بهدف الاحترام، وصاحب هذا الصمت دخول كبير الخدم الذي كان رجلًا في الخمسين من عمره بالتقريب.
لم تُعر أمره اهتمامًا وهي جالسةٌ مكانها وراء صفّ الفتيات غير آبهة بدخلته التي وقّرها الجميع، وكأنه ملكٌ أو أميرٌ!
كانت نظراتها الساخرة تعتلي وجهها وقد بردت دماؤها تماما بعد سحب والدها للسجن المشدد أمام عينيها، ستفعل أي شيء كي تحميه وتخرجه من بين براثن هؤلاء الحقراء المجانين.
لاحظها كبير الخدم ليشير عليها بيده فتحرّكت مساعدته بحدةٍ لتُقيم «كافور» من مكانها وهي تقسو عليها بنبرتها وإمساكها لذراعها حتى تأوهت الأخرى:
_ألم تري كبير الخدم هنا أيتها الخادمة؟ قومي واحترمي سيدكِ.
من طبع «كافور» أنها حساسةٌ ذات قلب رقيق، تبكي لأقل شيء وتغضب لأقل شيء، تساقط دمعها وحاولت أن تكبح غصتها بعد إهانتها على مرأى ومسمع من الجميع، ادّعت القوة وهي تبعد يد الأخرى بقسوة وخشنت من نبرتها لتقول بغضب:
_لستُ خادمة وليس هذا ولا ذاك سيدي، إنما أنتم بعضٌ من حثالة الخليقة وأشرُّها.
أمسكتها الأخرى من شعرها بشدة وبالطبع لتباين القوة والعمر نجحت في إحكامها بين يديها لتصرخ «كافور» بغضب وهي تضرب يدها وتحاول عضها صارخة بكل قوتها حتى نبح صوتها:
_أقسم أنني لا أنحني لكم يا قمامة، ابتعدي أيتها الحقيرة عني قبّحكِ الله.
كادت مساعدة كبير الخدم تضربها وتعنّفها لولا إشارة الآخر التي أظهرت لها ما تفعله، فابتسمت المساعدة بمكر وأخذتها جرًا من شعرها بين طرقات القصر إلى غرفة التأديب، تلك الغرفة التي يعنفون فيها الخدم ويهذبونهم حتى يخضعوا لواقعهم الذي يعايشونه، و«كافور» رغم ادعائها القوة فهي ضعيفة، لم تخرج من طيات كوخها الصغير قطّ سوى للمقر، ولم تواجه في حياتها مشكلة أكبر من فقدانها والديها.. وكان الجميع يساندونها.. فها هي الآن.. وحيدة بين أنياب الأعداء لا لها شريك ولا حليف سوى نفسها، ولا مساندٍ سوى ربها، حتى تضرعت بدعائها إليه ترجوه العفو عنها.. لم تطمح سوى لجلسة هنيئة مع والديها وكفى والله.
اتجهت بها الأخرى إلى غرفة التأديب وحالما دخلتها حتى وجدت سوطًا من جلدٍ عتيق أسود شفاف قليلا، ومن نظرة المساعدة بشر أيقنت أن أيامها القادمة ليست بخير أبدا.
رمتها الأخرى على الأرض لتمسك «كافور» بشعرها ودموعها تنزل على وجنتيها بألم، خصلاتها خرجت بين يد الأخرى التي وكأنها تتلذذ بألمها، جاءت الأخرى بالسوط وهي تشير للرجلين اللذين كانا واقفين على حراسة الغرفة أن يأتيا.
وبعد قدومهما حاصرا «كافور» التي صُدمت من مظهرهم الضخم.. مهلا؟ ماذا سيفعلون بها؟
بعد حصار الآخريْن لها قالت المساعدة آمرةً:
_أمسكوا بها ولا تفلتوها إلا حينما آمركم.
فعلا كذلك وقد حاولت «كافور» الهروب من بين أيديهما، ولكن كيف لكفّها الرقيق أن يضاهي ذراعهم الطويل المعضّل قوة؟
صرخت «كافور» بخوف ولم تستطع كبت خوفها الذي سيطر على قلبها حتى تعالت نبضاته وهي لا تعلم ماذا تفعل؟ وماذا سيفعل هؤلاء بها؟
تريد الصراخ والهروب ولكن لا تستطيع! وكأنها كما كانت في حلمها.. لا تستطيع الركض وتشعر بشيء يحاصرها، وهذان الرجلين كانا يمسكانها بإحكام لتلتف المساعدة إلى ظهر «كافور» التي كانت تصرخ وتعالى معدل أنفاسها بخوف، شقّت ملابسها من الوراء على حين غفلة فظهر ظهرها وكتفيها أمامها فأخذت ترفع السوط وهي تقول بشر وحقد قاتم:
_سأريكِ الآن من هي الحثالة يا ذليلــــــة!
هبط السوط بكل قسوةٍ على جلدها فصدح صوت صرخات الأخرى في القصر بأكمله بقوة، الألم لا يضاهى والوجع لا يوصف، كأنها سارت بظهرها على جمرٍ متفحم بالنيران المهلكة.
وضربة وراء أخرى والعلامات على ظهرها ظاهرة جليّةٌ، وجلدها تقطع حتى سالت دماؤها، وبعد الضربة الثامنة لم تستطع التحمل أكثر، تهدل جسدها وضاع وعيها في غياهب الظلمات لتسقط فاقدةً لنفسها.
بينما توقفت الأخرى وهي تشير للرجلين قائلةً بغضب:
_ارموا هذه الحقيرة في فراشها وأحضروا لها المعالج بعد أن تفيق، حتى تتألم بالعلاج في وعيها كما تألمت بالضرب.
__________________________________
وعلى الجانب الآخر في نفس التوقيت في «أرض الوعثاء»، كان الحزن والبؤس يحيط بجميع الجالسين، وقد كانت «سكينة» و«ريحان» برفقة «غسان» و«حصيف» الذي جاء بخبر أن القائد السابق وابنته مخافيان، وقد اتضح أنهما أُسرا في المعركة.
كانت «ريحان» هي صاحبة الحزن الأكبر والغضب الأعظم وقد تأجج الخوف والغضب على صديقتها الصغيرة، ماذا فعلت تلك المدللة الصغيرة ليأسروها؟ لمَ لم تختبئ وحسب هي ووالدها من أمام أعين الأعداء حتى يأتي الجنود؟
وقد كان «غسان» عالمًا بكل ما تفكر فيه الأخرى ليقول قاطعا الصمت بمؤازرة لهم وقد رقّ قلبه لتلك الفتاة، رغم أنه لم يكلمها إلا أنه يعرفها ويعرف براءة أفكارها الهادئة ليقول:
_سوف يكونان بخيرٍ بإذن ربنا، وكما مرّ سابق الألم عليها ستتخطاه كما تخطت ألمها السابق، لن يفعلوا لها شيئا وستعود سالمةً.
تمتمت «سكينة» بـذكر الله وقد سقطت دمعة منها على خدها، فها هو الحزن يأتي من كل الاتجاهات ليكسر قلبها، يضيع الجميع ويموتون ويؤسرون، وكلٌ في همّ لا يعلمه سوى الله.
قام «حصيف» من جوارهم بجمود وتحرك بعيدا، صمت الآخرون ولم يكلموه لأنهم يعلمون ما فيه، فتلك الفتاة الصغيرة كانت مرافقة له طوال الشهر السابق بصفة دائمة، يصبح ويمسي بها وكانت أشبه بأختٍ صغيرة له.
تذكر وهو يسير أخته «سماء» وما إن تخيلها مكانها حتى استشاط غضبا وهو يحاول أن يحكم ذاته، يريد أن يهدّ مملكة السماء على رؤوس من فيها، ويقتلهم واحدا واحدا بكل برود وتعذيب، ولكن كلها خيالات!
غضبه فقط من يصور له هذه التهيؤات ليصبّر ذاته على فراقها، كيف له بحق الله أن يهدأ؟
كان قد تحرك دون وجهة ليصطدم بالقائد «متناذر» بدون قصد، رفع رأسه وتمتم بالاعتذار دون أن يهتم ولكن القائد أمسكه من ذراعه يستوقفه بحدة وقد آذاه ما يراه في من يعتبره ابنا:
_ما بالك أيها الجندي؟ تتيه ويضيع وعيك! دع حزنك وفكر بعقلك يا «حصيف».
عقد الآخر حاجبيه بغضب ولم يستطع كبته هذه المرة وهو يرفع صوته قائلا بصراخ:
_لم أتِه ولم يضع وعيي، إنما أنا حزين على فراق من اعتبرتها أختًا لي، وقبل ذلك فتاةٌ من قومي تؤسر ويخطفها أولئك الملاعين! أولا تريد لي غضبا ولا حزنا؟
وقد انفجر فيه ليخرج غضبه كأنه قنبلة موقوتة انفتحت فيه فجأة، كان معدل تنفسه عاليا من شدة غضبه وحديثه، ليتنهد بضيق بعد أن أدرك أنه رفع صوته في وجه قائده!
زفر بضيق من نفسه ووضع عينيه في الأرض قائلا وهو يحاول تهدئة صوته ويعتذر:
_آسف يا قائد، أنا فقط.. فقط غضبت وصرخت دون قصد و..
أوقفه الآخر بقوله الحازم وهو يتفوه بصرامة:
_صمتًا، لا عليك، فقط أردت تنبيهك..
تعلقت عينا الآخر به ليكمل كلماته بنفس شدته:
_حكّم عقلك ولا تحكّم مشاعرك الغاضبة، الحرب تحتاج القوة نعم.. ولكن القوة دون تفكير تضيع هباء منثورا.
كلماته وضعت فيه بعض الهدوء ليتعقل قليلا، تحرك القائد ذاهبا بينما هو ظل واقفا في مكانه، يفكر في كلماته التي ألقاها عليه وذهب مسرعًا، لا بد وأنه ما زال غاضبا منه من فعلته ولكنه بالتأكيد سيقدر ظروفه الحالية.
حسنا يا «حصيف» ليس وكأنه لم يمر بنفس الظروف! لقد فقد صديق عمره مرة أخرى وضاعت الفتاة التي رباها على يديه، أما أنت! فلم تقابلها سوى أسابيع قليلة وكانت علاقتكما شبيهة بمناوشات القط والفأر! والآن تغضب لأجلها!
_القائد «متناذر» ثابت كالطود وكأن كل ذلك لم يؤثر فيه!
تابع كلماته بكلمات مصرية بحنق وضيق:
_نص ثباته دا وهأحتلّ العالم.
_______________________________________
مرت ساعات كان يقف فيها «حصيف» يعدل من وضع الجنود ويزيد من تدريبهم، بينما كان القائد مرافقا للملوك رفقة كبير «ذوي المطارق» الذي لم يكن في موقع الحادثة بسبب أنه كان يشاهد المعدومين الثلاثة بأمر من الملوك.
كان «حصيف» يدرك أنهم اجتمعوا ليضعوا خطةً ليسترجعوا فيها شرفهم الذي انتُهك بسبب خطف ملاعين الأرض لـ«ذوي المطارق»، والقائد السابق وابنته.
بينما هو انتهى من تدريب الجنود وأشار لهم ان يأخذوا وقتا للراحة ثم يستأنفون تدريبهم، وهو أخذته قدمه ليبتعد عن أساس المقر ويتحرك نحو أشجار الحديقة الكثيفة، يطمع لهواء نظيف وهو يدندن فوق أحد الأشجار بأغنية قديمةٍ كانت مشهورة في وطنه السابق.
حقق مطلبه وهو يتسلق شجرة كبيرة في منتصف الحديقة، اختار مكانا بعيدا عن الأعين وقد توارى بين طيات الأوراق الكثيرة، ابتسم وهو يتذكر عهود الصبا، وذكرياته السابقة وهو صغير رفقة عائلته، كان حقا أحمقَ وأخرقَ ولا يضاهيه أحد في جنونه، ويبدو أن آثاره ما زالت موجودة إلى الآن.
وفقدان «كافور» التي يتخيلها «سماء» جعله يخرج صوته في أغنية كان يألفها من كثرة تكراره لها وقد كان يغني لأخته خذه الأغنية حتى يتلاعب بها كي تقضي له ما يريده منها، صدح صوته بهدوء وقد كان جميلًا ذا موجة صوتية جذابة:
_وبحبك وحشتيني.. بحبك وأنتِ نور عينــــي..
لو أنتِ مطلعة عيني.. بحبك مــــوت..
لفيت قد ايه لفيـــــت..
ما لقيت غير في حضنك بــــيت..
وبقول لك أنا حنيــــت..
بعلو الصــــــــوت..
ابتسم بحنين وضاع وعيه بين دهاليز الذكريات القديمة وقد كانا يتشاكسان كثيرا كأنها وُلدا على رؤوس بعضيهما..
كانت «سماء» تسير في البيت ويظهر على وجهها التعب بعد أن نظفت البيت بأكمله، والآن جاء الوقت لترتاح، فألقت بجسدها على الأريكة بإرهاق، لاحظها «حصيف» أو ما كان يدعى في السابق «كرم» أخوها، كان جالسا جوارها على الأريكة وينظر لها بخبث، لم تمرّ ثانية سوى ويده تعرف طريقها لقفا الأخرى بقوة وقام من مكانه لأنه يعلم ردة فعل أخته العنيفة، وجدها تقوم من مكانها راكضة وراءه وهي تصرخ في منتصف المنزل بغضب، بينما هو كانت ضحكاته تتعالى وهو يقول برجاء:
_خلاص طيب عشان خاطري، نزلي اللي أنتِ ماسكاه في ايدك دا.
كانت تمسك بنعلها وهي تطمح أن تضربه على قفاه كما فعل بها، وصرخت بغضب:
_طب والله ما أنا منزلاه يا «كرم»، وهأجيبك من قفاك يعني هأجيبك.
رفع حاجبيه يراقصهما لها باستفزاز فاستشاطت الأخرى غضبا وهي تصرخ:
_يا مامــــا..«كرم» ضربني!
جاءت والدتهما من المطبخ على صراخ ابنتها، وقد كانت تمسك بمغرفة الطعام وترتدي ملابس الطهي حيث كانت تحضّر العشاء، وقالت بضجر وهي تقف بينهما:
_فيه ايه يا آخرة صبري؟ عمل ايه الموكوس تاني؟
شكَت لها الأخرى بتذمر وهي تقول كاشفة عن كل ما حدث ملقية حبكتها الدرامية:
_يعني أنا يا ماما أخلص من ترويق البيت وتعبه وجسمي مكسّر ألاقي قرف ابنك دا؟ أموت وأعرف ازاي معدّتش عليه ثانية تربية كدا!
ناظرته الأخرى بتهكم وهي تقول بضيق بموشحها الدائم الذي كررته على مسامعه ألف مرة بعد المليون:
_أهو كدا من ساعة ما اتولد، أبوكِ قال لي سيبي لي تربية الصبيان وأنتِ خدي البنات، بس للأسف يا حبة عيني أبوكِ ماقدرش على البأف دا واتلهى في مشاغله ونسي يربيه! هو هيجيبه من برة يعني؟ ما هو عرق عمّه المجنون أثر فيه!
في هذه اللحظة دخل زوجها المكان وقد دلف للتو من عمله، سمع آخر كلماتها فتشدق بحنق وهو يقول بملل:
_ماله أخويا يا أختي؟ كان داس لك على طرف ولا علشان كان بيتريق على عيلتك يا بنت محمود؟
نظرت له زوجته بأعين تطلق شرارا فقال بسخرية:
_لا يا حلو، الحركات دي مابقتش تأثر معايا.. ابقي شوفي لك خروف تاني تخوفيه.
في هذه اللحظة ظهر حزنها وقد كانت قريبة الدموع ومشاعرها تتحكم بها، ليترك ما جاء به من الخارج من يده في الأرض وهو يتحرك نحوها يقدر مشاعرها وأخذ يحتويها بحضنه قائلا بحنان:
_خلاص أنا الخروف أهو بس ولا تزعلي نفسك أنتِ، احنا كلنا خرفان تحت أمر حضرتك هنا.
نظرت له بغضب وهي تعترض على قوله:
_أنت مش خروف.
رفع حاجبه بعدم فهم من تقلّبها بينما هي أردفت توضح له وهي تضيق ذراعيها حول صدرها بتذمر:
_علشان أنا مش هأبقى معزة متجوزاك، دا ايه المصايب دي بس يا ربي؟
ألقت كلماتها الأخيرة وهي تبتعد عنه بضيق وقد تحولت سريعا، بينما هو كان يطالع أثرها بدهشة، ماذا حدث للتو؟
صدحت ضحكات «كرم» على وجه أبيه الذي كان فاغرا فمه ليقول له وهو يعدل من وضعية فمه:
_اقفل يا محمود اقفل، كدا الدبان هيعمل مستعمرة جوة بُقك!
التفت له «محمود» والده الذي كان اسمه على اسم والد زوجته، وقد كانت قد تزوجته عن طريق معرفةٍ قديمة بين والديهما، زيجتهما أثبتت له أن المقولة القديمة: “لا يأتي الحب سوى بعد الزواج” صادقة، فهو بالفعل قد وجد سكنه وطمأنينته رفقتها وعِشرتهما قد وضحت ذلك.
ضحك بخفوت على موقفها ثم حرك رأسه بيأس، ثم التفت لـ«كرم» وقد تغيرت ملامحه بالكامل من الهدوء للقوة وهو يقول بصوت حاول إخراجه غاضبا:
_وأنت يا حيوان أنت بطّل تخليها تشمت فيّ بسبب تربيتك، أنا آه نسيت أربيك بس ما عنديش مشكلة أعيد تربيتك من أول وجديد.
ثم أردف كلماته بقوله الغاضب وهو يتمتم:
_عِيلة تشلّ
ثم رحل من أمامه مما جعل «كرم» يطالع شقيقته التي كانت واقفة مكانها تطالع ما يحدث بفضول، نظر لها قائلا بدهشة:
_دا كله عشان ضربتك على قفاكِ!
احتدت ملامح الأخرى وقد تذكرت ما فعله بها لتلقي عليه النعل الذي أصاب يده فتأوه بقوة بينما هي قالت بشماتة وتشفٍّ:
_إنسان وضيع.
_____________________________
عاد «حصيف» من ذكرياته وقد كان يدندن في نفس الأغنية بعد تذكره ذكرياته المضحكة التي كانت تمر عليه لتعطيه لمسة من السعادة في حياته.
ابتسم وقد ارتفع صوته فجأة ولم يدرِ بمن كان يسمعه، وقد صدح صوتّ آخر فجأة يقول:
_أنت أيها المزعج بالأعلى، كُفّ عن صوتك الصاخب نحن نعمل هنا!
اتسعت عيناه بقوة والتفت سريعا للأسفل على بعد أمتار عديدة منه ليجد «ريحان» واقفةً تجمع الثمار للعشاء، وكانت متحليةً بوشاحها الأسود الذي يخفي شعرها وبعضا من وجهها ولكنه عرفها من صوتها ومن عينيها المخادعتين، بحق الله.. من سليطة لسان أكثر منها في هذا الكون؟!
وبسبب التفاتته السريعة اهتز به الغصن الذي كان يجلس عليه وكان سيقع لولا أنه تمالك نفسه سريعا وتشبث بالشجرة، أغمض عينيه وهو يقبض على يديه بغضب، وضرب الشجرة بقبضته مما أدى إلى ألم شديد في كفه فتأوه بصوت غاضب.
وجدها تنظر له بابتسامة مستفزة حقا أو هو وجدها كذلك، وقالت له بملل:
_أحمق.
نزل من على الشجرة كما تسلقها بمهارة ووقف أمام المستفزة الأخرى التي تجمع الثمار دون اهتمام به، قال لها بسخرية وحنق:
_حقا؟ ما الذي جاء بكِ إلى هنا بالذات إلا إذا كنتِ تلاحقينني؟
رفعت حاجبها وبادلته نظرته الساخرة بأخرى باردة:
_نعم أفعل.
تعجب من صراحتها وهو يطالعها بحيرة رافعا حاجبيه، بينما هي أردفت بنظرة خبيثة:
_حتى يتسنى لي قتلك دون رحمة ودون أن يعلم أحدٌ عن جثتك التي ستتعفن بين تراب الحديقة.
هذه الفتاة خطيرة بالفعل، وغريبة الأطوار، حاول ألا يعيرها اهتمامًا وهو يتحرك ليعود لعمله لولا أنها استوقفته بقولها:
_بالمناسبة، صوتك جميل.
كاد يبتسم وهو يلتفت ليرد عليها لولا استئنافها:
_ولكنه مزعج، عليك أن تخفضه المرة القادمة لأن صدى صوتك ما زال يتكرر في أذني.
مسح على وجهه بغضب جم وهو يكمل طريقه وقد استوقفته مجددا بتساؤل أزعجه:
_مهلا.. ما هذه الكلمات التي كنت تغنيها؟ غريبة بعض الشيء وأنت بالفعل تنطقها خطئا.
هنا ولم يستطع الصمت والتفت لها بكل حنق بادٍ على وجهه مقيدا ذراعيه بضيق وهو يقف أمامها قائلا ببسمة ساخرة يحاول الوصول لمقدار خبثها:
_وما الذي قلته خاطئ في غنائي؟ أجزم أنكِ نسيتِ الكلمات بسبب صوتي الجذاب الذي ما زال طنينه في أذنكِ.
أدركت تلاعبه بالكلمات وبالفعل لا يوجد أفضل منها في هذا، ابتسمت تغني عليه الأغنية بلهجة مصرية غير مرتبة كما نطقت نطقا غير صحيح بالمرة:
_بِحبُّك وَشتيني؟ بحق الله ما هذه وشتيني؟ هل تفهمها حتى؟
لم يكبح بسمته التي ظهرت على شفتيه من طريقة نطقها الغريبة التي اتضح فيها جهلها للكلمات بحق، رغم أنها واضحة الفهم، ولكن بسبب بُعدها عنه حينما كان يغني سمعت الكلمات خاطئة بالتأكيد.
حاول التوضيح لها مبتسمًا بقوله:
_إنها “بحبك وحشتيني” وليست “وشتيني” التي تنطقينها أيتها المتحذلقة.
_وما معناها؟ أليست أوحشتيني هذه عكس كلمة الأنس بالأساس؟ فهل أنت تعترف بحبك في الأغنية أم تسب حبيبتك؟
هل هذا مقدار الذكاء الذي وصلت إليه؟ كانت تطالعه باستنكار من الكلمات التي سمعتها وهي تتساءل في داخلها عن ما يقصده هذا المعتوه، ليوضح لها بسرعة بقوله:
_لا هي ليست هكذا.
رفعت شفتيها بسخرية وتشنج لتسأله بنزق:
_وما معناها إذن؟؟
_أحبكِ واشتقت لكِ.
سمعا صوت اصطدام شيء بأرضية الحديقة ليلتفتوا بفزع من الصوت المفاجئ، كانت «سكينة» التي أوقعت سلّة ثمارها التي كانت تجنيها على مقربة منهما وقد كانت ترافق «ريحان»، وكانت مصدومةً تنظر لهما بدهشة، اتسعت عينا «حصيف» بقوة وهو يدعو في داخله ألا يحدث كما يحدث في الأفلام العربية القديمة عادةً!
ولكن فات الأوان و«سكينة» تقول بصوت خافت بالكاد يسمعانه من هول صدمتها:
_أنت تحبها؟
مسح بكفه على وجهه بيأس وهو حانق من التوقيت التي جاءت فيه هي وسمعت كلماته الأخيرة فقط، اتضح أن هذا يحدث في الحقيقة يا «حصيف»! أم أقول «كرم» الآن؟ فشخصيتك القديمة عادت أمام «ريحان» الفتاة الحمقاء.. المخادعة.. سليطة اللسان.. المتـ.. حسنا توقف الآن عن تفكيرك الأهوج! ووضح سريعا.
_ليس كما فهمتِ، فقط كنت أقول “أحبكِ واشتقت إليكِ”.
نظرت «سكينة» بنفس صدمتها له بعد تكراره نفس الجملة، بينما «ريحان» طالعته بنظرات يملؤها التهكم وهي تقول جازّةً على أسنانها:
_ضوء ذكائك الفاحش أعمى عينيّ.
ثم أبعدت ناظريها عنه وهي تضع سلتها أرضا، ثم اتجهت إلى «سكينة» وهي تفهمها ما حدث بهدوء موضحة لها كل ما جرى في هذه الدقائق، وتفهمت الأخرى الأمر ثم ابتلعت ريقها بحرج واعتذرت بخفوت، ثم نظرت إلى «ريحان» تقول:
_جئت فقط لأخبركِ أن «غسان» قد ذهب رفقة حاجب الملوك بعد اكتشافهم أنه «ذو المطارق» الوحيد الموجود الآن، وأخبرني الحاجب أنه لن يعود الآن نهائيا.
_مما يعني؟
تساءلت «ريحان» بقولها الهادئ وهي لا تهتم لأمر «غسان» بالأساس، بل تريد معرفة ما يحدث بالأرجاء وتبيّن إذا ما كانت «كافور» ستعود أم لا، بينما «سكينة» أكملت بقلق:
_مما يعني أنه لم يبقَ سوانا و«كردوم» والسيد «حصيف» في دور المقر العلوي، وتقريبا لم يعد لنا أهمية بسبب غياب «ذوي المطارق»، و.. قد عرض عليّ القائد أن ننزل إلى المقر الأساسي رفقة جنود أرض الوعثاء لنكمل خدمتنا.. أو…
نظرت لها «ريحان» بتعجب وترقبت كلماتها التالية وسألتها:
_أو ماذا يا «سكينة»؟
_أو أن نخرج للمدينة، لقد سمحوا لنا بالذهاب إن أردنا.
ألقت كلماتها في وجه «ريحان» التي تجمدت ملامحها وهي لا تأبه بالكلمات الأخيرة محاولةً الهدوء، ويبدو أن ذكر المدينة والرحيل من المقر قد أثار في قلب «ريحان» أشياء كانت خامدةً لا يقترب منها أحد.
_________________________________
كانت «كافور» تئنّ وجعًا بعد ما كان، ما زالت آثار السياط جليةٌ بفحشاء على ظهرها، فاقت للتوّ وعاد لها وعيها وهي تشعر أن جسمها تكسّر ولا تستطيع الحراك قيد أنملة، كلما تحركت بمقدار عقلة إصبع تشعر بالألم ملايين الأضعاف في جسدها كله، وقد تخدر من فرط الألم الذي حل بها.
سمع صوت أنينها وتألمها الخادمات وقد كنّ نيامًا على الفراش الذي كان مشتركا على الأرض، لكل فتاة فرشتها ولكنهن يتشاركن نفس الغرفة، انتفضت إحداهن وهي تقوم بالنظر لجوارها، حتى وجدت «كافور» نائمة على بطنها وظهرها مغطى بقطعة قماشية غير ظاهر لونها في ظلام الغرفة، ولكن ظاهرة آثار البقع التي كانت قاتمة في الملاءة.
اقتربت الفتاة منها وهي تقرب الشمعة المضاءة بجوارها لظهر «كافور» لتكتشف ما هالها وجعل بدنها يقشعرّ، الدماء تغطي ظهرها بشكل مروع لتصرخ الفتاة فجأة بخوف وقد فاقت بقية الفتيات بفزع هلعات من الصوت الذي سمعنه.
دخل الحارسان اللذان يقفان على البوابة في ورديتهم الليلية، ووجدوا «كافور» التي التفتت جميع الفتيات حولها وهن يشهقن مما حدث لها، فلم تُعِد المساعدة «كافور» سوى بعد نوم جميع الفتيات، والصدمة لاحت على وجوههن.
ذهب أحد الحراس لينادي للطبيب المعالج وقد جاء بعد قليل بأعشابه وأدواته، رفع الغطاء بأكمله عن الكتفين والظهر فقط ليهوله ما رأى، هذه المرة الأولى من سنين يرى آثار الجلد على إحدى الخادمات، يبدو أن فعلتها لم تكن هيّنة لتصل لهذا الشكل.
وشهقت بقية الفتيات من المنظر الذي رأوه، أشار الطبيب للحراس قائلا:
_نحتاج لمكان آخر نضع فيه المصابة بعد أن أضمّد جروحها.
نفى أحد الحراس قائلا:
_ولكن أوامر السيدة «مهرة» أن لا تتحرك الفتاة من هنا.
انزعج الطبيب من هذه الأوامر الحمقاء، كيف تتركها هنا رفقة هؤلاء الفتيات؟ يعلم بالطبع ما يدور ببالها، تريد إيصال رسالة إلى الجميع أن من يعارض أوامرها هذا سيكون مصيره.
أكمل الطبيب علاج «كافور» وأصبحت تصرخ وتتأوه من برودة الأعشاب على جروحها الحارة، وكلما لامسها الآخر تصرخ أو تطلق صوتا أليما متعذبةً بالدقائق التي عالجها بها، حتى لفّ ضمادته حولها وقد حجبها عن عيون الفتيات بعد أن أمر الحارسان بذلك قائلا:
_أظن أن السيدة «مهرة» لم تطلب منكم أن يُكشف جسد الفتاة أمام الأخريات!
وبالفعل نفذوا طلبه وهم يضعون حجابا ساترا حوله و«كافور» بينما كان يعالجها، شعر بالشفقة عليها وهي تتعرق بعد الألم الشديد التي وقعت به، مسح عرفها الذي بالتأكيد ناتج عن حمى بسبب جروحها التي لم تُعالج على الفور.
جلب المياه الباردة ووازن بين برودتها ودفئها وهو يضع قماشة صغيرة فيها ثم يضعها على رأس «كافور» التي ما زالت نائمة على بطنها ولكن تلوي رقبتها حتى يضع لها القماشة.
مسح على شعرها بعد أن انتهى وقد وجدها نائمة من الإرهاق قائلا بشفقة على حالها:
_آسف يا صغيرة، هم وحوش تعيشين بينهم.. أدرك ذلك.
قام من مكانه بعد أن غطى ظهرها الذي زينته الضمادة البيضاء التي بها بعض الدماء من سيلان الجروح الذي توقف قليلا بسبب الأعشاب، وقد أزال التجلط عنها.
خرج من الحجاب الذي وضعه الحارسان حولهما، والغضب يعتمر ملامحه، لم يُعر الحراس أدنى اهتمام وهو يرفع صوته بين الفتيات المترقبات بقلق:
_من هنا أقرب واحدة للفتاة المُصابة في فراشها؟
لاقى صمتًا بين الفتيات وكاد يتكلم لوا أن سمع صوتا خافتا يهمس همسا بالكاد سمعه:
_أنا.
كانت تلك الفتاة التي أفزعت الجميع حينما رأت مظهر «كافور»، وهي بالتأميد من تجاورها في الفراش لذا نظر إليها يعطيها بعض الأعشاب المغلفة في قماش وقد تعرف عليها:
_سيدار، جيد أنها أنتِ، خذي هذه الأعشاب، وضعيها في مشروب للفتاة في الصباح قبل الفطور، هذا ضروري سيدار، اتفقنا؟
أومأت برأسها في تردد فوضع الأعشاب بين يديها وهو يبتسم، ثم تركها وتحرك بعيدا خارج الغرفة، مما جعل الفتيات يطالعنها وهي لا تفهم حقا سبب نظراتهم، هي بالأساس تتردد أن تلمس «كافور» من الأساس! تلك الفتاة المتمردة التي جاءة أسيرة المعركة السابقة التي سمعوا بها البارحة.. هذا مقلق.
______________________________________
وعلى الجانب الآخر كان «صهيب» يسير في الظلام وهو يمسك فوق ظهره شوالًا من الواضح أنه ثقيل، ذهب إلى بقعة في المدينة حيث كانت هناك نافورة مياه وصوت الماء يحيط بالمكان.
نظر للنافورة بعض الوقت بعد أن وقف بهدوء، استحكمت حلقه غصة كادت تجعله يسقط دموعه لولا أن تحكم بنفسه وهو يبتعد عن النافورة إلى مكان قريبٍ في منطقة قبور المدينة، ألقى بالشوال على الأرض وهو يتنهد بثقة ويزفر بتعب.. لقد سار طوال هذا الطريق بهذا الحمل الثقيل على جسده.. والخفيف على قلبه.
فتح الشوال وهو يبتلع ريقه، كان جسد صديقه هو ما كان مختبئا بين طيات الشوال، ذهب إلى القبر الذي كان مفتوحا منذ أيام بسبب انتظار الملك لرأس «جدير» وبالفعل هذا ما حدث، وبيده.. بنفس اليد التي صافحت صديقه ونفس اليد التي ربتت عليه حينما كان حزينًا.
وضع جثمان «جدير» في قبره وردم عليه بالتراب مودعا إياه،ثم أخذ نصل خنجره وهو ينحت على صخرة القبر اسمه، وألحقها بكلمة أخرى عفوية أحب أن تكون موجودة، “صديق مقرب”.
وبعد انتهائه رمى الشوال في أقرب مكب للنفايات، ثم تحرك بعيدا.. إلى حيث نقطة اللقاء الأولى، النافورة.
ذهب إليها وهو يجلس على حافتها، ناظرا للماء داخلها وإلى انعكاس صورته في الظلام الحالك إلا من ضوء القمر الذي اكتمل مساء اليوم، ابتلع ريقه وهو يتخيل صورة صديقه أمامه، ذكريات في الأفق تلوح له.. حيث كانت أول ذكرى يصنعها رفقته.
منذ ما يقارب الأربع سنوات…
علا صوت أقدام خيل القائد «صهيب» وهو يتحرك بين المدينة عليه رفقة مساعده يطّلعان على أحوال المدينة بعد المعركة التي قامت، نظر حوله فإذا به يرى الناس بخير ولم يستطع أحد” العوثائيين” اقتحام المدينة، طالع الطرقات برضا وكاد يتحرك بعيدًا عائدا إلى قصر بعد أن اطمأن على أحوال المدينة، لولا رؤيته لرجلٍ متقطعة ملابسه من شدة قدمها وهو يقف عند النافورة يشرب بعض الماء، والذي كان باردا فارتجف بدنه.
تابع «صهيب» حركته وهو يتجه لإحدى المشاعل التي ترتفع على الشوارع وتضيئها، ليتدفأ بها. تعجب من حاله فجعل مساعده يذهب إليه ليسأله ماذا به، جاء المساعد خائبا وهو يقول بحيرة:
_لم ينبس ببنت شفة يا قائدي، وتجاهلني.
عقد «صهيب» حاجبيه بعدم فهم، ثم ترك حصانه وهو ينزل من عليه، متوجها إلى الرجل الذي كان واقفا يتعذب محاولا تدفئة نفسه بنار المشاعل، ذهب إليه سائلا بقوله:
_أنت أيها الرجل!
التفت له الآخر ولم يتكلم، ولكن «صهيب» سأله بصوت قوي بحدة وهو يظنه يتجاهله:
_ماذا بك لا تتكلم؟ أأنت أصمّ لا تسمع؟
نفى الآخر برأسه، وأخيرا تجاوب مع «صهيب» ليتعجب ويقول ببعض الغضب:
_إذن لمَ لا تتكلم وتعرفني على نفسك؟
أخرج له الرجل _والذي كان «جدير»_ لسانه، نظر له «صهيب» بتشنج وحدة من فعله الغريب، أهو يحاول إغاظته؟ أم أنه بالفعل رجل غريب الأطوار؟
وبعد أن دقق بلسانه بعد أن أشار له الآخر وجد آثار حروقٍ على لسانه تجعله لا يستطيع تحريكه للتكلم، الآن فقط أدرك لمَ لا يتكلم، وهو الذي ظن به السوء أنه يتجاهلهم.
فهم «صهيب» ثم فكر قليلا بعدها أشار إلى «جدير» داعيا إياه على حصانه، مما جعل الآخر عيناه تتوسع بقوة، وهو يشير بيده أنّ: (حقا ما تقول؟).
وبالفعل بعد دقائق كان «جدير» يعلو صهوة حصان الآخر متحركا به إلى القصر، ومن هنا بدأت الحكاية؛ حيث كان يشاركه بالفعل جميع لحظات حياته، بداية من النوم والطعام والجلوس والتدرب والملابس!
لقد أصبح أخاه الذي لم تلده أمه.
وبعد أن التأم جرح «جدير» أخيرا همس بأولى كلماته منذ وجده، وكان ذلك بعد سنة تقريبا من مدة لقائهما، كان يقول له محاولا إيقاظه من نومه بحدة:
_صـ.. صـ.. صهيب…
حسنا هذا لم يكن بالطبيعي، ما زال يتلعثم في الكلمات، كرر الكلمة مجددا بينما الآخر ما زال نائما وهو يتمتم بانزعاج، وماإن أدرك ما سمعه حتى فتح عينيه بدهشة وهو يقوم جالسا على السرير بسرعة ناظرا إلى «جدير» الذي فزع منه.
_مهلا؟.. هل نطقت للتو؟
أومأ الآخر وهو يحاول التكلم ثانية حينما رأى لهفته:
_نــ.. نعم.. ولكـن.. لساني.. يؤلمني قليلا.
كان الآخر سعيدا وهو يقوم يفتح فم الآخر يطالع لسانه، ابتسم لالتئام الجرح وقد كانت الأعشاب قد أجادت نفعا، و«جدير» يحاول استيعاب ما يفعله الآخر.. ضربه على يده بحدة وهو يبتعد عنه قائلا بتهكم:
_ماذا.. تفعل؟
ضحك الآخر بسعادة مفاجئة وهو يسمع الكلمات منه أخيرا بعد أن كانت التعبيرات هي كل ما يلازمه في هذه السنة، من اعتراض واستنكار وفرح وحزن، كان فقط يعبر عنها بملامحه ولم يكن ينطق حرفا..لربما كان «صهيب» سعيدا أكثر من «جدير» بذات نفسه.
____________
عاد «صهيب» من أفكاره البعيدة التي دوما ما تعطيه ذكرياته السعيدة، والتي تجعله بائسا حزينا… فها هو.. فقد صديق حياته في بضعة أيام.. وبسببه.
___________________________
وعلى جانبٍ آخر؛ حيث كان الملك «راجس» في صالة عرشه يستمع لآخر الأخبار التي حصلت في المدينة والقصر، سمع كلمات كبير الخدم التي وضحت له تمرد «كافور» ابنة «سماري» المسجون، التفت له وهو يتساءل قائلا بهدوء:
_وماذا فعلتم بشأنها؟
_لاقيناها بعقابٍ يعلمها كيف تصنع بعد ذلك في حضرة المحترمين من هم أعلى منها منصبا، جلدتها «مهرة» ثمان جلدات حتى فقدت وعيها.
صمتٌ في الصالة دام لدقيقة كاملة وأعين الملك «راجس» لا تفارق كبير الخدم، حتى قلق الآخر وهو يظن في مظهره شيئا ما، فنظرات الملك المخيفة لا تبشر بالخير.. سمع صوته الذي كان كفحيح الأفعى وهو يقول بالغضب الظاهر في عينيه:
_تقول ماذا فعلت؟؟
__________________________________
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أرض الوعثاء)