رواية أرض الوعثاء الفصل الثالث 3 بقلم بسمة هلوان
رواية أرض الوعثاء الجزء الثالث
رواية أرض الوعثاء البارت الثالث

رواية أرض الوعثاء الحلقة الثالثة
(3): إنه حي.
____________________
قراءة ممتعة.
______________________________
في القرآن كله، موضعِين فقط قال فيهم الله ﴿ولا تحسبنّ﴾
الأول:
﴿ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيلِ اللهِ أمواتًا بَل أحياءٌ عندَ ربّهم يُرزقون﴾
والثاني:
﴿ولا تحسبنّ اللهَ غَافلًا عمّا يعمل الظالمُون إنّما يؤخِّرُهم ليومٍ تشخص فيهِ الأبصار﴾
طمأنينةٌ وَوعيد.. يا رب!
_____________________________
الحرب دومًا كالوحش المختبئ، يترقّب ثغرةً كي يخرج من مكانه وينهش لحوم الأبرياء بلا سبب سوى السيطرة.. وما أعظمها من كلمة تثبت جور الإنسان وتكبّره وأخلاقه المتدنية في أرض ربه.
_ما هذا الذي يحدث هنا؟ من هذا الشخص المُصاب؟
كانت تلك كلمة «كافور» التي قيلت بخوف ظاهر في عينيها وارتجافة كفّها حين رأت دمًا يسيل من كتف أحدهم!
لقد جاءت مع «ريحان» خلسةً كي ترى «ذوي المطارق»، ولكن الحراس استدعوا «ريحان» خصيصا كي تعالج كهلًا انفتح جرحه مجددا بعد أن داواه الأطباء، ولكن لسوء الحظ ذهبوا فلم يجدوا سوى «ريحان» تُعالج هذا الرجل المصاب.
كان الرجل يتألم وصديقه الأربعيني بجواره ينظر له بقلق، قلّب ناظريه بينه وبين «ريحان» ثم تكلم قائلا بعَجلة:
_ماذا به؟ أهو مصاب كثيرا؟ لقد أغشى عليه وهو يصرخ؟ بمَ تفسرين ذلك؟
تمالكت «ريحان» أعصابها وهي ترد على الرجل الذي يبدو وكأنه يستجوبها، قالت له مطمئنةً ببسمة حاولت رسمها على شفتيها:
_لا تقلق، فقط لم يتحمل من الألم، سوف أداويه الآن.
التفتت إلى «كافور» فجأة تقول بنبرة مستعجلة:
_«كافور»! اذهبي بسرعة للسيد «كردوم» واجعليه يعطيكِ مسحوق أعشاب الزهرة السوداء.. إنه أدرى بما يصنعه.
تلجلجت كافور وهي تقول متلعثمة بدهشة:
_ما.. ماذا؟ إلى «كردوم»؟
غضبت الأخرى لتهتف قائلة بعد أن حاولت استجماع صبرها ولم تُفلح:
_إن حالة الرجل تتدهور وأنتِ تتلعثمين؟ تعجّلي يا فتاة واركضي إلى ذلك الـ«كردوم» سريعا!
أومأت برأسها ثم خرجت راكضةً بين «ذوي المطارق» الذين يجتمعون على باب الغرفة من الخارج، كان «غسان» قد قرأ أفكارها وهي تتحرك بهذا التوتر، يسمع حديثها بينها ونفسها ليتأكد أنها ستتيه وتحتاج أحدا تستنجد به.. لذا ذهب وراءها سريعا كي يساعدها.. لا يريدون أي خسائر هنا، خاصةً إن كانت تلك الخسارة هي.. قائد الجيوش السابق.
________
كان «حصيف» بالخارج وهو قد أخذ اليوم أجازةً من تدريب تلك الفتاة التي تثير شفقته، كان يجالس القائد الذي كان يتكلم عن العتاد وأهمية الاهتمام بالجيش وتجنب إهماله تماما.
بينما كان «حصيف» يستمع بفكر شارد وهو يتفكر في أمر آخر، تكلم القائد لافتا انتباهه للمرة الثانية؛ حيث قال متعجبا:
_فيمَ تفكر أيها الفتى؟
انتبه أخيرا «حصيف» له ليقول عاقدا حاجبيه باستغراب:
_ماذا قلت؟ لم أستمع عذرًا.
ابتسم الآخر وقد علم ما يشغل باله ويأخذ فكره باحتيال، ذلك العقل البغيض الذي يجمعه بذكريات الماضي، أولن ينسى أبدا؟
_هل ما زلت تفكر فيهما؟
أشاح الآخر برأسه جانبا وهو يتنهد بتعب، لن تتركه ذكريات الماضي حتى ترميه جثةً هامدة لا عقل لها وقد كُسر قلبها.
أدرك القائد بما يجول في خاطره لذا قال له مربتًا على كتفه ببسمة أبوية حنونة:
_بعد الانتهاء من مهمتك مع «كافور» سأتركك مع جند السيارة لتزور والديك.
نظر «حصيف» له بتعجب، فما كان الآخر ليقول هذه الكلمات بعد كل هذه السنين!
ما الذي اختلف اليوم؟ أوَقد أثار شفقته إلى هذا الحد؟
_لا تفكر كثيرا يا «حصيف»، فقط دع نفسك للحياة، وسوف توجهك للفطرة.. وليست هناك فطرة أكبر من العودة للوطن بعد غربة، أدرك أنك تشتاق لهما كثيرًا.. ولهذا يمكنك الذهاب فوق الأرض رفقة «السيارة» وبعد أن تطفئ شوقك.. ستأتي سريعا ها..؟
كان القائد يقول آخر كلماته بنبرة تحذيرية بحتة، ليحتضنه «حصيف» وهو يبتسم قائلا بامتنان:
_أشكرك على كل ما فعلته لي، بدايةً من إخراجي من السجن حتى تدريبي بين الجند رغم أني لا أنتمي إليكم.
ضربه القائد على ظهره بقوة قائلا بحدة:
_ماذا تقصد بقولك لا تنتمي إلينا؟ إنك وَلدي.
ضحك الآخر بعد أن تأوه من الضربة القوية التي وُجِّهت له، ثم قال رافعا حاجبيه موضحا:
_كَوني الأول من بني البشر الذين تكرهونهم ويأخذ مكانة عاليةً في صفوف الجيش! هذا يكفي للتوضيح.
ارتفع حاجبا الآخر وهو يقول كي يخطئ الفكرة الذي طبعها الآخر في عقله عن نفسه ومكانته هنا رغم أنه لا يُشعره بهذا البتة:
_أتحتاج إثباتا؟ بل كونكَ اليوم بين أهم رُوّاد الجيش يجعلك أكثر من ينتمي إلينا.
ثم رسم البسمة التلقائية على فمه وهو يربت على كتفه قائلا بتوضيح قبل أن يتكلم الآخر:
_يا بني.. نحن لا نفرق بين خلق الله لا للون ولا لطائفة ولا لانتماء معين!.. بل يكفي أنك أثبتَّ منذ البداية جدارتك في أن تكون حاميًا من حُماة أرضنا.
جثا «حصيف» أمام قائده بعد أن قام بالتحية العسكرية، ثم ضرب على صدره بعزم قائلا بامتنان واحترام شديد لقائده الذي أصَّله في هذا المكان:
_الفضل لك بعد الله يا سيدي، كنت أنت من اهتمّ بي ورعاني إلى أن وصلت لما أنا فيه، أشكرك على كل ما فعلته من أجلي وكل علم ووقت أهدرته في تعليمي.. أنا مدين لك بعمري.
رفعه الآخر من على الأرض ليواجهه، وكانت البسمة تكتسح شفتيه فخرًا بما يراه ممن اعتبره ولده بعد موت ولده الحقيقي في الحرب التي نشأت قبل خمس سنوات.
تنهَّد وهو يزيح ساحة الذكريات الأليمة ليرى عوض الله له المتجسد في هيئة «حصيف» الذي أبهره بسرعة تعلمه ورونقه الذي ما زال فيه، ولكن قصة «حصيف» تطول حتى أن النفوس تحزن حين مسمعها.
ربت بيديه على كتفي الآخر قائلا ببسمة مفتخرة بما آل إليه:
_وكأنك عوض الله لي بعد كل هذه السنين، لا تعلم كم مكانتك عظيمة في قلبي يا بني، لطالما كنت كذلك ولن تزول.
بادله الآخر بسمته وقد تنهد كي لا تفوز عليه غصة حلقه وتظهر للعيان، أخذه الآخر بين أحضانه ليشعر «حصيف» بمعنى الأب الحقيقي، والراعي المثالي، والمُربّي الأمثل!
قال بصوت هادئ يرد على كلام قائده الحنون:
_وأنت كل ما في القلب يا أبتِ.
ابتعد عنه القائد وهو يبتسم، ثم قال له سائلا:
_إذن.. ما أخبار «كافور» أيها الجندي؟ هل تتقن مهمتك أم تتكاسل بها؟
أومأ الآخر برأسه يرد عليه ببعض الهدوء الذي حاول أن يستجمعه:
_ما كنت لأهملها وأتكاسل عن أداء واجبي أبدًا يا سيدي.
_لا شك في ذلك، إذن عليك إحضارها لي اليوم لأُقيّم ما وصلت تلك الفتاة إليه، لقد مضى أسبوع كامل منذ بدأت التدريبات رفقتك.
نظر الآخر للأعلى متحاشيا نظرات القائد، ثم تمتم قائلا بتهكم:
_عسى أن لا تُذل تلك الفتاة رقبتي أمامك!
_ماذا تقول؟
التفت «حصيف» سريعا يقول بتعجب مصطنع:
_كنت أقول أنها لا تزال طفلةً ولا أظنّ أنها قد تقدم أداءً مُتقنا، فهي رغم سرعة تعلمها إلا أنها عاطفية قليلا!
استغرب القائد ليتساءل بعدم فهم مقطبا حاجبيه بتعجب:
_وما المانع في عاطفتها؟ كل النساء هكذا.
_إنها تؤثر بشكل كبير على أدائها يا قائد، حاولت تعديل هذا الأمر قليلا.. ولكنه لا يأتي بيوم وليلة.
أومأ الآخر برأسه بعد كلماته ليتفكر قليلا في أمرها، وبعد دقائق من الصمت كانت قد طالت ليقول له:
_حسنا، اجلبها الليلة ولا يهمّنك هذا الأمر.
رد عليه الآخر إيجابا، ثم استأذن منه ليُعلم «كافور» بما قيل كي تتجهَّز، هذا دونًا عن أنه يحتاج إلى تغيير ملابسه إلى ثياب مريحة كي يغفو قليلا قبل حكم القائد على نتائج عمله الليلة، يجب أن يكون متيقظا ويأخذ قسطا من الراحة كي يركز في كل كلمة تُقال.
________
عشبٌ لزجٌ فاحت راحته الزكية بعد أن قامت «ريحان» بوضعه على جرح الرجل المصاب وقد قامت بإعادة تخييطه مجددا، وقد كان «غسان» يراقب «كافور» وهي تُعطيها القليل من الكمية كما أخبرها «كردوم».
حسنا.. تلك الفتاة لم تتِه كما كان يظن، وهو فقط كان يراقبها في الطريق إلى أن جاءت دون مساعدة أحد بالأعشاب، وحتى هو يُدرك أنها لم تره حتى حينما كان خلفها.
مرت دقائق ثم أتمّت «ريحان» الأمر، وبعدها قامت بتغطية الكهل المصاب بغطاء ثقيل نظرا لارتفاع حرارته وقد شعر بالبرد.
نظر لها صديق الرجل والذي لم يفارقه منذ جاء، كانت نظراته القلقة تتلوّى بين صديقه المدثر بالغطاء وتلك الفتاة «ريحان» التي داوته، قال لها:
_هل هو بخير الآن؟ يحتاج شيئا آخر؟
نَفت برأسها وهي تضع عشبا خاصا على الطاولة، قائلةً:
_لا تقلق، لقد أصبح بخير حال ولا خطورة في حالته، سوف أرسل «سَكِينة» زميلتي كي ترعاه إلى أن يصحّ ويعود سليمًا لأنه سوف يتطلبه دواء بمواعيد محددة.
قال لها معترضا على ما تقول:
_لا عليكِ، سوف أرعاه أنا، أنا جيد في مثل هذه الأمور، أطلعيني فقط على مواعيد الدواء.
أومأت برأسها موافقةً دون معارضة، ليس لديها طاقة للنقاش، هذا غير أنها سوف تمرّ عليه في بعض الأوقات لتطمئن على حالته.
قالت بهدوء:
_حسنا لا مشكلة، الدواء بمقدار ملعقتين من الأعشاب الموجودة على الطاولة، تُمزج بمسحوق الزهرة السوداء مع بعض الماء، وتطعمه للمريض مرتين يوميا، بعد الفطور وبعد العشاء.
أومأ لها برأسه مجيبا، وقد حفظ هذه المعلومات في خزانة ذاكرته كي لا ينساها، بينما هي خرجت من الغرفة رفقة «كافور» التي تتلجلج في خُطاها بعد أن رأت مظهر الدماء التي لوثت لباس الخدم الخاص بـ«ريحان».
طمأنت الجميع في الخارج فتفرقوا كلٌّ في طريقه إلى صالة الحكمة كي يقوموا بطقوسهم اليومية التي قد تأخروا لفعلها بالفعل.
بينما كانت «كافور» عيونها معلقةٌ بملابس «ريحان» التي تعجبت من نظرات الأخرى ليعتمر الغضب وجهها وهي تقول رافعة حاجبها:
_ما بالكِ تنظرين إلى ملابسي بهذه الطريقة؟ هل أنا مخيفة إلى هذه الدرجة؟
أومأت «كافور» نافيةً ما قالت، لتنفخ الأخري بضيق:
_ما الأمر إذن؟
نظرت الفتاة لها مباشرةً إلى عينيها تقول خائفة:
_لستِ مخيفة.. بل مرعبة.
ابتسمت «ريحان» بغيظ، ثم حاولت أن تنتقم منها بكلماتها قائلة ببسمة قاتل متسلسل:
_هل تعلمين؟ أنا لم أعالج الرجل من الأساس، بل وضعت له سُما سوف يجعله يبصق الدماء ويصاب بتقرحات في جسده ليتعذب ثم بعدها يموت وقد تمزقت أشلاؤه.
جحظت عينا «كافور» التي تسمّرت من الصدمة في مكانها، ضحكت «ريحان» عليها ولم تهتم وهي تذهب لتبدّل ملابسها متمتمة باستهزاء:
_غبية.
وقفت «كافور» في مكانها عدة ثوانٍ ولم تتحرك، بينما سمعت صوتا خلفها فجأة مما جعلها تصرخ وهي تبتعد قائلة بصراخ:
_ابتعدوا عني أيها القَتلة المستبدون، سوف أشتكي للقائد!
ولم تُبصر سوى «حصيف» الذي نظر لها بدهشة مما تفعله وتقوله، إنها تقف بأسوء وضعية قتالية يمكن أن يراها الجندي يومًا!.. فما بالك بعدوّ؟
ثم ما هذا الكلام الغريب الذي تقوله؟ من هؤلاء القتلة الذين تتحدث عنهم؟ وفي مقر أرض قسورة حقا؟ أءمن البقاع على الأرض؟
تشتتت عيناها وهي تطالعه وقد تلجلجت في نبرتها تقول:
_آسـ.. آسفة حقا.. أنـ.. ـا لم.. لم أكن أقصدك!
رفع حاجبه قائلا:
_ومن تقصدين إذن؟
_ما.. ماذا؟.. لا شيء.. إنني فقط أمزح.
قالت جملتها الأخيرة وهي تضحك ببلاهة كي تخفي ما قالته، بينما هو لم يهتم.. هو يعلم أن عقلها صغير وخيالها واسع بعض الشيء، أو إن صح القول؛ فهي مجنونة.
_سوف نقابل القائد «مُتَنَاذر» الليلة، وسوف يحدد مستواكِ الذي وصلتِ إليه إلى الآن، عليكِ الاستعداد.
شهقت بصدمة قائلة بقلق واندفاع:
_ماذا تقصد بالليلة؟ لم يتبقَّ سوى ثلاث ساعات على غروب الشمس!
ابتسم بسمة استفزّت حواسها وهو يقول:
_لهذا سوف آخذ قيلولة بسيطة إلى حين تتجهزين، السلام عليكِ.
وتركها ذاهبا إلى غرفته في المقر، نظرت لأثره بذهول مرددة ما قاله:
_يأخذ قيلولة؟
____________
_هل يمكن لأحدكم أن يصف لي ما هذا الشيء؟
كان هذا «ذا المطارق» الأكبر الذي يحتم واجبه أن يعتني بهؤلاء الجدد ويدربهم على ما هم مقبلون عليه، يبدأ باختبار قدراتهم الواحد تلو الآخر، وبهذا يقسمهم إلى أقسام مختلفة يتعامل مع كل منها بمستوى قدرات محدد لهم؛ فالأصابع لا تشابه بعضها رغم أنها تجاوره.
كان الجميع يفكر في الكُتيب الصغير الملفوف بعناية بحبل بسيط يحكمه، يتفكرون ماذا فيه؟ كما قال سيدهم الأكبر أن يحاولوا معرفة ما بداخله ويصفوه.
الجميع يشعر بالتشتت، فهم يقرؤون الأفكار لا الورق المغلف!
استنكر أحد «ذوي المطارق» معترضا بقوله المتعجب:
_عذرا، ولكن كيف لنا أن نقرأ كتابًا محجوبا عن أعيننا؟ أليست موهبتنا قراءة الأفكار كما نعلم؟
طالعه «ذو المطارق» الأكبر بهدوء قبل أن يبتسم بعدها بثوان ويقول مقولته التي جذبت انتباههم:
_أولا.. أوليست الأفكار محجوبة في العقول كما الحبر محجوب في هذه الورقة المغلقة؟
نظر لهم يتطلع إلى آثار ذلك على نفوسهم، المهتم فيهم واللامبالي، الشارد والرائد!
لم يكونوا جميعا يستحقون هذه الموهبة، فأنّى لرجلٍ عاطل شريد أو آخر مشاغب كالمراهقين أن يرزقوا بموهبة لا علم لهم بأهميتها مستقبلا؟
أكمل كلماته قائلا وهو ما زال يحافظ على هدوئه:
_ثانيا.. إن لموهبتكم تلك قدرات، تختلف من شخص لآخر، وكذلك يختلف إتقانها، فهناك المجتهد الذي يحاول بكل قوته كي يصل للنتيجة، وهناك اللامبالي الذي سوف يُطرد أو يُسجن إن لم ينتبه معي هنا.
قال آخر كلماته بصوت عال غاضب من هؤلاء الذين لا يهتمون بكلمة مما قال، وما أن انتبهوا ولاقوا نظرات السيد اللاحقة بهم حتى خجلوا من أنفسهم وتحاشوا النظر لوجهه المخيف.
صالة الحكمة لا يتعدى روادها الخمسة عشر شخصا، فهذه الموهبة لا تظهر للكثير من أرضهم، بل يستمرّ عام كامل إلى أن يحصلوا على ثمرة أخرى من شجرة الرزق التي كتبها الله عليهم.
كان «غسان» يراقب ما يحدث بأعين حادة، ينظر إلى الورقة ثم إلى زملائه «ذوي المطارق»، وهو لا يستطيع قراءة بالهم، فعقلهم ذو حجابٍ ممتنع عن الاقتحام.
نظر للورقة المطلوب أن يعلم ما فيها مجددا وحاول التركيز، ليجد قراءة مشوشة أمام عينيه كأنها الورقة، أما عن أفكار الناس فهو يسمعها بأصواتهم في عقله، وأما عن هذه الورقة فكأنها تتواجد أمامه ولكن لا يظهر فيها أي حبر أو كلمات، قال مستنكرا متغافلا عن صوته الذي كان عاليا:
_إنها فارغة!
كانت القاعة ساكنة لذلك استمع الجميع لصوته والتفوا له بعدم فهم، وكذلك سيدهم الذي نظر له رافعا حاجبه من قطعه كلماته.
قال محاولا تبرير ما حدث منذ ثوانٍ:
_هذه الورقة الملقاة على منتصف الطاولة.. إنها فارغة.. ليس بها أي كلمة حتى.
كانت نظرات الآخرين تطالع هذا المستجدّ بريبة، هم هنا منذ سنوات يتعلمون، وهو منذ يومه الأول يحسن تدريبه؟ ومنذ الاختبار الأول حتى؟ كانت تلك فرضيات افترضها زملاؤه إلى أن فتح سيدهم الورقة ليجدوا فيها كلمة واحدةً يكذب بها رأي «غسان».. “الوعثاء”.
خجل الآخر من كلماته التي قالها بثقة وهو غافل عن فشله.. نظر له أغلب الناظرين بشماتة، ولكن قال «ذو المطارق» الأكبر مبتسما:
_أحسنت، تعديت توقعاتي منذ اللحظة الأولى التي رأيتك بها.
تعجب الآخرون من كلماته وهو الذي بيّن لهم منذ ثوان فشل الآخر!
أتبع كلماته يوضح لهم قائلا:
_إن هذه الورقة لا كلمات بها بالفعل، وإنما هذه الكلمة سحر أعين استخدمناه في تشويش العقول، وإنها لعبة وخداع للعقل، وكان عقل «غسان» لم يقع في الخدعة، ووقعت في ذلك عيناه.. كما أعينكم جميعا.
ثم استردف قائلا وهو يطالع «غسان» ببسمة:
_إنك منذ اليوم أول المرشحين من بعدي في المنصب يا «غسان» فابقَ مجتهدا تغنم.
كان الآخر مصدوما من هول ما سمعه، لقد مدحه وشكر فيه وأعطاه فرصةً للترشح للمنصب أيضا؟ هذا كثير عليه، هو فقط فتى في شبابه لا يعلم عن الحياة إلا القليل، فهو قد تربى في عائلة فقيرة، ولم يكن من ضمن أحلامه أن يصل لهذا الحد.. وها هو الرزق يوصله لما بعد أحلامه بمراحل.
تدارك صدمته وهو يشكر سيده الأكبر، وكان الآخرون منهم من يحقد عليه، ومنهم من يهنئه على نباهته.
مضى وقتٌ إلى أن جاء طعام الغداء في وقت العصاري، توزعه الخادمات بلباسهنّ الأسود الفحمي الذي كأنه تطاله خيوط من نار.
كانت من تضع الأطباق على الطاولة في صالة الحكمة هما «ريحان» و«سكينة»، وما أن وصلت «ريحان» إلى «غسان» الذي كان يُبعد عينيه عنها وعن النساء في هذا المكان، ليس من شيَم المرء أن يُطالع امرأة هنا.
وبينما الجميع مشغول بالطعام كان «غسان» قد لمح الأخرى، وكانت تلك من رآها في أول يومٍ له هنا، كان يعلم أفكارها ويقرؤها دون الحاجة لفحص تعابير وجهها، كانت الأخرى تبتسم بسخرية وهي تنبذ معشر الرجال الذين تكرههم وتحدث نفسها أنهم لا شيء، التفت لها بحدة حينما علم فيما تفكر.
بادلته النظرة وهي ترفع حاجبها له بمعنى (إن شئت تكلم أمامهم وستُقطع رأسُك).
أشاح وجهه مرة أخرى للطعام فابتسمت بانتصار، كان غاضبًا وهي تعشق استفزاز الآخرين وهذا ما أجنّه أكثر.
همس لها قائلا بتهكم:
_ما هذه الأفكار السوداوية يا فتاة؟ أأنتِ سفّاحة في العشرينات؟
قالت ترد عليه باستفزاز:
_إن شئتُ الآن حبستك بسبب خرقك للقاعدة الثانية في هذا القصر، ولكنك تعجبني.. فاصمت الآن.
_أعجبكِ؟
قالها متعجبا جاحظ العينين من أفكار هذه المرأة، إنها تتسلى به كالدمى!
أومأت الأخرى برأسها تدّعي البراءة، أنهت وضع الطعام أمامه ثم ذهبت لمن بجانبه تفعل المثل، كان زميله يراقبها خلسةً ويتفحص جمالها ونصف شعرها الظاهر من تحت الوشاح، لم يقرأ أفكار زميله.. ولكن من نظراته وملامحه يظهر أنه لا يفكر بخيرٍ أبدا.
لم يهتمّ كثيرا، ولكن. المروءة تمنعه أن يصمت عن هذا، ولم يلبث إلا ووجد «ريحان» تقول بصوت هامس كالهسيس إلى زميله في تحذير:
_أشِح مُبصريك وإلا نزعتهما عن محجريك.
أبعد الآخر ناظريه عنها لأن هذا يُعد خرقا للقواعد أيضا، أن ينظر الرجل لامرأة لا تحل له، خاصة وإن كانت من الخدم المستضعفين، رباه! هذه المرأة ليست مستضعفة بالمرة، بل هي قوية وجائرة.
تابعها وهي تنهي وضع الطعام أمامهم لتحييهم ببسمة هادئة تعجب منها.. فهي تفكر الآن في كم أنهم مزعجون ولا تخجل من أن يقرؤوا أفكارها؟
حقا إنها لفتاة لعوبٌ، تمثل ببراعة الهدوء بينما تضمر في داخلها ما يعاكسه.
وبينما هي تخرج إذ بها تغمز له خلسة وقد علمَ في هذه اللحظة أفكارها التي تتعمد استفزازه، كان يعلم أن من البسيط قراءة أفكارها، ولكن.. هو يعلم حتى وإن أدرك ما تفكر به.. فهذا ما تظهره له.. لا ما يريده فعلا، يبدو أنها تعلمت كيف تخفي أفكارها الحقيقية وسط هؤلاء اللاهثين، وتتحكم في رأسها بشكل ما.. فهناك الكثير عنها لا يدركه.
_____________________________________________
مضت الساعات و«كافور» في حديقة المقرّ تتحرك يمنة ويسرة في توتر وقلق، و«ريحان» تقف أمامها بملل تطالع توترها وحقا تتمنى لو تضربها في رأسها وتعلمها الثقة في نفسها.. ويل الفتاة إن ظهرت ضعيفة.. ويلها.
كانت تلك أفكار «ريحان» التي تتطلع لـ«كافور» رافعة حاجبها، حينما قالت الأخرى بتوتر:
_ماذا إن لم أعجبه؟ ماذا إن كنت فشلت في الاختبار؟
ظهرت ملامح الفزع على وجهها وهي تقول بخوف:
_يا ويل «كافور»! سوف أعيش بقية عمري ذليلة ضعيفة تحت جناحهم؟ ويملّ مني القائد لأنني لم أفلح كما أخبرني! ياللهول..! سوف أ…..
صرخت «ريحان» فجأة بغضب توقفها عن الحديث والتوتر كأمٍّ توعّي ابنتها في أيام ظهور نتيجتها الامتحانية:
_توقفي الآن!
تسمرت الأخرى في مكانها تنظر لـ«ريحان» جاحظة الأعين بخوف، أكملت «ريحان» في حديثها بغضب ويبدو أنها ستوبخها أشد توبيخ:
_ماذا سيحدث إذا فشلتِ في الاختبار؟ لا شيء..
أنتِ مازلتِ فتاة صغيرة، وسيكونون كاذبين على أنفسهم إن ظنوا أنكِ ستتقنين في أسبوع ما لا يتقنه الجندي في أشهر! لا تكوني غبية وفكري بشكل سليم.. فتاة في السابعة عشر من عمرها تدربت لأسبوع فقط مقابل جندي يتدرب أشهرًا وسنينًا؟
ابتلعت «كافور» ريقها وما زال الخوف يعتمر صدرها ويستحوذ على أفكارها لتقول:
_ماذا لو..
_ليس هناك ماذا لو.. أيتها المتشائمة الغبية! تفاءلي قليلا بحياة طيبة واستقبال حسن حينما يعلم القائد ما وصلتِ إليه في تدريباتك! ليس وكأنه سيلقاكِ بالأحذية والقمامة إن فشلتِ!
كانت «كافور» تنظر لها بصدمة، ولم تفسر «ريحان» صدمتها وهي تقول بغضب جم تصبه عليها:
_ماذا الآن؟ لمَ هذا الاذبهلال والشحوب الذي يعلو وجهكِ القبيح؟
صدمها ما قالت الأخرى إذ قالت بنفس دهشتها وتسمرها في مكانها:
_لقد قلتِ عني غبية؟
_ومررتِ أنني قلت أن وجهكِ قبيح؟
قالتها بسخرية، لتتذمر «كافور» وهي تصرخ في وجهها تدافع عن نفسها قليلا بعد كل هذا الصمت:
_من هنا ذات الوجه القبيح أيتها الشاحبة؟
_وكأن وجهي يستطيع منافسة وجهكِ شحوبًا.. إنكِ تكادين تذوبين الآن من فرط الرعب.
شهقت «كافور» وهي تقول بغضب:
_وقحة!
_دميمة.
_زنديقة!
_غبية.
_حسنا توقفا الآن.. ماذا تفعلان بحق الله؟
التفتت الأعين لتتوجه إلى الصوت الذي كان يخص «حصيف» ضائق الصدر وصارم الوجه وهو ينظر نحوهما بأعين مخيفة، تشنجت «ريحان» بسخرية وهي تهمس لـ«كافور» قائلة:
_لكِ الحق أن تسبّي مدربكِ وتقولي عنه مجنونا..
طالعهما «حصيف» بحدة وقد سمع كلماتها ليلتفت إلى «ريحان» التي رفعت وجهها ببسمة مستفزة مشيرة إلى «كافور» التي طالعته بوجه تعلوه البلاهة وهي لا تعلم ماذا تفعل في هذا الموقف العصيب والتذي أوقعتها تلك الحيّة «ريحان» فيه! ليتها لم تعرفها يومًا.
رحلت الأخيرة دون أن تهتم بمظهر «كافور» التي ابتسمت لـ«حصيف» قائلة ببسمة بلهاء:
_مرحبا، كيف حالك؟
رفع حاجبه بسخرية وكأنه يقول لها (حقا؟).. بينما هي نظرت للأرض بحرج ليقول لها بنبرة صارمة:
_حسابكِ معي فيما بعد، اتبعيني..
القائد ينتظرنا، عسى أن لا تقصّري رقبتي ورقبتكِ أمامه.
رفعت رأسها بضيق من قوله لترى ظهره وقد تحرك بالفعل راحلا خارج حدود المقرّ، تمتمت وهي تسير خلفه بنزق:
_أحمق متباهٍ.
_أسرعي.
قالها وهو يلتفت لها بحدة لتركض وراءه تلحقه بوجه فزع أن يكون سمع كلماتها.
________________________________________________________
كانت «كافور» تقف أمام القائد «متناذر» باسمةَ الوجه؛ لأنه قابلها ببسمة فخورة حينما وجدها بملابس الجنود، وسيفها في غمده، بينما قوسها وراءه معلقٌ في ظهرها، وقد لمّت شعرها وراءها في قطعة قماشية احتوته، قد تجهزت بالكامل ليقول وهو يستقبلها بأحضانه مربتا على ظهرها قائلا:
_مرحبا بالفتاة الجميلة والجندية الجليلة، من مظهركِ أشعر وكأنكِ ذاهبة إلى حربٍ وليس تمرينا بسيطا.
ضحكت بخفة على قوله وهي تشعر أنه كأبيها الذي كان يقول هذا في صِغَرها منذ خمس سنين فقدٍ مروا عليها كأنهم عمرٌ كامل.. لم تعتد أن يداعبها القائد «متناذر» بكلامه ولكنه فعل!.. وهي استقبلت كلماته وأحضانه بصدر رحب.
ردت على كلماته قائلة:
_إنني جاهزة الآن، أخشى أن لا يعجبك أدائي والله يا قائد.
نفى برأسه وهو يقول بجدية احتوتها كلماته:
_ومن في هذه الدنيا يعجبه شيء يا ابنتي؟ إنما هو الرضا من يحكمنا ويغيثنا، وإنني سأرضى بأي شيء منكِ ما دام هناك تقدمٌ.. حتى ولو لم أره سوى بعد سنين.. ولكن يكفي أنكِ في النهاية تتعلمين.
ابتسمت على كلماته، تنهدت وهي تتذكر كلمات والدها الحكيمة التي تشبه قوله كثيرا.. سخرت من نفسها.. بالطبع سيكونان متشابهين، فوالدها كان يقابل «متناذر» أكثر مما يقابلها حتى.
أومأت برأسها ليشير القائد لـ«حصيف» بالبدء، وبالفعل بدأ الآخر قتالا بينه وبين «كافور» التي تعلمت من أقواله الكثير.
كانا يتحركان على شكل دائرة تجاه بعضهما ليقول «حصيف» رافعا حاجبه ببسمة:
_أوَلن تبدئي القتال يا امرأة؟
بادلته البسمة بأخرى جانبية تقلد كلماته وقد تشبعت منها في الفترة الماضية:
_أولن تبدأ أنت يا رجل؟
ضحك الآخر بخفة، فهي الآن تناظره في الكلمات كما تناظره في الأسلوب، ولكن الحرب ليست بالكلمات اللعوبة المخادعة.. ولا حتى بالسيوف والأسهم، إنما هي تجمعهما.
بدأ «حصيف» يباغتها بسيفه فصدّت الضربة بقوة، مرت ثوان وهي تقول هامسة ببعض القوة التي تملكت نبرتها:
_سوف تُهزم اليوم يا صاحب الأرجل الحافية.
لم يستطع مقاومة نفسه أن ينظر لقدمه متعجبا كلماتها التي تقولها لأول مرة له، فمنذ متى كان يسير حافيا؟ ومنذ متى وتلك الفتاة تناظره بالكلمات؟
استغلّت هي إشاحته البسيطة عنها لتبعد سيفه بقوة بعيدا ولكنه تدارك أمره وهو يقوّي يديه عليه ممسكا إياه ثم هجم عليها بكل قوته وبحركات مدروسة.. وقد أدرك أنها اتخذت استراتيجية جديدة في المعركة وحاربته بكلماتها.. تلك الفتاة ليست سهلةً كما ظنّ.
ابتلعت «كافور» ريقها حينما رأت نظراته والتي يظهر منها أنه كشف حيلتها وبجدارة، فعل مثلما كانت تفعل وهمس لها قائلا ببسمة جانبية:
_لن أُهزم.. وسترين، فلست أنا من يقبل الهزيمة على يد العدوّ.
أجابته قائلة بتحدي:
_لست عدوّتك، تعلّم أيها المتحاذق أن تفرّق بين حليف تعلمه.. وعدوٍّ تجحمه.
مرت دقائق وهما يتهاوشان حتى في النهاية سقط سيفها بقوة بعد هجتمته السريعة التي لم تحسب لها حسابا، نظرت له بصدمة لتراه قد ابتسم وهو يقف على قدميه آخذا أنفاسه بعد كل قوته التي أخرجها في الهجوم.
لم ولن تقبل الهزيمة!.. التفت وهو يشير لبقائد الذي يقف على مقربة يتابعهما وابتسم له لينظر له القائد مبتسما ولكن ليس ليبادله البسمة.. بل لأنه رأى «كافور» تستعيد سيفها وهي تحاصر «حصيف» فجأة وقد وقع أرضا وسنّ سيفها على رقبته.
كان مصدومًا أكثر من فعلها بينما ضحكات القائد «متناذر» تعالت بصخب على ما يراه، فهذا تلميذه قد هُزم على يد تلميذته نفسها.. وقد كان درّبها بنفسه.
اقترب القائد وهو يوقف «حصيف» على قدميه، والذي كان عاقدا حاجبيه يستوعب ما قد حدث له.. لقد.. هُزم؟
_واحسرتاه.. واحسرتاه عليك أيها الشاب.. وأنا من كنت أقول أنك أفضل جُندي، والآن وجدت من هو أمهر منك.
قال الآخر محتجا على قول القائد يظهر له أن هذا ليس عادلًا ويحاول الدفاع عن نفسه كي يخفي خيبته:
_هذه ليست أخلاق حرب يا قائد، لقد هَجمت من الخلف.
أجاب عليه «متناذر» قائلا:
_ومنذ متى كان للحرب أخلاقا؟ عدوك لن يكون شريفا حتى يستأذنك بقتلك يا «حصيف».
قالت «كافور» متدخلة في الحوار وهي تبتسم بنصر وقد اكتسحت ملامح الاعتزاز بنفسها وجهها:
_دعه يرثي خيبته ويدافع عن فشله يا قائد، لن يفيده ذلك بشيء، فأنا في النهاية المنتصرة.
نظرات الحدة عَلت أعين «حصيف» وهو ينظر لها بشر قاتل، لو كانت النظرات أسهمًا لكانت سقطت صريعةً مقتولة بحدة نظراته التي كانت سيفا نصله موجهٌ إلى رقبتها.
ضحك القائد وقد تعجب أقوالها الغريبة التي بدأت تقولها، ويلتاه! إنه أسبوع فقط وتغيرت به؟
_ما الذي أطلق لسانكِ اليوم وقد كنتِ صامتةً لا تقوين على ردّ أحدهم خاىبا ولو كان يرجو قتلكِ.. أين ذهب خجلكِ يا فتاة؟
نظرت للأسفل ضاحكة على نفسها وعلى كلماته، لقد راودتها الثقة بنفسها اليوم، ربما هي كلمات «ريحان» التي أفعمتها بالقليل.. بل بالكثير من الأمل والثقة.
قال «حصيف» بتهكم وهو يطالعها:
_إنها تلك الفتاة التي تجالسها منذ ذهبت إلى المقرّ، أصابت لسانها بعدوى اللذاعة حتى أضحت سليطة اللسان.
ابتسمت «كافور» وقد شعرت بالثقة لأنها ليست وحدها، بل القائد «متناذر» بجوارها، فقالت بكل استفزاز:
_نعم، قد قدَّرها الله لي لأُجابِهَ كلماتك الوقحة.
نظرات عينيه أضحت جاحظة فنظر للقائد «متناذر» بضيق وكأنه يقول له: (انظر! ألم أخبرك؟).
قطع أحاديثهم الودّية _أو التي كانت ودية_ رجل من الجِند يطلب القاۍد في كلمة، فتحرك إليه على مكان بعيد نسبيا منفردان فيه، كان الجندي يقول بعض الكلمات التي لم يستطيعا سماعها وهما يطالعان بعضهما بتعجب، كان القائد «متناذر» ينظر لـ«كافور» من حين لآخر، همس «حصيف» لها:
_أظن أنهما يتكلمان بشأنكِ، القائد ينظر إليكِ بشكل يثير الريبة.
نظرت إليه بعدم فهم ليحرك ذراعيه بلا معرفة، وقد مرت ثوان حتى جاء القائد إليهما قائلا وهو ينظر لـ«كافور» بنظرة غير مفهومة:
_أحتاج أن أحادثكِ قليلا يا «كافور»، هيا معي.
_ما الأمر يا قائد؟ هل حدث شيء؟
كانت تقول هذه الكلمات بقلق، فإنها أبدا لم يظهر لها رجلٌ أو خبرٌ يجعل القائد متحفزا بهذا الشكل ليكلمها، حياتها لم تكن ذات أهمية.. ماذا حدث الآن؟
أومأ برأسه مبتسما بغموض:
_ومتأكد أنه سيجعلكِ سعيدة.
ذهبت معه تاركان «حصيف» الذي جلس على الصخرة التي اعتاد الجلوس عليها، وقد أشعل بعض النيران وهو ينظر للسماء التي تظهر من فتحة صخرية، يتذكر أيامه الأولى وهو تائه في منتصف الصحراء في مصر بعد أن أضاع المخيم الذي كان فيه مع أصدقائه لأول مرة منذ ارتاد الجامعة.
كان يسير في الصحراء هائما لا يعلم كيف يصنع وماذا يفعل!
يتطلع إلى الليل الذي حلّ عليه والظلام يملأ المكان بسبب اختفاء القمر، لا هناك ضوء ولا هناك مشعل ولا صديق يؤنسه، بل صوت الذئاب وتحرك السحالي الصحراوية أرعبه..
لأول مرة يجابه مخاطرًا في حياته، لأول مرة يكون وحيدا، لأول مرة يفترق عن والديه.
لم يستطع النوم مكانه بل كان خائفا لدرجة ألا ينغلق جفناه، وقد كان يرتعش من البلد الذي هو معروف في قعر الصحراء المقفرة!
لم يستطع سوى أن يتحرك ويهيم في الصحراء لا يعلم ماذا يفعل.. ولكنه على الأقل يتحرك.. لربما يصل إلى أي طريق للسيارات!
لم يدرك إلا وقد غاصت رجلاه في الرمال فجأة تسحبه دون أن يستطيع الخروج، صرخ يطلب النجدة وهو يتحرك بسرعة مما جعل الرمال تسحبه أكثر وأكثر لأعماقها، أدرك أنه لا مفر وقد مرت الدقائق بسرعة وانحبس جسده كله في الرمال إلا رأسه التي هي على وشك الغوص وهنا يدرك مماته.
غاب عن الوعي بعد أن غابت أنفاسه، وهو يدرك أن الموت آتٍ لا محالة، فمن ذا الذي يهرب وينجو من رمال تتدفق للأسفل وتسحبه لما بين الصخور وتقتل أنفاسه؟
ولكن لم يصدق نفسه حين فتح عينيه ليجد نفسه في كوخٍ صخري، ابتلع ريقه وهو يشعر أن حلقه مدمّر، لقد ابتلع رمالًا وهو يُسحب.. مهلا؟ هل لم يمت؟ كيف ذلك؟
قام فجأة من على القماشة الأرضية التي كان غافيا عليها، صرخ بأعلى صوته أن يفتح له أحد هذا الباب الحجري، فإذا برجلٍ طويل عريض المنكبين يفتح الباب له ليبتلع الآخر ريقه بخوف، نظر له الوجل قائلا بلغته العربية الفصيحة:
_أوَقد استيقظت أخيرا؟ ويلك أيها الرجل، والله سوف تلقى من العذاب ألوانا يا رعديد السماء.
خاف الآخر وهو يتكلم معه بالمصرية العامية قائلا:
_أنا.. أنا فين؟
لم يفهم الآخر كلماته ليخرج إلى الرجال في الخارج وقد كان الملوك يتشاورون في أمره، وحبسوه في الغرفة لا يستطيع الخروج منها.. وهو يصرخ بأعلى صوته.
وقد كانت هناكَ حربٌ يرأسها قائد الجيوش والد «كافور» في هذا الحين، والملوك على أوجه السرعة لا يفهمون كيف نجا ذلك الرجل من وحلاء الرمال؟ ووعثاء الصحراء؟
وأيضا وصل إلى مركزهم تحت الأرض وقد كانت الرمال المتحركة إحدى مداخل أراضيهم.
تطوع «متناذر» الذي كان جنديا عظيما في الجيش منصبه بعد قائد الجيوش في أرضهم، وقد أخبرهم بحكمة:
_إننا في حربٍ وعلينا استغلال كل موردٍ يستطيع المحاربة، فجيوش السماء في «مملكة أرماء» كثيرة وعلينا التصرف بذكاء.. فماذا سيفعل ذلك الرجل إن لم يحارب معنا؟ سوف يُحبس ولن تكون له أدنى قيمة.
وافقوه الرأي وجعلوه معهم في الجيش يتولى «متناذر» تدريبه فيما كان «سماريّ» يدير الحرب نحو «مملكة أرماء».
مضت السنين وعامله «متناذر» كأنه ولده ودرّبه، حتى صار ما هو عليه الآن.
«حصيف»، الذي كان من قبلُ في مصر يسمى «كرم»، وكان لا يستطيع فعل شيء سوى مُغازلة الفتيات والتفاهة تجري في دمه، حتى أصبح الآن رجلا يعتمد عليه الآخرون.
لم يَزر أهله منذ سنين، وهو يقسم أنهم يظنونه قد مات وفقدوه، ولكن.. هل يصدمهم بعودته؟ وحتى وإن وجدوه مجددا.. هل سيتركونه؟
حسنا.. لا تلومنّ أمه إلا نفسها، فهي من دَعت عليه قائلة أن يلقى من يؤدبه ويحجم أفعاله حتى ولو سافر بعيدا عنها.. فهل ترضى الآن؟ هو عن نفسه راضٍ بما وصل إليه، ويعيش في «أرض الوعثاء» كأنها أرضه وعائلته وناسه.
ضحك بعد كل هذا الذكريات التي تذكّرها ويتذكرها كل يومٍ، قال كلمات كانت أمه تقولها دائما:
_يا خيبتك التقيلة يا ابن بطني..!
ويحكِ يا أماه.. انظري إلى ابنكِ الآن.
_____________________________________
كانت «كافور» في مقرّ «أرض قسورة» وقد علمت أين سيذهب بها القائد، إنه يتحرك في طرقات غرف المرضى بالقرب من صالة الحكمة.. ماذا سيفعلان هناك؟
فاقت من أفكارها على صوت القائد وهو يتكلم بعد أن وقفا أمام غرفة بعينها، قال لها:
_حسنا يا «كافور» انتبهي الآن..
نظرت لعينيه منتبهة غافلةً أن هذه الغرفة التي يقفون عندها كانت غرفة المريض الذي كان مُصابا بالسهم في كتفه وكانت حالته صعبة..
تنهد وهو يضع يديه على كتفيها قائلا:
_تعلمين أنني صريح ولا قِبَل لي بالألاعيب والصبر، أريد أن أخبركِ أن أباكِ يطلب رؤيتكِ.
نظر لعينيها لتجدها تنظر له بعدم فهم، ثم ضحكت ظنا منها أنه يلاعبها بأضحوكة:
_أبي الميت؟ مهلا.. هل سأفقد حياتي قريبا أم ماذا؟ أسأموت قريبا يا تُرى؟
كان نافد الصبر لا يطيق الاستهزاء بكلماته، ولكنه راعى حالتها.. فقد وصلته أخبار أن «سماريّ» والدها وقائد الجيوش السابق كان كل هذا الوقت حيا يُعذب في قصر غريمهم وعدوهم.
_«كافور».. أنصتي، إن والدكِ حيٌّ، لقد هرّبه «الناطس» من قصر الملك في «مملكة أرماء»، قد كان طوال الوقت هناك ولم يمُت.. كان مفقودا.
________________________________________________
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أرض الوعثاء)