روايات

رواية أحكام القلوب الفصل الأول 1 بقلم منى عيد

رواية أحكام القلوب الفصل الأول 1 بقلم منى عيد

رواية أحكام القلوب الجزء الأول

رواية أحكام القلوب البارت الأول

أحكام القلوب
أحكام القلوب

رواية أحكام القلوب الحلقة الأولى

لا إله إلا اللّٰه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، سبحان اللّٰه والحمد للّٰه ولا إله إلا اللّٰه واللّٰه أكبر ولا حول ولا قوة إلا باللّٰه العلي العظيم.”
اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا محمد. 💙🦋

فى تلك الحارة البسيطة ذات الحياة المتناهية فى الألفة والحب، تتكاتف قلوبهم قبل أيديهم، يرسم حبهم لوحة غاية فى الجمال، تتفنن طباعهم فى إبهار الناس بعظيم ملكهم وهو طيبتهم، تتلاقى أطياف كرمهم النابعة من ثنايا قلوبهم.
فى تلك القهوة الصغيرة المتواجدة على ناصية الحارة،
يجلس ذلك الأسمر الجميل ذو العيون العسلي الصافي
وشعره البني الغزير وطوله الفارع كباقي رجال تلك الحارة، فهو رجل بحق بسماره وملامحه الرجولية البحتة، المتمكنة فى تجاعيد جبينه العريض، وحاجبيه المعقودين دائمًا والعريضين، مرورًا بأنفه الحاد وعضلات جسده البارزة من قميصه الضيق وبنطلونه المهترء قليلًا المناسب لعمله فى الحدادة.
أنه الأسطاا مصطفى، أحد رجال تلك الحارة الباسلين، المدافعون بإستماتة على حارتهم وشرفها.
كان يحتسي القهوة بتمهل وتلذذ يذرف فيها كبده فى حياته المتمثلة فى عمله وعيلته، بعدما أنتهى من بعض أعماله
وقرر الإرتياح قليلًا، متحدثًا بنبرة رجولية عميقة إلى الرجل _الكبير فى السن والفطنة أيضًا_ الجالس على المقعد المجاور له
قائلًا:
_ ألا قولي يا معلم حسن، أخبار الواد حمودة أي؟ جهز شقته بمجميعها ولا لسه وراه حاجة؟
تنهد المعلم حسن وأردف ببعض الشفقة على حال ابنه:
_ واللّٰه يابني حالته متسرش أهو رايح جاي يلبي فـ طلبات حماته اللي واكله رأسه من الزن، وأنت عارف يا بني الزن على الودان أمر من السحر.. بس ربك يعدلها.
هتف مصطفى بعرض خادماته بقوة ومروءة:
_لو أحتاج حاجة يا معلم حسن أنا سداد وفـ الخدمة حمودة دا فـ مقام أخويا وأنت فـ مقام أبويا يا معلم.
ربت المعلم حسن على كتف مصطفى متمتمًا:
_ تسلم يا غالي، ودا العشم برضك يا مصطفى.. عبقالك يابني.
أجابه متهكمًا:
_ عبقالي! لا يا معلم حسن أنا لسه مشواري طويل أنا فـ اتنين فـ رقبتي عاوز أستتهم وأسترهم ولا أي يا معلم حسن؟
طرف إليه المعلم حسن بإستحسان وهز رأسه برضا عن قوله هاتفًا:
_ واللّٰه يا مصطفى يا بني مفيش أحسن من سترة البت، ربنا يبعتلهم ابن الحلال.
ابتسم له مصطفى وارتشف من كوب قهوته وسرعان ما شرق عندما سمع تلك الغوغاء القادمة من ذلك المكان
الذي يعاينه بقلبه قبل عينيه…

كانت غرفتها معجوجة بالأغاني واللهو، غرفتها الملونة بأبهج الألوان وتضع بعض الملصقات على الحائط لأحد المغنيين المشهورين أو الممثلين وبعض الصور لها ولوالدتها الحنون فـكانت غرفتها تنطق بأن قاطنيها فتاة، وتقف حسناء هذه الحارة على فراشها تتمايل وتتناغم على الموسيقى الصاخبة وأخذ شعرها الطويل فـي التمايل أيضًا بحرية وزهو، وهي بعالم أخر منغمسة فى رقصها وتمايلها على الألحان، وتقف تلك الصغيرة أرضًا ممسكة بفرشاة الشعر تضعها بالقرب من فمها كـمكرفون تغني به ومندمجة أيضًا كـأنها أحد المطربين العظماء وغرقت في أحلامها كأنها على المسرح وتؤدي أغنيتها المفضلة بحماس يدغدغ حواسها فيجعل جسدها يتساير معها.
دلف هو بإعصاره المبلد لجوارحهما بشدة، اتسعت عيناه
من فعلتهما وإزداد عقدان حاجبيه بشدة وتحفز جسده
لمقاتلتهما معًا، شمر عن ساعديه وهو يصيح بعنف ناهرًا
الفتاتين قاطعًا خيوط أحلامهما الوردية التي ذبلت بإقتحامه الغرفة:
_ لا واللّٰه الأبلتين المحترمين فاتحين البيت مرقص لا وصوتهم مسمع أخر الحارة!
لم يتوقعا قدومه الآن، مما أصابهما بالرجفة والتبلد
تركت الصغيرة الفرشاة والأخرى اندست سريعًا فى فراشها وجسدها ينتفض بشدة.
نظر للصغيرة بحزم صائحًا كـالعاصفة الهوجاء: _ عديتي البت يا نيرة، البت كانت نسمة جننتيها.
نظرت له بلامبالاة قائلة وهي تلوي شفتيها: وأنا مالي اللّٰه هي أجن مني يعني أنا كنت ضربتها ع أيديها ياخويا ولا كنت ضربت ع أيديها.
طرف إليها بيأس يحدثه عقله بضربها ولكنها شقيقته حبيبة قلبه مدللته.
نظر لتلك المندسة أسفل مفرش سريرها كـفأر مذعور بسخرية هاتفًا بتهكم:
_ لا والنبي يعني أنا كدا مهعرفش أوصلك يا ست حنين.
إستقامت فى فراشها وهي ترفع سبابتها بقسم:
_ واللّٰه واللّٰه تاني يسطاا مصطفى كنا بنتعلم الرقص عشان حنة البت هدى أخر الشهر وعاوزين نوجب معاها.
ضغط على شفتيه بحنق من صغاره وتفكيرهما المحدود
هاتفًا بتهديد حازم:
_ عارفين يا أبلة منك ليها لو اتكرر الزفت دا تاني لـ هعلقكم ع باب الحارة من شعركم.. فاهمين!
صرخ بأخر كلمة بغرض إخافتهما وما كان هذا إلا تهديد واهي، فهو يغار عليهما حتى من تلك الرياح الهادئة.
أخذ شقيقته وغادر لشقتهما المقابلة لشقتها، تاركًا حنين فى شقتها تتخبط فى تفكيرها، تنهر ذاتها على ما فعلته؛ لأنها بفعلتها الحمقاء هذه رسخت لديه فكرة أنها مازالت صغيرة، كـشقيقته نيرة.
فـحنين تحب بل تعشق جارها الأسطا مصطفى منذ الصغر تربت على حبه وفى كنفه، أحبت كوخه الصغير المبني على الحب والمروءة والكرم، سرق لبها بعطفه عليها وحبه لوالدتها كأمه وأكثر ما يفرحها ويكدر نفسها فى ذات الوقت؛ معاملته لها كـشقيقته!
لطالما أحبها كـنيرة يقتسم كل شيء بينهما حتى مشاعر الأخوة يقتسمه بينهما.
دلف شقته وهو ممسك نيرة من حجابها صائحًا: شوفتي بنتك يا ست الكل فاتحة مرقص هي والأبلة حنين وبيرقصوا سوا.
جائه ردها الصادم وانفرجت شفتيه بذهول.
_ أنت مين يا واد ومكلبش فـ البت كدا ليه؟
ضحكت عليه نيرة بشدة تقلصت بطنها بسببها متشدقة بسخرية:
_ ألبس يا يسطاا.
نظر لها بتحذير والشرر يتطاير من عينيه،
جلس على ركبتيه أمام والدته وأمسك كفها ولثمه برقة قائلًا بهدوء:
_ أي يا ست الكل أنا ولدك مصطفى هتنسيني كدا يا فتحية.
نظرت له بقوة محققة خلجات وجهه وأخيرًا هتفت: _ واد يا مصطفى كنت فين يابن الكلب يا صايع أكيد بتشرب سجاير مع صحابك الصيع اللي زيك.. أنا مخلفتش لاا
ومبتمشيش المدرسة ليه يا واد الجزمة؟

تنهد بداخله فوالدته ساءت حالتها بشدة وأردف بهدوء عكس ما يختلج بقلبه من مآسي:
_ لا يا ست الكل بطلت سجاير وخاصمت صحابي الصيع، أنتِ تأمري بس يا توحة..
صاحت نيرة بكذب بغرض توبيخ أمها له، وهي تضع أطباق الطعام على تلك المنضدة الصغيرة التي لا توجد لها مقاعد المسماه بـ “طبلية”
_ لا ياما بيكدب عليكِ لسه طافح سجارة وأحنا طالعين ع السلم.
طرفت إليه مشيرة على نيرة:
_ هي مين دي كمان يخوياا؟
لوت نيرة شفتيها بعبوس قائلة:
_ يلا ياما الغدا عشان مصطفى يريح شوية ويقوم يكمل شغله.
سند والدته وأجلسها بجواره وأخذ يطعمها بحنان كأنه يرد جميلها على ما فعلته بصغره له، وتاللّٰه لو وضع العالم تحت أقدامها لن يوفيها حقها ولو ذرة واحدة.
فـرعايتك لها فى الكبر لا تساوي ذرة من تعبها وحبها ورعايتها لك فى صغرك.

_ يعني يرضيكِ كدا يا أم حنين، كل شوية تبكي ع الأطلال.
هتفت بها وهي تدلف غرفة والداتها الممسكة بتلك الصورة المهترئة من كثرة إحتفاظ والدتها بها بين يديها حتى قاربت على الإختفاء.
أزالت والدتها سيل أدمعها ووضعت الصورة بجوارها أعلى الفراش متحدثة بصوت مبحوح من الشوق الممزق لجنبات قلبها:
_ وحشني يا حنين، وحشني ضي عيني وابن بطني، حسبي اللّٰه ونعم الوكيل فـ اللي كان السبب.
أحرقتها عيناها من كثرة بكائها، تعالت شهقاتها بشدة
فهي دائمة على البكاء ليلًا مع نهار.
ضمتها حنين بقوة مكملة شهقاتها فى أحضانها، بكت حنين على حال والدتها المذرية.
ربتت على ظهرها قائلة وهي تمسح عبراتها:
_ قومي ياما قومي يا ست الكل نتغدى سوا.
_____&________
جلبة وصراخ ضجة عالية تحتل المكان، صوت أمه تصرخ بأذنه ليتململ في نومته وفتح نصف عين متسائلًا:
_ في أي ياما لكل دا؟
هتفت والدته بهلع:
_ قوم يا حمودة مسعد ومراته ماسكين فـ خناق بعض تحت.
أغمض عينه بملل قائلًا وهو يضع وسادته فوق رأسه حتى لا يسمع ضجتهم:
_ دا العادي يا أم حمودة، شوية وهيسكتوا.
سحبت والدته الوسادة هاتفة:
_ عن يقتلها يا بني.
اعتدل من نومته مردفًا بإستنكار:
_ مسعد اللي هيقتل مراته! قولي حاجة تعقل ياما، دي تلاقيها كلت دراعه تحت، ما أنتِ عارفاها ولية مفترية.
ترجته قائلة:
_ قوم يابني عشان خاطري.
ارتدى كنزة من غير أكمام وركض لأسفل وخاصة عندما اشتد الصراخ.
تزامنًا مع نزوله خرجت قطعة السُكر خاصته من شقتها لترتطم به فتشهق مرددة:
_ يوه خضتني يا حمودة.
_ سلامتك من الخضة يا سُكر.
ابتسمت بخفر وتلونت وجنتاها فرحًا، فهتف بصوت أجش حان:
_ أخبارك يا بت.
عبست بوجهها في دلال توبخه:
_ طب ما تقولش بت.
ضحك بخشونة تلألأت بعينيه:
_ يا عبيطة لو مقلتش يا بت أبقى مش بحبك.
إزدادت خجلًا ولوعة تسأله سؤالًا لم تكف عنه برغم تأكدها من إجابته:
_ أنت بتحبني صح يا حمودة؟
_ دا أنتِ روحي يا بت.
نقلت نظرها على جسده لتعقد حاجبيها بحيرة متسائلة:
_ أنت رايح فين ع كدا يا حمودة؟
طرق جبينه بكف يده متذكرًا:
_ اللّٰه يسامحك يا هدى، نستيني، نازل أشوف الخناقة بتاعت كل يوم.
تخصرت بغيظ مصرحة بغيرتها:
_ هتنزل كدا بالفانلة الحمالات يا محمود، وعضلاتك اللي باينة دي!
ضرب كفًا بالأخر وقال:
_ اتصبحي يا هدى وقولي يا صبح، وبعدين أنتِ رايحة فين كدا؟
ردت بإقتضاب ومازالت عابسة:
_ هتفرج ع الخناقة.
اقترب منها بخطر وقال بهسيس مهددًا:
_ ابقى أعمليها يا هدى وأنا هسويكِ ع الفحم تحت.
تحرك من أمامها لينزل الدرج وإلتفت إليها في حين غرة:
_ ادخلي جوه يا سُكر.
_____________
بالأسفل تجمهر الجميع حول مسعد وزوجته تلك السيدة البدينة تصرخ في زوجها بصوت عالٍ تقاوم السيدات اللاتي يمسكونها بقوة حتى لا تنقض على زوجها كليث مفترس، وتعالت الأصوات يهدؤنها.
_ خلاص يا أم سميرة، حصل خير ياختي.
حادت إليها سعدية زوجة مسعد بنظرات حادة تقول بغضب:
_ وهو الراجل العايب دا هييجي من وراه خير، دا عايز ينقطني ويجبلي شلل عشان يروح يتجوز بسلامته.
برر الرجل قائلًا بخوف:
_ أبدًا واللّٰه يا أم سميرة، وأنا أقدر برضو أبص لواحدة غيرك؟
تقدم منها حمودة يسألها ببعض الرفق:
_ أهدي يا أم سميرة وقوليلي أي اللي حصل؟
أخذت نفس وأخفضت من صوتها تجيبه إحترمًا له، فـ حمودة ذو شخصية محبوبة، يعرف برجولته وشهامته مع الجميع:
_ الراجل الناقص بيكلم واحدة عليا.
_ وعرفتِ أزاي يا أم سميرة؟
سحبت جسدها ممن يمسكونها وأجابته تضغط على شفتيها في محاولة لوأد إنفعالها:
_ رنت عليه وحدة أجنبية عمالة ترتطن بكلام مش مفهوم.
شق حديثهما صوت ضحكات خشنة من فتى لم يتم السادس عشر من عمره، “زلطا” الذي تشدق ضاحكًا:
_ وهو عم مسعد يعرف واحدة أجنبية، ما تعرفني عليها ينوبك ثواب يا عم مسعد.
زجره حمودة بنظراته الشرسة فسكت تمامًا، يلاحظ ما يحدث بتسلٍ.
نظر حمودة لأحد الشباب وطلب منه كرسيًا الذي لبى على الفور، أجلسها عليه برفق وسألها:
_ عرفتِ أزاي أنه بيكلم واحدة أجنبية يا أم سميرة؟
هبت غاضبة مرة أخرى صائحة:
_ لقيت التليفون بيرن يا أخويا فتحت لقيتها واحدة بترطن لغة مش مفهومة عرفت علطول، ودي مش أول مرة ياخويا.
بدأت الطرق تتضح أمامه شيئًا فشيء، فطلب منها هاتفها، وفتحه ليرى تلك المكالمة، بدت أثار ضحكة على شفتيه ولكنه أخفاها مراعاة لمشاعرها وحنقها وفوقهم غيرتها على زوجها.
_ صلي على النبي كدا يا أم سميرة.
ردت الصلاة: عليه أفضل الصلاة والسلام.
أكمل قائلًا:
_ عم مسعد بريء، وأنتِ ظلمتيه.
هبت بإعصارها فيه:
_ أنت بتقول أي يا حمودة اللّٰه!
_ أهدي بس يا أم سميرة، دي شركة أجنبية، للعروض على التليفون، يعني هي لا تعرف جوزك ولا جوزك يعرفها، يعني عم مسعد بريء، متخليش موضوع زي دا يخرب بينكم يا أم سميرة.
لاحت بسمة امتلكت كامل وجهها وطرفت لزوجها بحب وكأنه حارب الأعداء وعاد منتصرًا للتو، فما أصعب على المرأة من الغيرة.
تقدمت منه وبسمتها تتسع بإتساع خطواتها، وضعت كفها على كتفه تشد عليه قائلة برقة تنفي تلك المرأة التي كادت أن تبتلع الحارة بأكملها من دقائق.
_ ربنا يخليك ليا يا تاج رأسي وسندي، سامحني ياخويا، بس دي كانت وزة شيطان.
غمغم زلطا بسخرية يعقد ذراعيه أمامه مستمتعًا:
_ كل دا ووزة شيطان، فتحتِ رأسه وفرجتِ عليه الحارة، دا أنتِ الشيطان ذات نفسه.
لوى شفتيه وخاصة عندما رأى ذلك الرجل مسعد، الذي من الممكن أن يكون في خبر كان يتقبل إعتذارها في مشهد عاطفي، مثير للإشمئزاز من وجهة نظره.
وفي تلك الأثناء، رجع أسامة من عمله وعلم ما حدث منذ ساعة فتمتم بيأس:
_ يا ربي عادة كل يومين تفتحله رأسه وميلاقوش حد يخيطله غير دكتور الحارة أسامة.
______________
صباحًا.
مع صوت القرآن الكريم الذي يتلى من تلك البقالة القريبة، رائحة الفول المدمس التي تشدك من رجليك ناحية تلك العربة التي يقف عليها رجل مسن، وجه بشوش معاملة طيبة، حركة المارة الدائمة، تحياتهم الصباحية التي تتعالى، الأطفال التي تركض لملاحقة مدارسهم بزيهم الذي يميزهم.
هالة من الجذل والسكينة، اللطف والحب، عالم متكامل هنا يشدك لتعيش به، تنعم بنعمه.
ترك أسامة صحنه بعد أن أفرغ الفول الطيب الذي كان يملأه بمعدته، وحمد اللّٰه على نعمه وركض سريعًا، فهذا موعد خروجها، وقف ينتظرها أسفل البناية، فهتف عندما رأها:
_ مش هنول الرضا برضو يا أبلة؟
ظهرت بسمة باردة على شفتيها وهزت رأسها بنفي قاطع:
_ لا، عمي كان رضا ومات، بعد أذنك بقا عشان متأخرش.
تركته بسمة مغادرة بخطوات ثابتة فركض ليقف أمامها يبتسم بإتساع وملامح العشق تطلي وجهه:
_ ملحوقة يا أبلة بسمة هنوله برضو.
ضحكت بإفترار على أفعاله التي لا تليق به أبدًا، فهو رجل لا تهمه الفتيات سواها هي فقط، تلك الفتاة الهادئة البسيطة.
تنهد بقوة يخلل شعره بأصابعه وهمس لنفسه:
_ ربنا يهديكِ ليا يا بسمتي.
ابتسم براحة وغادر لعمله، ليتوقف فجأة شاهقًا بقوة عندما دلقت عليه مياه غسيل من إحدى البلكونات.
رفع رأسه لأعلى فشهقت صاحبة الشقة صاككة وجهها:
_ يا لهوي، آسفة يا أستاذ أسامة، مخدتش بالي منك واللّٰه.
طرف إليها بإحباط وإزدراء وعاد ينظر لثيابه التي بللت بالكامل، وتمتم بغيظ:
_ اللّٰه يسامحك يا ست صابرين، هو كان حد قالك أني عايز أستحمى!
_ معلش يا بني العتبة على النظر.
_ ولا يهمك يا حاجة، هو يوم باين من أوله أساسًا.
اضطر أن يعود لمنزله لتبديل ملابسه وذهب للمستوصف الذي يعمل به “ممرض”
_______________
وبمكان أخر، أنهى حمودة لبسه وقبل يد والدته التي بدورها دعت له بصلاح الحال، وتيسير أموره، وأن يوقف اللّٰه له أولاد الحلال، الدعوة الملاصقة لشفتيها دومًا.
ناداه والده يسأله بغرض الإطمئنان:
_ عملت أي يا محمود فـ موضوع حماتك؟
أحس بالحرج قليلًا ليضغط على أنفه بأصبعيه مجيبًا:
_ ربك يسهل يابا، أديني بحاول معاها، يلا سلام عليكم.
صاحت والدته:
_ طب مش هتفطر يا بني؟
رد من الخارج:
_ هفطر فـ الشغل يا ست الكل.
عبس حسن والده بضيق ووجه حديثه لزوجته إحسان:
_ لا حول ولا قوة إلا باللّٰه، المرأة مش هيملى عينها غير التراب، الواد بيجري من هنا لهنا وهي مصرة تكسر مجاديفه.
ابتسمت بهشاشة:
_ ربك يحلها يا أبو محمود، الستر من عنده.
_ طب بالإذن بقا يا إحسان هنزل الورشة شوية.
وقفت تودعه ببسمة حنون وغرام مكنون بالقلب من سنون، شبت على حبه وقاست لقربه:
_ تروح وترجع بالسلامة يا معلم حسن، ربنا يجعلك في كل خطوة سلامة.
___________
نزل حمودة الدرج ليجد هدى تنتظره كعادتها تحمل بيديها علبة طعام.
وقف بطوله الفارع مقابلها، لو مر أحد لن يراها من طوله وضخامته كباقي رجال الحارة.
همس بصوت أجش عميق:
_ وحشتيني يا سُكر.
أخفت وجهها خجلًا ولكنها رفعته مردفة:
_ صباح الخير يا حمودة.
_ صباحك عسل يا قلب حمودة.
قالها بلهفة جلية، وكل خلية به تزخر بحبها.
طال بالنظر لها بحدقتيه اللامعة، وهمس بنبرة متيمة بالعشق:
_ مفيش حاجة حلوة كدا تصبيرة؟
_ أدخل وأنا أوريك الحلو كله يا حيلتها.
تلك النبرة القوية المتهكمة أخرجته من عاطفته المحمومة وأوقعت قلبه أرضًا.
رفع نظره ليصتدم بزوج من العيون الغاضبة، وجدها والدة هدى “إعتماد”، أما هدى فانكمشت بخوف وبلعت ريقها.
تجهم وجه حمودة وتشدق:
_ نفسي اتسدت مش عايز حاجة.
ردت إعتماد ببرود:
_ أحسن برضو.
احتدت النظرات بينهما، فانسحبت هدى بعد أن ناولته علبة الطعام.
تحدثت إعتماد بإجتواء:
_ عيب ع الرجالة يا حمودة لما تقابل بنات الناس ع السلم!
رد بعصبية وكور قبضته بغضب:
_ دي مراتي يا ست إعتماد.
_ لسه مكملتش مهرها ياخويا، لما تكمله أبقى قول مراتي زي ما أنت عاوز.
زفر بغضب واندفع بالحديث:
_ ما بعمل اللي عليا أهو يا ست، شغال ليل نهار، ودا كله عشان خاطر عيون هدى.
استطردت بعجرفة وصلف:
_ أنا بنتي ألف واحد يتمناها لو مش هتقدر على مهرها سيبها للي يقدرها، وطريقك أخضر.
كور قبضته بغضب عرم، ولكنه استدعى الهدوء بالأخير هي أم حبيبته.
دخلت شقتها وصفعت الباب في وجهه بقوة تغمغم بنزق وسخط، أما هو فاستغفر ربه وتحرك لعمله.
____________________
في بناية أخرى.
خرج من شقته وأوصدها بخفة وبطء حتى لا تستيقظ أخته التي سهرت الليل مع والدتها بسبب مرضها، سمع غوغاء تأتي من الشقة التي تقابله، شقة حنين ووالدتها.
كانت حنين تقف بالمطبخ تغسل الأطباق تردد مع الأغنية التي تصدح في المذياع “الراديو” وتتمايل على أنغامها برقة.
من حبي فيك يا جاري يا جاري من زمان.
بخبي الشوق وأداري ليعرفوا الجيران.
وحياة حبك ما شبكنا بين شباكوا وشباكنا.
وايدين تنده وتشاور وعيون تفهم وتحاور وتسلم ويا النسمة.
وأخبي الشوق وأداري أداري ليعرفوا الجيران.
يوم ما تخبط على بابنا وتجينا يا أعز أحبابنا…
سمعت صوت والدتها تهتف باسمه تستقبله وصاحت باسمها:
_ حنين، بت يا حنين.
أحكمت حجابها على شعرها ومسحت يديها في طرف عبائتها، وخرجت راكضة تستقبله بشغف هاتفة بشوق:
_ صباحك فل يسطاا مصطفى.
رد بهدوء بصوت عميق رجولي:
_ صباح الخير يا حنين.
نطق اسمها من شفتيه مرصع بالألماس، له إيقاع خاص من بين شفتيه. فاقت من شرودها بملامحه الرجولية على صوت والدتها القائل:
_ أعملي يا حنين شاي بلبن لمصطفى وكمان هاتيله يدوق الكيكة اللي عملتيها إمبارح.
ردت بقلب لهيف، دقاته تتصارع:
_ هوا ياما وأحلى كوباية شاي بلبن هتكون عنده.
ضحك مصطفى على شقاوتها ومرحها الدائم رغم أحزانها التي تتراكم وتجثو على قلبها، تضحك ببساطة.
نظر لوالدتها وسألها بحنو ورفق ولد على والدته:
_ أخبارك أي يا حاجة “سامية”؟ محتاجين حاجة أنتِ وحنين.
هتفت بعرفان وحنو بأعين وشيكة البكاء:
_ ربنا يخليك لينا يا بني واللّٰه مش عارفة من غيرك كنا هنعمل أي. وحنين أساسًا كتر خيرها قررت إنها….
سمعت حنين بالمطبخ حديث والدتها مع مصطفى فلطمت وجهها بفزع وخوف وهتفت في نفسها بوجل:
_ يا رب استر يا رب ومتقلوش، دا لو عرف هيقتلني، اللّٰه يسامحك ياما…

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أحكام القلوب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى