رواية أحكام القلوب الفصل الثالث عشر 13 بقلم منى عيد
رواية أحكام القلوب الجزء الثالث عشر
رواية أحكام القلوب البارت الثالث عشر

رواية أحكام القلوب الحلقة الثالثة عشر
“سبحان اللّٰه والحمد للّٰه ولا إله إلا اللّٰه واللّٰه أكبر ولا حول ولا قوة إلا باللّٰه العلي العظيم.”💙🌺
اليأس نخر بقلبه وشتت عقله وسار به لطرق محكمة الإغلاق عليه، لم يحدد بعد ما الأصح ليفعله، حالتها كما هي، تخاف منه بشدة بل ترهبه، لم يجد شيء في حالتها كلما اقترب منها تنفر قربه وهو مل هذا، فقرر بطلاقهما وتعود لأهلها فهو لم يعد يتحمل هذا الوضع أكثر.
ذهب إلى كافيتريا المشفى يرتاح بها، جلس على المقعد عابس فلفت نظره رجل يبكي بصمت وأدمعه تغرق وجهه ولم يكلف نفسه عناء مسحها، كأنه أعطاها حريتها.
تحرك وجلس بجانبه وأخرج محرمته يعطيه إياها فرفض الرجل دون نطق حرفًا مما زاد حيرة أسامة فسأله مستفسرًا:
_ شد حيلك يا أستاذ مالك؟
رمقه الرجل بتيه وصمت يبكي فقط فأردف أسامة:
_ ربك كريم هيحلها متقلقش، أنا مش عاوز أتدخل بس حضرتك بتعيط ليه؟ قصدي أي اللي واجعك كدا بتعيط عليه؟!
خرج صوت الرجل مخنوق بنبرة تسطر ألمه:
_ مراتي هتدخل العمليات كمان ساعة.
طمأنه أسامة بكلمات مقتضبة:
_ متخافش عليها هتقوملك بالسلامة.
نفى الرجل برأسه وأردف بنظرات تشع حزنًا:
_ أنا خايف عليها أوي، أنا مش عاوزها تعمل العملية دي، ممكن تموت فيها.
ردد أسامة الحوقلة وربت على كتفه:
_ لا حول ولا قوة إلا باللّٰه.
أستأنف الرجل حديثه واعتدل يواجهه:
_ أنا مراتي عاجزة مش بتمشي واللّٰه راضي وحامده فـ كل وقت، بس هي مصممة أنها تعمل العملية الدكتور قال أن نسبة نجاحها ضئيل جدًا بس هي… دي ممكن كمان يحصلها مضاعفات وتروح مني، أنا واللّٰه راضي بيها كدا أحسن ما تروح مني، أنا هشيلها طول عمري ومش هزهق منها أبدًا، كفاية صوتها بيسكن قلبي، كفاية نظرتها الحنونة ليا كأني ابنها، أنا مش عاوزها تمشي وتتحرك أنا عاوزها جنبي وبس.
تأثر أسامة بوجعه المكمن في حروفه، أعجبه حبه لزوجته، لأي درجة يعشقها يا ترى؟
تحدث أخيرًا أسامة بعدما أجلى حنجرته:
_ طب أنت مستني أي، لما تروح منك يعني!
سأله الرجل بقلة حيلة وضعف تملكه من ألم حبيبته:
_ هو أنا فـ أيدي أي أعمله؟
_ روح دلوقتي وخدها من العمليات غصب عنها بدل ما تروح منك غصب، فهمها أنك مش عاوز من الحياة غيرها هي وبس، أنها كل الحياة عندك، في حاجات مبيكنش ليها غير فرصة وحدة.
شرد الرجل قليلًا ومن ثم حكم أمره وركض لغرفة زوجته وتابعه أسامة دون تفكير.
في غرفة العمليات، وجد جسدها ملقى بلا حول ولا قوة، عبراتها تنساب على خديها فيما يتلو قلبها قبل لسانها آيات من الذكر الحكيم.
﴿أَوَلَيسَ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ بِقادِرٍ عَلى أَن يَخلُقَ مِثلَهُم بَلى وَهُوَ الخَلّاقُ العَليمُإِنَّما أَمرُهُ إِذا أَرادَ شَيئًا أَن يَقولَ لَهُ كُن فَيَكونُفَسُبحانَ الَّذي بِيَدِهِ مَلَكوتُ كُلِّ شَيءٍ وَإِلَيهِ تُرجَعونَ﴾
[يس: ٨١-٨٣]
رأته يقف فوق رأسها فابتسمت له بينما كفها يزيح عبراتها وقالت بصوت خفيض مبحوح تطمأن قلبه الرجيف:
_ اطمن أنا بخير.
رد بتلقائية موجعة:
_ وأنا مش بخير، قلبي مش بخير وهو خايف عليكِ يا أجمل حاجة اختارها قلبي، قومي يا سلمى، أنا مش عاوزك تمشي أنا عاوزك جنبي، كفاية وجودك في حياتي.
حركت كفها على وجهه بحنان ولطف وهمست بصوت سمعه:
_ أنا مش عاوزة اتعبك معايا أكثر من كدا يا محمد، متخافش عليا العملية هتنجح وهكون معاك.
_ الدكتور قال في خطر عليكِ بلاش يا سلمى.
ضحكت بخفة وقالت:
_ أهو وقتها هترتاح مني وتتجوز وحدة حلوة وتكون بتخلف بدل ما أنا مش قادرة أجبلك العيل اللي يملى حياتك ويكون عزوتك.
_ وأنا مش عاوز عيال أنا عاوزك أنتِ، أنتِ عزوتي وحياتي وقلبي، متقطعيش قلبي يا سلمى، أنا خلاص مش هقدر أقعد ما بين نارين كدا، سلمى أنا مش عاوز غيرك واللّٰه.
تفوه بها في عصبية طفيفة فأستطردت هي:
_ هييجي يوم وتمل مني وتبعد يا محمد.
هتف سريعًا:
_ ودا مستحيل يحصل يا روح محمد، أنا اللي هتهم بيكِ بنفسي وعمري ما هزعلك خالص، أنتِ نن عيني يا سلمى.
دخل الممرض هاتفًا بعملية:
_ معلش يا أستاذ بعد أذنك عشان أحط البنج وأجهز للعملية.
استدار له محمد قائلًا بإفترار:
_ لا خلاص مفيش عملية، أنا هبلغ الدكتور بالموضوع دا، تعيش معايا عاجزة أحسن ما تفارقني خالص.
موقف هذا الرجل وزوجته نزل على قلبه كالصاعقة، قطع قسمًا بتحملها رغم عجز جسدها وعجز رحمها من أن تحمل طفلًا له يريدها ولا يريد غيرها، مجرد وجودها حياة له.
تعلم الدرس جيدًا، سيحارب لأجل بسمة، سيحاربها هي أولًا حتى تخرج من قوقعة حزنها وكآبتها.
___-_________–________–_________–
رغم تهدل قلبه المضمني فعل ما قرره.
_ يعني خلاص كدا هتسيبنا وتمشي!
هذا ما سيترتب على ما سيفعله ويعلمه جيدًا ولكن رغم ذلك عندما نطقت عمته بهذه الحقيقة أنحرت قلبه، أطرق نظره وقال:
_ لسه لما نعرف الأول أي اللي هيحصل، وصلت واحد لنفس المكان اللي روحته قبل كدا، فخدت لفة بالعربية فـ المكان لقيت مستشفى قريبة ومفيش مساكن تقريبًا، ومن حالتها دي ملهاش غير تفسير واحد إنها كانت فـ مستشفى.
_ يلا يا بني توكل على اللّٰه.
ترجلوا من السيارة وقصدوا المشفى ولولو تسير بجوارهما دون كلمة، فقط تتطلع بالمكان دون ملامح محددة، مستكينة بشكل مريب.
سأل في الإستقبال عن مكتب الطبيب النفسي هنا بعدما اطلعوا على بطاقته الشخصية، فتحرك بعمته ولولو.
عمته بين نارين، تريدها معها فهي أحبتها ألفت وجودها معها وفي ذات الوقت تفكر في حال والديها وهي بعيدة عنهما، تساءلت لِمَ أهلها لم يبحثوا عنها؟ ربما بحثوا ولكن لم يصلوا لها.
_ لو سمحت يا أستاذ، لو سمحت..
توقف علي عن السير واستدار لمن تصيح به، فوجدها فتاة يبدو من زيها أنها تعمل ممرضة هنا.
_ أفندم؟
أخذت نفسها وخفضت بصوتها وهي تقول مسلطة أنظارها على لولو:
_ ممكن تخرجوا من هنا بسرعة.
ضيق علي عينيه بعدم فهم فسألها محاولًا الهدوء:
_ ليه؟ هو في حاجة يا آنسة؟
دارت حدقتاها المكان بسرعة لتطمئن من أن لا أحد يراها أو يسمعها وعادت بأنظارها إليهم تقول على عجل وخوف:
_ المهم دلوقتي أقولهولك الآنسة اللي معاك وجودها هنا خطر، اطلع بيها بسرعة من المستشفى، واستناني جنب الباب الخلفي وأنا ربع ساعة وهحصلك وأفهمك كل حاجة، بس لو سمحت أطلع بسرعة قبل ما حد يشوفها.
على مضض خرج علي والقلق يزاحم قلبه، وعمته المشدوهة خلفه لم تقدر أن تنبس بحرف واحد، ما سمعته زرع الشك في صدرها.
تمسكت بيد لولو الباردة وحملقت في سكونها الغريب، كأنها انفصلت عنهما.
___________________________________
من يراها الآن ونظراتها المتوحشة، تهدج أنفاسها، وكفها الممسك بحذائها كسلاح تشهره في وجهه قد لا يتعرف عليها، حنين تلك الفتاة الرقيقة ولكن إن احتدم الأمر فهي أنثى شرسة لا تدع أحدًا ينفك من بين قبضتها، تصعقه إن اجترأ عليها.
_ واللّٰه يا سليم لو مغورتش من وشي دلوقتي لأكون منزلة جزمتي على وشك أبهدله.
ابتلع ريقه وتراجع خطوات عديدة، هذه المرة غير سابقتها، اجترأ عليها وسخف في مضايقتها وكاد أن يمسك بيدها، فلم تبرح حتى أرته من السباب أنواع وأخرها حملت حذائها وقد أقسمت على ضربه إن لم يخرج من هنا حالًا.
_ خلاص أهدي يا ست البنات، شكلي جيت فـ وقت مش مناسب.
افلتت سبة نابية من تحت أنفاسها، ليخرج هو هرولة فاصتدم بنيرة التي تفاجأت من هيئته ولكنها لم تعلق ودخلت لحنين الغاضبة.
_ صباح الفل يا ست حنين.
_ مش فايقالك يا نيرة دلوقتي.
قالتها زافرة وجلست على المقعد بعنف، لن يردعه غير مصطفى لكنه لو علم فقط سيمنعها حتمًا من العمل.
_ أي اللي حصل يا حنين؟ شكله سليم ضايقك تاني.
دمدمت بغضناء وقد أطبق الضيق على صدرها:
_ مش هيتلم ويبعد عني غير لما مصطفى يدخل، بس لو دا حصل أنتِ عارفة مصطفى كويس.
كانت تهذر بغضب لم تستطع كبته فأفضت به أمام نيرة غافلة عن ترقرق أدمعها الحارقة في عينيها، الوحيد الذي أحبته يحب صديقتها الغالية على قلبها، يتلوى قلبها بين أضعلها نيران تأكله، يفعل المستحيل لإرضاء حنين وهي تنتظر فقط منه نظرة.
رسمت على شفتيها ضحكة مغتصبة وقالت:
_ طب واللّٰه أنتِ فيكِ حاجة للّٰه كدا عشان سليم يحبك.
طرفت إليها حنين بزهول وهتفت تصر على أسنانها:
_ سليم مين دا كمان إن شاء اللّٰه؟
تعالت ضحكات نيرة، ضحكات ساخرة مريرة:
_ طيب واللّٰه أحسن من مصطفى اللي طالع نازل يقولك أنتِ زي أختي يا حنين.
غلظت من نبرتها في آخر كلماتها مقلدة صوت مصطفى، فضحكت حنين من مرحها وهتفت:
_ جاتك نيلة يا نيرة، عمرك ما فشلتِ تغيري مزاجي.
_ لسه متخلقش اللي يغير مزاجك يا كبير.
الأمر ينتهي هنا، من حديث مازح يتبخر الحزن، ويتبدد الخوف، فقط إن كان بين صديقين ملتصقين القلوب.
______________________
سار يقطع الأرض بخطواته الغاضبة، أهانته وبعثرت بكرامته الأرض، تطاولت عليه وكادت أن توشم وجهه بحذائها، قبل ذلك تطاول عليه مصطفى لأجلها وأبرحه ضربًا مؤذيًا أمام أعين أهل الحي.
اصتدم بأحدهم فسبه بعصبية ورفع نظره له عازمًا على عراك عله يفرغ به غضبه.
_ خواجة! ازيك يا خواجة أخبارك يا بني؟
ابتسم خواجة وربت على كتفه وقال:
_ الحمد للّٰه يا سليم، أخبارك أنت كمان، ومالك متزنعر كدا ليه؟
تقوست شفتاه وأجابه بضيق يعتريه:
_ أسكت يا خواجة اللّٰه يخليك، عفاريت الدنيا كلها بتتنطط في وشي السعادي.
_ أي اللي حصل يا سليم؟
أخبره سليم مختصر ما حدث، فلمعت خطوط الشر بعينيه وظللت ابتسامة كريهة وجهه وهتف محاولًا الهدوء:
_ تعالى روح بيتك وأنا هحللك الموضوع دا، تعالى.
أخذه لبيته وطوال الطريق يقص عليه سليم حكايته وخواجة يبتسم بتشفي فقد حاك خطة لا تسرب ولو نقطة مياه غادرة.
_ واللّٰه يا أم سليم غلاوتك عندي كبيرة، ومش هرتاح غير وأنا واخد حق ابنك.
كلماته مدروسة مبهمة، خرجت من فمه متأكدًا بأنها ستمكث بعقل أم سليم، تلك المرأة التي ستكون الطعم في اصتياد فريسته.
_ قلبي حارقني يا خواجة، مش هرتاح ولا يهدا ليا بال غير ومصطفى متعلم عليه.
كل شيء يسير وفق خطته، بقى فقط يبث سمه بآذانهما.
_ قلت بلاش معملش للبنت مشاكل وفضايح أخطبها منه لأنه المسئول عنها، رفضني ابن *** وقال أي مش مناسب.
ضحك خواجة بخفاء والتمع المكر في عينيه وهو يردف:
_ لا مش فكرة إنك مش مناسب، دا عاوزها ليه..
قاطعته أم سليم تنفي كلامه:
_ لا مصطفى مش عاوز يتجوز دلوقتي غير لما يتطمن عليهم الأول ويجوزهم.
ابتسم مرة أخرى فالكرة بملعبه الآن، فقط يشوطها في شباك الهدف.
_ أهو قلتِ بنفسك يطمن عليهم، ولما سليم جه يخطب حنين منه رفض، يا ترى لو كان طلب نيرة كان هيرفض برضو؟
ترددت أم سليم، تدرس كلماته فصاحت باستدراك:
_ يابن الـ*** يعني هو مقضيها معاها بس فـ الحرام، ما هي تحت مسئوليته ومحدش هيقوله تلت التلاتة كام ويتهنى بالبنت من غير جواز.
هسهس سليم بفحيح أفعى:
_ طب واللّٰه لهكون مخلي سيرتكم على كل لسان فيكِ يا حارة، ويا أنا يا أنت يا مصطفى.
وقف خواجة مستأذنًا فشيطانه أدى مهمته على أكمل وجه، أشعل فتيل الشحناء بينهم.
_________________________________
انتظروا حتى أتت إليهم الممرضة، تتطلع خلفها حتى لا يراها أحد، وقفت تأخذ أنفاسها وهتفت على عجل:
_ الآنسة لاران وجودها هنا خطر عليها..
فرغ صبر علي فهدر بها في ضيق جراء قلقه:
_ أنتِ مفيش كلمة فـ لسانك غير خطر خطر، خطر أي دا اللي بتقولي عليه.
تحاملت على ذاتها لترد عليه:
_ لو سمحت يا أستاذ براحة شوية..
استعطفتها عفاف وهي تقول:
_ معلش يا بنتي امسحيها فيا وريحي قلبي وقوليلي فيه أي بالظبط.
أولتها الممرضة اهتمامها.
_ بصي يا مدام، الآنسة لاران كانت بتتعالج هنا، هي مش بتتعالج بشكل سليم..
كلماتها متلجلجة خائفة فهي لا تعرف الكثير.
دار علي ناحيتها يستفهم منها وقال:
_ براحة يا آنسة فهميني في أي؟
_ الآنسة حالتها النفسية مش مستقرة ودا تقريبًا لصدمة اتعرضت ليها، وكانت محجوزة هنا تحت رعاية دكتور معتز بس كان مش بيعالجها، دا بالعكس بيديها أدوية تخلي حالتها تسوء أكتر، لو يهمكوا أمرها ابعدوها عن هنا، لأنها لو رجعت تاني هيكلموا باقي تدميرها.
ضيق علي عينيه وأحس أنه بمتاهة لا معالم لها.
_ مين دول اللي بيؤذوها؟ وأنتِ هربيتها قبل كدا؟ ومين أهلها برضو؟
تركت أسئلته معلقة بلا جواب، فهي لا تمتلك غير ما قالت من معلومات.
_ أنا معرفش أكتر من كدا صدقني، أيوه هربتها لأنها صعبت عليا حالتها، بس معرفش حاجة تانية غير إنها في خطر فـ المستشفى.
من أوج خوفهم وقلقهم لم ينتبهوا لاسمها ولكن عفاف ظنت أنها قالت اسمها، فسألتها فورًا:
_ هو أنتِ قلتِ اسمها أي؟
_ لاران.
تردد الاسم بعقله، جميل رقيق مثلها يثير زوابع من التفكير كشخصيتها وحالتها التي تعيشها.
منذ أن رأت المشفى وهي ساكنة، لا وجود لأي مشاعر تحتويها، كأنها صفحة بيضاء نقية، جماد يحركوها وفق حاجتهم.
جلست على الأريكة دون كلمة أو نظرة فجلس علي بجانبها مهمومًا، تقطعت طرقه وتاه سبيله، وضع كفيه على رأسه يضغطها من قوة اضطراب رأسه، أما عفاف فتحركت للمطبخ بتكاسل تفني تفكيرها بأي شيء في أشغال المطبخ.
في المشفى، لاحظت موظفة الإستقبال الطبيب معتز وهي معجبة به وتحاول اختلاق الحجج للوقوف معه ومحادثته، مر من أمامها فنادت عليه:
_ دكتور معتز لو سمحت.
عاد إليها وخلع نظارته يبتسم بجاذبية خلابة:
_ نعم، في حاجة يا آنسة إبتسام؟
تبسمت بخفر وقالت بنبرة ناعمة رقيقة:
_ كان في واحد بيسأل عن مكتب حضرتك وبعدها رجع طلع من المستشفى من غير ما يقابل حضرتك.
لم يهتم كثيرًا بالأمر فهمهم وتحرك مغادرًا ووضع نظارته فعنفت نفسها لأنها لم تحظ بوقت كاف معه، ولكنها لن تدعه يذهب هكذا.
_ بس حضرتك كان معاه بنت شكلها مش غريب عليا، تقريبًا شوفتها قبل كدا.
عاد إليها وخلع نظارته وركنها على المكتب بينهما وضيق عينيه ومال تجاهها:
_ متعرفيش اسمها.
_ صراحة لا، بس متأكدة إني شوفتها كذا مرة هنا.
احتل الشك عقله فسألها مستوضحًا:
_ طيب شكلها أزاي؟ حالتها أي؟
حاولت الموظفة التذكر وأخذت وقتها حتى تظل قريبة منه.
_ كانت تقريبًا ساكتة كدا، بس آه كانت ماسكة عروسة لعبة فـ أيديها.
لم يترك لها الفرصة في قول أي شيء آخر وركض تجاه المكتب الخاص بكاميرات المراقبة، لعلها هي من بحث عنها طوال الشهور الفائتة، ووبخه عمها بسببها، تحقق من الكاميرات ليلمحها، فاستل هاتفه من جيبه يحادث عمها يخبره بأنه وأخيرًا وجدها.
_____________________________
كأن الحياة تبتسم له الليلة، بل تضع قبلة حانية على وجنتيه، بقى جامدًا مسحورًا مما يراه أمام ناظريه، وبرقت مقلتيه بسعادة غامرة.
_ هو أنا شايف صح، لا تقريبًا دخلت الشقة الغلط، أنا آسف يا مدام.
استدار يغادر الشقة فبرزت ابتسامة رقيقة على شفتيها ونادته برقة تحاول الثبات على موقفها:
_ أسامة، رايح فين؟
اعتدل وتحرك تجاهها يوزع نظراته العاشقة عليها، سعرت أنفاسه، والتعجت في أحشائه نيران الأشواق، لو تسمح له فقط بإخمادها!
أتسمح لي بائع الشوق تقلل من نيرانه، بليت بقلب يطلبه ويظمأ إلى لقائه، وبمحبوب تجمد قلبه خمد نيران أشواقه.
_ يعني أنا مش بحلم صح، والدنيا خلاص رضيت عليا.
تبسمت بخجل وتحركت أمامه وهي تقول بنبرة مهزوزة واهية:
_ غير هدومك أكون كملت رص الصحون على السفرة.
دخل الغرفة بسعادة غامرة، ولكنه أيضًا حاول الثبات، كاد أن يصب أشواق لواعجه لها صبًا لولا حالتها، وهو يعلم تمامًا أنها ضغطت على ذاتها لتفعل ذلك.
كانت تلعب بملعقتها تنغض ببصرها في صحنها بشرود، يعذرها، فهي تحاول تعويضه ولو قدرًا قليلًا مما عانه معها.
لم تنزل عيناه عنها، يطالعها بشغف وسعادة بأقل القليل.
أمسك كفها على حين غرة ولثمه برقة يضغط بخفة عليه، فارتعش جسدها وتلألأت الدموع بعينيها، ولكن النفور أنغص لحظتهما، فترك كفها عندما أحس بمقاومتها الواهنة، وحاول التطرق لأي حديث حتى ينسيها نفورها وقص عليها الموقف الذي حدث مع الرجل وزوجته اليوم.
_ المواقف دي بتحسس الواحد إن الطريق مش كله شوك، في أوقات حلوة هتعدي علينا بس لازم نستغلها صح.
ابتسمت بسخرية مريرة وتشدقت من وجهة نظرتها السلبية للحياة وكأنها فقدت الثقة بها وبكل ما يحيط بها.
_ الأوقات الحلوة دي مش بتبل حتى الريق يا أسامة، مفيش حاجة اسمها إخلاص أو حب، هييجي يوم ويسيبها، يا ريت يسيبها بس بدل ما يغدر بيها ويكرها في نفسها والدنيا كلها.
أحس بكلماتها مبهمة، تحاول قول شيء ولكنه عالق بحلقها، أو برقعة سوداء بعقلها تخشى خروجه، فهتف بنبرة يشوبها الضيق، بحذر:
_ هو أنتِ افتكرتِ حاجة من اللي حصلت اليوم إياه؟
غزت الدموع عينيها ونفت برأسها.
_ للأسف مش فاكرة حاجة، عقلي متوقف حتى عن التفكير فـ اللي حصل فـ اليوم كله، كأنه بيفرض عليا أنسى أي شيء خاص بالذكرى دي.
كذبت مضطرة، أكانت تخبره بأنها تحب زميلها وهاتفته قبل أن تخرج، وربما هو من فعل هذا بها، ستتمسك بصورتها الحلوة أمامه.
عادت نوبة بكائها من جديد، فنهض على عقبيه وقال مغيرًا الحديث:
_ قومي نغسل المواعين ونعمل كوبيتين قهوة ونقرأ كتاب فـ البلكونة.
كفكفت بكائها ونهضت وقد فقدت نضارتها وزهوها، ابتسامتها التي تختلقها، لكنها بالنهاية ابتسمت لتشرق شمسه وتتفتح أزهار قلبه.
_ لا عاوزة أنام، خلي الأطباق هغسلها فـ الصبح، تصبح على خير.
وما إن اختفت عن ناظريه هوى على الكرسي خلفه يتنهد بتعب، الطريق طويل ولكنه سيجتازه.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أحكام القلوب)