رواية أحكام القلوب الفصل السادس 6 بقلم منى عيد
رواية أحكام القلوب الجزء السادس
رواية أحكام القلوب البارت السادس

رواية أحكام القلوب الحلقة السادسة
“بسم اللّٰه الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
اللهم صل على أشرف الخلق محمد.”💙🦋
لا تبتأس.
ستمر حتمًا مر الكرام وتترك ذكرى صغيرة تدغدغ عقلك من فترة لأخرى؛ لتشهد على وقوفك كأسد ضارٍ لا يهتز بسخافة الأخرين.
عاد قرابة الساعة الثانية وجد عمته تنتظره على الأريكة والقلق أرهق قلبها، الحزن يحتل وجهها بأكمله، وتضع لولو رأسها على حجرها يغزوها النوم ولكنها أصرت على المكوث بجوارها في إنتظاره وقد انتقل قلقها لها.
عقد حاجبيه متسائلًا:
_ أي اللي مصحيكم لحد دلوقتي؟
تنبهت لولو لصوته فاعتدلت من نومها، ونطقت ببعض النعاس:
_ علي، أتأخرت ليه؟ ماما عفاف معرفتش تنام وأنت بره.
ابتسم لها بحنو في حين طلبت منها عفاف:
_ قومي هاتي كوباية مايه لعلي يا لولو.
نهضت تلبي طلبها، فطرفت عفاف إليه:
_ اتأخرت كدا ليه يا حبيبي، وجعت قلبي عليك.
جلس بجوارها بحزن دفين ورد:
_ سلامتك يا عمتي، أنا بس كنت محتاج أقعد مع نفسي شوية.
هكذا ابنها الذي ربته، عندما يحزن لا يلجأ لأحد أو يشكو، بل يبتعد، يبتعد بصمت رغم النيران المعتمرة بداخله.
_ ﴿قُل لَن يُصيبَنا إِلّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَولانا وَعَلَى اللَّهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنونَ﴾
[التوبة: ٥١]
ذكرته بها في حنان تربت بكفيها على وجنتيه، لينبس برضا تام بقضاء اللّٰه، فكل عثرة تلحقها حكمة ومن ثم جبرًا وتعويضًا.
_ ونعم باللّٰه، أنا راضي واللّٰه بقضاءه وحكمته ومتأكد بإن الخير جاي..
_ وأنا كمان راضية.
صاحت بها لولو التي قدمت لتوها فهتفت بها عفاف بمزاح:
_ أقعدي أنتِ على جنب.
عبست بوجهها، لتضحك عفاف فيما سألها علي بمشاكسة:
_ وأنتِ راضية على أي بقا يا فراشة؟
ناولته الكوب وقفزت بعدها تقول:
_ أي حاجة أنت راضي بيها أنا كمان راضية بيها.
عقبت عفاف موجهة الحديث لعلي:
_ ادخل يابني غير هدومك لحد ما أجهز السحور ونصلي الفجر وننام.
___________________________________
_ هو أنتِ هتفضلي حابسة نفسك فـ الأوضة دي كتير؟
سألتها إعتماد بصلف وقسوة غير مراعية لمشاعر ابنتها، كأنها صخرة لا تشعر.
ردت هدى بشجن وبرقت مقلتاها بحزن فتق قلبها المُضمني:
_ أنتِ اللي حبساني ياما، حكمتِ تبعديني عن قلبي وسعادته.
زفرت بصوت عالٍ تهذر بغضناء وتهكم:
_ وقلبك دا إن شاء اللّٰه اللي هو هباب البرك حمودة! عاملة كل المناحة دي عشانه سيادته.
تصر على التقليل منه وإهانته أمامها كأنها ستزرع الكره في قلبها له، ولكن عبثًا تزداد محبتها له في كل لحظة.
هو رفيق دربها، حاميها، منذ وعت للحب أحبته وكان أهلًا لحبها.
احتجت بالقول تهب من فراشها:
_ ياما لو سمحتِ.
كأنها ستتوقف بجملتها المعترضة الحازمة هذه! زادتها قسوة وقد ماتت المشاعر من قلبها، وانبثقت نظرة شرسة من عينيها تدمدم بها:
_ بلا ياما بلا زفت، حمودة دا خلاص تنسيه، هخليه يطلق وأجوزك جوازة حلوة زي أختك الكبيرة، جوزها جايبها بعربية وملبسها هي وأولادها أحسن لبس، عاوزة أي تاني؟
الزواج هو المال!
ألم يكن مودة ورحمة، سكينة تستوطن القلب وقبول يغزو الروح؟
بل المال أول مبادئها، همها الأوحد بالحياة.
سحقًا للمال إذًا!
_ أنا مش عاوزة حاجة غير محمود ياما، لو انطبقت السما على الأرض مش هكون لغيره.
يا لمحمود يا للموت.
نبرتها رغم حزنها ويأسها من عتو والدتها إلا إنها قوية في مغزاها، تبلج شراسة الأنثى بداخلها وهي تدافع عن ما يخصها بضراوة.
لم تفق إلا على قبضة والدتها تجذبها من خصلات شعرها كادت تخلعها من منابتها.
هسهست بشر وعنجهية:
_ يبقى للموت يا روح أمك.
تلوت تحت قبضتيها ولكن بلا فائدة، حاولت المقاومة والتملص وقد ذهبت محاولاتها هباءً.
خلصها أخيرًا والدها من يد والدتها المتجبرة ليأخذها بأحضانه يهدهدها برفق، يعتذر لها عن عدم مقدرته للدفاع عنها.
___________________________________
فرك عينيه بإرهاق وصوت طرقات الباب كأنها بأذنيه، نهض على عقبيه وتحرك للخارج، فكانت عمته قد سبقته وفتحت الباب لتجد أمل بوجهها لوت شفتيها بسخط وتمتمت بضيق:
_ خير يا ست أمل؟ مش كل حاجة خلاص خلصت جاية ليه؟
لم يكن حال أمل بأحسن منها بل ردت بنفس الضيق، ربما عدم القبول بينهما متساوٍ:
_ عاوزة علي فـ موضوع كدا.
_ اتفضلي يا أمل.
تنحت عفاف جانبًا لتدخل أمل بعدما صدح صوت علي.
وقفت في منتصف الصالة بصمت، ولكن عقلها معجوجًا، تحاول ترتيب كلماتها وأيضًا تنتظر ذهاب عفاف التي تقف لها بالمرصاد.
طرف إليها علي بنظرات ذات مغزى لتتراجع عفاف للخلف متوجهة للمطبخ.
فبادرت أمل بالحديث بسؤال أخرق تقطع سيل الأفكار التي تعصف بعقلها:
_ هتعمل أي؟
رد بهدوء مكتف الأيدي، هدوء مراوغ:
_ عاوزة أعمل أي؟
تهدلت أهدابها وإجابته التي تلبست صيغة السؤال أدت بقلبها للإستياء، حقًا تستاء وتبتأس حينما تذكر أمامه أمر زواجهما ويقابلها بهذا البرود.
تمنت لو رأت التوهج بعينيه، التوهج للمحاربة من أجلها والظفر أيضًا بها.
حمقاء إن ظنته سيبادر بالخطو تجاهها!
صمتت وقد زاغ بصرها فيما هتفت بشرود ووهن:
_ حاول..
_ هحاول مرة واتنين وتلاتة، عشانك هحاول العمر كله يا أمل.
تنبهت لحديثه لترفع نظرها قليلًا تجاهه ولأول مرة ترى عينيه بكل هذا الشغف، لأجلها!
رمقته للحظات بدهشة وامتثلت لقلبها الذي يحثها على الإبتسام، بل الإنطلاق فرحة.
علقت بخفوت وكأن صوتها فقد رونقه من تصريحه المفاجئ وهي التي جاءت وقد عصفت بها الظنون بأنه سيردها خائبة القلب:
_ العمر كله!
هز رأسه بنعم وقد تزين وجهه البشوش ببسمة مفترة:
_ هنحاول مع بعض يا أمل، هكثف شغلي وهنحت فـ الصخر لو لزم الأمر، عشان بس تكوني ليا، هتحدى أهلك والعالم كله.
في الحب محارب مغوار، يقاتل بكل ما أوتي من عشق، لينال سؤدد قلبها.
في الحب رسام عاشق للألوان، فكانت أجمل لواحاته.
كسرت سحر اللحظة المهيمنة على قلبيهما صوتها الناعس المتحشرج:
_ صباح الخير يا علي.
عبست أمل بوجهها ونقلت نظراتها لها، فهتف علي سريعًا:
_ روحي أنتِ دلوقتي يا أمل لبيتك، وبينا كلام تاني.
غادرت أمل بفرحة تتهلل بروحها قبل أن تتدحرج عيناها تجاه لولو بنظرة حارقة.
_ هي كانت بتعمل أي هنا تاني بعد ما طردوك إمبارح؟
توقع هذا الحديث من عمته ولكنها لم تكن سوى لولو بنبرتها العنيفة ونظراتها الشرسة ولا سيما وجهها المتغضن من الغضب ومقلتاها التي إلتمعت بلونها الأزرق البراق وشعرها الذي اهتاج مثلها بخصلاته الذهبية، رغم كل ما ذكر لم يلتفت لشيء وإنما انبس بهدوء:
_ محدش طردني يا لولو، دي أمور أكبر من إنك تفهميها.
استطردت بترفع ورغمًا عنها طوق الحنق الطفولي نبرتها:
_ أنا كبيرة كفاية عشان أفهم الأمور دي، ماما عفاف قالت إنه مفيش نصيب فارضى بالأمر الواقع.
بعض الأوقات تتحدث كفتاة عاقلة، شديدة التعقل والتفهم، وأوقات أخرى طفلة صغيرة حمقاء.
توهجت عيناه بإصرار مردفًا:
_ أمور الجواز لو رضينا فيها بالأمر الواقع هنعيش مكسورين القلب، الحياة هتقلبنا على كيفها وهتنهب حقوقنا.
_ وأي أسلم حل؟
بدت هنا بفتاة تمتلك العقل والتفهم أعجب بحديثها ومراوغته الخبيثة فعلق بغموض:
_ أسلم حل الحرب. عار عليا لو سبت حبي يضيع كدا عشان الفلوس.
وهل هناك سلام في الحرب!
_ يعني هتتجوز أمل الشريرة؟
ضحك هنا بلا مرح فقد عادت لطفوليتها الحمقاء مجددًا.
ولكن لم تكره أمل لهذا الحد؟
ولم هو بالأساس يستمع لها ويشرح وجهة نظره بإستفاضة ورحب قلب!
______________&___________________
قطع الأرض بخطواته الواثقة وعنجهيته خافية المرح والمزاح اللذين يرافقين شخصيته، زلطا فتى في السادس عشر من عمره، يتسم شخصه بالمرح وروح المداعبة والحنان ويجمع أيضًا العصبية والتهور والقسوة شخصيته مزيجًا من الغرابة، والوسامة أضفت له الكثير ليمتلك تكاملًا غريبًا من نوعه.
رغم عدم إهتمامه بالعمل فهو يمتلك ضميرًا مخلصًا لأي شيء يفعله.
لاحظ وقوف سيدة على ناصية الحارة وقد تعرف عليها فهي بالتأكيد إحدى سيدات الحي الذي يقطنه، ولكن ما سر وقفتها هذه بهذا الصباح الباكر؟!
تقدم منها ملقيًا السلام بعد أن تنحنح يجذب إنتباهها:
_ السلام عليكم يا ست وردة، خير إن شاء اللّٰه؟
تبسمت بود وقد عرفته فورًا ومن لا يعرفه، فردت سلامه:
_ وعليكم السلام ورحمة اللّٰه وبركاته.
صمتت لبرهة قبل أن تخطف نظرة لابنتها الواقفة جانبها ولم يلحظها زلطا بعد، فأجابت عن سؤاله بقلق وقد تطلب قلبها قلبًا آخر يسنادها:
_ عمك رزق فـ شغله، بيستأذن منه ربع ساعة ييجي يوصل نورا المدرسة ويرجع، بس النهاردة اتأخر مش عارفة ليه.
هنا لاحظ المدعوة نورا، فتمعن النظر بها للكشف عن شخصها.
فتاة تبدو بالرابعة عشر من عمرها، فاتنة رغم سمارها اللامع وعينيها البنيتين، تظهر بعض الخصيلات البنية التي تحاكي عينيها وحاجبيها من حجابها، ترفع أنفها بكبرياء غريب، يفوق سنها حقًا!
لم تعره أي إهتمام، أو تنظر تجاهه حتى ولو بالخطأ، فقد تظاهرت بالإنشغال بهاتفها الصغير والقديم، ربما يرجع لوالدها وقد أعطاه إياها.
صمت لدقائق بعدما هز رأسه على حديثها، استجمع كلماته ليقول بهدوء وجدية:
_ أنا هوصلها يا ست وردة متقلقيش.
هنا، تلك السمراء ذات الكبرياء صاحت بوالدتها بإستنكار وهجوم عرم، فوالديها يرونها بكل حماقة، طفلة صغيرة تحتاج للحماية حتى لو خطت عتبة البيت، كأن لا غيرها في العالم ليخطفونها!
_ أنا مش صغيرة قلت لك قبل كدا ياما، مش هتوه يعني.
توترت أمها لبعض الثواني قبل أن ترمقها محذرة بعينيها، لائمة حديثها غير اللائق بالمرة، ولكنها هتفت بهدوء ينافي نظراتها:
_ المدرسة بعيدة نورا بلاش عناد يا بنتي اللّٰه يسترك.
قوست شفتيها بسخط وطبقت ذراعيها لصدرها عابسة الوجه.
استاء زلطا وكاد أن يذهب ولكنها أوقفته وردة بحديثها الذي يميل للرجاء والتوسل:
_ معلش يابني خدها وصلها لحد مدرستها.
_ ياما!
صاحت بها نورا معترضة ولكن نظرات أمها زجرتها بحدة، والتفتت لزلطا:
_ معلش يا بني، هي لسانها طويل شوية، وصلها اللّٰه يخليك شكله الحاج رزق معرفش يسيب الشغل.
ضرب على صدره ضربات خفيفة براحة كفه مستطردًا ببسمة ودودة:
_ أنت تأمري يا ست وردة.
تحركت نورا مرغمة خلفه، فمدرستها الثانوية التجارية بعيدة عن الحي الذي يقطنونه، رغم ذلك كبريائها منعها من أن تنساق خلفه كالبهائم، لذا وقفت بعدما ابتعدا قليلًا عن الحي هاتفة بفظاظة ورأس مرفوع أقسمت لن تنزله أبدًا:
_ متشكرين يا عسل، تقدر تمشي فـ حال سبيلك زي ما كنت ماشي.
ردد كلمتها بعقله وبإستهانتها به.. “عسل”!
تابع سيره محافظًا على جموده وكأنه لم يسمعها للتو، ولكنها زفرت بنفاد صبر وصاحت بنبرة متأججة بالغضب وتغضنت ملامحها السمراء:
_ أنت أطرش يالا، مش سامعني؟ مش عاوزة أي خدمات، تقدر تمشي.
إهانتها له أوقفته بحدة فاجفل جسدها وقفزت للخلف وخاصة عندما إستدار وعيناه تنبعان قسوة، فدمدم:
_ قلتِ أي؟
قوية لن تخف، لن يهتز ثباتها.
بات جسدها ينتفض إثر صراخه وتبدد ثباتها، ولكن لن تظهره له حتى لا يشعر بنشوة الإنتصار، ولذا وبكل برود أعادت بعض حديثها، أو مفداه فقط:
_ قلت متشكرة لخدماتك، أنا مش صغيرة وهعرف أمشي لوحدي، ومش محتاجة لمساعدة من حد زيك.
لولا مروءته، حميته تجاه فتيات حيه لكان تركها الآن تقاسي مرارة الطريق لوحدها وهي فتاة.
سليطة اللسان ذات البشرة السمراء.
هذر بنبرة أرعدتها بشدة:
_ اتنيلي أمشي ورايا وأنتِ ساكتة، أحسن واللّٰه لهتصرف تصرف يكرهك نفسك.
بدأ تهديده أخرق ولكنها خافت حتمًا وأرغمت لسانها الصمت.
تدحرجت نظراته على وجهها بدون قصد ليلمح خصلاتها الظاهرة من حجابها وقد استفزته لقطعهن من منابتهن حتى لا يخرجن مجددًا، كبرياءها، عدم إرضاخها وتعنت مقلتاها، أثاروا الجنون بجسده والتمرد، على ماذا لا يعلم، أمره غريب كمظهرها المتحلية به.
وصلا أمام المدرسة لتدلف دون أن تنظر له حتى أو تلقي بكلمة شكر واحدة.
وقحة بغيضة!
هذا ما جال بخاطره.
___________________________________
دلفت غرفة أمها لتجدها كحال كل ليل، تبكي على ما ضاع، على من أختار البعد وتركهما وحيدتين دون معيل.
ذكرى رحيله تنحر قلبها بلا رحمة أو شفقة، روحها تنزف وجعًا، وجع أم مكلوم قلبها منفطر على وليدها، الذي بكل دناءة إختار الابتعاد!
جلست بجانبها بحزن بالغ وربتت على كتفها بحنو تشد أزرها بصوت خفيض ومن غيرها يفعل؟
_ انسي ياما، مش هيطولك من الذكرى غير الوجع.
ضمت أمها صورة ابنها لصدرها بقوة، كأنها تحاول مزجه مع أضلعها، وبكت بنشيج حار وحنين لأيام صباه، تتذكر طفولته ومراهقته وشبابه الذي أبهجها، وزواجه وو…
تألمت للذكرى رغم مرور السنوات.
_ وهو الضنا بيتنسي يا حنين، حد بينسي حته منه ومن لحمه.
صوتها خرج متعلثمًا متحشرجًا واهنًا، وجهها شاحب متغضن وقد كبرت ملامحها فأصبحت عجوزًا بالية فجأة.
الحزن ينهب العمر ويقصره.
وهي حزنت فوق طاقتها وامتلأ قلبها وجعًا.
_ ربك كريم ياما ومش هينسى قلبك ووجعه.
ردت الحزن عنها وهتفت ببعض الحنان تزيح دموعها:
_ تعالي ننزل نتمشى شوية، بقالك فترة طويلة منزلتيش الحارة.
حثت والدتها على التحرك.
الإختلاط بالناس يُنسي.
وقد كان، في طريقها قابلت الكثير وسلمت عليهم وعرفت أحوالهم، تلاشى بعض الحزن والألم وإن كان لوقت مؤقت.
كتمت حنين ضحكتها المرحة حينما رأت الشجار الدائم لأم سميرة ولكن للغرابة لم يكن زوجها خصيمها، بل كانت سيدة أخرى من سيدات الحي.
صرخت تلك السيدة التي تتلوى تحت ذراع أم سميرة وزوجها مسعد خلفها يحاول إقصائها عن المرأة التي قد تموت إختناقًا من قيد ذراعيها.
سألت والدة حنين عن السبب فهتفت إحدى السيدات:
_ بدرية حاربت على موتها، راحت لمسعد المحل بتاعه وقال أي بتحاول تتدلع عليه وتتقصع.
علقت أخرى بإستفاضة:
_ لا ياختي دي قال بتحاول تغويه الحرباية وبتكلمه فـ التليفون ربنا يحفظنا وليه سو.
هتفت أخرى بحديث مغاير وإفتراء وأخرى استحلت عرضها بدون حياء وخشية اللّٰه.
لا تعرف السبب الحقيقي ولكن مقولة واحدة تقال.
“ما أوقع ذاته بوكر الشبهات لا يلوم إساءات الظنون به.”
فبدرية كانت تعرف سابقًا ببساطتها مع الرجال، لا تضع الحدود مع من حولها، تتضاحك وتتمايل بلا حياء.
حتى وإن كانت مظلومة، فتاريخها المشرف لن يشفع لها، مصائبها دلائل على عهرها وتصديق ما يدعونه عليها.
تقدمت منها والدة حنين عازمة على إنهاء هذا الشجار الذي يبدو فاضحًا.
_ أهدي يا أم سميرة، مينفعش كدا لميتوا عليكم الخلق.
احترمتها أم سميرة لوقارها وهتفت تثنيها:
_ معلش يا أم حنين، أنا لازم أربيها الولية اللي مسيباش راجل من غير ما تسحب رجليه.
ختمت جملتها بسباب لاذع، ولكن إصرار أم حنين أوقفها لتتملص بدرية من تحت قبضتها تهتف بإختناق تحاول تبرير موقفها:
_ واللّٰه واللّٰه تاني يا أم حنين مقصدتش اللي بيقولوه دا، أنتِ عارفة أكتر واحدة إن أم سميرة دي حبيبتي ومستحيل أبص لجوزها..
هنا شهقت أم سميرة وصاحت بجدية حادة مضحكة:
_ وماله جوزي إن شاء اللّٰه؟ سيد الرجالة.
عادت بدرية تهتف بقوة ولا سبيل لخلاصها غير إقناع أم سميرة ببراءتها:
_ بعترف إني بتكلم عادي مع كل الرجالة وبضحك وهيء ومئ بس عمري واللّٰه مقصدت أغري حد ولا أخد واحد من مراته، طريقتي بس اللي غلط وأنا أعترف بدا.
صاح مسعد بقوة ينهي هذه المهزلة ويبرأها حتى يتركوها:
_ محصلش حاجة من اللي بتقولوه على الست بدرية، اللي بيتقال فـ حقها إفترى، هي بتيجي عندي المحل تاخد طلبها وتمشي، لكن فـ ناس تحب تولع الدنيا فوصلت كلام غلط لأم سميرة.
حادت أم سميرة بنظراتها لزوجها فأكد بنظراته وهذا كفيل لتصديقه، فهدرت بهم:
_ خلاص العرض خلص، كل واحد على بيته يلا.
انتهى الأمر ولكنه ترك أثرًا بالغًا بنفس بدرية، فرصة جديدة لتحاول تحسين صورتها أمامهم، واضعة قوانين ومبادئ لا تتعداها مع الرجال فما قيل في حقها مؤسف جدًا، فادح.
وسط كل هذا مال شاب على أذن حنين قائلًا بوله:
_ أخبارك يا ست البنات؟
اجفل جسدها وإستدارت لهذا الشاب ليمتعض وجهها، فنظرت له بإزدراء هاتفة بضيق:
_ خير يا سليم.
_ أي يا ست البنات براحة عليا، قلبي رهيف.
تمتمت وهي تبتعد:
_ يتكسر قلبك يا بعيد.
وصلت مبلغها، سبب خروجها من الأساس، حيث ورشة الحدادة التي يعمل بها، ولحسن حظها كان وحده بها.
هتفت أمها بصوت مرتفع ملقية السلام وسرعان ما انتبه مصطفى لهما، فخرج مسرعًا بلهفة وحبور:
_ وعليكم السلام ورحمة اللّٰه وبركاته، الورشة نورت يا ست سامية، أي الطلة الحلوة دي.
لثم جبهتها بحنان وأحضر مقعدين سريعًا لهما، يقول:
_ اتفضلي يا ست سامية ارتاحي.
استطردت سامية تخبره بمجيئها:
_ حنين قالتلي تعالي نتمشى شوية قلت ميضرش.
_ أحسن حاجة عملتها واللّٰه حنين، واللّٰه الحارة مضلمة من غيرك طلتك الحلوة.
ضحكت سامية بإفترار وقد صغر سنها فجأة وإنزاح عن كاهلها الحزن والألم.
أما حنين فقد غرقت في تأمل تفاصيله بشرود حالم.
أتى لهما بكوبين من الشاي، متمتمًا:
_ أستنوا هلم العدة ونمشي مع بعض.
تحرك ينهي بعض الأعمال السريعة، فتركت حنين كوب الشاي على منضدة صغيرة، وتحركت بقدمين كأنها انفصلتا عن جسدها، تتبع مكانه دون عقل.
استندت على شيءٍ خلفها، ربما حائط، تضم كفها تحت ذقنها تتأمله بروية ووله، وبريق عينيها يشتد.
تتشرب من ملامحه التي لم تكن بالوسيمة بل بخشونتها ورجوليتها الجلية التي تجذب الأبصار.
عضلات جسده البارزة والتي بالطبع ساعده عمله على تقويمها، قميصه البالي وبنطاله المهترء، كل شيء به يأخذ أنفاسها.
في لحظة خاطفة وجدت جسدها يسحب للخلف ولم يكن سوى الحائط خلفها، عذرًا باب من الحديد اتكأت عليه دون قصد فتزحزح من مكانه فجأة، فكاد جسدها يلامس الأرض الخشنة لولا ذراعيه التي تمسكت بهما، ليضمها لعضلات صدره بتلقائية شديدة، لتستقر بين أضلعه وأستكان جسدها بين أضلاعه.
وطنها المتغربة عنه، وطنها الذي يجافيها، يقسو عليها، وطنها أحضانه، ملاذها الوحيد لقلبها اللاجئ.
كل خلية بها تصدعت من قربه واختلج قلبها، يتقلب على جمر جسده المشتعل.
لاحظت بعض حبيبات العرق على جبينه وبكل حماقة ولا وعي رفعت كفها تتلامسهن ببطء حان، فعقد حاجبيه مضيقًا عينيه، حيرة تختلجه وتذبذب مشاعره لمستها هذه فتسائل وقد نسيها داخل أحضانه، أو كأنها باتت جزءًا منه فلم يشعر بشيء دخيل على جسده.
_ بتعملي أي؟
سؤاله افاقها من مخبئها ومشاعرها المتقدة، لذلك تملصت من ذراعيه مجيبة بتلعثم طفيف:
_ امسح وشك….
لم تستطع قول المزيد لذلك أعطته محرمة وابتعدت بسرعة كمن لدغها عقرب، تحاول ترويض الثيران التي تتصارع بقلبها.
تحاول إنهاء الأمر وبسرعة.
___________________________________
في الصباح الباكر، وقفت أمام خزانتها وقد أخذت قرارها أخيرًا ولا رجعة فيه، ستحاول وتحاول ليهربا معًا من سطو إعتماد، وإن رفض الهرب تسترضيه ليأخذها عنوة عن أنف إعتماد وقسوتها غير المحتملة.
لن تعود هنا مرة أخرى، لن تقع تحت يديها مجددًا.
أخذت بعض أغراضها المهمة وارتدت ثيابها وتوجهت لطريقها قبل إستيقاظ والدتها.
تعرف جيدًا بأنه سيكون بهذا الوقت قد وصل الورشة فتوقفت أمامها بتحدٍ ينبع من أعماقها.
تنبه لها أولًا مصطفى بدهشة ليلكز حمودة فإستدار يعرف ما به ليتوجه نظره حيث تسمرت عينا مصطفى.
كأنه علم ما تخطط له من هيئتها هذه، رغم التحدي عينيها باكية كئيبة فقدت رونقها الخاص، ذابت سُكرته.
ودون وعي وقعت المطرقة من يده حينما استمع لهمسها باسمه، خاصة بذلك الوهن والألم.
_ حمودة.
استوووب نهاية الفصل.
تتوقعوا أي رد فعل حمودة؟
يا ترى هيستغل الفرصة دي ويذل بيها إعتماد؟
رأيكم في الثنائي الجديد، زلطا والسمرا؟
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أحكام القلوب)