رواية أحكام القلوب الفصل التاسع 9 بقلم منى عيد
رواية أحكام القلوب الجزء التاسع
رواية أحكام القلوب البارت التاسع

رواية أحكام القلوب الحلقة التاسعة
“سبحان اللّٰه والحمد للّٰه ولا إله إلا اللّٰه واللّٰه أكبر ولا حول ولا قوة إلا باللّٰه العلي العظيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا محمد.”💙🦋
تهتز تلك الشجرة الملتصقة بشرفته الصغيرة في ليلة رعدية ممطرة، كأن هذه الليلة تبكي على ما حدث لتلك المسكين، إلتهمت الغيوم السماء لتدنس صفائها كما تدنست روحها الحلوة ووقعت في زغله وخداعه.
طرقات هلعة تعلو الباب وهو يتأفف من الداخل بينما يرتدي “تيشيرته” وأثر النعاس على وجهه يسير بحركات ناعسة فهو وأخيرًا إلتقى مع سريره بعد يوم شاق بالعمل، فتح الباب ليصدم بجسد هزيل شاحب يُلقى عليه.
شهق بخفة وسرعان ما تدارك الأمر ليسند ذلك الجسد متمعنًا فى وجهها المجعد بألم ويغرق بطوفان دموعها، أسندها للداخل وهي روح محطمة لم يتبقَ منها إلا فتات، وجه شاحب محمر ربما إثر معركة جامحة عصفت بها، وفستانها ممزق ملطخ بالطين الذي وارى دمائها، وحجابها ملفوفًا بعشوائية يظهر بعض خصيلاتها.
أوجم قلبه من هيئتها وأججت الدماء بأوردته لتنفر عروقه بشدة يضغط على أسنانه ويدعو اللّٰه أن يخيب ظنه، أما هي فهوت على الكرسي دون حرف وقد جفت عبراتها على وجهها وعيناها تلبسها الخواء…
سألها بقلق وصوت أجش عصبي:
_ أي اللي حصل يا بسمة؟ مال حالتك مقلوبة كدا ليه؟
رفعت نظراتها له بحسرة وضعف تزدرد غصة الإنكسار والمهانة، تعلقت أنظارها به لتحتضنها عيناه فى قلق إنبلج على صفحات وجهه، سمحت لعبرة يتيمة بالسقوط لتجر أختها بعدها وتتوالى العبرات ترثيها مصيبتها، وهذا أفقده صوابه ليدنو منها يهزها بعنف وهديره يتصاعد:
_ اتكلمي يا بسمة بقا وقولي أي اللي حصل؟
ما حدث واضح لمقلتيه كوضوح الشمس فى نهار الصيف وقت الظهيرة ولكنه يكذب حدسه وهي تنفيه بعبراتها الساقطة واحدة تلو الأخرى.
ابتعد عنها لخطوتين وهيئته غير مبشرة فهي امتزجت بالجحيم الأسود ليبزغ لتوه بعدما تقدم منها بخطر:
_ مين اللي عمل كده، انطقي يا بسمة؟
أوقفها أمامه بعنف ضاغطًا على ذراعيها وللعجب أنها لم تبتعد من ألمها أو تمنعه من إيلامها، كأنها وجدت راحتها فى ألمها الجسدي كأنه مضمد لألم روحها، فبعض الألم مسكن لألم أخر!.
_ بسمة، أنتِ مش بنت بنوت صح؟
انفرج فمه لنطقها بألم لتؤكده ببكائها الذي لا تملك غيره، ليهزها بعنف أكبر وعينان تحاكي البراكين حرقة وتوهجًا وهديره يتفاقم:
_ مين الحيوان اللي عمل فيكِ كدا؟ مين اللي اغتصبك انطقي.
لاذت بالصمت فقط وهو يجوب الصالة كالأسد الجريح، فحبيبته تغتصب وتموت ألمًا أمامه، وحياتها تكبكبت بلا رحمة وهو لا سبيل لديه إلا الغضب!..
لطالما تذلل إليها لترضاه زوجًا، توسل حبها، كان يشتهي نظرة منها تبرد لوعة قلبه الذي يهيم بها ويغرم حتى برائحتها، ابنة خالته وحارته التي كبرت وترعرعت أمامه، تنسم دائمًا برؤيتها وغرق فى تجاعيد وجهها وهي تضحك، أتت إليه الآن محطمة لشظايا مفتتة القوى، بقلب متألمٍ إجتثت نبضاته.
أحضر عباءة من عباءات والدته وألقاها لها قائلًا بنبرة شاحبة مختنقة:
_ خدي دي عشان أخدك المستشفى.
نظرت له بتيه وضعف، فهتف بقوة:
_ قومي يا بسمة، لازم نروح المستشفى دلوقتي.
___________________________________
دخل إليها يجر قدميه جرًا بأسى بعدما قابل الطبيب المختص بحالتها وأخبره بأنه أعطاها قرص منع الحمل للطوارئ وأجرى إختبارًا تحليل الدم اللازمة ومنها يتعرف إذا أعطيت أي نوع من المخدر، ورفض أسامة تقديم بلاغًا، لأنه للآن لا يعرف من فعل هذا بها، وهي لم تصرح بأي شيء للآن، وساعده في هذا أن هذا الطبيب صديق له، فساعده رغم إعتراضه في التستر على الأمر.
وجدها جثة هامدة، جسد بلا روح، عيناها غائرتان جفت الدموع منهما وقد تعلقتا بنافذة في الغرفة بدون هدف.
وقف للحظات والغضب يكتسحه، لو عرف فقط من فعل بها هذا لن يظهر له أثرًا على الأرض، يغتاله شعور القتل، قتل أي أحد، قتل نفسه وقتلها هي، لكنه مازال يتمسك ببعض العقل.
سحب كرسي وجلس أمامها، نظر لها لثواني والألم يذبح قلبه بهمجية، ولكنه لم يستطع فنقل نظره بعيدًا، فناداها بحشرجة:
_ بسمة.
بدت وكأنها لم تسمعه، فعاد ندائه بنبرة أعلى:
_ بسمة.
انتفض جسدها إنتفاضة خفيفة ولمعت الدموع بعينيها.
فسألها بصوت جاف، قاسي كشفرة حادة:
_ مين اللي عمل فيكِ كدا يا بسمة؟
تملكتها رعشة عنيفة بعدما كان بكاء صامت، لتتعالى شهقاتها بقوة، لم تعد تسيطر عليها، وانتهى بها الأمر للنحيب والصراخ.
خشى عليها أسامة فنهض إليها يحاول تهدئتها إلا أن صراخها صم أذانه وظلت تقاومه بشراسة أنثى هدروا حقها في العيش بشرف.
دخل الطبيب بعدما نادته إحدى الممرضات.
أعطاها مهدئ.
وقال بعملية:
_ هي دلوقتي محتاجة ترتاح أكتر، المهدئ دا هيساعدها، بس حالتها صعبة أوي، تعالى معايا المكتب يا أسامة وأنا هفهمك تتعامل معاها أزاي.
أخبره الطبيب كيفية التعامل معها، وأخذها بعدما فاقت، وصلت لشقتها بروح ميتة ولحسن حظها كانت والدتها تصلي في غرفتها (صلاة الضحى) فلم تلحظها وهي تدخل، فبدلت ثيابها سريعًا واندست في فراشها.
أنهت والدتها صلاتها وذهبت لغرفتها تطمئن عليها، جلست على حافة السرير تحدثها بقلق:
_ كنتِ فين يا بسمة قلقتيني عليكِ يا حبيبتي، كنتِ فين طول الليل أبوكِ الليل كله بيدور عليكِ.
استجمعت صوتها وقالت بتحشرج:
_ روحت عند واحدة صحبتي، كنت مخنوقة شوية وهي رفضت تخليني أروح متأخر، معلش يا ماما سيبيني أرتاح شوية.
ربتت أمها على كفها المرتعش وتحركت خارجة رغم قلقها وعدم إطمئنان قلبها.
___________________________________
_ صباح الخير يا أبلة.
هتفت بها سيدة عجوز لحنين الواقفة بالصيدلية، فردت حنين بلطف:
_ صباح النور، اتفضلي.
_ كان في برشام كدا عاوزة أشتريه.
قالتها السيدة وهي تنقل نظرها بالمكان حولها، فسألتها حنين ببسمة مجاملة:
_ اسمه طيب يا خالتي؟
_ هو كان لونه ااا.. لونه كان..
أخذت السيدة لحظات تتذكر وتفتح فاها وترجع تغلقه مرة أخرى، إلا أنها هللت أخيرًا هاتفة:
_ أه لونه أزرق كدا.
لوت حنين شفتيها بإمتعاض ولكنها قالت بصبر:
_ اسمه أي بقا اللي لونه أزرق يا خالتي؟
ردت بإندفاع:
_ مش فاكرة يا بنتي كل اللي عارفاه إنه لونه أزرق.
تحاملت حنين على نفسها وعدت للعشرة قبل أن تتهور وتطردها خارجًا:
_ معلش يا خالتي حاولي تفتكري، أو حتى قوليلي هو بتاع أي؟
عبست السيدة بوجهها ورمقتها بإستنكار وإزدراء واضحين:
_ أصل أنا كنت عاملة عملية المرارة…
قاطعتها حنين ظنًا منها أنها أمسكت أول الخيط:
_ برشام للمرارة يعني، العملية اا..
هتفت السيدة سريعًا بنفي:
_ لا لا، رجلي وجعاني وأم صابر قالتلي عليه.
لوت حنين شفتيها بإستياء وقلة صبر لاحظته السيدة فصاحت بها في ضجر:
_ أمال واقفة فـ الصيدلية ليه لما أنتِ غبية ومش فاهمة حاجة.
أشارت حنين إلى نفسها بدهشة، فأكدت السيدة بهزة من رأسها.
فهتفت حنين بلهجة صارمة:
_ روحي يا خالتي لدكتور المرارة قوليله رجلي واجعاني وخليه يشوفلك البرشام الأزرق، واللّٰه هتجيله المرارة فـ وقتها.
نظرت لها السيدة في إمتعاض وتحركت وهي تتمتم:
_ بنات آخر زمن!
_ صباح الفل يا ست البنات.
لم يكن هذا إلا صوت سليم الأجش ونظراته المتفحصة لها بدقة وجرأة عالية، شاب من حارتها يحبها ويعترض طريقها دائمًا أما هي فلم تلق له بالًا أبدًا.
_ صباحي منيل بستين نيلة أنا عارفة.
_ ليه كدا يا ست حنين، دا جاي أطمن عليكِ.
قالها بتملق أصابها بالنفور والتقزز، فدمدمت بشراسة:
_ اطمنت عليك العافية يا سليم، قول عاوز أي يا تورينا عرض أكتافك.
_ الرضا يا ست البنات.
تفوه بها في إبتسامة سمجة، فتغضن وجهها للغضب وهدرت به تهدده بلهجة صارمة مقيتة:
_ قسمًا باللّٰه يا سليم لو مخفتش من وشي دلوقتي لهكون مفرجة عليك الحارة كلها، وهقول لأسطا مصطفى وأنت عارفه كويس.
رغم حدتها وقسوة تهديدها إلا أنه ابتسم بسذاجة متمتمًا:
_ براحة علينا يا قمر، أدينا ماشيين.
تحرك خطوتين ثم إستدار إليها قائلًا بعبث غامزًا:
_ بكرة تحن يا جميل، سلام يا ست البنات.
___________________________________
كانت تصرخ بلا توقف تدور بالغرفة كوحش جامح، تكسر كل ما تطاله يديها، طاقة غريبة عنيفة اغتالتها، تريد تدمير العالم. وأمها تطرق بابها بفزع تصرخ بها أن تفتح الباب أو تصمت عن الصراخ تخبرها ما بها، ولكن بلا فائدة وزوجها رحل لعمله.
لم تجد أمامها بدًا من أن تطلب المساعدة من أسامة ووالدته، وعندما أخبرت أسامة ركض سريعًا لشقتها.
كانت قد أنهك جسدها وارتمت على الأرض تنشج بنحيب خافت، تبكي حياتها التي دمرت بقسوة، كلما تتذكر ضياع أغلى ما تملك الأنثى تنفجر في بكاء فج.
طرق الباب بعنف ولكن لم يصله رد فاضطر لكسر الباب بعد محاولات عدة، وجدها تفترش الأرض تتكور كالجنين وجسدها يرتعد، كارتعاد روحها الممزقة.
أحاطها بذراعيه غير ثابت العينين، كل ما بوسعه هو أن يحتضنها ليخفف عنها، لم يفكر للحظتين قبل أن يضم كتفيها له.
خفضت شهقاتها ولكنها أدركت لمسة غربية على جسدها ورائحة رجالية تغزو أنفها، تسرب النفور إليها لتدفعه بعنف صارخة وتحاول جر جسدها بعيدًا عنه.
_ أهدي يا بسمة، دا أنا أسامة، أهدي يا حبيبتي.
أخذت دقائق تنظر له بخوف كجرو صغير ضاع عن أمه، استوعبت ذاتها، فهدأت شهقاتها وأرخت جسدها المتصلب وتحولت نظراتها للإستنجاد، تستنجده ليخلصها من نفسها.
أخذ والدتها لخارج الغرفة ووالدته التي لحقته فورًا.
هتفت أمها برعب شديد، وخوف عرم، ابنتها في حالة يرثى لها، تصرخ وتنتفض وهي لا تعرف ما بها، كأنها تفكر بصوت عال:
_ أي اللي حصلها؟ فيها أي بنتي كانت كويسة، من وقت ما رجعت الصبح وهي مش على بعضها.
وقف أسامة بجانبها ووضع كفه على كتفها يطمئنها ويخفف من حدة بكائها:
_ أهدي يا ست صفاء، بسمة هتكون بخير، هو بس ممكن يكون في شوية مشاكل عندها فـ شغلها.
ردت بجنون تدور حول نفسها:
_ لا يا بني، بنتي قوية ومستحيل مشاكل فـ شغلها تخليها بالشكل دا.
حاول أسامة معها مرارًا تهدئتها وقد نجح أخيرًا وطلب منها محادثة بسمة لوحديهما يفهم منها سبب إنهيارها.
دخل وجدها تنظر لنقطة وهمية بشحوب وشفتان ترتعش وجسدها يتصبب عرقًا.
حاول إعلامها بوجوده حتى لا تفزع إن وجدته فجأة بجوارها، فتنحنح بهدوء حاول التحلي به:
_ احمم، أبلة بسمة، ممكن اتكلم معاكِ شوية.
رفعت نظرها له بثقل يجثم على عينيها المحتقنة بالدماء من كثرة بكائها.
تقدم وجلس بعيدًا عنها إلى حد ما، فقال بهدوء ونبرة مختنقة، مازال وضعها يجرح رجولته:
_ بسمة أهدي مينفعش كدا، أهلك مش هيتحملوا اللي حصل دا.
مدركة تمامًا ضعف والديها تجاهها، لو علما بالأمر قد تصيبهما ذبحة قلبية تؤدي بحياتهما، وعند هذه النقطة صرخت بعنف:
_ يا رب أموت، يا رب أموت وارتاح، مش هقدر أشوفهم مكسورين.
كلماتها أدمت قلبه وتلوت روحه وجعًا، فأردف سريعًا:
_ لا إله إلا اللّٰه، أي اللي بتقوليه دا بس يا بسمة، استهدي باللّٰه.
صمت بتمعن في ملامحها الذابلة بعدما كانت زهرة متفتحة الأوراق زكية الرائحة، تقطفت أوراقها وخبأت رائحتها، تكسر ساقها، وجهها يحاكي شحوب الموتى، وفقدت عيناها لمعتهما.
_ بسمة تتجوزيني.
لم يكن سؤال بل كان إقرار، بل أمر، يأمرها بالزواج منه، أمر مثير للسخرية، أهذا وقت طلب زواجه بها!
نظرت له ببصر زائغ، فهتف بهدوء متداع، زائف، ولكنه مصر:
_ بسمة وجودك وسط أبوكِ وأمك بالشكل دا هيخليهم يشكوا، وحياتك هتتدمر أكتر، وافقي يا بسمة وواحدة واحدة هتتخطي الوجع دا وأنا هفضل ديمًا جنبك.
لم يكن بالأنانية مطلقًا كي يفكر بإستغلال فرصة كهذه، هو رجل كرامته مذبوحة، فكرة زواجه من مغتصبة منفرة، عقله لا يتقبلها مطلقًا، ولكن قلبه عانده بشدة، قلبه لا يريد إنتكاسة حالها أكثر من ذلك، ستبقى زوجته ويعالجها كي تتخطى هذه المرحلة، يدرك تمامًا صعوبة الأمر ولكنه سيحاول.. لأجل قلبها.
_ في أي تاني فـ حياتي لسه متدمرش، اطلع بره يا أسامة، سيبني لوحدي.
___________________________________
أخذه طريقه كاملًا يتأفف ويغمغم مع نفسه بحدة، كل شيء يقابله اليوم يثير غضبه، وهو رغم مرحه يتعصب بسرعة فائقة..
دخل البقالة يشتري بعض مستلزمات البيت التي يحتاجها، فهو يعيش وحيدًا بعد وفاة والديه.
_ صباح الخير يا حاج.
رد الرجل بوجه بشوش مبتسم:
_ صباح الخير يا عبد الرحمن، أخبارك يا بني؟
ابتسم زلطا بود لهذا الرجل، هو الوحيد الذي يدعوه باسمه الحقيقي “عبد الرحمن”، الكثير من الناس نسوا اسمه الحقيقي وعلق زلطا فقط بأذهانهم، وهذا ما يريده، زلطا اسمًا يشعره بالقوة، أما عبد الرحمن فذلك الطفل الصغير الذي لا يود استرجاعه.
أملاه ما يحتاج ودخل الرجل في إحضاره، فحادت عيناه للواقفة بجانبه منذ قليل، فاصتدم بتلك السمراء سليطة اللسان وها هو شعرها يظهر من حجابها فيثير به تلك الرغبة في قصه من منابته.
شملها بنظرة سريعة مستنكرة، وقال لها بغضب يجز على أسنانه:
_ هم الخصلتين اللي طالعين من الطرحة لسه مقتنعوش بالحجاب ولا أي؟
انتبهت له ولنظراته المشعة بالغضب، فلوت شفتيها قائلة بحدة:
_ وأنت مالك يا أخ، شخص بارد صحيح.
دهش من سبها له فإزداد غضبه أكثر ورفع قبضته بعصبية أمام وجهها:
_ أشوهلك وشك الحلو دا واللّٰه، احترمي نفسك.
تحفز جسدها بعنف كأنها ستنقض عليه وتنزع قلبه من جسده وهدرت به في توحش:
_ أوعى تكون فاكر عشان أنا بنت مش هقدرلك، قسمًا باللّٰه أمسح بكرامتك الحارة.
قبض يده بعنف ومازالت معلقة أمام وجهها فدمدم بهسيس:
_ بنت أخرسي، أخرسي أحسن واللّٰه هـ…
بتر تهديده الجدي هذه المرة عندما سمع صوت صاحب البقالة يقترب، فأنزل قبضته ببطء ومازالت عيناه على توحشها والتي تحاكي شراسة تلك السمراء.
أخذ ما يريد وخرج من البقالة ووقف قليلًا يتطلع عليها وهي تتابع طريقها بكل قوة لا تتناسب مع كونها فتاة رقيقة بملامحها السمراء الناعمة.
_ زلطا، كويس إني لقيتك هنا.
_ اتفضل يسطاا حمودة، أي خدمة؟
قالها زلطا بعدما انتبه لوجوده فهتف حمودة على عجلة من أمره:
_ كنت محتاجك معايا، ننزل العفش ونحطه فـ الشقة…
قبل أن يكمل جملته سارع زلطا بالقول:
_ أنت تأمر يسطاا حمودة، يلا بينا.
كاد أن يتحرك لولا أزيز هاتفه فأخرجه ووضعه على أذنه، ليقابل صراخ صم أذنه، أبعد الهاتف قليلًا وبعدها أعاده يقول بصبر:
_ أيوة يا هدى، جبت الستاير زي لون السجاد متقلقيش، دي سابع مرة تسألي فيها نفس السؤال وأجاوب نفس الإجابة، جبت الستاير نفس لون السجاد.
تنهدت براحة، ولكنها لم تقتل توترها كليًا:
_ معلش يا حمودة، بس متوترة شوية.
ابتسم بهدوء مفلتًا نفسًا عميقًا من بين شفتيه، وقال:
_ أنا أكتر منك يا حبيبتي، متوتر وخايف أكون نسيت حاجة أو قصرت والفرح ميكونش زي ما بنتمناه، بس لما بفتكر إن خلاص تعبنا دا هيروح وهيجمعنا بيت واحد، كل التوتر والتعب دا بيهون.
___________________________________
ألقى السلام وهوى بجسده على الأريكة بإرهاق واضح، يمسد جبينه بأصبعيه يترجي بعض الراحة التي تتعمد حرمانه منها، رفع جفنيه بثقل، يلاحظ هدوء لولو غير المتوقع والغريب من نوعه، وتجهم وجه عمته عفاف.
فسأل عمته بلا إكتراث:
_ في ظيطة تحت ودوشة، وناس غريبة كدا، هو في أي؟
ابتلعت عفاف ريقها بصعوبة وانحنت عيناها بألم مضني، فأشغلت ذاتها بتقوير الباذنجان كأنها لم تسمعه، فحاد بنظره لعمته الصامتة وهتف:
_ أي يا عمتي مسمعتنيش ولا أي؟ بقولك أي الدوشة اللي على أول الشارع دي؟
_ معرفش.
خرجت منها مهتزة مهددة دموعها، ولكنها رفرفت بأهدبها وصلبت لسانها بأعلى حلقها كي تمنع البكاء، ولكن دوى صوت لولو الحاد والذي لم يخف منه الألم، تتألم قبل أن يتألم هو.
_ النهاردة خطوبة ست أمل…
اعتدل في جلسته ورمقها بعدم تصديق، يهز رأسه ينفي كلامها، إلا أنها بقت جامدة الملامح لا تمزح.
نهض من مكانه ووقف أمام عمته وهدر بها:
_ الكلام اللي بتقوله لولو دا صحيح؟
إلا متى ستكذب أو تنكر حتى، فلذا أكدت بهزة من رأسها، ضعيفة مستاءة، قلبها يتآكل حزنًا على ولدها.
أما هو فكأنه تلبسه مارد من الجان، لم يستطع التحكم بأعصابه، وأخذ عقله في الضجيج، وغمغم بوجع:
_ لا لا مستحيل، أكيد أهلها أجبروها إنها تتجوز، هي أساسًا هترفضه وهترجعلي، مستحيل.. أنا مش هسيبها…
بدا وكأنه على حافة من الجنون، من أحبها تفلت من بين يده بكل غدر، وهو مكبل الأيدي، فاقد الحيلة.
نهضت عمته بعنف تخبره الحقيقة بقسوة، لم ترد إيلامه أكثر، لكنها تبقيه على الحقيقة المريرة التي وقفت في قلبه:
_ لو كانت هترفض كانت رفضت من الأول يا علي، النهاردة الخطوبة يا علي، يعني خلاص مفيش فرصة.. لازم تنساها يابني.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أحكام القلوب)