روايات

رواية أرض الوعثاء الفصل الرابع 4 بقلم بسمة هلوان

رواية أرض الوعثاء الفصل الرابع 4 بقلم بسمة هلوان

رواية أرض الوعثاء الجزء الرابع

رواية أرض الوعثاء البارت الرابع

أرض الوعثاء
أرض الوعثاء

رواية أرض الوعثاء الحلقة الرابعة

(4): حق مسلوب.
________________
صلوا عن من جلس يواسي طفلًا مات عصفورُه.
قراءة ممتعة. 🤎🦋
_________________________________________________________
‏قال أبو الدرداء -رضي الله عنه: «إذا تغيَّر أحد إخوانكم وأذنب فلا تتركوه ولا تنبذوه، وعظوه أحسن الوعظ واصبروا عليه، فإن الأخ يعوجّ تارة ويستقيم أخرى».
– رواه أبو نعيم في الحلية [4 / 232].
________________________________________________________
الصدمة، هي أسوء شعور قد يحدث للإنسان إذ لا يكون مستعدًا لما قد يجابهه، وكأنها حملٌ ثقيل على القلب وتضع الغشاوة على العقل رغم أنها تكشف حقائقَ لم يعرفها أحد، كان هذا شعور «كافور» حينما ألقى عليها القائد «متناذر» كلماته التي أصابت في قلبها شيئا وأحيَت في فكرها الذكريات.
انفجرت إلى عقلها الذكريات كما يتوارد الماء إلى الشلالات، ووقعت دفعة واحدة على عقلها الذي لم يتحمّل ما قيل، شعرت بساقيها لا تحملانها وارتجفتا من هول ما ورَد على دماغها وصدمته.
كادت تقع لولا يدُ القائد التي أسندتها إليه، لم تغِب الوجود، ولكن عيناها غابتا عن الوعي رغم جحوظهما، لم تكن في هذه الحال ترى سقف الرواق التي هي فيه مع القائد، بل كان عقلها يصوّر لها صورًا من الماضي، صورًا تلاشتها منذ كانت طفلة لتتلاشى ألمها، ولكن.. هل حال ذلك دونها الآن؟
قد تواردت لعقلها من جديد كاشفةً عن جزء الطفولة التي كانت وردية إلى أن احتلّ أحلامها مع والدها ملك «أرماء»، مملكة السماء التي قضت على شعبها ومازالت في حربٍ منذ ذلك الحين معهم، أسوء المجازر حدثت منذ وطئت أقدام رعاديد السماء «أرض الوعثاء»، لوثوها ودنسوها وأحالوا حياة قاطنيها جحيمًا، وكأنهم فيضانات من بركان مليء بالحمم جاءت إلى أراضيهم واحتلّت جذورهم وأرومتهم.
____________________
اتبع عقلها حبل الخيال ليُورد لها الذكريات.. وقد رأت نفسها حينما كانت فتاةً ذات اثنتي عشرة سنة، كان شعرها منسدلًا على كتفيها وتسير في المنزل صارخةً أنها تريد والدها، نظرت إليها أمّها بقلة حيلة:
_ومن أين آتي به يا ابنتي؟ إنه بين الجيش يجهّزه، هل آخذه من بين الجنود متعللة أن «كافور» الشقية تريده أن يصنع لها جديلةً بشعرها؟
كادت كافور حينها تبكي وهي تعقد ذراعيها، وقد زمّت شفتيها استعدادا للبكاء، قالت بصوت مبحوح وغاضب:
_أنا أريد أبي، لم أره منذ أسبوع، لقد اشتقت له، ولن أتخلّى عن صراخي وغضبي إلا إذا جاء.
وبدأت بالبكاء حزينةً على والدها الذي أهملها منذ أسبوع كامل، وكذلك والدتها التي شعرت أن هذا يكفي إلى الآن، وستذهب له إلى «مقرّ قسورة» شاء أم أبى ذلك، هو أب وزوج وله مسؤولياته، حتى وإن كانت الدولة تتجهز لمعركة إلا أن لهما حق عليه.
ذهبت رفقة ابنتها خارجةً من المنزل الكبير متجهة إلى العربة التي تجهزت لرحيلهما، أشارت للسائق بالتحرك فتحرك لتتعالى البسمةُ على وجه «كافور» بفرحةٍ احتوت وجهها، وما زال شعرها منسدلا على كتفيها منتظرة أن يهتم والدها بها ويصنع لها جديلة.
كانت أمها تنظر إليها ببسمة سعيدة لفرحتها قائلة وهي تهمس لها بخفوت:
_كلّنا فداء لسعادة الأميرة الصغيرة، يا إلهي على هذا الجمال، دعيني أقبّلكِ.
ضحكت «كافور» وهي تبتعد عنها مشيرة لها بإصبعها ألا تفعل، استغربت والدتها فقالت «كافور» موضحةً:
_لقد أخبرني أبي أن أقبّله أولا وألا أدع غيره يقبّلني، لذلك لن يقترب مني أحد عداه.
رفعت الأمّ حاجبيها بغيرة، واستنكرت فعلها لتقرص وجنتها قائلة:
_أيتها الشقية شبيهة أبيكِ، فتاة مدللة، حينما أجد «سماريّ» أعدكِ أنني سأحيل حياته رمادًا بسبب ما ملأ به عقلكِ.
أبعدت الأخرى يديها بسرعة عن وجنتها وهي تضحك بقوّة بينما قالت أمها ببراءة وهي تلعب معها:
_قُبلةٌ واحدة فقط؟
تعالت صرخات الأخرى بحدة قائلة:
_لا.
عقدت الأمّ ذراعيها بضيق مصطنع وهي تبتعد عنها مُدعيةً الحزن، أشاحت برأسها بعيدا تراقب ما وراء النافذة وهي تمسح دموعها الوهمية كي تكسب عطف ابنتها، وبالفعل رقّت «كافور» لتطبع قبلةً صغيرة على خدّ والدتها ثم ابتعدت تجلس مجددا قائلة وهي تتطلع لوالدتها التي تبادلها النظرات:
_قبلةٌ واحدة لن تضرّ.
صمتٌ ساد في المكان لثوانٍ وحينما تلاحمت النظرات مجددا امتلأ المكان بالضحك حينما انهالت الأمّ على «كافور» تدغدغها لترتفع صيحات الأخرى ضاحكة في المكان.
مرّت دقائق بمشاكسة إلى أن وصلت بهم العربة إلى «أرض قسورة» التي تكتظ بجمعٍ مشهود من الجُند لا تُرى نهايته، وكأنهم سِرب من أسراب الطيور المهاجرة.
شعرت أم «كافور» من الخجل قليلا حينما يراها زوجها قد اجتمعت به وسط كل هؤلاء الرجال، حسنا.. لن تتعجب إذا عاتبها وهددها بقتل كل من يلمح طيفها.. ولكنها تعلمت من أخطائها السابقة وارتدت غطاء الجسد الذي يغطيها من أعلاها لأخمص قدميها عدا عينيها اللوزيّتين اللتين ظهرتا من الغطاء الزمرّدي شديد الخضار، اللون الذي يعشقه زوجها وقد لبسته خصيصا لأجله.
مرت ثوان حتى لمحته بعينها وسط الجنود يصرخ في الجميع هذا هناك وذاك هنا، ويعطيهم الأوامر، هناك من يحمل الأسلحة، وهناك من يحمل الزاد والشراب الذي سيحتاجونه في معركة الغد، وهناك من يجلب المتفجّرات التي استعانوا بها من العلماء الذين حضّروها وطوّروا بها الأسلحة.
لم تدرك شيئا إلا وقد صرخت ابنتها «كافور» راكضة بين الجنود حينما رأت والدها، تعجب «سماريّ» من الصوت الذي يسمعه، صوت ابنته! أهو يتخيل؟
حاول تجاهل الصوت ولكن لم يتجاهل اليد الصغيرة التي كانت تمسك بملابسه من الأسفل، نظر بتعجب ليجد فتاته الصغيرة تضحك له بحب صارخة بفرحة:
_أبي!
بادلها الضحكة وهو يحملها بين يديه، ثم بحث بعينيه عن أمّها أو من أحضرها فوجد زوجته تتهادى في مشيتها بخجل إليه، شعر بالغيرة وهو يستغفر ربه، فهذه زوجته من تسير بين آلاف من الرجال، حتى وإن لم يهتم بها أحد واحترموها كونها زوجة قائدهم إلا أنه يكره ما تفعله به.. وبقلبه، ها هي النار تشتعل من جديد حينما وقفت أمامه بتردد وظهر ذلك من عينيها.
لم يستطع سوى أن يبتسم حين نظر لعينيها اللتين أسرتا قلبه، كادت تتكلم هي لولا صوت «كافور» الذي عَلَا في الأجواء فجأة قائلة وهي تشدد من احتضانها لأبيها:
_لقد اشتقتك كثيرا يا أبي.
ربّت على ظهرها وشدد من احتضانه لها يتنهد بحب، ثم نظر لأمها بعتاب فهمست بخجل:
_لقد…ابنتك.. كانت تصرخ باكية.. لتأتي إليك.
رفع حاجبه ليقول لها ببسمة تعلم معناها:
_ابنتي فقط؟
أشاحت بعيونها بعيدا فضحك عليها، مازال فيها الخجل متأصّلا في صفاتها رغم مرور أكثر من ثلاث عشرة عامًا على زواجهما، أدرك أن الحياء من صفاتها وأرومتها منذ أول يوم رآها به، وبعد رؤيته لها ها هي الآن زوجته وقد أسدل عليها غطاء الزواج ليسترها عن الأعين.. لم تعد بضاعة للجميع يرونها كيف يشاؤون، بل هي حصرية له وفقط.
ومن عادات الزواج عندهم أنه إذا تزوجت الفتاة البكر لا يُرى طيفها أبدا سوى لزوجها الوحيد الذي يمتلك الحقّ برؤياها بعد أن صارت امرأته.
قالت «كافور» التي كانت ماتزال تستقر على كتف والدها بحزن:
_ولكنني حزينة يا أبي.
نظر لها منتبها يستفهم عن حزنها لتتعجب أمّها من دلال صغيرتها والتي هي حتى لا تتدلل به، حسنا.. لقد غارت منها الآن كونها تستحوذ على اهتمام «سماري» دونا عنها.
_أنت غائب منذ أسبوع ولم تطأ غرفتي، ألم تشتَق إليّ؟
ابتسم على طفولتها وشفتها المزمومة بحزن، قال لها بحنان:
_ومن قال أني لا أطؤ غرفتك؟ إنني آتي لكِ كل يوم يا صغيرة، ولكنكِ تكونين تاركةً إياي وذهبتِ إلى عالم الأحلام، أيرضيكِ هذا؟
عقدت حاجبيها بتردد، هل ظلمته الآن وهو من يراها كل يوم؟ عيبٌ عليكِ يا «كافور».. قالت له وقد دفنت وجهها في كتفه بخجل من قولها:
_حسنا، أعتذر، قد ظلمتك.
ضحك وهو يقبلها من وجنتها بحب، ثم أبعدها قليلا لتتمسك فيه كالعلقة قائلة بحدة:
_لن أتركك حتى تصنع لي الجديلة.
نظر لشعرها الناعم المنسدل ليتعجب قائلا:
_ولكن شعركِ هكذا أجمل.
أومأت برأسها نافية وهي تقول رافعة إصبعها بتهديد:
_لا يا أبي، ليس جميلا، إنه يكون جميلا فقط حينما تلمسه يداك!
لم يتمالك نفسه وضحك عليها وشاركته زوجته الضحك ليقول مقبّلا خدها الصغير:
_أيتها المتملّقة الصغيرة.
_لست متملّقة.. أنا أقول الحقيقة، فأمي فاشلةٌ في صُنع الجدائل.
احتدّت نظرات أمها لتتهكم قائلة:
_أنا لست فاشلة، أنتِ من تبكين بالساعات إن مست يدي شعركِ.
اقترب منها «سماريّ» يطالع الاستنكار على وجهها ليقول بتقرير مضحك:
_لا تحزني، أنتِ فاشلة بالفعل.
نظرت له بصدمة جاحظة العينين ليبصرَ وجهها فضحك عليها قائلا:
_أجزم أن فاهكِ مفغور على آخره الآن.
أغلقت فمها الذي كان مفتوحا بسرعة البرق متذمّرة ثم تمتمت ببضع كلمات وتحرّكت إلى العربة، قالت «كافور» ببسمة شريرة:
_لا تهتم بها، سوف تبكي يوما أو اثنين وستصمت.
تظلع لها بتعجب يسألها:
_وهل كانت تحزن هكذا من قبل؟ يوم أو اثنين؟
_حسنا، كانت تحزن بالأيام حينما تقول لها كلمةً محزنةً أو تهملها بسبب عملك، ولكنها تهدأ حين تراك حتى لا تُحزنك أنت أيضا، تظلّ تكرر على مسامعي قبل مسامعها أنك رجل ذو مسؤوليات عديدة ويجب أن تقف بجانبك لا أن تنغّص عليك حياتك.
شعر وكأن دلوًا من الماء البارد سقط على رأسه ففاق مُرتاعًا من هول ما قيل له، وهو يدرك أن «كافور» صريحة إلى درجة أن تُفضي بكل أسرارها إليه مؤمنةً إياه على سرها، هل كل هذا تمر به زوجته وهو لا يدري؟ أي زوج هذا؟ أي زوج؟
ابتسم وهو يفكر في أخذ باقي يومه إجازة وسيُسند إلى صديقه «متناذر» الأعمال الباقية، صنع لها جديلةً كما تحب وترغب لتغمغم بفرحٍ وبعد أن انتهى من لفّ الجديلة التي وصلت إلى خصرها حتى ضحكت بحماس وهي تحتضنه من خصره فرفعها على ذراعه ببسمة.
سار بها إلى أن وصل للعربة التي تقبع بها زوجته وتراقبهم منها، أدخل ابنته، وظنت الأم أنه سيودّعهما ليرحلا، ولكن راودتها الدهشة حينما وجدته يجلس جوارهم في العربة ذاهبا معهم، غمرتها الفرحة وهي تلتفت إليه تسأله:
_أستذهب معنا؟ أم ستوصلنا فقط؟
ابتسم يخبرها أنه سيذهب رفقتهم لتنظر له بامتنان وفرحة، قال لها باسمًا بحب:
_ارفعي غطاءكِ.
تعجبت من مقولته، والتفتت حولها لتجد كل المنافذ مغلقة وعادت بعينيها إلى وجهه مجددا لتجده يشير لها أن تفعل، فرفعته لتلتقي الأعين وبسمات الثغر كما كانا أول يومٍ في الزواج، ونظرات الخجل تعتلي وجهها وكأنها اللحظة ذاتها، مسد على خدّها لتتسع بسمتها، قال لها بنبرة يشع منها الحب والشكر:
_أتعجب حقا أن الله رزقني بقطعة من نور، وأنا الذي كنت مظلمًا معتمًا كنجمٍ لم يعد له وجود.
_حقا؟ أنت يا رجل.. ألم تقل لي أني لا أقبّل أحدا وأنت لا تقبّل أحدا مثلي؟ والآن على وشك تقبيلها أمامي؟ يا أبي الخائن!
تطلعا إلى «كافور» بصدمة قليلة وقد تناسيا وجودها وهي بينهما تقطّب حاجبيها وتعقد ذراعيها بعدم رضا، ضحك «سماريّ» حينما استوعب الأمر قائلا:
_وما الذي أوحى إليكِ أنني سأقبّلها؟ أنا فقط أشكرها.
_نعم! هذا الشكر والكلام المعسول.. كلمة تجرّ كلمة إلى أن تقبّلها كما تفعل معي.. أولست من أخبرني أن هذا حرام؟
حاول التوضيح لها قائلا:
_حسنا، نحن زوجان وهذا حلال.. ثم أيتها الصغيرة تعالي إلى أحضان أبيكِ، لقد اشتقت إلى رائحتكِ يا شجرة المسك والعنبر.
____________
فاقت «كافور» من ذكرياتها على يد القائد وهي تربت على وجهها ببعض القوة لتفيق من غياهب الماضي، وقد كان قد راقها الماضي حقا، فهذه الذكرى الوحيدة الخيّرة قبل موت والدتها وأسر والدها قسرًا على يد الطغاة المتجبرين؛ حيث أقام ملك «أرماء» هجومًا عليهم بغتةً محيلًا الأسواق إلى مجازر، وقد كان الغدر في نفوسهم والشرور تتملكها حتى أهلكوا معظم ساكني «أرض الوعثاء».. الأرض التي لاقت الكثير على أيدي السفهاء من بطش وقتل وجور وظلم.
كم من طفل فقد أهله ومرعاه؟ كم من رجلٍ فقد زوجته ورعيّته؟ كم من أنثى هُتك عِرضها وانتُهك سترها لتكون عبرة لمن لا يعتبر، أوهذه حرب؟ أم أنها إبادة؟
أعادها القائد من سلاسل أفكارها ليبدو كأنه حررها من أغلالها قائلا بقلق:
_يا ابنتي، هل أنتِ بخير؟
أومأت برأسها وقد شعرت بثقلها لتقول:
_«كردوم».. إنه يمتلك دواء للإرهاق المفاجئ وهو يعطي مفعوله سريعا، أرجوك أريد الذهاب إليه أولا، أنا لا أحتمل رأسي.
أومأ برأسه ليسنده إلى يديه متحركا بها إلى ساحة المكتبة عند «كردوم» الذي يجلس كعادته بين الأوراق، يكتب كلاما ويختم أوراقا أخرى خاصة بقرارات المُلك.
اتجه إليه القائد بـ«كافور» التي شعرت بالإعياء، ركض لها «كردوم» حينما رآها والقلق يشع من عينيه، قال سائلا:
_ماذا بها؟ هل هي بخير؟ هل أصيبت أثناء التدريب مجددا؟
همست «كافور» إليه أن يحضر الدواء الذي يعطيها إياه دوما فذهب ليعود به سريعا، أما عنها فقد أجلسها القائد على أحد المقاعد على طاولة المكتبة قائلا بتساؤل قلق:
_تريدين ماء؟ شرابا ساخنا؟ أي شيء؟
نفت برأسها ليعود «كُردُوم» بالدواء وهو يعطيها إياه من القماشة الخاصة به، استنشقت رائحته الزكية فارتاحت نفسيًّا ومن ثمّ ابتلعته دون ماء أو شراب.
_سأكون بخير بعد دقائق، لا تقلقا.
كانت نظرات القائد مازالت قلقةً بينما «كردوم» يتعجب مما حدث لها، وقد ظن أن «حصيف» تعرض لها أو قسى عليها بالسيف أو الرمح، ولكن يتضح من نظرتها غير ذلك.. فهي متعبةٌ نفسيا لا جسديا، وسيعمل على كشف السبب وراء حالتها هذه.
_______________________________________________________
كان «حصيف» مازال جالسًا على الصخرة حول النار هائما، لا يدري بما يحدث بالداخل، شعر بالحنين إلى والدته وشقيقته التي تشبه «كافور» كثيرًا، وكأنّ الله عوّضه بها هنا حتى لا يشعر بالحنين إليها، ولكنه ما زال محتاجًا لها حتى وإن شابهتها كل الدنيا.. فهو يريدها هي لا شبيهاتها.
شقيقته العنيدة «سماء» التي كانت تكره إن اختصر اسمها وقال لها «سما»، كان رغم طيشه في هذا العمر إلا أنه يلاعبها ويداعبها بنكاته، تذكّر حينما ألقى عليها نكتةً لتستنكر قائلة:
_طب تصدق بالله إنك فاشل حتى في خفة الدم!
نظر إليها بتهكّم متذمرًا فحاول بدلًا من ذلك مغازلتها لتستمع له:
_يا سماء، إن نظرتكِ لما تلوين بها عينيكِ، تهز كياني كما تهز الريح راية جيشٍ مهزوم.
ضحكت لتقول وهي تضرب كفا بكف:
_ودا معناه إن أنا عاصفة؟ ولا أنت اللي ضعيف للدرجة دي؟
أكمل باللغة العربية قائلا بتملق وهو يغمز لها:
_بل أنتِ زوبعةٌ من السكر، إذا اجتاحت قلبي كأنه حبة فشار في قدر يغلي.
لم تتمالك ضحكاتها وهي تمسك معدتها من ألمها من كثرة الضحك قائلة باستهزاء:
_يا أخي دا تشبيه ماسمعش بيه نزار قباني ولا أحمد شوقي.
_وهو نزار قباني يعرف «سماء»؟ دا لو شافك لسانه هيعجز عن الوصف وهيفتح محل كشري من اليأس.
نظرت له بصدمة تبعتها بدفعات من الضحك وهي تضربه علئ كتفه قائلة وقد أصابتها هيستيريا من الضحك:
_بقى بالله عليه مالقيتش وصف ليّ أحسن من حباية فشار؟
أكمل متملقا باللغة العربية التي أحبّها منذ كان صغيرا متربيا على قنوات الرسومات المتحركة الشهيرة، قائلا بهُيام وهو يغمز لها:
_بل وجدتُ، أنتِ البلسم حين يجرحني اليوم، والوسادة حين يثقلني الهمّ، والشيبسي حين ينقطع الريجيم.
حسنا، الآن لا تمتلك سوى أن تُقيم الحداد على صوتها الذي بُح بسبب كثرة الضحك، دخلت أمهما فجأة عليهما تنظر لهما بغضب، قالت:
_اتلمّ المتعوس على خايب الرجا، قاعدين بتعملوا ايه يا خيبة أنت وهي؟
حكّ رأسه وهو يشيحها بعيدًا كاتما بسمته، ولكن نظرات «سماء» فضحتهما وهي تطلق ضحكاتها عاليا، لتنصدم أمهما وشهقت تقول بصدمة:
_يا لهوي، البت اتلبست.. عملت فيها ايه يا حيوان؟
رفع يديه باستسلام وكأنه ينفي فعله أي شيء، لتقول والدته بتهكم:
_يعني هو أنت هتعمل ايه غير المصايب؟
ثم أردفت وهي ترفع يدها عاليا إلى السماء حتى يجيب الله دعاءها قائلة بصوت عالٍ متمنٍّ:
_ روح يا ابني إلهي ألاقيك زي مجدي يعقوب ولا كريستيانو رونالدو حتى.. المهم تفلح.
_________________
ارتفعت ضحكات «حصيف» بعد كل هذه الذكريات التي استحوذت على عقله طوال ليلته، يتمنى حقا لو يعود إلى والدته ليريها ما أصبح هو عليه، ويرى ماذا حدث لهم، رغم أنه يتابع أخبارهم من بعض «جند السيارة» الذين يستقرون على الأرض لا يأتون إلا كل عام كاشفين عن أخبار أهل الأرض العُليا، ولكنه يشتاق إليهم حق اشتياق، كيف له أن لا يشتاق لهم ومناوشاتهم ومزاحهم؟
تنهّد بقلة حيلة ولكن الابتسامة لازالت تعلو ثغره، لعلّ اللقاء قريبٌ، لعلّك تراهم وتُريهم «حصيف» لا «كرم»، فالأول شهمٌ ذو مروءة وقد تدرّب على أيدي أقوياء الله على الأرض، والثاني لم يتعلم في حياته سوى الأنانية وحب الذات.. ربما هو كان يشعر بالنقص حتى يحبه الآخرون.. فلو لم يفعل كما يقولون وكما يفعلون ما كان زملاؤه ليضيفوه بينهم كرفيق جديد لهم.
همس قائلًا:
_الحمد لله حمدا كثيرا طيبا، الحمد لله.
___________________________________________________________
_«سَكينة»، اذهبي لتنظيف الساحة بينما أرحل أنا لجني الثمار من الحديقة، لدينا أعمال كثيرة اليوم.
كانت «سَكينة» مرهقة وهي تتطلع إليها قائلة بتعب:
_أولن ننتهي أبدا؟ أشعر كأن رأسي تهدّل على كتفيّ من الصداع.
لم تهتم «ريحان» وهي تجمع السلال التي ستملؤها بالثمار منشغلة بها غير منتبهة إلى «سكينة» التي يعلو وجهها التعب، قالت لها:
_لا وقت لهذا يا فتاة، علينا القيام بأعمالنا وإلا ما وجدنا مأوى يؤوينا.
أومأت الأخرى لتقوم متجهة إلى أدوات التنظيف آخذة إياها إلى ساحة صالة الحكمة التي خَلَت من «ذوي المطارق»؛ حيث أخذوا استراحةً بعد الطعام ساعة واحدة، تنظف فيها العاملات الساحة، وقد كانت «سكينة» المسكينة هي من يُلقى على عاتقها الأمر فأخذت تنظف متلاشية ألمها الذي بدأ يظهر على معدتها ورأسها.
شعرت «ريحان» أن بها خطبا ما، وأن التعب قد زاد بها إلى حد لا يحتمل، فذهبت إلى الساحة لتعرض عليها الراحة بيننا تقوم هي بفعل العملين معا، ولكن ما أن كادت تفتح باب الساحة حتى سمعت صوت ارتطام على شديد على الأرض، دخلت للداخل راكضة باحثة بعينيها عن «سكينة» التي رأتها تتوسط الأرضية غائبة عن الوعي، إضافة إلى أنها جرحت يدها بسكين حينما كانت تنظف الطاولة.
صرخت بملء صوتها أن يساعدها أحدٌ لتُقيم تلك المسكينة ولم تستطع حملها وحدها، كان «غسان» حينها راقدا على السرير ليرتاح من جُهد اليوم، ولكنه سمعصوت صراخ فكان أول من يخرج من غرفته إلى الساحة فيرى منظر الفتاتين بذهول ولم يعرف كيف يتصرف.
اقترب منهما بقلق وما إن أبصرته «ريحان» حتى صرخت في وجهه وهي تنظر بعيدا بفزع:
_ملابسك أيها الزنديق، استر نفسك.
نظر لجذعه العلوي عاري الصدر وقد نسي ارتداء سترته أثناء ركضه إليها، لم يعرف كيف يتصرف وقد أخذته الفزعة فأعطته الأخرى وشاح رأسها الذي كان يغطي شعرها، نظر لها بدهشة فقالت متعصبة:
_ارتدِ هذا الشيء، أنت لا تريد أن تحملها للطبيب وأنت عاري الصدر هكذا!
لم يملك إلا أن يأخذه منها، وقد كان الوشاح طويلا فستر جزءًا لا بأس به من جسده.
تحرك لـ«سكينة» التي كانت في عالم غير عالمهم ولا تستوعب شيئا مما يقولون، حملها وهو يتحرك بها رفقة «ريحان» التي صاحبته لترشده إلى غرفة الطبيب الذي تقع على الجانب الآخر من المقرّ.
قال لها وهو يتحرك بغيظ بعد أن استوعب:
_لم يكن عليكِ إعطائي وشاحكِ أمام الجميع هكذا وإظهار شعركِ!
كانت نظرات الحدة تعلو وجهها وقد اختفت نظرات القلق لتقول بغضب:
_التفت لشؤونك.
حسنا، كلمتان أسكتتاه وكتمتا كلاما كان على وشك إلقائه كمحاضرة عن التربية أمامها، ولكنهما وصلا إلى غرفة الطبيب وأدخلا «سكينة» إليها بعد أن طرقا الباب وقد فتح لهما، دخلت «ريحان» رفقة صديقتها وقد كاد «غسان» يدخل ليرافقها يدون وعي لولا أن قالت قبل إغلاق الباب بوجهه بتحذير:
_الزم حدودك يا «ذا المطارق».
_________________________________________________________
مرّت الدقائق لتجتاز «كافور» تعبها وإرهاقها، ليتفحصها «كردوم» بعينيه متوجسا من ما تخفيه أسفل ستار صمتها التي فرضته عليهم منذ جلسوا، استأذن القائد إياها في الخروج بعد اطمئنانه عليها، وسيمر عليها وقتا آخر، ولكنها أبَت وهي تقول له وقد قامت بعد أن استردت جزءا من عافيتها:
_لا يا قائد، خذني إليه أولا، عليّ رؤيته.
بدأت تستوعب كون والدها حيًّا، وتتمنى أن لا يكون ذلك مجرد حلم وسراب في النهاية، فكيف لها بعد خمس سنين من التأقلم مع شعور اليتم أن يكون والدها حيا؟
تنهدت والقائد يصحبها إلى مكان الحجرة، وقد كانت حجرة الرجل الذي قد عالجته «ريحان»، علمت ذلك حينما دققت وعاد لعقلها التركيز، طرقت باب الغرفة الغرفة بعد أن تركها القائد وحدها لتشعر بالرجفة تسري بجسدها.
لم تسمع سوى صوت منهكٍ يقول برويّة:
_ادخل أيها الطارق.
وبعد ثوانٍ تشجعت لتفتح الباب، لا تريد رفع عينيها إليه، لا تريد أن تبصر أبيها وهو على حال يرثى لها، تشعر أنها ستنهار ما إن تلتقي عيناهما.
لم تشعر سوى بصوت الآخر والتي تجزم أنه مبتسم الآن لرؤيتها كما يفعل دوما، قائلا:
_اقتربي يا ابنتي، اقتربي «كافور».
ابتلعت ريقها وهي تخطو عدة خطوات بطيئة، وكأنها تقدم قدما وتخلّف أخرى لتشعر أنها عاجزة، كيف لها أن تصل إليه؟ كيف لها أن ترفع عينيها في عينيه؟ هل ستراه حقا؟ أم كل هذا سراب؟
_انظري لي بعينيك بُنيتي.. انظري إلى حبيب طفولتك.
رفعت أعينها بتباطؤ إليه هنيهة لتبصر جرح كتفه الذي لم يندمل بعد، وقد واراه ببعض القماش، ثم طالعت رقبته المشوهة بالجروح صاعدة إلى وجهه الذي مازال بشوشًا رغم ما عدَت عليه من سنين.
كتمت تأوهًا وهي تطالع ملامحه التي بدت شاحبة وابتسامته الذابلة التي كانت مشرقةً أيام طفولتها، خمس سنين يفعلون هذا بالمرء؟ يغيّرونه حتى لا يعرفه أحباؤه؟ كيف؟ بل أقرب الأقربين لا يدرون بوجوده؟
تألمت وهي تطالعه ففتح ذراعه غير المصاب مشيرا إليها أن تقترب إليه، وبالفعل فعلت ليضمّها بحنان كما في السابق، أطلقت العنان لدموعها التي اكتسحت وجنتيها لترهقهما بالسخونة، وقد احمرّت عيناها من أثر الحزن وكتمها الدموع في محاجرها، قالت بصوتٍ أعطى للآخر حق مشاركتها الدموع وكررت عليه جملة طفولتها:
_لقد اشتقتك كثيرا يا أبي.
تساقطت دمعات الآخر ولم يقم جهدا في كبحها، قال لها مبتسما وهو يدفن رأسه في شعرها:
_وأنا اشتقتُ لكِ يا رائحة المسك والعنبر.
بعد دقائق من الحضن الصامت رفعت رأسها لتستريح على كتفه هامسةً له ببسمة:
_ أصبحتُ ألفّ الجديلة أجمل منك يا أبي.
ابتسم وضحك بخفوت يتذكر معها الذكريات الخوالي، ولكنه ما إن شرع في فتح تصاوير الذكريات حتى فتح عليه منبع الجروح، زوجته قُتلت أمام عينيه، ولم يستطع إنقاذها!
كتم غصّته بينما هي راودتها نفس الأفكار التي ترافقه، بدأت بالبكاء لتعلو أصوات شهقاتها، وكأنها كانت تكتم حزنًا من عمرٍ كامل، واليوم فقط سُمح لها بإخراج أحزانها ودموعها على كتف حبيبها الأول، والدها الذي كانت مقهورة من دونه، قالتله من بين شهقاتها:
_عشتُ وحيدة بعد غيابكما، لا لي عمّ ولا خال، عشتُ في عزلة عن الناس، وغربة من نفسي، كنت أحلمُ بك كل يومٍ وكأنك تمسد على شعري أثناء نومي كما كنت تخبرني، كنت أراك أمامي وأسمع صوتك في أذنيّ هاتين، وما إن ينقضي الأمر حتى يقولوا لي سرابٌ يا مجنونة، ما تشعرين به سراب، ما تسمعينه وَهم، ما ترينه حلم.
وضعت عينيها أمام عينيه قائلة بتوجّع وألم باطن ظهر في نبرة صوتها المبحوحة:
_لم أعد فتاتك المدللة.. لقد كُسرت وذُللت، وأصرّ العالم على جعلي أنضج باكرًا.
كانت نظراته كفيلةٌ بجعل الدنيا كلها تشعر بالحزن الدفين الذي يشعره به في هذه اللحظة، زوجته قُتلت، وفتاته يُتمت، وهو أُسر قسرًا، وعلاوةً على ذلك خسارتهم للحرب وقتها.. فمن ذا الذي يقف أمام عدو غادر لا علم لأولى خطواته وأواخرها؟
ملك «أرماء» رجلٌ قويّ متجرد من كل معاني المروءة والرحمة، وبعد أن مات بسبب مرض وارتاح الناس منه.. عاد ابنه ليتسلّم راية العذاب مُقسما ألا يذيقنّ شعبًا من شعوب الأرض الراحة ولو على جثته.
قال «سماري» بنظرة يعاتب فيها نفسه:
_والله لا ألومنّ إلا نفسي، لا ألومنّ إلا نفسي.
نظرت إليه الأخرى لتقول بنبرة نافية:
_لا تقل شيئا من هذا القبيل، أنت رجل حرب مغوار دافعت عنا ببسالة وذُدت عن شعبك رغم الضعف والهوان، وإنك رجل ممن لا يُكررون في العمر سوى مرة واحدة، فلا تتذكر سوى هذا وعسى الله أن يعوضنا خيرا.
وكأنها من تواسيه! وهو الذي يجب أن يواسيها، فقد كان بعيدا عنها ظلما خمس سنين، وهو الكبير وهو الأب وهو المسؤول والراعي، فالآن تواسي الغنمَة راعيها؟ منذ متى؟
نظر لها وامتنان العالم بأسره يكمن في عينيه لمراعاتها حالته، وضعت رأسها على صدره مجددا وهي لا تعلم ماذا تفعل، جفّ ينبوع الدموع رغم الحزن الذي يقبع بالقلب رثاء على والدة وزوجة، ولم يأتيا على ذكرها حتى لا يثقلا بها جرحهما.. فهما يريدان الاندمال والشفاء، لا الحزن والرثاء.
كانت كلمات والدها هذه المرة قوية غير مترددة وحازمة، يقول فيها:
_لأعوضنّكِ خيرا مما فقدنا، ولأعطينّكِ حياة أكرم وعيشةً أهنأ، ووالله لا أفرط في حق ثأر وجب عليّ الإتيان به.
__________________________________________________________
كان الطبيب قد فحص «سكينة» التي كانت غائبة عن الوعي ولم تفق بعد، وأعادتها «ريحان» رفقة «غسان» إلى غرفتها بجمود، و«غسان» متعجب قليلا من حالتها التي تغيرت إلى السكون، حاول أن يقرأ أفكارها وبالفعل فعل، لتجحظ عيناه ويُصدم حينما علم ما تفكر به، لم يجرؤ على سؤالها شيئا عن ما في خاطرها وإلا يدرك أنه سيلقى الحبس اليوم.. أفكارها ليست رائقة وجامدة، يشعر أنها ستنفجر في أية لحظة.
ذهب بعد أن اطمئن عليهما وكان وشاحها مايزال يغطيه فعاد إلى غرفته قائلا في نفسه أن يعيده إليها في الغد بعد أن تفيق من حالتها الساكنة والمبهمة.
بينما هي جلست على كرسي أمام السرير الذي تقبع فوقه «سكينة» صامتةً لا تحرك ساكنا، ظلت على هذه الحال بضع دقائق إلى أن فاقت الأخرى تمسك رأسها بألم خدّر جسدها وأحاله خرابًا، حتى أضحت تفتح عينيها بصعوبة.
لم تتحرك «ريحان» وهي تنظر امامها دون كلام ولا حركة، بينما «سكينة» تمتمت قائلة بصوت متعب:
_«ريحان»، ماذا حدث؟
التفتت إليها الأخرى بحركة آلية وصارمة، يظهر في عينيها الحدة ولكنها تخفيها وراء جبال الهدوء الذي ملأت به نبرتها:
_أتعلمين أنكِ حبلى؟
بهت وجه الأخرى وانعقد لسانها ودقّ قلبها بسرعة البرق وهي تشعر وكأنها تفقد أنفاسها من كثرة سرعتها، ازداد معدل تنفسها وسخن جسدها حتى أصبحت لا تقدر على البوح بكلمة، فزعت «ريحان» وهي تتحرك إليها جالبةً بخاخ الهواء الذي يساعدها في نوبات الهلع الخاص بـ«سكينة»، تنفست الأخرى وكأنها تصّعد في السماء.
بعد دقائق ارتاحت وتباطأت أنفاسها، لتلقي رأسها على الوسادة وراءها، وهي جاحظة العينين تنظر لسقف الغرفة بصدمة، بينما «ريحان» كسرت حاجز الصمت بقولها وسؤالها مجددا بهدوء مصطنع لتتفهم حالة الأخرى ولا تدهورها أكثر:
_من والد الطفل؟
لم ترد عليها الأخرى ومازالت تناظر السقف بصدمة، ذهبت إليها «ريحان» وقد طفح كيلها وهي تصرخ فيها بحدة:
_إن هذا زنا يا «سكينة»، لقد تربيتِ ونشأتِ على الصواب، والآن تخونين أمانتكِ؟ جسدكِ ليس ملككِ، بل هو أمانة تسلمينها بعد الزواج، مع من فعلتها وخنتِ ربكِ؟
صرخت بقوة في جملتها الأخيرة مما جعل الأخرى تنتفض بفزع وخوف، تتذكر الذكريات السيئة التي حلَّت عليها، رفعت عينيها إلى «ريحان» وقد راودتها هيستيريا البكاء:
_والله لم أفعل، لق..لقد استغلّوني..هم من فعلوا هذا والله ليس أنا..
جلست «ريحان» أمامها وهي تحرك كتفيها بقوة صارخة فيها بغضب:
_من هم إذن؟ ماذا حدث؟ كيف لا تخبرينني بما يحدث معكِ؟ احكِ لي الآن.
لم تستطع «سكينة» سوى أن تنهمر دموعها بخوف وصدمة وهي تدفع يد «ريحان» بعيدا حتى تنكمش على جسدها وتبكي، حاولت الأخرى أن تهدأ، وتذكر نفسها أنه من الممكن أن لا يكون لها ذنب، فكيف تظلمها بظنّها السوء؟
هدأت وتنهدت بضيق ثم أخذت الأخرى في أحضانها بقلة حيلة، كانت «سكينة» تدفعها بعيدا لتقول «ريحان» فجأة:
_توقفي عن الحركة، لن تهربي.
توقفت الأخرى بنظرات خوف وترقب، بينما «ريحان» همست لها بهدوء:
_اهدئي صغيرتي، واحكِ لي ماذا حدث، لست أتّهمكِ، ولكني خائفة عليكِ أن يكون مسّكِ سوء.
تعالت صوت شهقات الأخرى وهي تبكي بين ذراعي صديقتها، قائلة بنحيب:
_قد مسّني يا «ريحان»، قد مسني الضرّ والسوء، أصبحت مدنّسة.
صمتت «ريحان» لتتابع الأخرى كلماتها وهي تحكي لها ما حدث ببكاء:
_لم أفعل شيئا والله، لقد كانوا ثلاثة رجال من «ذوي المطارق»، كانوا في البداية يطلبون خدمتي منذ شهرٍ تقريبا وأنتِ كنتِ مشغولة، ذهبت إليهم فإذا به فخ ليستحوذوا عليّ، حاولت المقاومة.. لكن.. لكن..
انفجرت في البكاء، بينما عينا الأخرى مشتعلتان بغلٍّ وحقد لمعشر الرجال، وكأنهم السبب في كل خراب العالم، فماذا تفعل المرأة غير الخدمة وإمتاعهم؟ رجالٌ مرضى يحتاجون إعادة تدوير عقولهم، بئس التربية وبئس النشأة إن كانت تلك نهايتها.
لا تصدق أن صديقتها فقدت جسدها ونفسها بسبب هؤلاء الرجال الحثالة، ولكن كانت تتوقع أكثر من ذلك، فمن أهلك قوما وهتك أعراضهم كان رجلا، والله لتنتقمن منهم أشد انتقام، ازداد بكاء الأخرى لتربت «ريحان» على ظهرها وشعرها بهدوء، قائلة بمؤاساة:
_لاتحزني، اهدئي، لا تحزني.
صرخت «سكينة» بنحيب وقد تعالت آهاتها:
_كيف لا أحزن وقد سلبوني نفسي؟ كنت أحاول الصمت أمامكِ كي لا تشعري بأحزاني ولأُواري خزيي عنكِ، الآن أصبحتُ مكشوفة أمامكِ بفضيحة لشرفي وعِرضي، أنا لا أريد هذه الحياة، سوف أقتـل نفسي، فما الضير من حياة بائسة كحياتي؟!
دفعتها «ريحان» بعيدا وهي تحذرها قائلةً بتهديد:
_أقسم إن فعلتِ شيئا بنفسكِ فلن أغفر لكِ وستكونين خصيمتي يوم القيامة، وأما عن حقكِ فوالله ليرجعنّ، والله ليرجعنّ.
ثم أمسكت يدها لتقوم بها بسرعة غير عابئة بتعبها، تحركت بها إلى أن وصلت أمام غرفة «غسان» لتطرق عليه، فتح لها الباب وهو عاري الصدر ليتلقى منها ضربة على وجهه ثم أغلقت الباب لتقول من خلفه بغضب:
_أنت أيها الوقح ارتدِ ملابسك مرة واحدة في عمرك، أأنت سعيد برؤية الناس عضلاتك؟ لهذا الحد أنت تشعر بالنقص؟
بينما هو بالداخل كان مبهوتا بصدمة وهو يضع يده على خدّه المضروب، وقد تابعت «ريحان» كلماتها:
_أيها الحقير هل ترتدي درع الحرب لتتأخر بهذا الشكل؟ انتهِ مما تفعله واخرج.
ام يملك سوى أن يرتدي سترته العلوية وهو يتمتم بغضب من هذه الفتاة الجامحة، يريد أن يكبحها حقا ويُخرسها ولكنها ذات لسان لاذع وسليطة اللسان.
فتح باب الغرفة ليجدها مشيحة رأسها فنظر لها بسخرية، التفتت إليه لتجده أخيرا يرتدي ملابسه، نظرت في عينيه بضع ثوان والغضب يغمرها وهو يقرأ أفكارها كأنها تحكي له كل ما حدث، وكانت الدهشة تتملك عقله بعد أن سمع أفكارها في رأسه، ما كل هذا؟ ومن هؤلاء الرجال الخونة الأراذل؟
ألقت على مسامع عقله بعضا من أفكارها، فقالت له رافعة حاجبيها:
_فهمت ما سنفعله؟
أومأ برأسه وقد وضّحت له خطّتها ولكن كان الغالب على أفكارها كره الرجال وكرهه هو شخصيا بسبب أفعاله ولأنه من جنس الرجال، قال لها هامسا بسخرية:
_لكِ كل الحق بكرهنا بعد الذي حدث، جنسٌ عديم الرجولة والشهامة.
أومأت برأسها باستفزاز قائلة بكل صدق لأفكارها:
_أعلم أنكم معدومو الرجولة والنذالة تسري في أوردتكم كالمياه في الأنهار والبحار، رجالٌ أراذل لا نفع لكم في هذه الحياة.
حاول إصمات صوته الداخلي الذي يخبره أن يقتلها وينتهي منها الآن، وعلى الأقل يحقق طموحها بأن تثبت أن جميع الرجال واحد وكلهم سيء السريرة والطويّة.
___________________________________________________________
_حسنًا، والآن ماذا؟
كانت هذه جملته بعد أن وقفوا جميعا رفقة «سكينة» التي ترتجف خوفا وهي تعلم ما تفكر به صديقتها؛ حيث كانوا يقفون أمام «بقعة اللفيف» مكان عرش الملوك الخمسة على «أرض الوعثاء».
ابتسمت بسمة لا تبشر بالخير وهي تلقي عليه كلمات أشبه بالفحيح:
_ليس عليك سوى الشهادة التي تورد الثلاثة رجال مورد الهلاك، وقد علمناهم بعد أن دلتنا عليهم «سكينة» ورأينا وجوههم القبيحة، فالآن كونك محجوب عن قراءة أفكارك سوف تدلي بشهادة أنك رأيت اتفاقهم حينما كانوا يريدون الإيقاع بالفتاة المسكينة «سكينة»، اتفقنا الآن؟
_ماذا؟ هل تريدينني أن أشهد شهادة زور وأستغلّ قوّتي؟
رفعت حاجبيها باستفزاز بعد قوله المستنكر، لتكتشف اعتراضه على قولها، وهي لا تعلم سوى طريقة التهديد لتلقيه بين نارين قائلة:
_وإن لم تفعل ذلك حبستك بسبب أقوالك الأولى عن ما أفكر فيه، و«سكينة» ستشهد على ذلك.. ولك يا عزيزي أن تقضي عامين من عمرك داخل قفص حُكم عليك به بالقانون.
عقد حاجبيه يفكر في ما تقول وقد كانت جادة في قولها وملامحها لا تبشر بالكذب أو التهديد، هي لا تهدد.. بل تنفذ، ومع ذلك قال لها آبيًا أن يخون قسمه:
_لقد أقسمت ألا أشهد شهادة زور وأزوّر الحق.
فاض بها الكيل لتصرخ فيه بكل قوتها تريه ما هو محجوب من أمام عينيه رغم نظره وعقله وقوته، قائلة وقد طفح كيلها:
_وقد أقسمت أيضا أن تكشف الحقائق وتعزّ الصوادق، أولم تفعل؟ وأي حقيقة سوى ما عاشته فتاة رفقة ثلاثة رجال محجوبة عقولهم لا أحد يعلم ما يفكرون فيه إن أنكروا!.. لن يقبلوا شكوانا سوى بشهادتك! حتى وإن كانت زورًا، فما هي إلا طريقة لأخذ ثأرٍ وحقٍّ مسلوب.
________________________________________________________________
________________________________________________________________
شكرًا على القراءة، متنسوش الڤوت. “☆” 🥰
استنوا قبل ما تمشوا، حابة أوضّح كام نقطة للي لسة محتار..
1ـ «حصيف» كان من مصر بس معادش كدا، واحنا ماجيناش على ذكر أي ديانة للساكنين بأرض الوعثاء علشان كدا محدش يسأل هم مش مسلمين؟ أو مسيحيين أو غيره، احنا بعالم من الخيال ومش شرط نحكي عن قضايا مجتمعية بنعيشها، بل هو عالم تاني خالص بنستغنى بيه عن واقعنا المُر، علشان كدا مش هنربطه بأرض الحقائق والواقع.
2ـ نطق الأبطال كالتالي:
“مُتَنَاذِر، كَافُور، رَيْحَان، غَسَّان، سِنَان، حَصِيف، سَمَاريّ، رَاچِس، صُهَيْب، جَدِير، النَّاطِس، كُردُوم” أظن دول أغلب المذكورين في القصة.
3ـ معاني الأسماء:
“كافور”: هي شجرة يُستخلص منها علاجات وزيوت، وفي القرءان لها تفسير آخر أنها عينٌ من عيون الجنة.
” سِنان”: الرمح.
“حصيف”: كريم.
” الناطس”: الجاسوس.
“كردوم”: الرجل القصير ضخم الجثة.
___________________________________

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أرض الوعثاء)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى